تنشر (الكلمة) هنا دراسة عن واحدة من أشهر قصائد الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب، التي يتغنى فيها بلوعة حبه الأبدي لوطنه العراق، بالرغم من نكران هذا الوطن له، وهو النكران الذي يعي الشاعر أنه لن يثنيه عن موقفه من وطنه الذي يئن تحت نير الاحتلال وعشقه له.

دلالات «ذبول البنفسج» عند مظفر النواب

خيرالله سعيد

كنت قـد عرفتـ الشاعر، قبل أن ألتقيه أو أن أراه، فقد كان جيلنا السبعيني قـد قرأ (للريـل وحمـد) وعرف مغـزاه وأبعاده، وصارت مفردات ذلك الديـوان إحدى العـلائم على الإنتماء لليسار العراقي، وربما أودع السجن – لأسباب سياسية- من يتـحدّث بـإسم مظفر النــوّاب. وقـتذاك – كـُـنـّا فتيـةً – في مدينة الثـورة، شرقي بغـداد، وكنـّا نتسابق – سـِـرّاً- في حفظ قصائده الجميلة، ونميـّزهـا عن بقية القصائد السائدة – بحكم نزعة التجديد – التي أوجدها النـوّاب في الشعر الشعبي العراقي، في مطلع الخمسينات وبداية الستينات من القرن المنصرم. الشاعر كـاظم إسماعيل الكَـاطع، كان أقربنا إليه/ من حيث تمثــّل الحالة الشعرية/ وفق إبداعات النـوّاب، لاسيما في قصيدته «صفارة الحـارس». وحينما كتب الشاعر جـودت التميمي قصيدتـه الشهيرة (رمـده الشمس) في بداية الستينات دون أن يضع إسمه عليها، نسبناهـا الى مظفر النـواب، دون قصد، سوى أن الإسلوب إسلوبٍ نـوّابي. كنتُ أحفـظُ من غيري، من بقية الأصدقاء، لقصائد مظفر النـوّاب، وأتتبـّع كل أخباره، وحين جمعتنا الغربة بدمشق عام 1981م، تـلاقينا كأصدقاء ومبدعين، كل منـّا يعرفُ الآخر.

بدمشق، عام 1993م، كنت قـد كتبت عـنه أوّل دراسة نقـدية عن شعره الشعبي ومواقفه السياسية، وأنا أتناول تجربته السياسية والإبداعية، ونحن نقيم إحنفالية بمناسبة الذكرى الستين لولادتـه. كانت دراستي عنه تحمل عنوان «حجـّام البريـّـس» رؤية الواقع والموقف السياسي. نشرتها – فيما بعد – بمجـلة (الى الأمام) في العـدد 2211 الصادر في 12-18 /11/ 1993م، وكنت أقرأ – مظفر النـوّاب – من خلال مفرداته الثورية في تلك القصيدة. وبعدهـا سافرت الى موسكو لإكمال دراستي العليـا (الماجستير والدكتوراه) ولم ألتقيه بعـدها حتى هذه اللحظة. أخباره، لم تصلني بعد ذلك التاريخ، رغم أني أتابعها بحرص شديد. بدمشق، كنـّا نلتقي، أنا وهـو وجمعه الحلفي وريـاض النعماني، بشكل إسبوعي، وحاولت أنا والشعراء أعلاه أن نجسـّر الهـوة وخطوط التواصل بينه وبين الراحل المفكر هـادي العلوي ، وقد أفلحنا بعض الشئ.

في موسكو عام 2004م كنت قـد أنهيت (أوراقي السياسية) من تلك المدينة الداعرة، ويممـّت وجهي صوب (كـنـدا) كلاجئ سياسي، ووصلت الى (أوتـــاوا) في خريف عام 2004م، ومظفر النـوّاب كان يرافق أحاسيسي بقصيدتـه (يجي يوم ونرد لهـلنا). في عـام 2010م، علمت أن النــوّاب وصل (الولايات المتحدة الأمريكية) للعـلاج الطبي، وقد زاره المفكر الأمريكي الشهير(نعـّوم تشومسكي) ولم يخبرني قـط عن سفره الى الولايات المتحدة، لأن النـوّاب كان حريصاً أن لا يزعج الأصدقاء عن حـاله. بتأريخ 2-4-2011م إتصل بي الصديق الشاعر ريـاض النعماني،بعد أن حصل على رقم هـاتفي من الصديق الفنان (عـزيز يوسف – أبو سعود) الساكن بلندن، وبحديث قصير أشعرته بقلقي عن حياة مظفر النـوّاب، وانقطع الهـاتف!؟

في كـتابي (من وجـد ديوان الوجـد) الذي كتبته كرثـاء لأستاذي الراحل هـادي العلوي، كنت قد وضعت دراسة عن مظفر النـوّاب في ذلك الكتاب، تناولت فيه قصيدته الرائعة – روحـي – وكيف يعـالج فيها النـوّاب موقفه السياسي من الحزب الشيوعي العراقي، وتـداعـيات الحالة العراقية. وفي دراستي النقـدية «الإتجاهات الجديدة في الشعر الشعبي العراقي» والمنشورة بمجلة(الثقافة الشعبية) البحرينية، العـدد 8 لعام 2009م كنت قد أشرت بوضوح الى أهمية مظفـر النـوّاب في – عملية التجـديد في الشعر الشعبي العراقي- كـرائد لهذا التجديد، في منتصف خمسينات القرن الماضي. هنا نتوقف بالتأمل والتحليل عند واحدة من أشهر قصائده.

«البـنفـسج» ذروة الإبـداع الـنـوابي في الشـعر الشعبي العـراقي
لم يحظَ أيًّ شاعـرشعبي عراقي باهتمام منقطع النظير كما حظي بــه الشاعر العراقي المعروف مظفـر النــواب، والمولود في عام 1930 م في أحد نواحي بغـداد/ الكرخ "منطقة الكاظية" بالحــارة المسـماة: شريعة النـواب، على ضفاف نهـر دجلة، والأسم أخذ من عائلـتهم، التي استوطنت هذا المكان منذ أيام الأترك العثمانيين وسيطرتهم على العراق، منذ القرن الثامن عشر الميلادي أو قبله بقـلـيل. الإنتماء السياسي للشاعر مظفر الـنواب، مذ عرف التفتح الذهني في مراحل حياته الأولى، أكسبه صدقاً إبداعياً، وأضاف إليه خبرةً حياتية، جعلته يعرف كيفية الإستفادة من المنهج الجدلي للماركسية التي كان يتبناهـا، فكراً وممارسة، لذلك أخذت القصيدة الشعبية، عند هذا الشاعر المشـاكس، تخضع الى رؤاه وحـده، رغـم أنـّه كان متأثراً بشكل كبيربأشعار الحــاج زايـر الدويج، الشعبية، لاسيما المـوال منها،، الاّ أنـه أخذ منها عمق الفكرة ولم يأخذ الشكل والإسلوب.

وكل من قرأ لمظفـر النـواب، لم يحظَ عنده لأي مـوال أو أبوذية أو بقية الأصناف الشعبية المتداولة في الشعر الشعبي العراقي، وربما كانت له، الاّ أنـّه لم ينشر منها أيّ شئ، وعلى هـذا الأساس نقول بأن مظفـر النـواب "شـاعر القصـيدة الشعبية" بامتياز عـال، وقد أضافت الحياة السياسية إسقاطاتها على تجربتـه الشعرية بشكل ملحوظ وواضح، والمتابع لشعر النـواب يدرك أن القصيدة السياسية "إمـتيــاز نــوّابي" وهذا لايعني أن غيره من الشعراء الشعبيين في العراق لم يكتبوا القصيدة السياسية، بل هناك الكثير غيره قد كتبوا فيها، ولكن "الإمتياز النـوابي" للقصيدة السياسية يكمن في كونـه مازج بين الإيحــاء الغـزلي والفكرة السياسية، في هذه القصيدة، إضافة الى أنـّه جعل من "الرموز السياسية" في هذه القصيدة مسألة "منهـج" يـدلّ عليه – إسلوباً وشخصا، بمعنى آخر، أن إسلوب النـواب في نظم القصيدة الشعبية الغزلية يحمل في طيـّاته "رمـزاً سياسيـّاً" بالضرورة، ومثال ذلك كثير، يمكن للقارئ أن يجده في ديوانه الأول (للـريل وحمد) أو في أغلب قصائده المتناثرة مثل "روحي.. حمام نسوان .. يجي يوم ونرجع لهـلنا .. كَـتله العـب كَـلـّي خايف" أو "قصيدة البنفــــــسج" والتي سنتوقـف معها بعمق، في هذه الدرسة، وقصائد أخرى كثيرة، مازالت متفرقـة، ولم يجمعها بـديوان، حتى هذه اللحظة، وفق معرفتي الشخصية بــه، ولذا لايمكن لأي دارس أن يـنزع النـواب من "الإسقاط السياسي" لأي قصيدة يكتبها، لأن الوعي العربي، والعراقي بشكل خاص، يربط إسم مظفر النـواب بشعره السياسي، وهذه المسألة - رغم إيجابيـّاتها- خلقت له إشكالات كثيرة في الوسط السياسي العربي، وأقلقت هـدوءه ومسكنه بين المنافي العربية، حتى هذه السـاعة.

مظفـر النـوّاب، ليس فقط شاعر أو سياسي، بل هـو مهموم بالإبــداع والحالة العراقية برمـّتها، إذ أن تجربته الطويلة - السياسية والإبـداعية - أكسبته نظرة مختلفة عن باقي الشعراء جعلته ينظر بقلق دائم الى مسارات القصيدة وتجلياتها السياسية والإجتماعية، ضمن مجالها الإبداعي، أي أن النظرة الى الشعر – عند النـوّاب- هي قلق معرفي يقض المضـاجع، ويقلق العقل ويربك الروح المبدعـة، الأمر الذي يجعل صاحب هذا القلق لأن يكون متابعاً بشكل دقيق لكل التطورات الجارية في المحيط، لاسيما المحيط الإبداعي، ولا ننسَ "بأن العـراق فيه ثلاثـة أنهـار جارية هي دجلة والفـرات، ونـهـــر الشعر" كما يقـول الأديب اللبـناني شوقي أبو شقرا، في إحدى تصريحاته الجميلة، ذات الأفق البعيد في مجال الأدب ، وهذا يعني أن المحيط الذي يتحرّك بـه النـواب محيطاً إبـداعيـاً عالي الضفاف، فيه المرأة الفـلاحـة البسـيطة تناغي طفلها شعراً في الهـدهـدة، كي ينام بهـدؤ وطمأنينة، فما بالك بالآخرين، ممـّن عركتهم ظروف الحياة، وجعلت منهم أصحاب بديهة وارتجــال في الشعر "والهوسة العراقية" مثال ساطع على هذه البيئة الشعرية في الوسط العراقي.

إذن، درب الشعر الشعبي – بشكل خاص- لم يكن معـبـّداً بالورود كما يتصور البعض، بل هـو ميدان صعب الدخـول إليه، في لجـّة هذا الكم الهـائل من الشعراء، لذا توجـّب على النــوّاب أن يكون في مستوى هذه اللجة والتحدّي، وهـو الشاعر الدائم التفكير على أن يبني " قصيدتـه الخاصة" والتي تحمـل إسمه، من حيث البناء والمفردة والشكل والمضمون، والموضوع، ولذا نراه، قــد أبــدع القصيدة الحـرّة في الشعر الشعبي العراقي، في مطلع الستينات من القرن المنصرم، تسـاوقاً مع إبـداعات السـيـّاب في الشعر الحـر، ولا أعرف هل كان ذلك "منافسة إبداعية" أم "غيرة صحبة" وهما كانا متعارفين "ورفيقين حزبيين" في الحزب الشيوعي العراقي، ولكن الأسبقية تبقى للسـيـّاب لأكثر من عـقـد من السنين.

في نظري، أن عـامل الإبـداع عند النـواب، هـو الذي دفعه لإبداع القصيدة الحـرّة في الشعر الشعبي العراقي،، بغية ترك بصـمتـه الخاصة، عبر السنين، وهـو ماكان له، لذلك نقـرأ لنخبة كبيرة من الشعراء الشعبيين في العـراق، من جيل الستينات والسبعينات، قـد نحـوا منحى الـنـواب في نظم هذه القصيدة الشعبية الحـرّة، والتي تعتمـد على الإيقــاع الشعري، بشكل خاص في أغلب مساراتها البنائية، وتعتمـد القافية في نهـايات المقاطـع الشعرية فقط، الأمر الذي وسـّع مـدى النظرة الإبـداعية عند أصحاب القصيدة النـوابية، لاسيما وأن أغلب المتأثرين بـه هم سياسيون وماركسيون أيضاً، وأغلبهـم تمـرّد على الحزب الشيوعي العراقي، إسـوةً بمظفر النـواب الذي هـو أول من أختلف من الشعراء الشعبيين مع الحزب بعـــد السيـّـاب، كان ذلك في مطلع السبعينات، فيما كان اختلاف السياب في مطلع السـتيـنات، وتلك مفارقـة عـجـيبة عــند هـــذين المبــدعــيـن العراقــيين!!

عــودة الى قصـيدة «البـنفســج»
يقـول الـنـــواب في هـذه القصـيدة:

يــــا طعـم... يـا ليـلة من ليـل البنفســج
يـاحـلم ... يـمـامش بمـامـش
طـبـع كَـلـبي مـن اطـبـاعك ذهـــــب
تـرخص.. وأغـلـّيـك...... وأحـبــــّـك

* * *

آنا متـعـوّد عليـك هــواي...يا سـولة سكـتـّي
يـا طـواريــّك... من الظلـمــة تجــيــني
جـانـن ثـيـابي علي غـربـة كَــبل جـيـتك
ومـسـتاحـش مـن عيـيونــي
وَلـّـمتـني....
وعـلى المـامـش..عـلـّمتـني..
آنـا حـب هـوايـه كَــبـلك ذ وّبــاني.

* * *

إشـلـون أوصـفــك.. وانـت كـهـرب.
وآنـا كَـمرة عيـني.. دمـعـة ليـل ظـلـمـة!
إشـلـون أوصـفـك..!!
وانـت دفــتر
وآنـي جـلمـه.........!!
يـلـّي.. مـاجـاسك فكـر بالليــل ومجاسك سـهـر
يـلـّـي بين حـواجـبـك..غـفـوة نـهـــــــــــــــــر
يـلـّي جـرّة سمــــا بعـينـك
خــاف أفـززهــا من أكَـلـّك
آنـــا احـبـّــك
آنــا احـبـّـــك

* * *

مـامـش بمـامـش....و للـمامش
يـمـيزان الـذهـب....وتـغـش واحـبــّـك
وارد أكّــلـّك
فـرنـي حـسـنـك............ يـابنـفـسـج
وانـتَ وحـدك... دوّخـتني.. يـابنفـسج
وعـلى حـبـّك.. آنـا حـبيـّت الـذي بحـبـهم لـمتـني
يـاطعـم.... يـاليلـة من ليل البنفــسج
يـا عـذر عـذرين.. يـاشنهي واحـبـّك

* * *

تحـليل القصيدة:
مفتتح القصيدة النــوابية، يرسـم بعناية فـائقة جـداً، ومظفر يعي معنى "مسك القارئ" في أول مفردة من القصيدة، وهـو – كما أعرفه عن قرب- قد درس علم النفس، بشكل جيـّد، إضافة الى تعلـّمه العالي لـفـن الألـقاء، أضف الى ذلك نظرته الجمالية الى شكل الصورة الشعرية وطريقة بنائها، حيث أنـّه فـنـّـان تشكيلي مـاهـر، يمازج بهذا الفـن الساحر تشكيلات القصيدة الشعبية والفصيحة، على حـد ســواء، فالنظرة الى القصيدة- عـنده- لـوحـة فنـيـّة- مفـتاحهـا" المفردة الأولى، ويكاد هذا الأمر أن يكون ثابتاً في أغلب قصائده "الشعبية والفصيحة" فهـو يتـأنـّق بجهـد عال في مفتتح قصائدة، ويريد أن يوصل قوة الفكرة وإيحائآتها منذ المفردة الأولى للقصيدة، لأنه يريد في هذه المفردة أن يقرأ أحاسيس المتلقي العادي والبسيط، قبل أن يصدر المتخصص أو الناقد حكمـه عليها، لأنه أميل بطبعه وذائقته الفنية االى عامة الشعب، ولم يلتفت على الإطلاق لمايقوله النقــّـاد في شعره، فهـدفه القارئ البسيط، لأنه يكتب دون تكـلـّف لهـؤلاء، ومن هنا نفهم الإقبال الهائل على شعره عند مختلف الطبقات الإجتماعية.

فـالمفردة الأولى، في هـذه القصيدة تقــول: يــــا طعـم... " وتترك وراءها فـراغاً، يملى على المتلقي لأن يتـأمـّل هذا الطعـــم، وبالتالي يريد معرفة نوع الطعم وشكله وما هـو قادم بعد هذه المفردة، كي يكتمل معنى الطعـم، أي أن النــوّاب، جعل التـأويل مفتوحاً عند القارئ ليختار شكل ونوع وذائقة هذا الطعم، بـل وتميـّزه عن بقية أصناف الطـعـم، قبل أن يوصل إليه تكملة الجملة الشعرية، بغية إمسـاك المتلقي بقـوة، وشـدّه للقصيدة وأجـواء القصيدة وبناءات القصيدة وفضاءاتها، وهو ما أسميه "ضجيج القصيـدة" بمعنى هيمنتها على عقل المتلقي، وهـنا نرى النــوّاب، في هـذا المفتتح لقصيدته الشعرية، تسـلـّل هـادئاً الى أحاسيس المتلقي، إذ أنـّـه ألحق كلمـة" يـاطعم " بكلمـة سحريـّة أخـّـاذة، إشتقـّـها من شكل ورائحة ولون البنفــسج، ذلك الـزهـر الجميل والسـاحر، والمتألق في الليالي القـمـراء، وكأنه – أي النـوّاب- يريد أن يملي على المتلقي خيـاله الشعري السـاحر، بهـذه المفردة، ويفرض عليه أجـواء القصيدة، وهـو يدرك بأن المتلقي الحسـّاس هـو أميل الى هـكذا أجـواء، لأن إستخدام عبارة "يا ليلة من ليل البنفسـج" هو الخيال الرومانسـي الناحي صوب مداعبة خلجات الروح العاطفية، والإنتقال بها الى فضاءات الهـوى والحـب، بعيداً عن قلاقل السياسة المتعبة لعقل الشاعر والمتلقي، على حـد سـواء، وبغية شد المتلقي أكثر، فإن النـــوّاب يسحب القارئ الى مايريد أن يصلـه إليه. فيردف مفردة أخرى في مستهل البيت الثاني، فيها يـاء النـداء، تؤكـّد ياء النـداء الأولى في البيت الأول، لإستحضار، شخص مـا، تخاطبه المخيلة بهـذا النـداء، قد يكون شخصاً أو حزباً أو شعباً أو جماعة معينة، يستحضرها عقل الشاعر.

وهـنا "مـكر الإيحـاء" في محمول المفردة النـوابيـة، لأن تشغل بـال المتلقي في مسألة التـأويـل لما يرمي إليـه الشـاعر، لذلك يوصـفـه بــ"يـاحـلم .." وهنا نرى أن الشاعر، مازال محـلـّقا في "عـالم الخـيال" فالحلم، رؤيـا، تداعب الروح في لحظة غيابها عن الوجـود الفيزيائي المؤقــّت، عادة مايحضر هذا الحلم في المنام أو في مايعرف بـ"أحـلام اليقظة"ً وهـذا الإيـهـام المقصود من لـدن الشاعر، هو لأجـل ديمومـة الحالة النرجسية في وهـم الشاعر ووهـم المتلقي، من ناحية، ومن ناحية أخرى، هـو الإبقاء على موسـقة الإيقاع في هذا الرتـم الجميل لترادف الكلمات في محمولاتها المعنوية والشعرية، ضمن هارمونية البناء الكلـّي للبيت أولاً، وللقصيدة ثانيـاً، فهـذا الحـلم، هـو "مامش بــمامش" أي لاوجـود له على الطبيعة أو في المتناول الملموس، لأن كلمة "مامش" تعني في العامية العراقية: لاشئ، فكل الاحـلام: مامش في مامش، أي لاشئ على الإطلاق، ومع ذلك يبقـى "هـذا المامش" خيط أمـل تتعـلـّق بـه الروح، لأنه يرمز الى شئ في داخلها ولا تستطيع التخلي عنه أو نسيانه، لذلك هو حاضر دائما في خلجات هذه الروح، بمعنى هـو جزء من وجـدانها القائم أبـداً.

وعلى ضوء ذلك يناشد الشاعر هـذا الوجـدان بــ: طـبع كَـلبي من اطباعك ذهـب" إذن هـناك قـدسية وإجلال لهذا الكـائن المخاطـب، لأن الشاعر يستوحي منـه "طـباع روحـه" والتي هي بمثابة "ذهــب خالص" أي سيماء الصفاء والصدق والأصالة قائمة في طبعه، وفق المـفهـوم العراقي، لهذا المصطلح،، أن هذا الكائن لاتشوبه شائبـه، وطبع الذهب، ينعت بـه المخلصون فقط، دون سواهـم، ومن هنا نفهم معنى الإجلال والتبجيل في محمول العبارة عند الشاعر، لذلك يحافظ الشاعر على هذا البعـد المعنوي في شخصية المخاطب، عندما ينعـته بعبارة "ترخص وغـلـّـيك وأحـبـّك" بمعنى أن الشاعر- هـنا- يلمس بعض هـنات في هذا الرمز قد بـدت، وهـو ما تجليه مفـردة "تـرخص" والتي يرفض الشاعر التعامل بها معـه، لأنـه يحـبـّه، ولا يريد لهـذا الحـب أن يبـتذل، ولذلك هـو يصـرّ على أن يكون غـالي هذا الحـب، من منظـور دلالي قائم في الوجـدان، وحاضر في الوعي واللاّوعي، وهـو ماتكشفه العبارة في البيت الخامس القائلة: "أنـا متـعــود عليك هـــواي" وهذا التعـود حالة في الديمومة، عصيـّة على التغييـّر عند الشاعر، لأنـّه ألَـفَ تلك الحالة فيه وتعـوّد عليها، بشكل واضح وكثير، والتي تشير إليها مفردة "هــواي" أي من الكثرة، هنا في هذا الموضع، لذلك نرى حـالة من التـعــــوّد عند الشاعر في مراقبة هـذا السلوك المعـذب للشاعر، فيربطه بالإدمان على تلك الحالة باعتباره "سولة سكـتـّي" أي حالتي المتعـود عليها فيك، والسـولة = التطـبـّع، والسكوت على تلك الحالة، هـو حـالة من الرضا أيضـاً،

في المقطع الثاني من القصيدة، ينتقل مظفـر النـوّاب الى محاكاة هـذا الكائن الوجـداني، ويستحضره في كيانـه، وهـو في عـالم الغـربة والتشـرّد، فيخاطبه بالقول: "يـا طـواريـّك.. من الظـلمـة تجيني" و "طـواريـّك" أي ذكـراك وأخبارك تصل لي وأنـا في غربة وحـالة من الظـلام المطـبق، لذلك لا أستوحش، لأنك أنت موجـود في كياني، ومتواصل معك في كل الظروف الصعبة، ومن هـنا تأكيده على أن مجيئـه قد غيـّر ماكان هـو فيه، من حياة وشعور وملبس وفكر، وهـو ماينجلي في البيت اللاّحـق القائل: جـانـن ثـيابي علي غـربـة ... كَـبل جيتك، ومستاحش من عيوني" هذا البيت تعريـة مطلقـة لكل أحاسيس الشـاعر، وهـو فضح كاشف لمدى التعلـّق بهـذا الكائن، فـهـو الذي أبدل فيه كامل الكيان، بـدأً من الثياب الى المشاعر بعـد مجيئه إليه، لأنه قبل ذلك، كان تـائهاً، ومستوحشاً وجـود البشر، بل الإستيحـاش حتى من عـيونه، وتلك حالة نادرة الحدوث، إذ أن هـذا المجئ لـهـذا الكائن قـد قلب كل مـوازين الشاعر، رأساً على عقب، وهــذا البيت عـندي لايمكن أن يـدانيه بيت آخـر، لا بالعـامي ولا بالفصيح، حيث التشـبيه فيه صورة خـارقة لكل مكامن النفس البشرية، فـهـو بمثـابة ولادة جـديدة تملي قانونيـّتها على الوجـود، ومن ثم تحـرّك المخيلة الى أشياء أبعـد حتى من محمولها أو توظيفها في هـذا المكان، فالعبارة، في هذا البيت قابلـة للقـراءة على أكثر من وجـه ومعنى ومحمـول، يتجاوز حتى مضمون العبارة.

هـذا الإستيحاش المفارق للشاعر بعـد المجئ، يطمئن روحـه، فتـهـدأ قليلاً، وتستأنس هـذا المجئ المجرّد والملامس للخـيال والعـواطف، فيخاطبه بعبارة رقيقة فيها شئ من التـذلل للمحبـوب والمحـبـّذ في هـذا المقام، فيخاطبه قـائلاً: "ولـّـمتني ... وعلى المـامش عـلـّمتني" عبارة - ولـّمتني - يفهـمها أهـل العراق، على أنـّهـا، هـيـأتني الى أشياء كبيرة وخطيرة وأعـددت نفسي لهـا، ولكنك ما زلت على إيقـاع "المامش" مازلت محافظا وعـوّدتني على هـذا "المامش" أي اللاّشئ، ومازلت بك متمـسـّكاً، رغم أن هـناك الكثير ممـّن مالوا بحبهـم لي، لكنـّي فضلتك أنت بالـذات عليهم، وهـو مايكشفه البيت القـائل: "آنـا حـب اهـوايَ كَـبلك ذوبــاني" هـنا نرى أن النــوّاب تـمـاثـل وتـناصّ في هـذا البيت ومضمـون بيت- القشـيري المتصـوّف، القـائـل:
بـنيَ الحـبّ على القـهـر فـلــــو  ...... عـدلَ المحـبوب يـومـاً لسـمـج
لـيس يستحـسن في حكم الـهـوى..... عاشق يطـلـب تـأليـف الحجج

والنـــوّاب مـولع بالقراءات الصـوفية، وهـذا المنحى واضح وكثير التضمينات في شعره، وهـذا الأمر يحــتاج الى وقفـة أخرى خاصة بهذا الموضـوع.

المقطـع الثـالث من القصيدة، يبدأه النـواب،بحـالة توصيف عشقيـة، تنسجم والمضمون العـام للقصيدة، لكنها تعزف على إيقاع "التشـبيب والتـغـزّل المفرط بالمحبوب، حيث يقول في مستهل هذا المقطع:
«شـلـون أوصـفـك... وانـت كهــرب
وآنـا كَــمرة عيـني... دمـعـة ليـل ظـلـمــه!!؟؟

إستهلال البيت بــ: شلون أوصفك، أي كيف أبـدأ بتوصيفك، وأنــت تشـعّ كمادة "الكهرب" التي تشع بالليـل الحالك، وتستقطب كل العيـون للنظر إليها، والكهرب من الحجر الكريم الذي تصنع منـه المسـابح، وهـو حجر غالي الثمـن، والتوصيف هـنا يقفز بالمعادل الموضوعي لوجـه هذا الكائن بـالكهرب، الدائم الضياء، فيما وجـه الشاعر، أو كَـمرة عينـه، هي كقطرات الدمع المنسكبة في الليل والتي لايراهـا أحـد، بمعنى لاتصح المقارنـة مع بهـاء وجهـك النـوراني، مهما حاولت أن أقترب في كل ما أملك مـن إشتعال والتي رمزت لها كلمـة "كَـمرة عيني" والكَـمرة، هي ليـلة يكون فيها القمر بـدراً، والمقاربة هنا، في هـذا التوصيف، هـو إعـطاء الكليـّة لوجـه الحبيب وزيادة نـوره على القمر المشـع في اكتمال بـدره، وهـنا نلحظ المغالاة في هـذا التوصيف الذي لا يقارن بـه شئ، من ناحية سطوع النـورالفلكي في وجـه المحبـوب، مقارنة ببقـية المخلوقات، فكيف أوصـّف نفسي بك ومن ثم يـذهب الشاعر أبـعــد في التوصيف حين يقـول:
شـلون أوصـفـك.... وانت دفـتر وآني جـلمـة!!؟؟
بمعنى، أنا مجـرّد كلمة في "قـاموس" والـّتي عـبّر عنها بكلمة "دفـتر" وهـذا إيغـال آخر في اكتمال صفاة المحـبوب قياسـاً الى المحـب، ولذا نـرى أن الشاعر يضفي كلام الجلال والجمال على موصوفـه، باعـتباره "سـاكن البال، هـادئ في منامـه، غير مبـال بحال محبـوبه، ولا يؤرّقـه التفكير ولا السهر في الليل، وهـو ما عبـّر عـنه البيت القائـل: "يـلـّـي ما جاسك فـكـر باللـيل، ومجـاسـك سـهر" بمعنى أنت خال من أيّ هـم، ولذلك يردف التوصيف عليه بـالبيت التالي: "يـلـّي بين حـواجبك غــفــوة نـهــر" بمعنى أنــت في رقـدة هـانـئة تشبه إغـفـاءة النهـر في حالات الصفاء والـهــدوء، وقد أحسن النـواب التصوير، حين شابه غفـوة المحبوب الواضحة في ملامحه من خلال النظر الى مابين عينيه وهـو في حالة الرقـود، وتوصيفهما بغـفوة النهـر، وهـذا التشبيه نادر جـدا في الأدب العربي، وقـد اهـتدى إليه الـنــوّاب، نتيجة قلقه الـدائم وسـهـره على قصيدته وفرادتها، وهـذا يسـجـّل له في هـذا المعادل الموضوعي في دلالات الرسم الشعرية.

شـكـّلت- حالـة الإغـفاء- منظـوراً بيـانياً عند الشاعر،لأن يترسـّم ملامح الحبيب بهـدوء تـام، فمن الإغـفاء الى تصوّر شكل العـين ولـونها، والحرص من لـدن الشاعر لأن تبقى في حالة الهـدوء المطلق، فلا يتجاسر الشاعر على إيقـاظ المحبوب بـل يتـأمـّله في رقـدتـه، وكيفية مغازلة العـين وهي داخل الجفـن وتحت سلطان النـوم، والتي يحرص الشاعر للحفاظ على رقـدتهـا، حتى وإن أراد التـغـزّل بها، لذلك يخاطبه بحرص يملؤه الشوق بعبـارة : "يـلــّي جـرّة سما بعـينك ... خاف أفزّزهـا من اكّـلك ... آنـا أحـبـّـك" معادلة التوصيف للعين بزرقـة لـون السماء تكاد تكون معروفة عند الكثير من الشعراء، ومظفـر يـدرك ذلك جيـداً، فمال الى استخدام عبارة "جــرّة سـما" ليدلل بها على زرقـة العـين، وبالتالي أن هـذا اللـّـون الأثير لديه وهو في حالة الرقـود لايصح "إزعـاجـه" حتى ولو بالغـزل، وهـو ما ذهـب إليـه النـواب بعبارة "خاف أفززهـا من اكَـلك آنا أحـبك" وهـذا إيـثـار محمـود من الشاعر، خصّ بـه هـذا الكائـن دون سـواه.

في المقطع الرابع والأخير من القصيدة، يعزف النـــوّاب على مفـردة "مامش بمامش" لإثبات أن هـذا السلوك عند الكائن المخاطب، هـو سلوك ثابت، طبع سيرته وشكل تعايشـه اليومي بهذا المسلك، أي أن هـناك إيحاءات نــوّابية تريد القـول، أن هذا السلوك هـو "مـواعـيد عرقـوب" لاصدق فيهـا، وهـنا أراد النــوّاب " بمكر الإيحـاء" الذي يجيده في الشعر أن يحرف ذهـن المتلقي الى قراءة " طبيعـة هـذا الكائن" الذي يخاطبه، بمعنى آخر، بـدأ النـواب يغري المتـأمـّل بإيغــال التـأويل الى أمـور أخرى، تتعـدّى صفة الكائن الفـرد، لأن صفة الثـبات على نهـج مخادع ليست صفة بشرية دائمـة!! ومع ذلك أن النــوّاب يظـل متمسـّكاً بهـذا الكائـن حتى وإن اكتشـف مكـره، لأنـّه – الكائن - أثيـر لـديه ولا يستطيع الفكاك منـه، بل يبقى متعلقـاً بـه على الدوام، ومن هـنا جاء توصيفـه بـــ"ميـزان الـذهـب وتغـش واحـبـّك" وهنا حـلـّق بنا النـواب الى معادل موضوعي آخر يدخل في صناعـة المصوغات الذهبية، حيث المتعارف عليه، في الوعـي العـراقي، أن – هـذا الميزان - كثير الغش دائماً، ولا يعرف سـرّه الاّ الصائغ ذاتـه، فتوصيف هذا الكائن بــ"ميزان الـذهب الغشـّاش" هـو إدانـة ضمنيـّة، رغم جمالية العبارة الشعرية وسحريـّة إقاعها في التوظيف والدلالة والإيحــاء، فميزان الذهـب، هـو المعادل الموضوعي لسلوك الكائن المقصـود، وهـذه إلـتفـاتـة خـارقـة من النـــوّاب في هذا المعـادل، تسـجـّل لـه قــبل غيـره مــن الشعــراء في التوصيف لطبيعـة الأشـياء.

هــذا التعـلـّق الوجـداني عند النـواب، في هـذا الكائن، أمـر محـيـّر فعلاً، فرغم المعرفة الدقيقة بـأحـوالـه، مازال النــوّاب متمسـّكاً بـه حتى هـذه السـاعـة/ مع الإشارة هـنا الى أن هـذه القصيدة كتبت في مطلع سـبعـينـات القرن المـاضي/ وليس ذلك فحسب، بـل يوغـل النـوّاب في حـبـّه، ورغم إدراكـه بأن الطرف الثـاني غير مبـال بـه، الاّ أنـّه يـظـل يطـارحـه الهـوى والتشـبيب، إذ ينتقـل النــوّاب الى الإفـصـاح عن هـذا الوجـد، إذ يقـول في البيت الثـاني من المقطع الأخـير"وارد اكَـلّـك ... فــرني حـسـنـك يـابنفسـج" وكلمـة – فـرني- في اللهـجة العراقية ومحمولاتهـا في الوعي، تشير الى: إصابة الرأس بالصـداع الـدائم، لكن تأويل مضمونها يعني، شـل العقـل من التفـكير والهيمنـة على بـاقي الحـواس، وهـو ما يؤكـده البيت الثالث من ذات المقطع، حيث يصـر النـواب على هذا المعنى وذات الدلالة، إذ يردف القـول بــ"وانتَ وحـدك .. دوّخـتني .. يـابنفسـج" وهـذا الإفصـاح لايحتـاج الى شـرح وتـأويل، فالعـبارة واضـحـة وفـاضحــة لهذا التمـسـّك الشـديد من لـدن الشـاعر فيما يعـشق، بـل هـناك – مجـاهـرة- مشـبوبـة ببعض اللـّـوم والعاطفـة والتمسـكن، تظهـر في الخطـاب الشعري، في البيت الـرابع، حيث يقول الـنـوّاب فيـهـا: "وعلى حـبـّك .. آنـا حبـّيت الـذي ... بحـبـهـم لمتـني" وهـنا نلمـس خضـوع مطلق من لـدن الشاعر لإرادة ذلك الكائن المسيطر على كل حـواس الشـاعر، رغـم معرفتنا بقـوة الإرادة عـند الـنــوّاب، فيما إذا أراد أن يتـّـخذ أي قرار في حياتـه، لكن – هـنا- في هـذا الموقف، نلمس شـفـافيـة الوجـد، هي الطاغـية على الشـاعر، فيلين في الخطاب كثيراً، عنـدما يتـوجـّه بشكل مباشـر الى من يهـوى ويعـشق، فحتى الذين نهـى عنـهم في التعـاطي والتعـامل، أحـبـّهم الشاعر لأجـل ذلك الكـيان، والتـأويل هـنا سيخرج بـنا من جـادة الهـوى الى جـادة (السـياسـة) كما أعـتـقـد، لأن هـذا البيت الشعري، يفرض هـذا الخـروج، إذ كيف يخاطب الشـاعر هـذا الكيان بعــبارة: (وعلى حبـّك .. آنـا حـبـّيت الذي بحـبهـم لمتني) صـدر البيت يقـول: من أجلك، أو على هـوى هـواك، أنا حبيـّت الآخـرين!؟ ومـن هـم هـؤلاء الآخـرين!؟ ولـمـاذا يخاطبـهـم النــوّاب بصـيـغـة الجـمع!؟

قـلـنا أن هذه القصيدة كتبت في مطلع سبـعينات القرن المنصرم، وفي هـذا الأوان كان هـناك حـدث سـياسي مـهـم، هـو قـيام تحـالف سـياسي واضح بين الشيوعيين والبعـثيين، وأطراف أخرى، عرف بـ: "الجبهـة الوطـنيـة التقـدمية" في العراق عام 1973 م، تـرى أكـان النــوّاب يشـير الى ذلك الحـدث وذاك التحالف أم الى سـواه!؟ لأن مضمـون العـبارة النـوابيـة تغـمـز من طـرف خفي الى مضمـّرات سياسيـة كامنـة في العـبارة، والتي تـدلّ عليها صفة الجـمع "الذي بحبـهـم لمتني" ثم يخـتـم النــوّاب قصيدتـه تلك بالعـودة الى البيت الأول منـها، وكأنـه يغضي عن السـلبيات والأخـطاء الصادرة من ذلك الكيـان، ويعـود بترنيمـة الغـزل المفضـلة لـديه في توجـيـه الخطاب الشعري، حيث يخـتم بــ"يـاطـعـم .. يليلة من ليـل البنفسـج ... يـاعـذر عـذرين ... يـاشـنهي وحـبّـك"، خفـوت النـبرة في العتـاب تعني القـبول الضمني لفعل المخاطـب، لاسيما عبـارة – يــاشـنهي واحـبـّك- إذ فيهـا موافقـة مطلقـة على كل ماصـدر من ذاك الكيان، ويبقى الحـب كما هـو رغم العـتاب.

هـذه القـراءة، لتلـك القصـيدة النــوّابيـة الرائـعـة، تكشف أمـامنـا عـالماً شـعريـّاً متميـّزاً، خطـّـه النــوّاب بحرص شـديد على أن يبقى فيـه متـفـرّداً عن أقـرانـه من الشعراء، السـابقين عليـه والمجـايلين لـه واللاّحـقين عليـه، إذ أن منهـج النـواب، في بـناء القصيدة الشعبية، يملي على المتلقـي حـالة من التفكير الـدائم، والقـراءة التـأويلية على أكثر من وجـه لنصـّه الشعري، بحيث يضع هذا المتلقي في حالة إنشـداد وتـأمـّل دائمين، والبحـث الـدؤوب حـول المعـاني ومـا ترمـز إليـه تلك المـرموزات الشـائكة، والتي يضمـّرهـا النص الـنــوّابي، دون تكلّف منـه، خـلا أنـها تتعـب النقـّاد والدارسـين لشعره على الـدوام، لأنهـا تفرض متابعـة المنهـج، من جهـة، ومن جهـة ثـانية، تجعل من التـأويل ثـابتـاً متحولا، للقراءة المغـايرة فيما هـو سـائد من شـعــر. وتلك واحـدة من أبـرز سمات الشـعر العـظــــــــــــــــيم.

 

مـلاحظـة: إعـتمدنـا في قراءتنا للقصيدة على ما أدّاه المطرب العراقي- إليـاس خضر- لهذه القصيدة، نظراً لابتعادنا عن مزاملة الصديق الشاعر مظفر النـواب، إذ نـأت فيما بيننا المسافات والظـروف، فـعـذراً إن كان هـناك (نسـيان) لبعض الأبيـات من القصيدة، فـهـذا خارج عن المتناول، ولا أبـرئ نفسي من هـذا التقصير.