القاص المصري يبرع في نسج قصة من مجرد التفاتة مفاجئة تجمع بين نظرات فتاة وشاب في الشارع ويتبادلان سرد أحاسيسهما وما خطر في بال كل منهما. مشهد عابر لكنه يكثف علاقة تفتحت وسرعان ما التبست دلالاتها.

في .. شارع

محمد عبد المنعم زهران

 

أحياناً يحدث أن تبدو الأشياء هكذا، ودائما بتلقائية غير قابلة للتفسير.

إذ أنه وبمجرد التفاتى إليها رأيتها تلتفت إلىّ، كنتُ أنهض من مقعدى على المقهى، وأهم بالذهاب إلى مكان لا أحدده دائماً. فعندما يجلس المرء على مقهى، لمجرد أن يجلس على مقهى، يبدو عادياً جداً ألا يحدد مكاناً يذهب إليه، وهذا يعد طبيعياً لأننى أيضا عندما هبطت من منزلى لو أكن أقصد مكانا محدداً للذهاب إليه، وعندما رأيت المقهى جلست.

وقفت أمام المقهى، وحين استدار وجهى ليرى أى شئ، محض أى شئ فى الشارع، فقط استدارة للذهاب وربما استدارة لأهيئ نفسى لبدء أول خطوة تجاه المكان الذى لم أنجح فى تحديده. فى هذه اللحظة التفتتْ إلىّ.

كنتُ متوقفة على الجانب الآخر من الطريق أتلفت، لأتأكد من عدم وجود سيارات فأعبر الشارع، رن هاتفى، وكانت أمى، وقلت إنى سأستقل تاكسى، وقلت بعصبية أخفيتها إنه لا داعى لأن تقلق، ثم أغلقت الهاتف فى غضب وأنا أفكر فى خطأ قرار البقاء فى المنزل دون عمل لمدة طويلة، ذلك القرار الذى خلّف لديها قلقاً مزمناً فى أول أيام عملى، حتى إنها تكاد تتصل كل خمس دقائق لتطمئن. ولكن كل شئ سينتهى بعد أيام قليلة بعد أن تعتاد خروجى اليومى إلى العمل. لماذا لا تتوقف السيارات.. كأنها فى سباق، أو ربما أنى لا أجيد عبور الطريق وسط السيارات كما يفعل هؤلاء الشباب، انتهزت فرصة عبور فتاتين فمشيت معهما خائفة، بدا أنهن يجدن اختيار اللحظة المناسبة للعبور السريع. وفى اللحظة التى أنهيت فيها عبورى كنت أهم بالصعود إلى الرصيف، وعندما نظرتُ للأمام مباشرة رأيتَه ينظر إلىَّ.

وكانت توشك على إنهاء عبورها للشارع حين رفعت رأسها وكنتُ واقفاً أمام المقهى أتلفت إلى أى شئ فى الشارع.محض أى شئ غير محدد، لأننى لم أحدد مكاناً للذهاب، فى هذه اللحظة رأيتها فجأة أمامى.

 فى البداية مشيت قليلاً بمحاذاة الرصيف بعد أن تمكنت من عبور الشارع  مع الفتاتين اللتين تفهمتا حيرتى، مشيت قليلاً منتشية بعبور الشارع وسط سيارات تمر سريعاً، أو ربما فقط باحتمال اختيار لجهة التى سأصعد منها للرصيف.

ورأيتها تضع أول قدم على الرصيف. ورفعت رأسها إلى.

ورأيته أمام مقهى، واقفاً متحيراً كأنما يفكر، وفجأة نظر إلى.

يحدث كثيراً أن يلتفت أى شخصين فى ذات التوقيت، وخلال هذا الزمن الذى لا يتعدى ثانيتين على الأكثر، يبدو عليهما دهشة :

-       لماذا تنظر إلىَّ..!

-       لماذا ينظر إلىَّ..!

وبعد ثوان أخرى يتلفتان إلى أى مكان وأى شئ آخر، وقد قررا معاودة الالتفات لإدراك قصدية الآخر، فتتكرر الالتفاتة المتزامنة، بواقع ثانية أخرى مشتركة.

هذا ما حدث لى، معه. ورغم أننى عبرته باتجاه اليمين، وتجاهلتها ماشياً باتجاه اليسار فقد فكرتُ وبسرعة خلال النظرة الثانية - التى استغرقت ثانية واحدة فقط- إذا ما كنت أعرفها، وإذا ما كانت قريبة الشبه بامرأة أعرفها، ولكنه لم يكن يشبه أى شخص أعرفه، واستعادت ذاكرتى ملامحه فى الهواء أمامى حيث أسير فأمعنت النظر إليه، ولكننى فشلت فى التعرف إليها، وبعد مشى عادى يقدر بعشرين خطوة.. قررت أن ألتفت إليها.

واندهشتُ لأنه فى ذات اللحظة، التفتت إلىّ أيضاً، كأننى أعرفها.. أو أميل إليها أو أشعر براحة فى رؤيته، إذ كان هادئاً وسيماً وعيناه رائعتان، وشفتاها كأنما تتمتمان بشئ غامض، وفى ملامح وجهها قوة قلَّ أن توجد فى فتاة تسير فى الشارع لقضاء حوائجها العادية.

تُرى ما وقع صوته وملمح وجهه حين يتكلم، كنت أوشكت على نسيانها، وبدأت تتلاشى ملامح وجهه وتتبخر، وقلت لنفسى إننى بعد عدة خطوات لن أكون قادراً على تذكر ملامحها، وحتى لو رأيته مرة أخرى مصادفة، فلن أستطيع تذكرها.

وكنت أقاوم الالتفات إليه مرة أخرى، عندما توقف الموتوسيكل فجأة.

     كان شابان يركبانه، اندهشت لأنهما توقفا ونظرا معا إلىّ، فتراجعت خطوة إلى الوراء وأنا أحدق فيهما، وبدأ قلبى يدق سريعاً.. كان خوفاً، وشعرت بالدماء تصعد إلى رأسى، وفى هذه اللحظة تماما، مد الأول يده وأمسك ذراعى بينما كدت أنجح فى التراجع خطوة أخرى إلى الوراء،لو كنت استطعت عبورها لما أمكنه الإمساك بذراعى بقوة جبارة وبعينين مرعبتين، يبدو أنه كان خائفاً هو الآخر مثلى، إذ كنت قادرة على سماع صوت تنفسه المتوتر وعينه التى كانت تتشظى ناظرة فى كل مكان، قبل أن توجه نظرة مرعبة إلى عينى اللتين كانتا خائفتين وفمى الذى أصدر صرخة، انجذب جسدى تحت ضغط الجذبة القوية وبينما كنت أحدق فى حقيبة يدى التى اقتنصها، وفى اللحظة التى فكرت فيها فى مد يدى واستعادة الحقيبة وأنا أصرخ، تدخّل الثانى ومد يده بسرعة خاطفة إلى صدرى، وكان يسحب عنقى بقوة، ولكنه لم يكن عنقى، كانت السلسلة التى جذبها بقوته المرعبة فانقطعت، لم أستطع أن أرى القلب اللازوردى، كان فى قبضة يده، وكنت أصرخ والسلسة التى انقطعت تتحرك فى الهواء نحوه، أفلتنى الآخر وكنت أصرخ باستمرار، وفكرت فى أن صراخى ربما لم يكن كافياً فعاوت صراخاً مرعباً، اندفع الموتوسيكل فى سرعة لا مثيل لها، وسقطتُ على الأرض.

عندما التفتُ، استطعتُ أن أراها تحاول النهوض بمساعدة المارة الذين تجمعوا فجأة، فاندهشت لأن الموتوسيكل مر بجواره بسرعة، رآه وأعرف أنه نظر وفهم قبل أن يصل الموتوسيكل إليه، ولكنه لم يبادر بشئ، إذ كنت مأخوذاً واعتقدت أنه صدمها أو فعل شيئاً مشيناً فى جسدها. كنت أراه ينظر إلىّ من بعيد، وعادت تنظر إلىّ..

-لماذا أنا بالذات -؟!!

وسمعت الناس تقول إن شابين على موتوسيكل قد سرقا فتاة تمر، وكان بإمكانه أن يقف أمام الموتوسيكل.. أو يقفز على الشابين أو أى شئ قوى. ربما تعتقد أننى شريك فى الأمر!! وإلا فما سر هذا النظر المتواصل إلىَّ – أنا بالذات –

كنت أبكى والمارة حوالى يواسوننى وكنت ألتفت إليه كل وقت، لماذا تلتفت إلىّ هكذا؟! ارتجفت.. !!

ومن بين أجساد الناس استطعت أن أراه يستدير ويمشى مبتعداً، لأننى نظرت فى الساعة مرتبكاً وتذكرت فجأة – مرتبكاً – المكان الذى كنت أريده، وتزاحم الناس علىّ فى دائرة كانت تزيد شيئاً فشيئاً، فانتهزت فرصة اختفائها ودخلت فى شارع لم أكن أرغب فى الدخول إليه ولم يكن طريقى أبداً.