يعود باب علامات لمقالة المفكر التقدمي السوري كامل عياد المنشورة في مجلة الطليعة سنة 1936، وفيها يقارب السياسة كمهنة متعالقة مع اليومي، ليصل إلى قدرتها الكفاحية على حمل رسالة للحق والتاريخ. وبذلك يتلمس القارئ واحدة من جذور مفهوم "الرسالة" في ثقافتنا العربية.

السياسة كمهنة

كامـل عيـّاد

إعداد: أثير محمد علي
 
-1-
كثيراً ما نرى تاجراً يفشل في أعمال البيع والشراء البسيطة ويخسر رأس ماله كله أو يفقد نصفه (النصف الأول من رأس المال)، فيترك على أثر ذلك المتاجرة بالبضائع وينتقل رأساً إلى السياسة دون أن يجد شيئاً من الصعوبة التي يلاقيها مثلاً بائع الجوخ إذا اضطر إلى أن يصير تاجر غنم.
كيف يمكن ذلك؟
إن كل مهنة تتطلب مواهب وملكات خاصة وتستلزم مقداراً من المعلومات والاختبارات الضرورية لانجاز عمل معين تتوقف عليه معيشة صاحبها.
هل السياسة أيضاً مهنة مثل غيرها من الحرف والصناعات والأعمال الاقتصادية المعتادة؟ ما هي الصفات والمواهب والمعلومات اللازمة للسياسي؟ وكيف يقوم السياسي بأعمال مهنته وما هي الطرق التي يسلكها والأساليب التي يستخدمها؟ ثم أخيراً: من أين يعيش الأشخاص الذين يتخذون السياسة مهنة وما الفرق بينهم وبين الذين يعتبرونها رسالة سامية؟
-2-
السياسة تفيد كل عمل قائم بنفسه لتسيير شؤون الدولة أو التأثير في إدارتها. والدولة تقوم، كما قال تروتسكي أثناء مفاوضات "برست ليتوفسك"، على السيطرة والقهر. فهي الجماعة البشرية التي تستأثر بالسيطرة المادية والقوة التنفيذية المشروعة ضمن أرض محدودة.
وعلى ذلك فإن السياسة تقتضي السعي للاشتراك في السيطرة أو للتأثير على توزيع أسباب السيطرة بين طبقات الشعب التي تؤلف الدولة أو بين الدول المختلفة التي تحكم العالم.
إن كل من يشتغل بالسياسة لا بد له من أن يحاول الوصول إلى السيطرة والحكم سواء كان يريد هذه السيطرة لذاتها أو كواسطة لتحقيق غايات أخرى مادية أو معنوية، شخصية أو عامة.
أساس الدولة سيادة قسم من البشر على قسم آخر. على أنه لا يمكن استمرار هذه السيادة ودوامها إلا إذا انقلبت من قوة قاهرة إلى سيطرة مشروعة (أو بالأحرى: ينظر إليها كأنها مشروعة).
والعوامل التي تجعل الناس يخضعون لمن يملك السلطة ويتولى السيطرة وتدفعهم إلى اعتبار سيادته مشروعة، كثيرة يمكن تلخيصها في ثلاثة:
1)               الاعتراف "بالحق الوراثي".
2)               الإيمان بالرسالة الدينية.
3)               الاعتماد على المواهب الشخصية والتسليم بالمقدرة الذاتية على الإدارة والحكم.
-3-
هنا يهمنا في الدرجة الأولى هذا النوع الأخير من أسس السيطرة وهو الذي يقوم على انقياد الناس للزعماء السياسيين الذين يعتقدون فيهم الجدارة والمقدرة الشخصية.
هؤلاء الزعماء يسلكون الطرق المختلفة ويتبعون الأساليب المتنوعة للوصول إلى السيطرة والاحتفاظ بالسلطة، فمنهم من يسعى إلى ذلك عن طريق التاثير في نفسية الجماهير والتلاعب بعواطفها ومنهم من يستخدم وسائل الترغيب والإرهاب المادية.
هناك من يكتسب الأعوان والأتباع بين الحريصين على المظاهر الاجتماعية من ألقاب وأوسمة ومقامات.
إن تسلط الزعماء السياسيين وأتباعهم على "سياسة" الدولة يتم في الحكومات الحديثة على أشكال متعددة:
1)               يقتصر عمل البعض على الاشتراك في الانتخابات والتأثير في مجراها أو حضور الاجتماعات العامة والتظاهر بالموافقة أو المعارضة تجاه المبادئ. والخطط والأعمال الحكومية أو التوقيع على الاحتجاجات أو إلقاء الخطب السياسية.
2)               ويزيد آخرون على ذلك بانضمامهم إلى حزب سياسي وتولي وظيفة إدارية في هذا الحزب ولكن مع الاستمرار على ممارسة مهنة خاصة كمورد للمعيشة.
3)               على أن هناك قسماً ثالثاً يجعل السياسة مهنة له بكل معنى الكلمة حتى تصبح وحدها أساساً لحياته المادية والمعنوية.
-4-
نستطيع أن نفرق بين الذين يعيشون "للسياسة" والذين "يعيشون من السياسة"، والسياسي في الأغلب لا يقدر أن يعيش "للسياسة" فقط دون أن يعيش منها إلا إذا كان ذا مورد يستغني به من التفكير في المال اللازم للمعيشة.
على أن المعروف عن الأغنياء أنهم لا يهتمون في الدنيا بشيئ كاهتمامهم بأموالهم وتكالبهم في سبيل الاطمئنان عليها. ولذلك قلما نجد بين المثريين الذين انخرطوا في السياسة من تسمو به مبادئه إلى نكران الذات وإهمال المصالح المالية. إن السياسيين المخلصين، أصحاب المثل العليا يرجعون في الأغلب بأصلهم إلى الطبقات المعدومة البعيدة عن علاقات النظام الاقتصادي السائد.
أما الذين "يعيشون من السياسة" فإنهم إما أن يتقاضوا راتباً شهرياً مباشراً من إدارة أحزابهم كسكرتيرين أو معتمدين أو محررين في الصحف، أو ينتظرون توليتهم وظيفة كبرى في مصالح الدولة السياسية كالوزارة أو السفارة، وإما أن يتوصلوا إلى المال بصورة غير مباشرة كأن يستثمروا مكانتهم السياسية للقيام بخدمات خاصة مقابل مبالغ معينة من المال فيبيعون مثلاً الوظائف الحكومية أويتوسطون في منح الامتيازات والهدايا.
والقاعدة في حياة رجال السياسة هو الجمع بين الصفتين معاً. فإن أكثر السياسيين يعيشون في الوقت نفسه للسياسة ومن السياسة، سواء مادياً أو معنوياً.
إن قليلاً من التدقيق في أعمال الأحزاب السياسية المختلفة في جميع بلدان العالم تبين لنا المنازعات الحزبية، إنما تدور حول وظائف الحكومة والسيطرة عليها للاستفادة من الأموال والمنافع المادية التي تدرها.
وما دام النزاع السياسي بين الأحزاب ليس ناشئاً في الحقيقة إلا عن الاختلاف في تقسيم المنافع والاستئثار بها فإنه من الطبيعي أن يلعب المحامون دوراً هاماً جداً في الحياة السياسية الحديثة لأن كل حزب سياسي يحتاج إلى حقوقيين ماهرين يدافعون عن مصالحه.
-5-
لندع جانباً الأشخاص الذين يعيشون "من السياسة" ويجعلونها مهنة للارتزاق فقط. ولنبحث في الرجال الذين يعيشون للسياسة أيضاً إذا لم نقل للسياسة وحدها.
إن من أهم صفات السياسي الكفاح والجدال والحماسة في سبيل مبادئ حزبه. وهو لا يمكن أن يشغل مقاماً في عالم السياسة إذا لم يشعر بالمسؤولية الشخصية عن كل ما يبدر منه.
ليست السياسة بالأمر السهل. وقليل من الشبان الذين يعرفون شيئاً عن كيفية السعي إلى السيطرة وتسخير الناس لإرادتهم.
يحتاج السياسي إلى قوة الإرادة والحكم على النفس ثم إلى الثقافة الاجتماعية والنفوذ إلى نفسية الناس وفهم أحوالهم الروحية وإلى الحزم في إصدار الأوامر والدقة مع مراعاة عواطف الآخرين.
ولعل أقوى سلاح في يد الزعيم السياسي هو قدرته في السيطرة على النفس. وقد قال "كونفويشوس": "إن الذي يقدر على تكوين نفسه وتكييف طبيعته والحكم على إرادته هو وحده يستطيع أن يسيطر على الناس".
ما أعظم الفرق بين حاجب في دوائرنا الحكومية يعتبر نفسه وكيلاً لرئيسه الوزير مثلاً فلا يخاطب المراجعين إلا بكثير من الاشمئزاز والتأفف وبين الضابط الياباني الذي يقوم من مكانه وينحني احتراماً للجندي الخادم الذي يأتيه بالطعام.
وكل من دقق في طبائع الخيل واشتغل بتربيتها يعلم أن الفرس إذا شعرت بأقل شيئ من الغضب والقساوة والشدة في صوت الإنسان وحركاته فلا بد أن تقابل ذلك منه بالانقباض حالاً في المقاومة والتصلب في الامتناع.
فكيف يجب أن يكون إذن موقف الإنسان من الحاكم الشرس؟
إن مراعاة عواطف الناس واحترام كرامتهم شرط ضروري لنجاح رجال السياسة الذين يتولون الأمر.
وينبغي أن ينضم إلى هذه الثقافة الاجتماعية إتقان فن الحكم والأمر الذي يحتاج فيه السياسي إلى موهبة عقلية نادرة تتلخص في الدقة والوضوح والاختصار عند إصدار الأوامر.
أما الحماسة اللازمة للسياسي فإنها يجب أن تنفجر من اندفاعه في سبيل القضية التي يخدمها وتعلقه بها إلى درجة الهوى والهيام ولكن مع الاحتراز من الهيجان السريع الفارغ. والحماسة وحدها لا تكفي لتكوين السياسي إذا لم تقترن بفكرة سامية ولم يرافقها الشعور يالمسؤولية وبصورة خاصة، يحتاج السياسي إلى تقدير الواقع ومعرفة الظروف وذلك بأن يفحص الحقائق في منتهى الهدوء والانتباه وينظر إلى البشر والأشياء نظرة مجردة، بعيدة. والصعوبة الكبرى هي في الجمع بين الحماسة المتقدة والنظرة المجردة الرزينة الفاحصة.
ولا يجوز أن ننسى بأن السياسة تقوم على عمل الدماغ لا على عمل أقسام أخرى من جسم الإنسان. إنما ينبغي مع ذلك أن تستولي الفكرة على جميع مشاعره وتنفذ إلى أعماق روحه.
-6-
إن هذه الصعوبة تتضاءل بل تزول عندما يتطوع السياسي في سبيل غاية سامية كخدمة قضية قومية يؤمن بها إيماناً حقيقياً.
هذا الإيمان هو كل شيئ في السياسة.
فإنه دون الاعتقاد بمبدأ سام والإيمان بقضية عامة لا يستطيع السياسي أن يسمو فوق مستوى المتاجرين الذين "يمتهنون" السياسة.
وبالعقيدة قبل كل شيئ يمتاز السياسيون الذين يرتفعون إلى مصاف رجال الدول العظام على أشباه الرجال الذين لا يعرفون من السياسة إلا الدسائس والكذب والنفاق وجر المغانم وخداع الناس والتمويه عليهم.
إن رجال الدول العظام في التاريخ، أولئك الذين أسسوا الممالك نهضوا بالأمم كانوا مؤمنين بالقضية العامة، متطوعين في سبيلها ليس لهم مثل أعلى غيرها فاستطاعوا بما كانوا ينفردون به من الإرادة والاخلاص والتضحية والثبات أن يترفعوا عن أساليب السياسة المعتادة بل أن ينتهجوا طرقاً جديدة في الإرادة والحكم لا يفقه هؤلاء السياسيون المتاجرون شيئاً منها.
-7-
يجب أن تنقلب السياسة من مهنة إلى رسالة.
حينئذ تصبح السياسة جهاداً مستمراً، شاقاً. ينبغي أن تقوم على الحماسة والهدوء معاً وأن تستند إلى التاريخ الذي يعلمنا أن الرجال الذين تقاعسوا عن طلب المستحيل لم يتوصلوا حتى إلى الممكن.
إنه لا يقدم على مثل هذه السياسة إلا من كان زعيماً حقاً – بل بطلاً.
ولا يجوز لرجل أن يدعي الرسالة في السياسة إذا لم يكن متيقناً أن غباوة العالم وحقارته وعدم جدارته لفهم ما يسعى إليه – كله لن يضيره شيئاً، وأن جميع الصعوبات والعراقيل لن تمنعه من الاستمرار بثبات في طريقه حتى يتوصل إلى تحقيق غايته السامية.
)الطليعة، ع3، س2، أيار 1936(