هذه رؤية نقدية مغربية لكتابات جزائرية صدرت حديثا عن دار لامارتان الفرنسية الشهيرة، كتاب يتكون من قسمين رئيسين دراسة الشخصيات الروائية ومكونات الفضاء الروائي. وفق رؤية منهجية تتجه إلى قراءة بناء النص و دلالته، ومستويات ذلك سيميائيا، باستحضار مختلف التراكمات النقدية والمعرفية، باستناد على خلفيات نظرية سيميائية تتغيا البحث في الوظيفة السيميائية العامة داخل النص، وكيفية إنتاج المعنى في الخطاب الروائي..

جمال زمراني في مقاربة سيميائية للتخييل الروائي

عند الكاتب الجزائري عزوز بـ?ا?

عبد الرحمان غانمي

عن دار لارماتان l’Harmattan، بفرنسا صدر للباحث المغربي جمال زمراني سنة 2009، في مجال المقاربات الأدبية، دراسة بعنوان: (سيميائية نصوص عزوز بـا، الجمالية الروائية والدلالية). Sémiotique des textes d’AZOUZ Bagag Esthétique romanesque et   signifiance والباحث جمال زمراني من جيل الباحثين الجدد ينتمي إلى مدينة القصر الكبير، ويدرس حاليا بالكلية متعددة التخصصات بخريبكة اللغة و الأدب الفرنسيين، وهو حاصل على دكتوراه سنة 2004 في موضوع يتعلق بمقاربة سيميائية للأعمال الروائية للكاتب الجزائري عزوز بـا الصادرة ما بين 1986 و 1997. أما عن الكتاب النقدي فإنه يضم 303 صفحة من الحجم المتوسط، ويتكون من قسمين رئيسين، محورهما دراسة الشخصيات الروائية ومكونات الفضاء الروائي. كل ذلك يتم وفق رؤية منهجية تتجه إلى قراءة بناء النص و دلالته، ومستويات ذلك سيميائيا، باستحضار مختلف التراكمات النقدية و المعرفية، التي برزت مع الشكلانيين الروس، و المدرسة البنيوية مع تودوروف و غيره من الباحثين المعاصرين الذين ركزوا على تحديد العديد من الآليات و التقنيات النصية على مستوى التصورات والمرجعيات ،و أيضا ما تطرحه النصوص الحديثة المجاوزة للبنيات الأدبية الكلاسيكية، من بنيات تخييلية كثيفة .

في هذا السياق، استند الباحث جمال زمراني في معالجته لنصوص عزوز بـا، على خلفيات نظرية سيميائية تتغيا البحث في الوظيفة (مختلف الوظائف) السيميائية العامة داخل النص، و كيفية إنتاج المعنى في الخطاب الروائي أي إبراز الشفرات و الآليات السردية، وفحص نظام الشخصيات و رهانات الفضاء، وكذلك توليد الدلالة و هيآتها و مكوناتها، و يبدو أن الباحث يتكئ على رؤية، اختارت بقصدية، مبادئها المنهجية. في نفس الوقت الذي عملت فيه على استدعاء المرجعيات المرتبطة بها، تعلق الأمر بأعمال الشكلانيين الروس أو الشعرية والبنيوية، أو الأبحاث السيميائية المعاصرة خصوصا مع كريماص، و مناقشتها، أي أنه لا يكتفي بعرضها، وإنما يتوخى توظيفها تبعا لما تمليه عليه خطواته ورؤاه المنهجية، فهو إذا كان يعتبر أن تحديد مفهوم الأدب هو مجموعة من أفعال النص Effets de texte وهو ما يتوافق مع رؤية كريماص، فإنه يرى أن الشكل لا يكمن في تحديد المفهوم، هذا، في حد ذاته، و إنما في ارتباطه بمسألة علاقة النص و اتساقه مع الوظائف المعيارية لخارج النص أو داخله، و هو ما طرح مع الشعرية التي اعتبرت أن البعد الجمالي الجوهري للنص الأدبي، هو مدى أدبيته Littérarité باعتباره المحدد الرئيس للنص و لوقائعه الأدبية المتنوعة و الكرنفالية و إنتاجاته المتباينة. قبل أن يركز على متن الأدبية المتعلق بجنس الرواية و متخيلها و إعادة طرح السؤال بخصوص العلاقة بين الشكل و بين المحتوى في النص الأدبي، منتقدا الآراء التي تعمد إلى الفصل بينهما، و بالتالي فإن الباحث جمال زمراني، يرى أن الشكل لا ينفصل عن المحتوى، بل إن هذين العاملين الأدبيين المركزيين في أي نص أدبي يكملان بعضهما البعض، و من خلال هذه المحددات المنهجية كان يتوخى الباحث مقاربة نصوص عزوز بـا بشكل يتيح الانفتاح على مناهج مختلفة، ويسمح بالاقتراب من خطوط التماس النقدي والرؤيوي .

هكذا، إذن، يركز الباحث على عملية إنتاج و بناء المعنى نصيا، الذي لا يتصل بشكل حصري بمحتوى موضوع عمل ما، و إنما يختزل سيرورة الكتابة ككل بكل آلياتها و تطبيقاتها و أشكالها الجمالية، الشيء الذي يدفع إلى إعادة النظر عمليا ونظريا في التقسيم و التمييز التقليدي بين الشكل و المحتوى، بمعنى آخر فإنه ينتصر للمفهوم الجديد للنص، وللكتابة بمعناها الجديد أيضا، و التي تشكل من عناصر شكلية ذاتية و معبرة عن تيمات معينة، و بذلك فإن العديد من المظاهر يمكن أن تساهم في خلق معنى النص و مستوياته و تقنياته . من هذا المنظور فإن هذه الرؤية المنهجية تتساوق مع نمط الكتابة الروائية التي يدرسها الباحث، و التي تنتمي إلى النزعات الإبداعية الجديدة، و هو ما ينتبه إليه جمال زمراني، فنصوص عزوز بـا  ومصنفاته ليست وسيلة تعبيرية، فهي لا تعكس مضامين إيديولوجية بطريقة أيضا تسطيحية، أو تؤول إلى مجرد نمط يقوم على الزخرفة النصية الجوفاء، بل هي نصوص تنهض هندسيا من خلال التشاكل بين مادة هذه النصوص الروائية، و أنماط تمظهرات هذه المادة التي تتنوع في كل أعمال عزوز بـا المشتملة على خليط من تعدد الأصوات و الأجناس و أشكال التمثيل والتسريد بين السيرة الذاتية إلى رواية الحكاية، ورواية المغامرة، ورواية الأطروحة، و الرواية العجائبية، و الرواية الكرنفالية.  

أما بالنسبة لمكون الشخصية الروائية في نصوص عزوز بـا فإن الباحث جمال زمراني يستنبط أنماطا عديدة من الشخصيات المتعددة تبعا لمواصفاتها روائيا ولوظائفها السردية في ضوء نسق أفعال الشخصيات le système des effet personnages من زاوية سيميولوجية، كما طرحها كريماص، خصوصا ما يتصل ب"الفعل" «Effet» و التناظر و أيضا تناول هذه الشخصيات من خلال مكوناتها النفسية و الثقافية التي يخضع لها الساردون في أوضاع سردية مختلفة، إذ يمكن أن نرصد الشخصية ذات الكثافة العاطفية أو الوجودية، و كائنات أخرى ورعة، و أخرى عاطفية، أو تلك التي تتمأسس على تجارب ذاتية تكرس التخييل الذي يخرج عن المعقول، سواء ما مس الحالات العاطفية المعطوبة أو الاستيهامات و هواجس الحب واضطراباته، والتوهيم، هذا إلى جانب نماذج من الشخصيات التي تبنى تخييليا، لكنها تعكس مرجعيات و محتويات نمطية و ثقافية، مثل شخصية الأب الذي يقدم في صورة الأب الفظ و الضحية، الذي تطغى عليه صفات الشراسة و الــــــعنف و الإدهاش، وازدواجية عواطف الأطفال، أما الشخصية الأم فتقدم صورة المرأة الخاضعة والطائعة و العطوفة، بأبعادها في تفاعل مع العوالم التخييلية و النصيصات الأخرى، التي تعبر عن المخرب " الحكيم" و محمد الشاذ، وصور أخرى من التناظر و التناقض أيضا، بكل ما تطرحه هذه المكونات و المظاهر الفيزيقية و الرمزية من ديناميات دلالية، في سياق بلاغة توظيف لعبة الأسماء في النصوص و خاصياتها و اختياراتها الجمالية و أصواتها.

المكون الروائي الثاني الذي كان محور هذه الدراسة النقدية، هو لعبة الفضاء و تصنيفها، مستعينا فيها الباحث بمفهوم التقاطب Polarité،كما أنتجته نظريات الأدب الروسية. في مقاربة بعض أوضاعه إلى جانب تلك الفضاءات المباشرة، وتلك التي تشمل العديد من الأمكنة الدالة رمزيا، مثل الفضاء العائلي باعتباره مجالا للغبطة والود، وعبر ذلك يتم تصنيف هذه الفضاءات حسب أدلنة sémantisation التخييل الروائي من منظور تمفصل ثنائي يتواجه فيه الداخل مع الخارج. الجدير بالذكر،أن مفهوم التقاطب وإطاره،استعمل في النقد الروائي المغربي وتم تطبيقه على نصوص روائية مغربية مكتوبة باللغة العربية، ويكفي أن نشير إلى نموذج كتاب(بنية الشكل الروائي: الفضاء- الزمن-الشخصية) لحسن البحراوي- صدر في طبعته الأولى سنة 1990 عن المركز الثقافي العربي، نقرأ فيه مايلي: « وتمشيا مع الخطة المنهجية التي أعلنا عنها عند اختيار التقاطب موضوع الدراسة، فإننا سنشرع بعرض صفات الحي الشعبي بوصفه فضاء اعتياديا للحياة اليومية للمواطنين وذلك تمهيدا للبحث في تمفصلاته  الطبوغرافية والدلالية الذي يسعفه إعداد جدولة تلك الصفات والتعليق عليها بما يوضح أهميتها في تشكيل البنية المكانية في الرواية » ص 80

وفق هذا التصور تناول حسن البحراوي بنية الشكل في الرواية المغربية، واعتبر أن هذه البنية في النصوص الروائية تقوم على التقاطب، وهكذا يتحدث عن أماكن الإقامة، وأماكن الانتقال ،...إلخ وهو ما يؤدي إلى اختزال الفضاءات التخييلية في هذه الثنائية وتمفصلاتها، ما يلغي، ويضع جانبا عناصر روائية أخرى، على مستوى مكون الفضاء وغيره من البنيات السردية والتخييلية، مايدفعنا إلى القول إن التقاطب هنا، يحيل إلى الخارج نصي، أكثر منه إلى شكل وبنية النصوص، لأنه قد يرتكز على قيم ومرجعيات ثابتة. هي إذن قراءة نقدية تبحث في البنيات العامة الفاعلة التي تؤطر سيرورة النصوص، بموازاة الغوص في تفاصيلها. فالباحث جمال زمراني ينتبه أيضا إلى تقديم تأويلات تجمع بين المرتكز السيميولوجي والمرتكز التاريخي، لفضاءات بعينها مثل المنزل باعتباره تجل مكانيا للممنوع الخاص، أو الأمكنة المغلقة أو أمكنة التودد والتواصل، والعلائق المبنية على التعاقد والتوافق، وفي الفضاء العائلي يمكن الوقوف عند صورة المرأة وشخصية الأم، لكن هذا الفضاء (المنزل) هو كذلك فضاء للاحتجاز والسجن الاختياري و الإرادي، وبالتالي فإن بنية التقاطب التي تحكم فضاء المنزل (فضاء التوادد،وفضاء السجن) .تنسحب على فضاءات أعم وأشمل(فرنسا، الجزائر) وما يحملان من دلالات متناقضة .

وتأسيسا عليه، فإن الباحث جمال زمراني في مقاربته لنصوص عزوز  بـا Azouz Bagag، يرى أن مكونات الرواية التخييلية، لا تعبر فقط عن مستويات وصفية ضيقة، فالسرود في أعماله لا تضيء فقط الحياة الشخصية للساردين وظروفهم وأحوالهم، وإنما تتعداه إلى النبش في الذات، وأيضا تاريخ المهاجرين ذوي الأصول المغاربية، إن التاريخ الشخصي للنصوص للشخوص الروائية لا يستقبل ويفهم إلا في إطاره العام تخييليا ومرجعيا، ما يطرح مسألة الهوية والانتماء الثقافي والاجتماعي، كل ذلك يخضع لتعبيرات متعددة وتقنيات تنويعية للفضاءات أيضا وإجراءاته الرمزية والدلالية . في هذا الإطار، يلاحظ جمال زمراني أن النصوص الروائية لعزوز  بـا تقوم ظاهريا على جمالية بسيطة، غير أنها مؤسسة على بنيات تخييلية معقدة، ومستويات لغوية ومرجعيات ثقافية متعددة، وأشكال تعبيرية متلونة ووسائط جمالية تجمع بين ما هو تخييلي جمالي ومل يذعن لما هو واقعي أو المرجع المفترض، والتي تتمثل في مختلف أشكال التجسيد اللغوي الأجناسي المتعدد.

بصفة عامة، فإن الباحث في معالجته وتمثله لتلك النصوص الروائية، حتى وإن اعتمد على المنهج السيميائي، فإنه طبقه بطريقة سلسة ومرنة من خلال الانفتاح على مقاربات منهجية أخرى كالتصور السوسيولساني عند باخثين أو المنهج النفساني، وبذلك فإن هذه المقاربة لم تكن منشغلة بتبرير صلاحية وسلامة المنهج بشكل آلي، وإنما توخت إغناء التطبيق السيميائي على نصوص لها خصوصياتها لكاتبها الجزائري الذي يعيش في بلد آخر، والملتاع بإشكالية الهوية المتعددة والغيرية كما يتنفسها الشخوص، وكما عاشها كتاب آخرون في فرنسا من ذوي أصول أوربية مثل تودوروف بطرائق متماثلة أو متباينة. كل ذلك، جاء بلغة فرنسية نقدية رشيقة وشفافة بوسائل منهجية محايثة للنصوص من حيث دواخلها وعوالمها الدالة.