اختارت الكلمة مادة تعود لعام 1950، سطرها السوري سامي الكيالي في سياق وضع دستور للبلاد، يعبر عن كافة مكونات المتحد السوري، ويؤكد على تلازم الوحدة الوطنية مع إطلاق الحريات العامة. وللأسف تبدو المقالة وكأنها تحاور يومنا هذا حتى بعد مضي أكثر من ستين عاماً عليها.

حرية الفكر وحرية القول.. هما كل ما نريده في الدستور

سامي الكيالي

إعداد وتقديم أثير محمد علي

 

مقدمة
لقارئ الكلمة اختار باب علامات مادة تعود لعام 1950 من مجلة "الحديث"، سطرها الباحث والصحفي سامي الكيالي(1898 - 1972) في لحظة حرجة من تاريخ سوريا في سياق بناء الدولة الحديثة، بعد التحرر من سيطرة الاستعمار الفرنسي، وأثناء النقاشات الجارية في الأواسط الثقافية والردهات الحقوقية فيما يخص وضع دستور للبلاد، يعبر عن كافة مكونات المتحد السوري، ويتم عبره تجاوز البعد الطائفي والمذهبي، من خلال التأكيد على التنوع ضمن الوحدة الوطنية الملازمة بالضرورة لإطلاق الحريات العامة.

كما هو معروف، أصدر مجلة سامي الكيالي "الحديث" في حلب عام 1927، وبقيت تصدر بانتظام حتى عام 1959. وليس بخاف على أحد فرادة هذه المجلة، وأهميتها في الدعوة للتجديد من خلال تركيزها على الأبحاث التي تدور حول الاتجاهات الأدبية، والنقدية، والفكرية، والفنية الأجنبية والعربية، والسورية والمصرية على وجه الخصوص، ففيها ظهرت مقالات وقعتها شخصيات عربية متنوعة المشارب الحداثية كطه حسين، توفيق الحكيم، محمد حسين هيكل، جميل صدقي الزهاوي، اسماعيل مظهر، أحمد زكي أبو شادي، اسماعيل أدهم، سلامة موسى، شفيق جبري، عمر أبو ريشة، أمين الريحاني، سامي الكيالي، رئيف خوري، حميد الانطاكي... إلخ، فكانت "الحديث" بحق من أهم الدوريات في تاريخ الصحافة السورية في النصف الأول من القرن العشرين، إلى جانب "مجلة الرابطة الأدبية" الدمشقية، التي أصدرتها الجمعية التي تحمل الاسم نفسه عام 1921، وضمت بين أعضائها شخصيات أدبية وصحفية من مقام شفيق جبري، خليل مردم بك، أحمد شاكر الكرمي، حليم دموس، ماري عجمي، نجيب الريس، سليم الجندي... إلخ. أما المجلة الثانية التي لا يمكن إغفال ذكرها في هذا السياق، من حيث الأهمية فهي "الثقافة"، والتي رأت النور في دمشق على مدار عام 1933، وشارك في اصدارها خليل مردم بك وجميل صليبا وكاظم الداغستاني وكامل عياد.

أخيراً نترك للقارئ المقالة المختارة لهذا الشهر، كي نفكر سوية، ونقارن حديث البارحة وحاجاته باليوم، دون أن ننسى قولاً للمسرحي برتولد بريشت عبر فيه عن عدم سعادته فيما لو عرف أن مسرحياته المشتبكة بالواقع اليومي والراهن لزمنها، ما تزال صالحة للتقديم على خشبات المسارح، بعد مضي عشرين عاماً عليها، لأنه اعتبر أن ذلك يعني أن الواقع لم يتغير. في معرض الحديث هنا نقول مع الأسف أن مقالة سامي الكيالي، التي يشدد فيها على مطلب حرية التفكير والتعبير، مازالت صالحة ليومنا هذا بعد مضي أكثر من ستين عاماً على كتابتها سواء في سورية أم أي بلد عربي آخر.

 

حرية الفكر وحرية القول.. هما كل ما نريده في الدستور
الصراع بين الحرية والطغيان صراع طويل عانته البشرية منذ أقدم الأزمنة، وقد ظلّ الحكام يسيطرون على مقدرات الشعوب أجيالاً طوالاً إلى أن ثارت الشعوب على نزوات الطغيان، وكان الكتاب والفلاسفة والشعراء والمفكرون، في جميع العصور ولدى جميع الأمم، في طليعة الثائرين على السلطات الغاشمة، حاربوا الطغاة بأقلامهم، وهزوا العروش بكلماتهم. وأثاروا الشعوب بصيحاتهم. وما زالوا يثيرون الناس إلى أن نشبت مئات الثورات الدامية لدى مختلف الأمم وعلى تعاقب العصور في سبيل إشاعة الحرية وإرساء قواعدها على أسس مكينةٍ ودعائم وطيدة الأركان، وما زالت هذه الثورات تتلاحق إلى أن استطاعت أكثر الأمم أن تظفر بحرياتها كاملة، وأن تظفر بعضها بجزء من حرياتها، أي استطاع "الفرد" واستطاعت "الجماعة" أن تظفر بهذه الحرية التي تتيح لها أن تعيش موفورة الهناء لتبدع وتخلق في شتى الميادين، مستجيبة في إبداعها لشتى نزعات التطور؟

على أن مفهوم الحرية لايزال غامضاً عند الكثيرين، كما لا تزال نزعات الطغاة تنبثق بعد الحين لوأد الحرية وكم الأفواه، والسير بالشعوب في طرق ملتوية قد تجرها إلى الدمار.

في هذه الفترات العصيبة التي تتحكم فيها أهواء الطغاة يعود المناضلون من قادة وساسة وكتّاب وشعراء إلى التكتل في سبيل حرية الشعب الذي ينقاد بدوره إلى صيحات المفكرين الأحرار في سبيل "حريته" وهي جزء من حياته، ولأنها حرية الأجيال المتعاقبة التي سيناط بها حراسة مجد الوطن.

نعم، إن الشعب يستجيب لنداء الأحرار فيقدم في سبيل ذلك الكثير من الضحايا، وما يزال إلى أن يجد من نزوات المتحكمين. وهذا الذي يدفع الأمم، ولا سيما الأمم المتشبعة بروح الحرية، أن يكون دستورها واضح النصوص فيما يتعلق بحرية القول، والحرية بشتى اتجاهاتها، لا لشيئ إلا للحدّ من صلف الحكام، وجعل القائمين على السلطان أدوات حية لخدمة الأمة، وتوفير هنائها وبسط روح الالفة والمحبة بين مختلف هيئاتها، ومختلف أبنائها.

والأمة السورية، بعد أن خرجت من نضالها الدامي ضد المستعمر تعيد النظر في دستورها على ضوء الأحداث التي مرت بها عقب الانقلابين الأخيرين. فهي تريد أن تضع دستوراً جديداً يكفل لها حريتها ويدفع عنها نزوات الحكام المطلقين الذين يحاولون، في سبيل أمجادهم الشخصية، أن يحدّوا من سلطانها ويكونوا هم الأول والآخر، في جميع شؤونها.

وإذ أقدمت لجنة الدستور على وضع دستور جديد لهذه الأمة، أحبت بعد أن استكملت ما لديها من جميع دساتير العالم، أن تستنير بآراء مختلف الطبقات للإدلاء برأيها، وانبرت الهيئات على اختلاف ميولها المذهبية، ونزعاتها التقدمية، وإرهاصاتها الرجعية تدلي بآرائها حتى كادت هذه الآراء بدلاً من أن تخطو بنا خطوات سريعة إلى الأمام، بل كادت الأمة تنقسم إلى فرق ومذاهب في موضوع "دين الدولة"، وهو موضوع حساس على جانب من الخطورة جنح الكثير من الساسة إلى الاعتصام بالصمت، أدلت بيننا الهيئات الفكرية والدينية بآرائها كما عالج الكتاب الموضوع بالروية والحكمة، ثم تركوا للجنة الدستور أن تضع النصّ الذي يوائم بين جميع التيارات والاتجاهات، وذلك بعد أن تستوحي في هذه النقطة التي اختلفت فيها الآراء، المصلحة التي لا تجعل من ذلك وسيلة للتفرقة بين أبناء الوطن الواحد. فالواقع أنه ما أضرّ الوطن شيئ ،إلا هذه "العنعنات المذهبية" التي استغلها الأجنبي في مناسبات مختلفة، فكان يتخذ "المذهبية" أداة لتهديم "الروح القومية" أي كان يتخذ حماية "الأقلية" وسيلة لإذلال "الأقلية" و"الأكثرية" معاً!

إن وحدة الوطن تقوم على "القومية" بمدلولها الواسع، وهذا ما نريده أن يرمز إليه دستورنا، فدساتير الأمم، إلى اهتمامها بهذه النقطة الجوهرية التي ترمز، كما قلنا إلى وحدة الوطن وإلى وحدة الأمة لتكون متماسكة بكافة عناصرها ومللها ونحلها، تعني بنقطة كثيرة الخطورة في حياتها، أريد بهذه النقطة: "الحرية"، حرية القول وحرية الفكر، حرية الفرد وحرية الجماعة. إلى هذه النقطة تتجه دساتير الأمم الحية. "وحدة الوطن"، من جهة وتكامل حريتها من جهة ثانية، وبدونهما لا سيادة لأمة من الأمم، أي أن الاتجاه يذهب إلى إيقاظ نزعة الحرية في نفوس الجميع للوقوف دون أية سلطة، إننا نريد من هيئة الدستور أن تعطي لحرية الفرد ولحرية الجماعة كل الضمانات التي تمكنهم من ممارسة حقهم الدستوري في نطاق واسع.. نريد أن تؤمن الأمة بدستورها إيمانها بالكتب المقدسة، فكما لا يتساهل المسلم بأن ينتقص أي إنسان من قرآنه، ولا المسيحي من إنجيله، نريد أن يشعر السوري هذا الشعور نحو "دستوره"، أي نحو "حريته" فالدستور في الواقع دستور أزلي لحرية الإنسان، وحرمان الأمة من حقوقها الدستورية، هو الحكم عليها بالموت البطيء.

لا أريد في هذه الكلمة أن أسترسل في مناقشة كل مادة من مواد الدستور الذي يراد وضعه لهذه الأمة التي تريد أن تسير منطلقة في الأجواء الحرة.. فهذه مهمة اللجنة أولاً، ومهمة الجمعية التأسيسية ثانياً.. أما مهمة الكاتب في هذه الفترة التي تسبق وضع الدستور، وهي أن ينبه إلى أمس النقاط الجوهرية في حياة الأمة ولا أرى شيئاً أمس من ضمان حريتها، حرية الفكر وحرية القول.

لقد عانت الأمة السورية الكثير من الهزات، سواء في عهد الانتداب أو في عهد السيادة، وبالرغم من الأهوال والأحداث، فلا توال مهيضة الجناح من جراء أهواء الكثيرين الذين قادوا خطواتها، فقد كان أكثرهم غير مخلص لها الإخلاص الذي يرفع من شأنها ويجعلها في طليعة الأمم الحرة.. إننا نريد دستوراً يكفل لنا الحياة الحرة في نطاقها الرحب، ويجعل من جميع أفراد الأمة وهيئاتها كتلة متراصة تصمد للأحداث، سواء كانت هذه الأحداث من عمل فرد يريد أن يفرض "دكتاتوريته" أو من جماعة تريد أن تسيطر بأهوائها الحزبية!

نريد أن تنبثق من نصوص دستورنا الجديد عبقرية الأمة ومثاليتها وحرصها الشديد على سيادتها، ولن يكون ذلك إن لم تتمتع بروح الحرية في نطاقها الواسع.

هذا ما يريده الكثيرون، نقول ذلك على وجه التعميم، ونترك للجنة الدستور والجمعية التأسيسية أن تستجيب للنزاعات الحرة التي تختلج في نفوس أبناء الوطن على اختلاف ميولهم لتتوفر للجميع الحياة الرغدة في نطاق واسع من الحرية والانطلاق والتسامي ومجاراة الأمم في نزعاتها التقدمية وميولها التطورية.

(الحديث، ع. 3، س. 34، حلب، شباط فبراير 1950)