يعود بنا القاص والكاتب الأردني الى أحد الأعمال الروائية العربية التي استطاعت أن تلفت انتباه العديد من النقاد وحظيت بحضور قوي ولافت في نهائيات جوائز أدبية رفيعة. ومن خلال أسئلة الهوية والمكان والتاريخ والكتابة الروائية، يقربنا المقال من أهم سمات ومعالم هذا النص الروائي الغني.

أسئلة الرواية

موسى إبراهيم أبو رياش

تكمن قيمة أية رواية بقدر ما تثير من تساؤلات، وتفتق في الذهن من قضايا، وتفتح مسارب جديدة للتفكير، ونجاحها في استفزاز القارئ ودفعه إلى البحث والتنقيب، بالإضافة إلى إثارة قلقه ونشوته الفكرية، وزعزعة قناعاته، وزلزلة مسلماته. إنَّ الرواية بالرغم من إنها تستند إلى واقع (حقيقي أو متخيل)، إلا إنها ليست نسخة كربونية له، فهي تشتغل بوعي وقصدية على إعادة بناء الواقع المنشود أو المفترض، ضمن رؤية الكاتب وقناعاته، بهدف خلخلة السائد، وتحريكه، لإعادة تشكيله من جديد، للوصول إلى حالة من التوازن والانسجام، وإن على مستوى الكاتب على الأقل.

إنَّ الرواية التي تحقق المتعة الفنية واللغوية والجمالية للقارئ، وما أن يتمها حتى يحس بالشبع والارتواء والامتلاء والطمأنينة، ثم يغلقها بلطف، ويربت على غلافها، ثم يطبق جفنيه ليسرح في حلم جميل، رواية غير مكتملة، أو رواية مختلة، رواية دون هدف أو غاية أو رسالة!

حظيت رواية "يوم غائم في البر الغربي" لمحمد المنسي قنديل باهتمام عدد كبير من النقاد والكتاب والمهتمين؛ لما تميزت به شكلاً ومضموناً، فقد قال عنها الناقد صلاح فضل: "اذكروا هذا العنوان جيداً «يوم غائم فى البر الغربى» فهو عنوان رواية هذا العام الكبرى دون منازع"، ويقصد بعام 2009. وقال عنها الناقد أحمد حسن المعيني: "رواية تستحق بجدارة أن تكون على قائمة جائزة البوكر العربية. ... أتوقع أن تنحصر المنافسة النهائية بين رواية "أميركا" لربيع جابر ورواية "يوم غائم في البر الغربي"، وكلا الروايتان تستحقان الفوز، والاحترام، والتقدير". ويقول عنها وليد فكري: "وهي من الأعمال التي تستحق -بحق- أن توصف بأنها "علامة في الأدب العربي" بل والعالمي.. ودليل على ثراء المحتوى الثقافي المصري". ولا عجب أن حجزت الرواية مكانها ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2009، وكانت معظم الترشيحات تصب لصالحها.

ونجحت هذه الرواية –حسب ما أرى- في إثارة عدد كبير من الأسئلة، ونبشت بعض القضايا، وغرست في العقل والوجدان أسافين من القلق والتشكيك، ودفعت المهتمين إلى البحث والإطلاع. ومن المؤكد أن أغلب من قرأ الرواية قد سعى للحصول على معلومات إضافية عن بعض الموضوعات، مثل: الآثار المصرية، الفرعون أخناتون، توت غنج أمون، حادثة دنشواي، مصطفى كامل، مختار، كرومر، وغير ذلك مما نجحت الرواية في وضع علامات استفهام كبرى حوله!

أول أسئلة الرواية وأهمها هو سؤال الهوية، بل إن أهم ما تسعى إليه الرواية هو تأكيد الهوية المصرية وفرادتها، وخاصة إبان الهجمة الاستعمارية والسيطرة الإنجليزية على مصر ومقدراتها، وذلك في نهاية حكم الدولة العثمانية وبدايات بروز الفكر القومي العربي. يسأل الزعيم مصطفي كامل النحات مختار: "ولكن أين الإسلام يا مختار، الحضارة التي ننتمي إليها جميعا؟ هل نسيت أننا ننتمي إلي الدولة العثمانية حتي ولو كره الإنجليز ذلك؟" يرد عليه مختار مدهوشاً: "لم أنس ولكن الحضارة الفرعونية هي دائما التي تميزنا، هي التي تجعل مصر فريدة في نوعها، أما رموز الحضارة الإسلامية فنحن نتشارك فيها مع كثيرين.."(269). فمختار لا يتنكر للحضارة الإسلامية، ولكنه يعتز بإرثه الحضاري العظيم. ولا أرى أي تعارض بين الهوية المصرية المتجذرة بالحضارة الفرعونية وبين الحضارة الإسلامية التي أظلت مصر وغيرها، فالحضارة الإسلامية لم تأت للقضاء على الحضارات السابقة أو اجتثاثها، بل حرصت على الاستفادة منها والبناء عليها والاعتبار بمصائر الأمم السابقة، ودليل ذلك أنها احترمت تراث الحضارات السابقة وخاصة آثارها، ولم تمتد إليها يد بسوء، إلا ما كان تصرفات شاذة ناتجة عن خلل فكري، أو تصور عقدي مريض.

وترتبط بسؤال الهوية مسألة التنقيب عن الآثار، وهل التنقيب عن الآثار هو من أجل الحقيقة واستجلائها أم للاستيلاء على كنوزنا وطمس هويتنا، وكتابة التاريخ كما يريده هؤلاء الأغراب؟ وهل التنقيب عن الآثار هو لإبراز الحضارة أم للتجارة؟ ومن خلال الرواية نرى أنها تحتمل كل هذه الاحتمالات، فالمنقبين الأجانب لهم أجنداتهم وأطماعهم وأسرارهم، وعبد الرسول المصري يبيح لنفسه أن يهرب الآثار، بل ويعد أكبر مهرب للآثار في جنوب مصر، وفي الوقت ذاته يحذر عائشة من كشف أسرار الآثار لكارتر: "كل ما أخاف منه هو أن تنقلي ما تعرفينه لذلك الرجل ذي العينين الباهتتين، إنهم يملئون الوادي، ولو أعطيناهم أسرارنا فسوف يقلبون الأرض علينا ويقذفون بنا في النهر. ... هؤلاء الخواجات يعتقدون أنهم وحدهم قادرون على قراءة هذه النقوش، نحن أيضاً نقرؤها ونفهم مغزاها أفضل منهم، لأنها نقوشنا نحن، لكننا لا نقول لهم ذلك، نتركهم يعتقدون في جهلنا وقلة إدراكنا."(503)، ويؤكد: "كل ما أريد قوله هو أن تأخذي حذرك من هذا الغريب وإلا سيحل عليك العقاب."(504). ريأأأااااويقول محمد المنسي قنديل في حوار معه مبرراً عمل عبد الرسول في تجارة الآثار وتهريبها: "لم يكن هذا الأمر يعد سرقة، كانوا ينظرون للآثار المكتشفة بمثابة المحاصيل التي تخرجها الأرض للفلاحين، حق طبيعي."

لا يمكن النظر إلى مهمة المنقبين عن الآثار بحسن نية وصفاء طوية، وأنهم خدم للعلم والحقيقة والتاريخ، فلهم غاياتهم، وما يحاولون إثباته وبرهنته، بالإضافة إلى طمعهم بنفائس المكتشفات، وبالتأكيد سعيهم للحصول على الشهرة وذياع الصيت.

ويلعب المكان دوراً رئيساً في الرواية، بل هو بطلها دون منازع، فكل شخصيات الرواية تدور في المكان لإبرازه أو اكتشافه أو السيطرة عليه. وتكمن عقدة الرواية وذروتها في البحث عن مقبرة توت غنج أمون، التي كانت حلم كل منقبي الآثار الذين تكالبوا على مصر. وهنا تكمن قدرة الروائي وحرفيته في إبراز عبقرية المكان ودوره في الرواية، والسؤال: متى ينجح الروائي في إعطاء دور البطولة للمكان؟ وهل كل مكان يصلح لأن يكون بطلاً؟

ليس كل من كتب رواية عن المكان نجح في إبراز دور المكان وأنسنته، فبعضهم يسقط في يده، ويعجز عن منح المكان الروح المطلوبة لدور البطولة، مع أنه يصف المكان بدقة وتفصيل، ولكن محمد المنسي قنديل أستطاع بحنكته أن يسند دور البطولة للمكان، دون أن نشعر بانفصال بين المكان وشخوص الرواية، بل دمج الجميع في حبكة روائية متقنة. وقد احتفى بالمكان بشكل لافت، فبالإضافة إلى عنوان الرواية المكاني، فقد وضع لكل فصل من فصول الرواية الأحد عشر عنواناً مكانياً، وهي على التوالي: أسيوط، المنيا، مقابر بني حسن، قصر الدوبارة، وادي طيبة، السيدة زينب، نجع بني خلف، وش البركة، طيبة، تل العمارنة، طيبة.. أخيراً.

وسؤال آخر يتبادر إلى الذهن بعد قراءة الرواية: ما شكل العلاقة مع الآخر؟ ونقصد هنا بالآخر من يحتل الأرض، ويسلب الحرية، ويتحكم بالمقدرات؟ ويمكن أن يتمدد السؤال لبحث شكل العلاقة مع الآخر كل آخر!

من خلال الرواية نجد أشكالاً عدة للعلاقة مع الإنجليز المحتلين: فمن عداوة مطلقة كما بين مصطفى كامل والمعتمد البريطاني كرومر، وتقابلها علاقة تبعية مطلقة يمثلها عدد كبير من الساسة، وتعاون للضرورة كحالة عائشة التي عملت مترجمة لكرومر وزوجته، ويشفع لها هنا جهلها وعدم إدراكها لمهمتها، وعلاقة حب كما بين عائشة وكارتر، وعلاقة عداوة في الظاهر وتبعية في الباطن التي يمثلها بعض قادة المعارضة وكتابها. ويبقى السؤال: ما محددات هذه العلاقة؟ وما الفيصل فيها؟ ومن خلال الرواية نلاحظ أن كل علاقة محكومة بظروفها وأهدافها، ولكن شتان شتان بين غاية نبيلة، ونفس رخيصة دنيئة.

ويثار سؤال عن العلاقة بين التاريخ والرواية، وهل هناك ما يسمى رواية تاريخية؟ وهل يعتد بالتاريخ الذي تتضمنه الرواية؟

إن العمل السردي إما أن يكون رواية أو تاريخاً، وأية رواية تستند على التاريخ، وتفقد هويتها كرواية ناضجة متكاملة لا يعتد بها، وعن رواية "يوم غائم في البر الغربي" يقول وليد فكري: "تناول الأحداث والأشخاص التاريخية بالشكل الذي فعله المنسي قنديل ينم عن مجهود كبير بُذِلَ في قراءة التاريخ وتحليله وانتقاء ما يلائم العمل منه، في تطبيق لعبارة الكاتب الفرنسي ألكسندر دوماس: "لا بأس أن تعتدي على التاريخ بشرط أن ينجب منك ابنًا جميلاً".. مع التأكيد على أن قنديل لم يعتدِ على التاريخ، بل نفض الغبار عنه وأزاح كراكيب الزمان من فوقه وأبرزه لنا بشكل جميل جذاب من خلال قصة فتاة بسيطة كانت تعيش مشكلتها الخاصة فإذا بها تعيش مشكلة الوطن!" وهذه هي سمة الرواية عند معالجة أي موضوع تاريخي، أن يشعر القارئ أنها رواية تتميز بكل فنيات وتقنيات ومتعة الرواية وإن اتكأت على التاريخ ومتحت من معينه.

كل خارج عن أعراف المجتمع لا بد أن يجد من يردعه، خاصة في مجتمع الريف المصري العريق الأصيل الذي لا يسمح بأي تجاوز أو تعد على تقاليد المجتمع، ولكننا في الرواية نجد شخصية عمران الشاذة المعروف بخروجه على كل أعراف وأخلاقيات الريف، ومع ذلك يزوجوه أرملة أخيه، فلم تقنعه الزوجه، وحاول افتراس ابنة أخيه عائشة، فتضطر أمها لإخفائها وتنصيرها للتخلص من شروره، ولكنها أخيراً تقع في شباكه بحيلة ماكرة منه، فيقع في شر أعماله وتفترسه الذئاب. وهذا الوضع يثير الاستغراب، فالمجتمع الريفي يرفض هكذا تصرفات، ويحاربها، ولا يتوانى عن نصرة الضعيف والمظلوم خاصة في حالة العرض والشرف. إذاً ما الذي يحدث؟ وهل هذه دلالة على تغير الثوابت، وتبدل القيم، وبالتالي غياب أخلاقيات الريف لصالح أخلاقيات الغابة وقواعدها؟

وعلى نقيض عمران الذي يمثل الشر خالصاً، نلحظ الحضور الكثيف للذئاب دون غيرها في أدوار الخير التي لا تتفق وطبيعتها، وأدوار الافتراس كما هو متوقع منها، في دلالة رمزية مقصودة. وفي سؤال للمؤلف عن دلالة وجود الذئاب طوال الرواية، أجاب أن: "الذئاب في الأساطير المصرية القديمة هي فاتحة الأبواب، ودمها يبطل السحر ويفك الطلاسم ويخرج الكنوز المدفونة. أما في الواقع فنحن في مصر لا نعاشر إلا الذئاب، نحن حملان مستكينة مع الآخر ومتأسدة مع بعضها البعض." ورمزية الذئاب هنا تختلف عن رمزيتها في بلدان أخرى، وهذا يحتم على كل مشتغل بالإبداع وخاصة الناقد أن ينتبه إلى خصوصية الرمز حسب بيئة الرواية وظروفها. ويلاحظ أن الذئاب في الرواية ظهرت عاقلة تميز بين الناس، فهي ترضع توت غنج أمون، وتحرس مقبرته، وتفتك بعمران وغيره، وكأني بالمؤلف يعرض بالإنسان وخروجه عن طبيعته، بينما تنحاز الذئاب للخير على غير ما هو مألوف منها!

 

mosa2x@yahoo.com