يستبين الباحث اللبناني مروحة المواقف السياسية المعلنة من المؤرخ اللبناني، إثر تحولاته بفضل استنتاجاته العلمية، والتي ناقضت مواقفه التأريخيّة والأيديولوجية على مدى سنوات، مما جعله يجاهر بمعارضة نفسه على العلن، ليكتب تأريخاً يناقض ما بدأه في مشروعه التأريخي للبنان.

كمال الصليبي: تأريخ لما يُسمّى لبنان

أسعد أبو خليل

ليت الصليبي واصل اهتمامه بالشرق الأوسط بدل تاريخ الأردن والمسيحيّة والتوراة، تدرك كم تغيّر فكر كمال الصليبي وتطوّر، وكم تغيّرت شخصيّته، من خلال المقارنة بين رثائه في «السفير» ورثائه في «النهار». «النهار» بالكاد ذكرته، أما الجريدة القوميّة العربيّة، فقد أفردت له مساحة واسعة من المراثي والمدائح مع مقالة لطلال سلمان على الصحفة الأولى. الأمر غريب لمن يتمتّع بذاكرة معاصرة؛ لأنّ كمال الصليبي كان «نبيّ» «النهار» في الستينيات وأوائل السبعينيات، وكانت تستفتيه في كلّ أمور الجمهوريّة وتاريخها. كان «ملحق النهار» بصورة خاصّة يزهو بإطلالات الصليبي على صفحاته. و«السفير» ما كانت إطلاقاً منبراً للرجل عند انطلاقته. في بداياته، كان الصليبي رمزاً للفكر الوطني اللبناني، وقد عمل مستشاراً أكاديمياً لنادي «الرابطة اللبنانيّة» في الجامعة الأميركيّة في بيروت، عندما كان النادي تجمّعاً للانعزاليّين والفاشيّين في الجامعة. لكن كمال الصليبي تغيّر، وتغيّر كثيراً. ما عاد الرجل ينتمي إلى الفكر الذي أطلقه على صفحات «النهار». انتقل من ضفّة إلى أخرى. لكن الرحلة لم تكن سهلة، ولم تكن ببساطة ما جاء في بعض المراثي التي صوّرت انتقاله مثل انتقال نقولا فتّوش من 14 إلى 8 آذار.

ينبغي أن يُقال مديح في حق كمال الصليبي. الرجل توصّل إلى استنتاجات (علميّة) تُناقض مواقفه التأريخيّة والسياسيّة ومنطلقاته النظريّة على مدى سنوات، فجاهر بمعارضة نفسه على العلن، وكتب تأريخاً يناقض ما بدأه في مشروعه التأريخي للبنان. والمؤرّخ الذي كان لسنوات فخراً للفكر الانعزالي، تحوّل إلى بطل عند القوميّين العرب واليساريّين في لبنان. لكن بعض رثاء الصليبي شوّه بعض مواقفه؛ إذ كاد يدخله عنوةً في 8 آذار. والرجل لم ينبذ فكره وتأريخه الأوّلي عن لبنان مُبكّراً، كما كتب مسعود ضاهر في «الحياة». العمليّة استغرقت منه سنوات، وساعد في تبلورها دور الأحزاب اليمينيّة الطائفيّة في الحرب الأهليّة. مقت الصليبي كلّ أحزاب اليمين الفاشي اللبناني، بعد اندلاع الحرب الأهليّة.

محظوظ من تسنّى له حضور صفوف الصليبي في الجامعة الأميركيّة. أنا درست عنده مادة «تاريخ الجزيرة العربيّة» في أوائل الثمانينيات، وكان كتابه «تاريخ الجزيرة العربيّة» (أو «تاريخ للجزيرة العربيّة»؛ لأنّه قال لنا إنّه اختار العنوان كي يؤكّد أنّ هناك أكثر من تاريخ للجزيرة) قد صدر لتوّه عن دار «كرافان». الكتاب فريد في سلسلة كتب الصليبي التأريخيّة؛ إذ إنّه لا يدرج هوامش فيه. قال إنّه أراد من القارئ أن يفترض أنّه استهلك كلّ المراجع عن الموضوع، وهو بالفعل فعل ذلك بأكثر من لغة. لا تسأل الصليبي في موضوع إلا يشفي غليل السائل بجواب مفيد. وكان يجيب بلا تبجّح أو ادّعاء. كان أسلوبه في التعليم شبيهاً بكتابته: أنيق العبارة وواثقاً من معلوماته من دون غرور. وهو أيضاً راوٍ مشوّق، يمزج بين مصادر عدّة للتاريخ، المكتوبة والشفهيّة والشخصيّة. أذكر عندما حدّثنا عن رحلته إلى داخل الربع الخالي، وعن معرفته بالفوارق بين المناخات في الجزيرة. لم تذكر مقالات رثاء الصليبي أنّه كان مؤرّخاً وعالم آثار معاً. أذكر كيف كان يحدّثنا عن تضاريس الجزيرة العربيّة. وفي ذاك الصف، تعلّمت منه حب كتاب «لسان العرب» لابن منظور. كان يقول إنّه لا يفيد فقط في البحث عن أصل الكلمة ومعناها، بل يفيد في ملء أوقات الفراغ. اكتشفت ذلك عندما ابتعت نسختي من القاموس. وفي جامعة تمرّست في تقليد الرجل الأبيض وثقافته، كان الصليبي يحاول التعمّق في اللغة العربيّة وتراثها.

تدرّب الصليبي على أيدي مستشرقين، بمَن فيهم برنارد لويس الذي أشرف على أطروحته. وتدريبه الاستشراقي (بالمعنى الإيجابي للكلمة من حيث استعمال لغات عدّة في الأبحاث والتمحيص في المراجع والمزج بين عدد من العلوم الاجتماعيّة في الكتابة) أفاده كثيراً في أبحاثه؛ لأنّه كان كثير الاهتمام بأصل الكلمات واشتقاقاتها. أذكر أنّني قرأت له ورقة قدّمها في مؤتمر تاريخي عن كلمة «حضرموت». وكان ذلك بداية انكبابه على موضوع تاريخ التوراة. وكتب سيرته الذاتيّة من دون تكلّف أو مبالغات. فيها الكثير عن «رأس بيروت» التي أحبّ. لكن رأس بيروت هي مدينة جامعيّة تعكس الجوّ الليبرالي الذي يحيط بالمدن الجامعيّة التاريخيّة. والثناء على رأس بيروت فيه من الراحة البورجوازيّة بجغرافيا الصفاء الطبقي. نجحت رأس بيروت في منع امتداد التنوّع الطبقي إلى أحيائها، وحافظت أيضاً على تنوّع من لون واحد. أما الكلام على فرادة لرأس بيروت، فقد نفى الصليبي نفسه عندما قارنها بمدينتي «أوكسفورد» بريطانيا و«كمبردج» أميركا، مع أنّ المقارنة تصطدم بنفور الترابط بين فؤاد السنيورة وحملة جوائز نوبل في المدينتيْن المذكورتيْن.

لكن بداية كمال الصليبي كانت ولا شك مُتأثّرة، لا بهوى لبنان كياناً منعزلاً ومنفصلاً عن تاريخه فقط، بل أيضاً متأثّرة بالهوى الصهيوني لبرنارد لويس، الذي توضّحت نيّاته السياسيّة أكثر فأكثر، على مرّ السنوات. لا ينخرط برنارد لويس في مشروع أو يباشر عملاً أكاديمياً إلا يكون منطلقه المصلحة الصهيونيّة. نحن نتحدّث عن رجل ناصر عسكر تركيّا في الحقبة الاستبداديّة من منظار مصلحة إسرائيل (وكانت له جلسات حميمة مع كنعان إفرين).

لم تكن كتابة تاريخ لبنان منفصلة عن كتابة تاريخ محيطه: حاول لويس شيخو (العالم المتعصّب والمُنكر للحقائق إذا لم تتوافق مع رؤيته الطائفيّة) ذلك في كتابيْ «لبنان: مباحث علميّة واجتماعيّة»، كذلك دأبت جهود الاستشراق اليسوعي، وخصوصاً هنري لامانس، على رسم مُتخيّل عن تاريخ لبنان يتوافق مع الرؤية الطائفيّة لدولة الاستعمار الراعية لنشوء دولة الكيان اللبناني. لامانس، كما لاحظ الصليبي في ما بعد في كتاب له صدر في 1979 بالتحديد، روّج لفكرة لبنان «الملجأ» التي تلقّفتها المراجع الطائفيّة المُؤسّسة للكيان بالكثير من الترحاب. كانت كتابة تاريخ لبنان جزءاً من كتابة تاريخ ما حوله. لكن فيليب حتّي سبق الصليبي في كتابة تاريخ لبنان المنفصل في كتابه «لبنان في التاريخ». يحاول حتّي في كتابه جاهداً أن يبرز فضائل الشعب في لبنان بمعزل عن محيطه، لكن أمانته العلميّة تمنعه من الذهاب بعيداً؛ إذ يذكر في مقدّمة كتابه «الإنجازات والإسهامات المميّزة للشعوب التي احتلّت» لبنان. لم يقل شعب لبنان. لم يستطع أن يتحدّث عن «الشعب اللبناني على مرّ التاريخ» على نسق التاريخ الرسمي اللبناني المبني على صورة الأيديولوجيا التي حكمت فؤاد أفرام البستاني وسعيد عقل وجواد بولس، وغيرهم ممن أفسد عقول الناشئة. هؤلاء مسؤولون عن الأمراض اللبنانيّة المستعصية التي تتجلّى في مسابقات أكبر صحن بطاطا وأكبر صحن كوسى محشي. لكن فيليب حتّي يفقد تلك الأمانة العلميّة عندما يتحدّث عن «الفرديّة» التي حكمت البلد (ولا يحدّد مساحته تاركاً العنان للمخيّلة الرسميّة كي تطابق حدود الدولة الحديثة على تعميمات المؤرّخ).

أي أنّ أهميّة كتاب «تاريخ لبنان الحديث» لكمال الصليبي، الذي صدر في منتصف الستينيات بالإنكليزيّة، كانت فائقة. وعتها المؤسّسة اليمينيّة في جريدة «النهار» ونشرت نسخة عربيّة عن الكتاب، وصاحبته بحملة عارمة أدت فيها دوراً متعاظماً بحكم حجم دور الجريدة السياسي في لبنان ما قبل الحرب الأهليّة. لكن أهميّة الكتاب لا تقلّ عن أهميّة كمال الصليبي وشجاعته في مراجعته النقديّة لتاريخ لبنان، ولتأريخه هو بالذات في حقبة لاحقة. ويعترف الصليبي في مقدمة كتابه بأنّ أستاذه السابق، برنارد لويس نفسه، هو الذي طلب منه وضع الكتاب. ليس ذلك بالأمر العابر. لقد حصل في مرحلة صعود قومي عربي يشكّك بالكيانات المصطنعة المجاورة لإسرائيل، ولويس غير بعيد عن الهوس بمصلحة الدعاية الصهيونيّة في كلّ ما يتصل بالتاريخ المعاصر والحديث للشرق الأوسط، إن لم يكن قبل (أي أنّ مشكلة لويس لا تنحصر بمشاكل الاستشراق التقليدي). إنّ الترويج لكيانيّة لبنان و«أزليّته»، إذا أردنا استعمال مصطلحات فريق إسرائيل في لبنان، يتطابق مع مشروع الترويج للكيان الصهيوني وعلى أسس مُتشابهة. اختلاق الكيانيّة اللبنانيّة وترسيخها كانا مواتيين جداً للفكرة الصهيونيّة التي تحرّك برنارد لويس.

لكن كتاب الصليبي يشكو من علل أخرى. الكاتب بقي طوال سني عمره يطلق تعميمات وأوصافاً عن الطوائف اللبنانيّة على أساس أنّها كتل متراصّة. والصليبي لا يختلف مع النهج الاستشراقي المعاصر الذي يرفض فكرة العربي العلماني، مع أنّه هو انتقل من حامل لفكرة الطائفيّة «البنّاءة»، على قول كمال يوسف الحاج، إلى شطب مذهبه عن الهويّة. ويبرز «المسيحي» في رواية الصليبي مختلفاً عن أقرانه ومتميّزاً عنهم، فيقول في الكتاب المذكور: «المثقّف المسيحي اللبناني، الذي عاش في ظروف سهلة نسبيّاً، لم يعان التوتّر الذي عاناه التركي والمصري والسوري وحتى اللبناني المُسلم (لاحظوا أنّ الصليبي لم يقل كلمة «عربي» في المقطع ص. 143، ترجمتي عن النسخة الإنكليزيّة). ويسهب الصليبي في تعداد فضائل كتّاب عصر النهضة «المسيحيّين» (وينسب كتابات «فلسفيّة» لا وجود لها إلى ناصيف اليازجي)، لكنّه يتحفّظ عند الوصول إلى اسم يوسف الأسير ليقول إنّه لم يصل إلى «مرتبة» اليازجي والبستاني، من دون محاولة فهم الأسباب.

ورواية الصليبي عن الحقبة المعاصرة في تاريخه، مثل القسم المتعلّق بحوادث 1958، التزمت جانب الرجعيّة اللبنانيّة ووصفت أعمال المعارضة بـ«الإرهابيّة»، كذلك فإنّه لم يتورّع عن استخدام عبارة «الغوغاء المسلمين». واللافت أنّ تأثير عدوان نشوء إسرائيل وأعمالها الحربيّة لم يشغل الكاتب بتاتاً في الكتاب. ولم يتغيّر كثيراً عبر السنوات عندما وضع كتابه عن الحرب الأهليّة في 1976. وكان عداؤه (السياسي لأنّ الصليبي كان على صداقة وطيدة مع عدد من المثقّفين الفلسطينيّين، ومنهم من كان ناشطاً في مسيرة التحرير) للمقاومة الفلسطينيّة ظاهراً. وكان تحليله للصراع في لبنان في كتابه نسخة غير معدّلة عن خطاب بيار الجميّل: يكرّر كيف أنّ الزعماء المسلمين كانوا أسرى للمقاومة الفلسطينيّة، وكان المسلمون يفتقرون إلى عنصر القرار الذاتي في تحليله. ولم يكن الصليبي قد توقّف في الكتاب المذكور عن إغداق المدائح على النظام اللبناني، فيقول عن لبنان ما قبل الحرب إنّه كان «جمهوريّة ليبيراليّة ديموقراطيّة يشترك في صنع القرار فيها المسلمون والمسيحيّون» (ص. 53). لم يُعرّض الصليبي الطائفيّة مفهوماً وممارسة للنقد التاريخي الذي انتهجه الزميل أسامة مقدسي في كتابه «ثقافة الطائفيّة» (الذي صدر في ترجمة ممتازة عن «دار الآداب»). المقدسي ينوّه بدور الخارج الاستعماري في صنع الطائفيّة، ولا يتعاطى معها على أساس عاطفة أو غريزة تؤثّر في الجمع.

ظهرت مراجعة الصليبي النقديّة الذاتيّة في 1979 في كتابه «منطلق تاريخ لبنان»، لكن قبل ظهور «بيت بمنازل كثيرة»، يجب التنويه بفريق من المؤرّخين اليساريّين والقوميّين العرب الذين سبقوا الصليبي في تشكيكه في السرديات الطائفيّة لتاريخ لبنان: أمثال مسعود ضاهر ووجيه كوثراني وحسّان حلاق (مع أنّ الأخير «أشرف» على أطروحة دكتوراه للمؤرّخ رستم غزالة) وأحمد بيضون (مع أنّ كتاب الأخير عن رياض الصلح، والكتابة عن الصلح دارجة هذه الأيّام، يعتنق السرديّة الرسميّة مُجدّداً) وآخرين كثر في ما بعد. الصليبي يعرض السرديّات المختلفة لتاريخ لبنان ويُشكّك بصحّتها ويقدّم التأريخ الموضوعي المبني على «وعي الحقيقة التاريخيّة المُجرّدة»، وكأنّ هناك حقيقة مُجرّدة. قد تفيد بالاستعانة بالتشكيك المابعد الحداثوي هنا. لكن الكتاب يدحض الكثير من الفرضيّات التي تضمّنتها كتب الطائفيّة المارونيّة. يتحدّث الصليبي بأمانة عن حقبة الاستعمار الصليبي، ويشير إلى الخلافات والصراعات في صفوف الطائفة المارونيّة، فيما يصرّ التاريخ الكنسي التقليدي على توحّد الترحيب الشعبي للطائفة بقدوم مستعمري الرجل الأبيض.

لكن كتاب «بيت بمنازل كثيرة» قطع الصلة الرحميّة بين الصليبي واليمين اللبناني الطائفي: يُفسّر ذلك سرّ الجفاء الذي واجهت به جريدة «النهار» المُحتضرة وفاة الصليبي. تغيّر منهج الرجل وفكره وسلّط الضوء على الأساطير المُؤسِّسة للكيان اللبناني. كذلك فإنّه سخر من شخصيّات لبنانيّة تاريخيّة. كم كان الصليبي يستسيغ في سنواته الأخيرة السخرية من «أبطال التاريخ اللبناني» مثل فخر الدين وبشير الشهابي، وسخر كذلك من لقب الأمراء الذي حصل عليه بعض الملتزمين في لبنان في الحقبة العثمانيّة (لكن يبدو أنّ لقب الإمارة عزيز على قلب طلال أرسلان الذي زيّن به جرس منزله في مدينة واشنطن، أثناء سنوات دراسته الجامعيّة، كما أخبرني زائر أميركي (مدهوش) له). ودحض الصليبي فكرة «لبنان كملجأ للأقليّات» التي عمل عليها بمثابرة هنري لامانس (تفيد العودة إلى دراسة عن لامانس أدرجها الصليبي في 1962 في كتاب «مؤرّخو الشرق الأوسط» لبرنارد لويس وبيتر هولت، لتبيان تطوّر نظرة الصليبي التأريخيّة). والمثير للإعجاب أنّ الصليبي كان يعلم أنّ مراجعته ستقضي على مرجعيّة كتبه ودراسته السابقة، ولم يكن ذلك يضيره. بالعكس، كان من التواضع إلى درجة أنّه يزهو بالإنتاج الأكاديمي لتلامذته، مثل مروان البحيري وعبد الرحيم أبو حسين.

أما بعد ذلك الكتاب، فقد انصرف الصليبي إلى مواضيع أخرى، مثل كتابه عن تاريخ الأردن وكتبه عن تاريخ المسيحيّة والتوراة. وكتابات الصليبي عن تاريخ المسيحيّة والتوراة آلمتني: كنت أفضّل أن ينصرف إلى اختصاصه في تاريخ الشرق الأوسط الحديث والمتوسّط. كذلك، لم تُؤخذ تلك الكتب على محمل الجدّ بين المختصّين في الغرب. وقد تألّم الصليبي للردود الغربيّة والعربيّة التي رافقت صدورها. أذكر عندما لقيته في التسعينيات، أثناء زيارة له لأميركا، كم كان حانقاً على الإعلام السعودي الذي شنّ عليه حملة شعواء. روى لي كيف أنّ جغرافيّاً سعوديّاً خضع لضغط قاس من حكومته كي ينبذ كتاباً له بأسماء المدن والقرى السعوديّة كان الصليبي قد اعتمد عليه. قال إنّ الرجل اضطرّ إلى فعل ذلك وهو على فراش الموت، كما قال. وأذكر أنّه خصّ بالنقد جريدة الأمير سلمان وأولاده، «الشرق الأوسط». سألته عن سبب الغضب السعودي عليه، فقال: الأمر واضح. يخشى آل سعود أن تستولي الحركة الصهيونيّة على شبه الجزيرة، لو تأكّدت صحّة تاريخ الصليبي. وبالفعل، ما إن مات الصليبي حتى طلع سمير عطا الله بمقال يعيد فيه النقد السعودي السابق لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب». لكن ماذا تتوقّع غير ذلك من أمثال سمير عطا الله وجهاد الخازن وسائر أبواق الأمراء؟ لست مُختصّاً بالتاريخ القديم، لكنّني أعتقد أنّ الصليبي بالغ في الاعتماد على عنصر أسماء القرى والمدن، على حساب عناصر مثل علم الآثار ومراجع أخرى.

بعدما حطّ الصليبي رحاله في الأردن (عندما تحوّلت بيروت الغربيّة على يد الميليشيات الطائفيّة إلى مرتع لخطف المسيحيّين والأجانب)، كتب «تاريخ الأردن الحديث». لم يضف الكتاب إلى رصيد الصليبي. على العكس، فقد كتب الرفيق جوزيف مسعد أفضل نقد للكتاب في مجلّة «دراسات الشرق الأوسط» الصادرة هنا. يقول جوزيف، وهو مؤلّف كتاب مرجعي عن نشوء المملكة الهاشميّة، إنّ الكتاب يمثّل «تفسير الهاشميّين لتاريخ الأردن». ويضيف أنّ تأريخ الديوان الملكي للأردن صدر من قبل على أيدي عدد من الكتّاب الذين لم يحاولوا أن يقدّموا السرديّة الملكيّة على أنّها موضوعيّة، كما فعل الصليبي. والصليبي يأخذ جانب الملكين (عبد الله وحسين) في كلّ نزاعاتهما وصراعاتهما ومؤامراتهما، حتى في مجازر أيلول الأسود.

يمكن الاستدلال على آراء الصليبي الأخيرة في عدد من المقابلات الطويلة التي أجراها، إن في «السفير» أو في «المستقبل العربي» (آب 2010). وفي تلك المقابلة، يفصح الصليبي عن الكثير من مكنوناته. وفي مقابلة «المستقبل العربي» يبدي الكثير من الآراء التي لا تتفق مع الصورة التي أرادها له معجبوه الجدد من القوميّين العرب واليساريّين. يقول الصليبي عن مقاومة إسرائيل في لبنان: «لا أؤيّد وجودها. لبنان يتأذّى من وجودها. دائماً تأتي إسرائيل، فتدمّر بنية لبنان التحتيّة. وأسأل ماذا تفعل المقاومة في لبنان غير تعريضنا للخطر الدائم؟ وهي مقاومة تشكّل خطراً على الإنسان اللبناني ومصالح لبنان كافّة». هذا الكلام لم يرد في أي من مرثيّات الصليبي في «السفير» أو في «الأخبار». طبعاً، لا يخلّ ذلك بوجوب تقدير القيمة العلميّة لأبحاث الصليبي، لكن رحلة تحوّل الصليبي لم تصل إلى خواتيمها المرجوّة من وجهة نظر اليسار أو المقاومة في لبنان. كذلك كان الصليبي يقول (كما ورد في مقابلة مع صقر أبو فخر في «السفير») إنّ الشعب اللبناني هو الذي أساء إلى المُستعمر العثماني، أو الفرنسي، كما قال في مقابلات أخرى، لا العكس. وكان يرفض نكران «فضائل» الاستعمار الفرنسي في لبنان. وبالنسبة إلى مؤرّخ حرص على الدقّة في التعبير، فقد عبّر بضيق شديد وتعميمات غير علميّة عن العرب (وعن اللبنانيّين كشعب). تجده، مثلاً، يقول لـ«المستقبل العربي»: «الأيديولوجيا قتلت العقل العربي». ذلك القول الذي يحكم بالإعدام على 350 مليون عربي، يضاهي التعميمات الاستشراقيّة الكلاسيكيّة عن العرب والمسلمين.

خسر العالم العربي بغياب كمال الصليبي مؤرّخاً جادّاً وعالماً، ذا ثقافة متنوّعة وعميقة وواسعة. وشجاعة الصليبي النقديّة تُسجّل له خصوصاً في مسخ وطن ينشغل فيه الكثير من الأكاديميّين في صراعات طائفيّة أو ميليشياويّة. ونجح الصليبي كاتباً: عرف كي يكتب للعامّة بلغة أنيقة وسهلة. جعل الصليبي من قراءة التاريخ متعة أكيدة. أذكر أنّ صديقه رالف كرو روى لنا سرّ مهارته كاتباً، فقال: إنّ الصليبي، بعد أن يفرغ من إعداد مخطوطته، يعيد قراءتها مرّة أخيرة ويحذف منها كل كلمة أو جملة أو مقطع لا ينقص حذفه من معنى المخطوطة أو مضمونها. لكن تقدير أعمال الصليبي من قبل فريق واحد في لبنان يؤكّد مقولة الصليبي أنّه لا تاريخ جامعاً للبنانيّين واللبنانيّات. حتى في تقويم الصليبي اختلفوا.

 

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا

(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)