هذا كتاب يمثل أحد المداخل الأساسية في فهم آليات إنتاج النص الروائي، وهو مسار اجتهاد تجربة نقدية تحفر في مساحات ملغومة من خريطة النقد الروائي العربي. هنا تقريب لأهم الرؤى المفصلية المتحكمة في انشغالات الكتاب النقدية وتعريف بمداراته المعرفية.

سيميائية الرواية: إشكال النموذج

قراءة في «آليات إنتاج النص الروائي» لعبد اللطيف محفوظ

محمد بوعزة

يغامر الباحث عبد اللطيف محفوظ في كتابه الجديد " آليات إنتاج النص الروائي[1]" بالخوض في منطقة ملغومة من خرائطية النقد الروائي العربي. فهو يقتحم منطقة التفكير في بناء نموذج للخطاب النقدي الروائي. ولا يخفى أن الوضع السوسيوثقافي لخطاب التنظير في الثقافة العربية يتصف بكونه إشكالي، بل ضدي، من حيث أنه يرتبط بخطاب آخر في ثقافة أخرى، وبالتالي فإنه لا يمتلك أرضية جاهزة، ويتشكل في منطقة مشروخة بصور الاختلاف. ويمثل هذا الشرخ الثقافي والأنطلوجي تحديا لأي محاولة بحث في النموذج.  في هذا السياق الإشكالي، يكتسب الكتاب أهميته العلمية والثقافية من مرتكزاته الابستمولوجية التي تؤطر تشييداته النظرية والمنهجية، حيث حرص الباحث على التمسك بمبادئ النموذج، وما يتضمنه من شروط النسق والبناء والاستدلال والوظيفة. ذلك أن  رهان النموذج الموجه لأطروحة الكتاب، متمثلا في فعل التنظير، باعتباره مشروع تفكير في بديل لواقع النقد الروائي، فرض على الباحث إطلاق دينامية ابستيمولوجية تضع التشييدات موضع تساؤل، بناء على إستراتيجية استدلالية  تبدأ بالوصف ثم التفكيك وتنتهي بالتركيب.

رهان الخطاب:
في عتبات الكتاب يحدد المؤلف أطروحة الكتاب  ورهاناته العلمية التي تتمثل في:

ـ محاولة فتح أفق جديد في مجال تحليل النص الروائي يتيح إمكانيات استكشافية جديدة وفعالة للخطاب النقدي. هذا الأفق الجديد يتيحه ـ بنظره ـ المنظور السيميائي الذرائعي،  " فقد سمح لي ذلك أن أدرك أنه يمكن لخطابنا النقدي حول الرواية  أن يصبح أكثر فعالية إذا ما تم صوغ منهاجية نقدية صادرة عن خلفية سيميائية ذات توجه ذريعي تداولي" (ص5).  بدافع هذه الأطروحة،  يبدأ  رهان الكتاب من اقتراح نموذج سيميائي للتفكير  في الرواية، يملك بنظره كل المقومات الابستمولوجية التي بإمكانها ضخ دينامية  فعالة في واقع الخطاب النقدي الروائي.

ـ  اقتراح نموذج يتوخى  صياغة خطاطة لمفهوم الإنتاج الروائي، تحدد آليات إنتاج النص الروائي من منظور الإنتاج وليس التلقي. إغراء النسق سيضع الباحث في مواجهة  الإشكالات الابستمولوجية التي يطرحها مفهوم النموذج في البناء النظري، من حيث أن أي نموذج لكي يؤسس شرعية حضوره مطالب  بتحقيق درجة معقولة من المقبولية والنسقية. ويلخص أحد الباحثين  شروط بناء النموذج في المبادئ التالية: (1 مفهوم البناء، وما يتضمن هذا المفهوم ويتوخاه من شروط النموذج: النظام والنسق والعلاقة والوظيفة، 2 مفهوم الإستراتيجية، 3 مفهوم الإنتاجية،4 مفهوم الملاءمة، 5 مفهوم الاستدلال[2]".

تشكل هذه المبادئ الضمانات الابستمولوجية لممارسة فعل تفكير/ تنظير مسلح بوعي ابستيمولوجي، يحرص على انتظام خطابه في ضوء  قواعد ومبادئ "يحصل بسببها إنتاج معرفة قابلة للفهم والإدراك، وتحقق المقبولية عندما تستطيع المعرفة المنتجة الصمود أمام الاختبار ولو في حدود نسبية.[3]"  

سوف يفرض هذا الرهان التشييدي (تشييد خطاطة للإنتاج الروائي)  بوصفه مشروع تفكير في البدائل الممكنة لواقع النقد الروائي، على الباحث الانخراط في إستراتيجية التنظير، من حيث بسط الخلفيات الابستمولوجية  التي يتأسس عليها هذا النموذج، وهي بالتحديد فلسفة بورس الذرائعية، وأيضا بسط المفاهيم السيميائية ( مفهوم الدليل ومفهوم النص) التي يستند إليها في نقش تصوره لمفهوم النص . الملاحظ  هنا أن مسار البحث  ظل منشغلا بهموم التنظير، وما يستدعيه من حراك ابستيمولوجي، في حين أن جانب التفكير في واقع الخطاب النقدي  الروائي العربي  ظل مغيبا، بما يفرضه من حوار وتفكيك للمقاربات والتصورات السائدة في السياق العربي .إن اقتراح بديل للنقد الروائي العربي لا يمكن أن يتم موضوعيا إلا من خلال الاشتباك فكريا مع الواقع النقدي السائد  من أجل إنتاج صورة مغايرة له (النموذج البديل)، وبالتالي فإن الاقتراح (التنظير)  ونقد الواقع السائد (نقد النقد) متكاملين. إن التنظير يبدأ من نقد الواقع السائد من أجل تعديله أو تغييره أو تجاوزه، وبالتالي يتشكل دافع التنظير باعتباره حلا لمشكل في سياق معرفي وثقافي محدد. فالنموذج البديل لا يمكن أن يتجاهل الجهود المبذولة في مجاله، ولا أن يكون خارج الدينامية المعرفية التي تنتظم سياق إنتاجه. فلكي تتحول نظرية ما (نموذج) إلى إبدال كما يلاحظ توماس كون، يجب أن تكون أفضل من أخرى، دون أن يعني ذلك أنها قادرة على شرح مجموع الظواهر التي جاءت من أجلها. ويضيف إيكو شرطا آخر، يجب ألا تكون أقل مردودية من سابقاتها[4].

الحراك الابستيمولوجي:
 لم يكن الوضع العلمي الإشكالي للنموذج في الثقافة العربية غائبا عن وعي الباحث، ولذلك اتجه  إلى تأسيس مرتكزاته العلمية التي تتيح له صياغة نظام  يرسم حدود نموذجه و معالم انسجامه. وهذا ما عمل الباحث على تنويره من خلال تفكيك الوضع الابستيمولوجي لأطروحته الذي تأسس على ميزتين ابستيمولوجيتين:

ـ المعقولية: يفترض بناء النموذج تأسيس وعي ابستيمولوجي، يكون مدركا لسياق خلفياته الابستمولوجية و أسسه  الفلسفية والنظرية، بما يحقق معقولية النموذج. وقد تمثل الباحث هذا المبدأ  من خلال حرصه الشديد على تبني مرجعية نظرية موجهة واضحة، تتأسس على فلسفة بورس الذرائعية. وينبني هذا التأسيس على نقاش ابستيمولوجي عميق وحواري مع مختلف أطروحات بورس السيميائية، ومع النماذج النظرية  الرائدة  في مجال سيميائيات السرد (غريماس) والشعرية المعاصرة (جينيت، تودوروف) ونظرية الرواية (باختين، لوكاش، غولدمان) وسيميائيات القراءة (إيكو). يتخذ إذن الحراك الابستيمولوجي مسارين متكاملين: مسار محايث مركزي يتأسس على تمثل نظرية بورس في التدلال ، باعتبارها تشكل النظرية العامة الموجهة لأطروحة الكتاب، ومسار موازي يتأسس على محاورة نماذج نظرية موازية من خارج النسق البورسي  في مجال النقد الروائي ونظرية السرد، بهدف توسيع النموذج السيميائي البورسي وتطعيمه بنماذج متعددة منها ما يركز على الطابع الإيديولوجي للنص الروائي (باختين، لوكاش، غولدمان) ومنها ما يهتم بمستوى التركيب السردي ( الشعرية المعاصرة) ومنها ما يهتم بالتمفصلات الدلالية (غريماس).

بفعل هذا التداخل الخطابي لا يخضع بناء النموذج المقترح لحتمية النسق المحايث، بل ينمو في سياق انفتاحه على أنساق نظرية مختلفة، وفي سيرورته الحوارية ابستيمولوجيا، داخليا وخارجيا،  بما يؤشر على إمكانية تركيب أنموذج أكثر ملاءمة، يتمتع بقدرة التوفيق بين البعد الإيديولوجي والبعد الاستطيقي للنص الروائي.

ـ الملاءمة: يترتب على تفكيك الوضع الابستيمولوجي لأطروحة الكتاب، ـ أي ما أسميناه المعقولية، إعادة بناء جهاز المفاهيم  بما يتلاءم وإستراتيجية النموذج ، حيث تفترض المعقولية الاعتناء بشروط امتلاك المفهوم، وبكيفية تحديده، وبشكله، وبأصنافه، ووظائفه. ويكتسب هذا التوضيح الابستيمولوجي أهميته من كون الاهتمام بتشييد المفاهيم يحتل مركزا مهما في بناء النظريات والنماذج، ويشكل أحد الشروط الضرورية في التشييد الابستيمولوجي، خاصة في ظل ما تعرفه الثقافة العربية من اضطراب وتشوش في تداول المفاهيم واستعمالها، الناتج عن قلة الإحاطة بمرجعياتها . ومن ثمة اتجه المؤلف إلى تحديد الوضع الابستيمولوجي لأطروحة الكتاب، من خلال تفكيك منطق السيميائيات البورسية، وكشف مبادئها العامة، وربطها بالمقولات الأساسية، أي خلفيتها الذرائعية والتداولية، المتحكمة في سيرورتها الوظيفية والإجرائية.. وهذا ما مكن الباحث  من إنتاج معرفة بسيرورة تشكل السيميوزيس،  ومن رصد خصوصية السيميائيات البورسية  في إدراك سيرورة التمثل و التمثيل عامة والتمثيل اللغوي خاصة،  المخالف لشكل الإدراك المعطى من قبل النظريات اللسانية والسيميائية التي شكلت مراجع لتحليل الخطابات السردية .  من جهة أخرى، سيترتب  عن هذا التفكيك إعادة تحديد  المفاهيم اللسانية والسيميائية المستعارة من نظرية تحليل الخطاب انطلاقا من السيميائيات البورسية وبالتحديد، انطلاقا من المقولات الفانرسكوبية الثلات( الأولانية، الثانياتية، الثالثانية) ، ومن جهة أخرى تفسير السيميائيات البورسية من منطور الظواهر اللغوية.

  وما يسوغ هذه المراجعة هو إعادة تحديد مفاهيم تحليل الخطاب القابلة لأن تسد الثغرات التي يفرزها الاكتفاء بالمصطلحات البورسية في وصف الموضوع (الرواية). ومن جهة أخرى، وعلاقة بالبعد الاستطيقي للرواية تضمنت هذه المراجعة إعادة صوغ النظريات المرتبطة بجمالية الرواية، والتي تقع خارج النسق البورسي، مثل مفهوم الانفتاحية في  نظرية باختين ومفهوم الكلية الممتدة في نظرية لوكاش ومفهوم البنية الدالة في نظرية غولدمان، بناء على ذرائعية فلسفة بورس، بحيث أمكن تحويلها من شكلها المتعالي إلى شكل محايث للبناء التدلالي  (السيميوزيس) ،   وإلى صيغة تجسيدية محايثة لأقسام ومستويات الأدلة الأساسية المتضافرة البانية للدليل الروائي. و" بذلك تحول ما كان صيغا تجريدية وأشكالا متعالية إلى طبائع تجسيدية فيزيائية للمراحل المتراتبة: أي إلى موضوعات دينامية لها بمفهوم بورس"(ص.24)

في خضم هذه السيرورة المنفتحة يتأرجح  النموذج المقترح بين أوضاع ثلاثة: بين الفلسفة (فلسفة بور س الذرائعية) وبين العلم (السيميائية) وبين الأدب (الرواية). ويمارس إستراتيجيته الإنتاجية( التنظير)  بوصفه فعلا يحاور الأدب (الرواية) عبر الفلسفة (الخلفية الفلسفية) والعلم (المنهاجية السيميائية) بهدف تجديد أداة تحليل الخطاب الروائي، وتقديم منهاجية فعالة في التحليل لها قوة الخطاب العلمي .

هذا الوضع المتداخل نظريا ومرجعيا، يوضح  أن النموذج المقترح  يكتسب قوته الإنتاجية والاستدلالية   من نموذج آخر، هو نموذج العلم (السيميائيات)، وعلى المستوى الثقافي أيضا من نموذج آخر، هو الآخر الغربي.. وبالتالي فهو يتشكل في وضع متداخل خطابيا، أي وضع مركب، إشكالي، هو وضع المابين ، في الخط المائل بين الأدب /لفلسفة/ العلم خطابيا. وبين الذات / الآخر ثقافيا. وهذا ما يطرح إشكال الملاءمة بين هذه الأوضاع، باعتبارها أحد شروط البناء الابستيمولوجي. وفي الوقت الذي اعتنى الكتاب بإشكال الانتظام داخل النسق على مستوى المفاهيم والمرجعية،  أي الملاءمة النسقية، فإن إشكال الملاءمة الثقافية والاجتماعية، أي علاقة النموذج بسياقه الثقافي والاجتماعي، ظل لامفكرا فيه. إن نسقية أي نموذج لا ترتهن فقط إلى شروطه الصورية المحايثة، ولكنها ترتبط أيضا بدينامياته السوسيو ثقافية التي تؤثر في إوالياته واختياراته. وهذا ما يستدعي مقاربة إشكالات الملاءمة من منظور ابستيمولوجية متعددة تتجاوز الطابع الصوري للإبستيمولوجية الوضعية وما يترتب عنها من اختزال، بحيث تكون قادرة على موضعة الإشكالات الصورية في سياقاتها الاجتماعية.

التصور الذهني/ من التلقي إلى الإنتاج
سيقود  اعتماد فلسفة بورس الذرائعية الباحث إلى صياغة تصور ذهني لمفهوم الرواية، بحكم أن نظرية بورس هي فلسفة تبحث في آليات الإدراك والتمثل والتمثيل. يقوم هذا التصور على اعتبار الرواية تخييلا تتحكم فيه سيرورة ذهنية معقدة (قصدية المنتج)، بحيث يكون إنتاج الرواية خاضعا لشكل تصور المنتج للعالم. "إن التصور الذي رست عنده تلك العملية التأملية الأولية، ليرى أن الرواية جنس تعبيري إيديولوجي وجمالي يتوسل ـ لكي يتجسد ـ وسائل بلاغية ومنطقية: وقد نتج عن ذلك أن تم ربط الأساس الذهني لإنتاج الرواية بفكرة إيديولوجية حاملة لتصور عن العالم والإنسان والمجتمع. وهي الفكرة التي تحول وفق مقاييس حجاجية إلى حكاية منسوجة بناء على قيود الضروري والمحتمل الملائمين للفكرة الإيديولوجية وللحساسية المعرفية والجمالية المهيمنة على التلقي المحاقب لزمن الإنتاج، ثم ليتحول كل ذلك إلى أشكال لغوية خاضعة لأشكال التقنية الخاصة التي تتولى ربط النص المفرد (رواية ما) بالجنس (الرواية)"(ص 10 )

 تحت إرغام التصور الذهني الذي يعطي المنتج (الذات) دورا مركزيا في الإنتاج الروائي، سيكون الباحث مدفوعا إلى اختيار زاوية نظر مخالفة  لمنظور القراءة ، هي زاوية الرؤية الإنتاجية في النظر إلى النص الروائي، بحيث سيتجه منظور البحث  إلى مقاربة محفل الإنتاج (آليات الإنتاج وليس آليات التأويل والتلقي) وبذلك يسجل اختلافه مع النموذج التلقياتي الذي يهتم بمحفل التلقي. هذا الاهتمام بمحفل الإنتاج يبرره التصور الذهني في أطروحة النص، فإذا كانت الرواية بحسب هذا المنظور الذهني تخييلا تتحكم به القصدية الممارسية (بمفهوم أرسطو)، فإن إنتاج الرواية يكون خاضعا لشكل إدراك المنتج (الذات) للعالم  ، أي خاضعا لقصدية الروائي (المنتج)، ولشكل إدراكه لإبدالات قيود الجنس الملائمة للفكرة الناتجة عن ذلك الإدراك. بالإضافة إلى اشتغال القصدية  في مستوى التصور (الذهن)، تصور الذات للعالم، فإنها  تحضر في مستوى  الاشتغال النصي، انتقاء الروائي الأشكال والأساليب التي توفرها موسوعة الجنس الروائي. وبذلك يبرر الباحث اختلافه القصدي مع نظرية التلقي، لأنها بنظره رغم اعتمادها على آليات الإنتاج، تظل محكومة بالشروط المحكومة بذات المتلقي، وهذا ما يجعل أي إدراك تلقياتي للنص إلا وينتج تأويلا ذاتيا.

في ضوء هذا التصور الذهني، سيتم اعتماد مفهوم سيميائي للنص بوصفه دليلا، ينتمي إلى قسم الأدلة فوق الدليل  " يتميز هذا الدليل المركب بكونه توليفة من الأدلة اللغوية، التي ليست سوى إظهارات تجسدية لموضوعه، هذا الموضوع الذي لا يمكن أن يكون إلا دليلا تفكريا"(ص 109 ). ينبني تصور النص إذن  على الفهم الذي تقدمه السيميائيات البورسية لمفهوم الدليل، ولا سيما نظرية التدلال .

تحدد ظاهرة التدلال في نظرية بورس  عملية إنتاج الدلالة، وهي تتكون من عناصر الدليل الثلاثية: الممثل والموضوع والمؤول.  ومن ثمة سيتم تشييد خطاطة الإنتاج الروائي بربط النتائج المترتبة عن التدليل البورسي بالدليل المركب (الرواية). طبقا لهذا الترابط الموسع، لا يمكن إنتاج الرواية بوصفها دليلا إلا عبر مراحل، يتحول فيها الدليل / الرواية من ممثل إلى مؤول، بمعنى أنه يتدرج عبر مراحل تبدأ من تشكله في صورة فكرة.. إلى حدود لحظة تحوله النهائي إلى ممثل إظهاري (أي إلى حدود تحوله إلى نص يسمح بالانطلاق في سيرورة تلقي الآخر.)

 و إذا كان النموذج التدلالي  البورسي  يقوم على منطق رياضي علائقي ثلاثي، فإن الباحث وتحث إرغام الطبيعة المضاعفة، الاستطيقية/ الإيديولوجية للنص الروائي، سيقترح تقسيما رباعيا لمستويات إنتاج النص الروائي، حيث أنه سيضيف مستوى آخر لمستويات إنتاج الدليل في نظرية بورس هو مستوى الدليل التفكري. هذا الإجراء التوسيعي اقتضته كما أشرنا الطبيعة التصورية للنص الروائي ، بحيث يسمح  بمقاربة المستويات الأساسية لتشكل النص الروائي. وقد سعى النموذج "إلى إعادة ترتيب مراحل الإنتاج بناء على إعادة تحديد أشكال فعلها التنسيقي، وذلك وفق ما يلائم طبيعة السؤال الإنتاجي الذي هو سؤال إيديولوجي يسعى إلى صهر المكونات ذات الصبغة التجريدية (الانفتاحية، والتعبير عن الكلية الممتدة)  في المكونات التشخيصية المحايثة( الحكاية، الحبكة السردسة...) وكل ذلك بهدف الوصول إلى الصهر المنسجم للكل في المكونات المادية الملموسة( الإظهار) التي ليست في الواقع إلا طبائع فيزيائية للمراحل السابقة" (ص16). لتحقيق كل ذلك، وخلافا للنموذج الثلاثي البورسي كان من اللازم إضافة مرحلة رابعة،  جديدة تم استنباطها من أنواع الأدلة البورسية، وتربط بالدليل التفكري وناتجه.  هكذا يقوم النموذج الذهني المقترح على  فرضية وجود سيرورة ذهنية متراكبة ومتلازمة، تقوم على افتراض وجود أربعة مراحل أساسية وهي:

1 الدليل التفكري:  ويماثل فعل التفكير في الفكرة الأولى التي ترسو في الذهن حين يكون بمثابة متلق للعالم. وبالتالي يمثل موضوعا ديناميا ينتج  في الذهن بشكل سابق عن طريق تأمل المنتج في العالم. 2 مدار الحديث النصي: ويرتبط بالحكاية، ويماثل البنية الأولية للدلالة عند غريماس. 3 مدارات الحديث السردية، وتتصل بالتشعبات الدينامية والوصفية، وتتصل بوصف فعل تحول الحكاية إلى حبكة. 4، البنية الإظهارية، وهي التي تجسد وتثبت كل المراحل السابقة، وتحققها في المادة اللغوية التي تمنحها شكل الرواية.

تمثل هذه المستويات المراحل الأساسية للإنتاج الروائي في نموذج الباحث. وكما نلاحظ فهو يمنح للمنتج دورا مركزيا في الإنتاج في مستوى الدليل التفكري، الذي يتحدد في مستوى الإنتاج بوصفه سيرورة إدراكية، ينجزها المنتج انطلاقا من فعل تأمله في العالم، وهذا ما يشكل البعد الذريعي التداولي للدليل التفكري، حيث أن لحظة إدراك المنتج تتشكل في تماس مع نسق القيم وتكون محكومة بإنجاز غاية، تثبيت أو تغيير النسق، باعتبارهما فعلين إيديولوجيين. يطرح هذا الدور المركزي المنوط بالمنتج في عملية الإنتاج أسئلة ذات طبيعة إشكالية. كيف سنقارب مفهوم المنتج هل باعتباره مؤلفا واقعيا، أم باعتباره مؤلفا نموذجيا، أي إستراتيجية نصية بتعبير أمبرتو إيكو؟ وهل يعني التأكيد على قصدية المنتج (تصوره للعالم) أن النص إنتاج لنوايا المؤلف، أي لقصديته. ألا يترتب عن القول بقصدية المنتج السقوط فيما يسميه النقد الجديد بمغالطة القصدية، أي رهن دلالة النص بنوايا المؤلف. إن إنتاج النص هو في النهاية تفاعل مركب لقصدية المؤلف وقصدية النص وقصدية القارئ، وهو أيضا إنتاج لأنظمة واعية (القصدية) ولأنظمة غير واعية ( الرغبة، الصدفة..) إنه نتاج الوعي واللاوعي.

لقد شكل البحث في إشكال النموذج مغامرة بالنسبة للباحث محفوفة بالإغراءات والمخاطر. إنه يبحث في  الإشكال وفي إكراهاته، ويحاول أن يتلمس خطاطة له. والإشكال يعصى بطبيعته على النظام، لا يستقر و لا يذعن لحدود صارمة. إنه صيرورة انتهاكية تنتهك سلطة النموذج. وبالتالي يظل أي نموذج في مفارقة.  وقد تسلح الباحث بجرأته العلمية في تحريك إشكالات النموذج  ومواجهة إغراءاته وإغواءاته دون ادعاء بامتلاك حل سحري ، ابستيمولوجيا بموضعة النموذج في سياقه الأصلي في مستوى أولي، تشييدي محايث ، ثم إعادة صوغه حواريا في مستوى ثان، تفاعلي  في علاقة بنماذج مغايرة من خارج النسق، وبالتالي،ـ وهنا تكمن أهميته ـ فإن المفاهيم والتصورات التي يستعيرها لا يجردها من سياقها الأصلي، وإنما يعيد صياغتها ضمن شروط ابستيمولوجية ترسم حدود النموذج وضوابطه الممكنة في مجال النقد الروائي.  ومع ذلك يظل أي نموذج في مفارقة. إنه قدره الأبدي، وإلا لما حدثت  إبدالات وانتهاكات في النماذج.هذا ما يؤكده تاريخ العلم في سيناريوهات تحولاته وانقلاباته.

 



 عبد اللطيف محفوظ : آليات إنتاج النص الروائي، منشورات القلم ط1، 2006.[1]

 محمد الدغمومي: نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر، مطبعة النجاح الجديدة، منشورات كلية الآداب، الرباط، ط1، 1999، ص: 12.[2]

 نفسه، ص:12.[3]

 أميرتو إيكو: التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي،ط1، 200، ص:72.[4]