تدير الشاعرة العراقية حوارها النقدي الخلاق مع ديوان شعري جديد، تقدم له قراءة سيميائية تتغيا الكشف عن الفوارق بين الشعر النثري وقصيدة النثر، وتنطلق من عتبات النص المختلفة من العنوان والإهداء، ثم تقدم لنا تحليلها لسيميائية الشخوص والمكان والزمان والحدث وصولا إلى سيميائية الصورة الشعرية ذاتها.

الشعر النثري

«ما تكره الأمهات» أنموذجاً دراسة سيميائية

فليحة حسن

مدخل: الفرق بين قصيدة النثر والشعر النثري:
عرفت سوزان برنار ّ قصيدة النثر قائلة: إنها «قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور... خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية».وذهب بعضهم الى تميزها بـ(الإيجاز والمجانية والتوهج) - كما يقول انسي الحاج – الأمر الذي يجعلنا نرى إن كل ما يفترق عن هذا التعريف أو يجانب الصفات التي ُحددتْ لهذه القصيدة لا يدخل ضمنها بل يقع ضمن ما يسمى بالشعر النثري وهذا ما ميز النص الذي أنا بصدد دراسته واعني (ما تكره الأمهات) للشاعر علي خصباك،

سيميائية العنوان:
يعد العنوان واحد من المداخل الرئيسة في دراسة أيما نص أدبي والوقوف على اكتناه معناه حتى عد العنوان أداة مساعدة في سبر أغوار ذلك النص وانتهاك معانيه المخبوءة وتقديمها بجاهزية مقبولة للآخر المتلقي، والعنوان هنا ابتداء من استعمال اسم الموصول ما والذي يعني (الذي) مستعملاً مع الفعل المضارع (تكره) والذي من معانيه استمرارية الحدث يعطي للجملة تركيزاً على الذي تكرهه الأمهات وتستمر في كراهيتها له، ويغدو عنواناً يتمتع بقدرة على إثارة أسئلة عدة ابسطها ما الذي تكرهه الأمهات ؟ ومن الملاحظ أيضاً أن هذا العنوان هنا صار لازمة في أكثر من مفصل من مفاصل النص فتكرر فيه (خمس) مرات مما أعطاه القدرة على الحضور الاشعاعي الذي يمنح المعنى تجليا تنكشف لنا في نهاية النص دلالته المخبوءة، ويهدي المتلقي الى ما كان يسعى إليه الشاعر من عنوانه. وبذا يثبت لنا إن العنوان ليس عتبة يمكن تخطيها بسهولة المار عليها المخترق لها والوالج بها أمكنة الى غيرها بل هو جملة أولى مركزة مضغوط فيها المعنى الأهم في النص والتي لا يمكن تجاوزها الى ما سواها، وبما إن النص قد ُكتب للراحلين كما يشي الإهداء الذي قدمه الشاعر كعتبة تالية للعنوان "الى شهداء الحلة" فان الرحيل يتوجب على الشاعر أن يبتدئ بفعل يدل على زمن المضي ولذا استعمل الفعل (كان) مجردا أو مقترناً بتاء التأنيث الساكنة (كانت) في كل جمله بدئية نحو:
(كان البائع صديق الرصيف
كانت اليد الناعمة تتحسس وجيب القلب
كان المعلم يحمل على كتفيه قلق الزوجة
وكان الشاب الأسمر يحمل في جيبه طلسما
وكان مريض الربو يلج غرفة الحكيم
وكان الحكيم منهمكا بالعزف على قلوب قاصديه
وكان في الشارع كارثة تتسلل صوب
وكان الصبح يومئ لمن في المشهد..

كانت العصافير تطلق زقزقة... لا
كان ملائكة الرحمن منهمكين
بكتابة أسماء الشهداء.)

فبدا المشهد كما نقلته لنا عين الشاعر الرائي محتشدا بتفاصيل لحياة يومية ماضية ابتدأت أرضية واقعية وانتهت سماوية واقعة تحت رحمة الغيب (كان ملائكة الرحمن منهمكين بكتابة أسماء الشهداء).

سيميائية الشخوص:  
ولان أحداث النص – وكما اعتقد – مشاهدة أو معاشة من لدن الشاعر فانه لم يذهب الى صناعة شخصياته بل إن الشخصيات هي التي تسللت من مكان الحدث الفعلي متلفعة بما تحمل من قلق و أحلام ورؤى وأمانٍ تسعى لتحقيقها الى الصور الشعرية فيه، لا لتصنع المشهد صناعة بل لتنقله لنا وتحاكيه ولذا فان ما نراه في ارض الشارع من شخوص جاءت بكليتها لنص (على خصباك) لتعيد لنا تمثيل المشهد كما حدث فعلاً. والملاحظ إن غالبية هذه الشخوص يلفها الانتظار، انتظار ما يبدل حياتهم نحو ماهو مرغوب فيه ومطموح إليه أو يستأنفها بشكل أفضل متمثلة باستعمال الشاعر لمفردة (اللامانع)ا لتي جاءت هنا للتواصل مع حلم منشود قد يتحقق بالاقتران أو استئناف العمل أو مواصلة الحياة يقول:  (لا مانع من الاقتران) (لا مانع من العودة للوظيفة)، (لا مانع من شد أزر الحياة) هذا اللامانع جعله الشاعر يصدر عن الحكيم (بانتظار ما يقوله الحكيم) بمعنى إن كلمة اللا مانع السحرية تلك لابد أن تصدر من حكيم مطلع على بما يجب أن يحدث أو يكون، لذا فالجميع بدا منتظرا لـ(ما يقوله الحكيم) الذي وسمه الشاعر بالطهر والنقاء حين استعار للون طاولته البياض (الحكيم الذي لون منضدته البيضاء اللماعة بالطهر)

بينما استعار للكارثة صورا مركبة من المكر المرموز له بـ(عيني ذئب) والمخاتلة الملمح لها بـ(هيئة ضبع) ولحية افعوانية وقلب لا ينبض إلا بالموت ومن اجله
(وقلب خليط من سم وظلام وما تكره الأمهات
تنسل حاملة الثكل واليتم
وسكاكين تفرم الأجساد
وأمنيات شبقه متلهفة لرؤية الخراب)

سيميائية المكان:
مشهد النص ينقلنا الى مكان الواقعة التي تتضح ملامحه لنا ممسرحا داخل ثلاثة أمكنة:
الأول ملمحا له إلا وهو(المشفى)والذي لم يترك لنا الشاعر منفذا صريحا لولوجه غير الاستعانة بصورة شعرية جاءت في بداية النص مكنتنا من التعرف عليه حين قال:  (كان مريض الربو يلج غرفة الحكيم ليمنحه هواء نقيا للبقاء على قيد الأمل)
والثاني الشارع الذي جاء مصرحا به (لفظا)،(وكان في الشارع كارثة تتسلل صوب مشهد من يصارعون ما تكره الأمهات) و(محتوى) الذي دلت عليه مفردات:  (الصبح، العصافير، شط الحلة، النهر،البناية المجاورة)
والثالث المكنى عنه(بالجهة التي تغيب عندها الشمس) الجهة الظلامية التي رسمت المشهد مرتين مرة على ارض الواقع حين صنعت الموت وجاءت به كحقيقة حية معاشة ومستمرة

(ففي الجهة التي تغيب عندها الشمس أوقد زان شمعة ودعا مريديه)
و(وقبل أن يغادروا مكان الاحتفال جرى تبادل للزوجات،لإعداد أبناء زنا لارتكاب ما تكره الأمهات)
واخرى حين محاكاتها له تمثيلا (وجرى تمثيل المشهد كاملا وهم يطلقون ضحكاتهم العاهرة)

سيميائية الزمان:
المتمعن في زمن حدوث النص يراه زمنا مستمرا قابلا للتكرار اليومي فأفعالا مثل الترقب والانتظار والبحث عن لقمة العيش والصراع مع المرض و الموت المتشظي أفعال تتصف بالدوام في بلاد مخترقة كالعراق، غيران في النص دلالة لفظية تشير الى وقوعه صباحا (كان الصبح يومئ لمن في المشهد....لا) ذلك الصبح الذي يتحول سناه بضغطة زر الى ليل ورماد فيغدو(الدخان يكفن المنتظرين).

سيميائية الحدث:  
في نص كهذا نجد الحدث متداخلا مابين انتظار استئناف حيوات مختلفة لشخوص عدة استعمل لها الشاعر أفعالا حسية متوقعة وبسيطة متمثلة بـ(التحسس، الاقتران، الحمل، الولوج، المنح الانهماك، العزف، التسلل، التلهف، الاتكاء و الإمساك) وهي أفعال صورها الشاعر لشخوص نصه فأصبح ناقلا لها ليس أكثر بينما أعطى الفعل الأكبر للأشياء مستعملا تراسل الجواس فاستعار للصبح الإشارة (كان الصبح يومئ لمن في المشهد ....لا)، وللحلوى القول (الحلوى قالت ....لا) وللشط القدرة على الاضطراب ومنازعة الضفة (شط الحلة ينازع ضفتيه) وبذا أعطاها الفعل الأهم في نصه ربما ليخبرنا عن هامشية الإنسان وتلاشيه أمام حقيقة الموت وبقاء الأشياء (فتشظى المكان
هذه يد المعلم ماسكة كتاب العودة الى الوظيفة
....
خاتم ذهبي وسط بركة دم
الحلوى مطفأة فوق رأس بائعها على جهة الرصيف المقابل،

- أين مريض الربو ؟

بطاقة أحواله الشخصية حطت على البناية المجاورة)

فالموت لابد آت ولا تصلح لرده التمائم والرقى كما يقول الشاعر القديم:
 وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
والشاب الأسمر تشظى جسده رغم ما علق من رقية تقيه موته
 (وكان الشاب الأسمر يحمل في جيبه طلسما
 وضعته أمه حفاظا على ربيعه من الذبول)

وبين التشظي الذي امتد ليشمل المكان والزمان والشخوص على حد سواء

(تشظى المكان)، والصبح (أطره السم والظلام)، (وراح الدخان يكفن المنتظرين، والحديد والديناميت يتوزع على الأجساد)،

غير إن القراءة المتمعنة للنص تظهر لنا وجود فاصل بين الحدثين متمثل بعين الطفل الرائي الأول لما حدث وفي ذلك إشارة الى إن الشر لا يراه إلا نقيضه وهي هنا الطفل البراءة البكماء المستسلمة والتي لم تقو حتى على الإشارة الى ما تخفيه أجساد الدمار من نهاية فيتشظى أسوة بالآخرين

(وثمة طفل صغير متكئ الرأس على كتف الأم
صوب نظرته....أين الطفل...؟ـ سرقه تشظي الحديد،ـ لماذا الطفل...؟

ـ لمح الضبع وهو يهم بضغط أزرار ما تكره الأمهات.)
مع ذلك يصر الشاعر على وضعنا في تفاصيل مشهد(أطروه في لوحة رسمها أبناء الزنا والمشهد لم يكتمل) ويصر على تقديمه لنا غير مكتمل وهذا منطقي فمن اين للموت والدمار الكمال(والمشهد لم يكتمل، وان سار الدم نهرا بلا ضفتين، لم يكتمل المشهد...)

سيميائية الصورة الشعرية:
اعتمد الشاعر في هذا النص على عدة أنواع للصورة الشعرية منها ما يمكن أن نسميه بالصورة المشهدية الكلية المركبة والتي وقف الناقد شاكر النابلسي عندها في كتابه" مجنون التراب- دراسة في شعر وفكر محمود درويش" والتي وجد في دراسته لــ (25) نوعا من الصورة في شعر هذا الشاعر إنها مقسمة الى نوعين (الصورة الكلية والصورة الجزئية) حيث قال: (، ويمكن أن يرد المرء هذه الأنواع المتشعبة للصورة إلى نوعين فقط: الصورة المشهدية الكلية والصورة الجزئية.
 فـ(علي خصباك) هنا يستعين بالأدوات النقدية البلاغية كالتشبيه والاستعارة والكناية والرمز في التوصل إليها نحو:  
(وكان في الشارع كارثة تتسلل صوب
مشهد من يصارعون ما تكره الأمهات
كارثة لها عينا ذئب، وهيئة ضبع
وقلب خليط من سم وظلام وما تكره الأمهات
تنسل حاملة الثكل واليتم
وسكاكين تفرم الأجساد
وأمنيات شبقه متلهفة لرؤية الخراب)

إذ إن المتأمل لهذه الصورة يراها صورة شعرية مركبة تحاول أن تشير الى الموت وصناعه وتحذرنا منه، والأخرى ما تسمى بالصورة الوثيقة ذات التناسل الأفقي التي ترتبط بالمدركات الحسية فقد اعتمد فيها الشاعر على ما سمع وما رأى وأحس نحو قوله: (كانت العصافير تطلق زقزقة) أو (يد المعلم ماسكة بكتاب العودة للوظيفة)، وثالثة تنتمي الى ما يسمى بالصورة العمودية:  والذي عدها (غاستون باشلار) أساس الشعر حين يقول: "يخضع زمن الشعر لخط عمودي) وان الغاية منها هي عدم التوقف وجعل الشعر غير خاضع إلا للعلو والعمق فنرى الشاعر هنا يصور لنا مشهد الأمهات بعد الكارثة قائلا
لم يكتمل المشهد...
آه الأمهات... الأمهات..!
يدفن شعور الرؤوس بالدموع
ويطفئن العيون بالخيبة)

 فليس هناك دلالة أعمق على الثكل والفجيعة من دوام انهمار الدموع الى حد الانطفاء وقد افلح الشاعر في ذلك حين استخدامه للفعل المضارع (يدوف، ويطفئ) في تصوير الحدث واستمراره.