خلال عقد الستينات تأكدت "الاحتفالية" في نظرية المسرح، كمفهوم عقد الصلة بين ممارسة الفن المسرحي وتقاليد الفرجة الشعبية والأشكال شبه المسرحية في الممارسة المسرحية العربية، هنا يتناول المسرحي المغربي الاحتفاليات العربية المتنوعة، ليخلص للقول بقدرة الفنية الاحتفالية على التجدد كشرط مبدئي فيها.

نحو تأصيل للمسرح العربي

عندما تقول لنا المسارح العالمية بضاعنا ردّت الينا

عبد الكريم برشيد

هذا الذي نسميه المسرح الاحتفالي، هو اليوم جزء أساسي وحيوي التاريخ المعاصر، وقبل هذا، فهو فعل في التاريخ العام، وفي تاريخ المسرح الحديث ثانياً، ويبدأ هذا التاريخ ـ تجاوزاً ـ من بداية السبعينات من القرن الماضي، وبالتحديد من أكتوبر سنة 1970 عندما اقترحت على أستاذي موضوعاً لبحث التخرج من كلية الآداب بمدينة فاس، وكان الموضوع هو: "نحو تأصيل المسرح العربي".

هذا الأستاذ، هو اليوم حاضر بيننا، والذي هو د. حسن المنيعي، عضو لجنة التحكيم في المهرجان، ولقد كان شاهداً على مولد الإرهاصات الأولى لمسرح سيسمى بعد ذلك.. المسرح الاحتفالي.

لقد اقتنعت منذ ذلك التاريخ، بأن قراءة المسرح ـ في حد ذاته ـ لا يمكن أن تكون ذات قيمة إلا إذا كانت قراءة عامة وشاملة ومتعددة، وذلك بحكم أن هذا المسرح ـ الفن هو صورة مصغرة ـ أو مكبرة ـ لمسرح الوجود، والذي هو الأساس، وهو الأصل، وهو المبتدأ والمنتهى، وعليه، فإن قراءة هذا المسرح، وإعادة كتابته، لا يمكن أن تتم ـ وبشكل حقيقي ـ إلا بالاستعانة بكل العلوم، وبكل الفنون، ومن خلال الانطلاق أساساً من السؤال الفلسفي، وذلك لأن المسألة المسرحية ـ في دقتها وعمقها وغناها ـ لا يمكن مقاربتها بدون هذا السؤال الفلسفي المؤسس للمعرفة المسرحية الجديدة.

ولقد اقتنعت أيضاً، ومنذ البدء دائماً، بأن الأمر أكبر وأخطر ـ بالنسبة للإنسان العربي ـ من أن يكون مختزلاً في المعرفة المسرحية العامة، أو في القواعد المدرسية الشائعة والذائعة، أو في الدربة والممارسة الآلية، أي أن يعرف هذا المسرحي أسرار الصناعة المسرحية، وأن يكون ميكانيكياً فيها، بدل أن يعرف روح هذه الصناعة، وأن يكون مخترعاً فيها، وأن يعيد صياغتها صياغة أخرى جديدة، وذلك إنه لا يكفي أن يختزل المسرح في الأداء وفي الإلقاء وفي تأثيث الفضاء، وأن يتم هذا الفعل بدون وعي فكري، وبدون موقف نقدي، وبدون توجه ضدي، وبدون ثقافة تأسيسية.

إن الأساس إذن، هو تأسيس الصناعة المسرحية أولاً، أي تأسيس هذا المسرح المختلف والمخالف، وذلك انطلاقاً من شروطه الذاتية والموضوعية معاً، وانطلاقاً من سياقاته التاريخية، وانطلاقاً من خليته التي يحملها داخله، والتي هي أساس مولد كل مسارح العالم، وهذه الخلية المؤسسة لحياة المسرح هي: الاحتفال.

ولقد رافقني هم التأسيس ـ وإعادة التأسيس ـ عبر كل مسيرتي الفكرية والإبداعية، ولقد رأيت دائماً أن الأمر يتطلب القيام بفعل مزدوج ومركب، أي أن نبدع المسرح أولاً، نبدعه طقساً ونصاً وإخراجاً وفضاء، وأن نفكر بالمسرح وفي المسرح وبلغة المسرح ثانياً، وأن يكون هذا التفكير شيئاً يسمى الإبداع المسرحي، هذا بالإضافة إلى إيجاد شيء آخر يسمى الفكر المسرحي، أو يسمى العلم المسرحي، أو يسمى الفقه المسرحي، أو يسمى التنظير المسرحي، والذي يمكن أن يرقي ليصبح في درجة الفلسفة.

واقتنعت أيضاً، أنه لا يمكن تأسيس أي جديد من الفراغ، وذلك لأن كل وجود هو بالأساس تفكيك وتركيب، وهو إعادة تنظيم لشيء قديم، وآمنت بأن هذا الفعل التأسيسي لا يمكن أن ينوب عنا فيه الآخرون ليقيموه لنا، وذلك لأنه وجودنا، أو لأنه ظل وجودنا، أو لأنه عنوان وجودنا، وعليه، فإنه لا أحد يمكن أن يستعير وجوده إلا من ذاته ومن كينونته التي هي معطى وجودي، وإن هذا الوجود المسرحي الإضافي، هو الذي فكرت ـ فكرنا في تأسيسه دائماً، أو في إعادة تأسيسه، وبهذا، فقد كانت من مهام الإنسان العربي دائماً أن يتولى هذا الفعل الثقافي والحضاري، وأن يمارس المسرح الحق، وأن يؤسس المسرح الممكن، وأن يبدع الفكر المسرحي.

وعندما أقول الإنسان العربي، فذلك ليس من منطلق عرقي أو شوفيني، ولكن من منطلق أنه فاعل ثقافي وحضاري، وذلك إلى جانب كل الفاعلين الثقافيين والحضاريين في العالم، والذين قد تختلف بهم السبل، ولكنهم ـ في النهاية ـ يلتقون جميعهم في هذا النهر العظيم الذي يسمى الثقافة الإنسانية والكونية.

وهذا المسرح الذي سعينا إلى تأسيسه، لا يمكن أن يكون إلا مسرحاً حقيقياً، ولكي يكون كذلك، بشكل كامل ومتكامل، فقد كان مطالباً بأن يشبه مؤسسيه، وأن يشبه تاريخه، وجغرافيته، وأن يشبه فكره وفلسفته، وأن يشبه مناخه وطقسه، وأن يشبه الوجدان الشعبي العام الذي صدر عنه، ولكي يكون هذا المسرح أيضاً، إضافة فكرية وجمالية حقيقية، فقد كان ضرورياً أن يكون جديداً، روحاً وشكلاً، وذلك لأنه لا معنى لأن نعيد إنتاج ما تم إنتاجه في الثقافات الأخرى، وفي اللغات الأخرى، وبغير هذا الجديد الإبداعي، فسنجد كل مسارح العالم تقول لنا:

ـ تلك بضاعتنا ردت إلينا..

وأيضاً، فإنه لا معنى لأي فعل جديد إلا بالاختلاف وبالمخالفة، وبالتحدي والتجاوز، وأرى أن من مهام هذا المسرح الجديد أن يؤسس الإنسان الجديد أولاً، وأن يؤسس الواقع الجديد أيضاً، وأن يؤسس الفكر الجديد والفن الجديد والعلم الجديد والصناعة المسرحية الجديدة، وأن يؤسس الحس الأخلاقي الجديد، وأن يكون ـ إلى جانب كل هذا ـ مسرحاً حراً ومتحرراً، وأن تكون له رؤية ورؤيا، وأن يكون له موقف مما يرى، وأن يفسر، وأن يغير، وأن يجدد، وأن يطور، وأن يشاكس، وأن يشاغب، وأن ينتقد، وفي أعلى درجات النقد، يوجد النقد الذاتي دائماً، وأن يعارض أيضاً، وأن يفضح، وأن يعري، وأن يعلم، وأن يربي، وأن يمتع، وأن تكون متعته كاملة وشاملة، تمس الحواس وما وراء الحواس، وتمس العقل والوجدان والروح، وأن تكون بلك متعة إنسانية ومدنية، وليست متعة حيوانية وغابوية.

ولكي يكون هذا المسرح حراً، حرية حقيقية، فقد كان من الضروري أن يكون المجتمع حراً أيضاً، وبهذا قد كان دور هذا المسرح ـ المشروع أكبر وأخطر من أن يكون منحصراً في إنتاج الفرجة البصرية، والتي يمكن أن تنتج أحسن منها الكباريهات والمنتديات الليلية والقنوات التلفزيونية المتعددة، وذلك لأن الأساس هو إنتاج الحقيقة، وهو إنتاج المعرفة، وهو إنتاج الجمال، وهو إنتاج النظام، وهو تحرير الإرادة العامة في المجتمع، ولعل أخطر ما تقوله هذه الحقيقية، هو أن الإنسان حر أو لا يكون، مما يجعل مسرحنا مطالباً بأن يكون مسرحاً ثورياً، لأن من طبيعة الحقيقة أنها ثورية دائماً وأبداً، ولقد جاء هذا المسرح المشروع من أجل مراجعة كل الأعطاب والاختلالات، والتي هي أعطاب تتمثل في الفقر الفكري أولاً، وفي البؤس الجمالي ثانياً، وفي النقص الحاد في الديمقراطية والحرية ثالثاً، وفي التربية الجمالية رابعاً، وفي الرصيد المعرفي والفكري والفلسفي خامساً، وفي الفن العالم سادساً، وفي المخيلة سابعاً.

إن وجود مسرح ثوري، يحتاج بالأساس إلى تثوير المجتمع، ويحتاج إلى فكر ثوري، وهذا هو ما سعى إليه المسرح الاحتفالي دائماً، سواء من خلال بياناته، أو من خلال كتبه النظرية، أو من خلال إبداعاته، أو من خلال مواقفه الجريئة والمخاطرة، والتي يتداخل فيها الاجتماعي مع السياسي، ويتحاور فيها الفكري مع الفني، ويتجاور فيها المنهجي مع التقني، ومن المقولات الأساسية في هذا الفكر الاحتفالي نجد التأكيد على ما يلي:

ـ على أن المسرح أساساً هو (التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر).

ـ على أن هذا المسرح الاحتفالي يسعى إلى تحقيق (إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة).

ـ على أن الأصل في الإبداع الحقيقي هو أن ينطلق دائماً من النحن، ومن الآن، ومن الهنا، مما يدل على إن كل إبداع هو فعل إنساني وتاريخي وجغرافي، وعليه، فإن لا وجود لإبداع يمكن أن يتشكل في المطلق وفي الفراغ، وهو بالضرورة إبداعنا نحن ـ الآن ـ هنا، وعليه، فهو محكوم بأن يشبهنا وأن نشبهه، وأن يكون عنوان وجودنا، وعنوان عقلنا، وعنوان روحنا الخلاقة.

واليوم، وفي إطار هذه الندوة الفكرية الموسعة، والتي تدخل ضمن فعاليات الدورة الرابعة للمهرجان العربي للمسرح، والذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح بالشارقة، وذلك بالتعاون مع نقابة الفنانين الأردنيين، فقد اخترت أن تكون هذه المحطة علامة فارقة في تاريخ المسرح الاحتفالي، وأن تتوج بصدور بيانات ثلاثة في بيان واحد، وأن تكون تحت مسمى واحد هو "بيانات عمان للاحتفالية المتجددة"، وتتشكل بنية هذه البيانات في إطار العناوين الأساسية التالية:

ـ في البدء كانت الفكرة.

ـ مدخل البيانات: لابد من البيان وإن طال الزمان.

ـ البيان الأول: بيان الاحتفالية المتجددة.

ـ البيان الثاني: بيان الاحتفالية ومعضلة النقد.

ـ البيان الثالث: بيان ما معنى أن تكون احتفاليا؟

ويبقى أن يسأل السائلون: لماذا تأتي هذه الاحتفالية، وهي قديمة ـ نسبياً ـ وقد وضعت تحت مسمى الاحتفالية المتجددة؟

وهل معنى هذا أن هناك احتفاليات أخرى قديمة، أو هناك احتفاليات كانت جديدة، في يوم من الأيام، ثم تجاوزها الزمن، وأصبحت في ذمة التاريخ؟

يمكن أن أقول بأن هذه الاحتفالية ـ وبعنوانها هذا ـ هو اعتراف بأن هذه الاحتفالية لا تعترف بما هو قديم كلياً، ولا بما هو جديد بشكل مطلق، وهي تؤكد دائماً على أن الجديد مفهوم نسبي، والجديد جديد إلى متى؟ فهو إذن محدود، وكل محدود لا يعول عليه، خصوصاً في الإبداع، والذي هو قيم مطلقة، عابرة للقارات، وعابرة للزمن، ومخترقة لكل الفضاءات ولكل الأمكنة، نفس الشيء يمكن أن نقوله عن مفهوم الشباب، والذي يمكن قراءته قراءات ليس لها عد ولا حصر، فالشباب الفيزيائي محدود، وكل محدود لا يعول عليه، وهو شباب إلى متى؟

غداً لن يكون كذلك، أما الحقيقة الفنية والفكرية فهي جديدة ومتجددة دائماً.

وعليه، فإن هذه الاحتفالية لا تبحث عن الجديد في الأشياء والصور، وفي الكلمات والعبارات ـ في حد ذاتها ـ ولكنها تبحث عنها في الرؤية والرؤيا، والجديد الحقيقي هو ما تراه العين الجديدة جديداً، ولهذا، وحتى يظل هذا المسرح الاحتفالي محافظاً على روحه، ومحافظاً على إدهاشه، وعلى غرابته، فإنه لا يتوقف عن "اقتراف" فعل التجديد، أي تجديد وعيه، وتجديد إحساسه، وتجديد لغته، وتجديد خياله، وتجديد أبجديته، وتجديد مفرداته، وأن يرافق فعل التجديد هذا إشراقة كل صباح جديد، وهذا هو السر الذي جعل هذا المسرح يقطع أربعة عقود من حياته، وأن يكون له في كل عمر من أعماره حياة مختلفة ومغايرة، وأن يظهر بأسماء مختلفة أيضاً، وأن يكون اسمه في البدء المسرح الاحتفالي، وأن يكون بعد ذلك اسمه الواقعية الاحتفالية، وأن ينتقل إلى أن يصبح الاحتفالية، وأن تكون المرحلة الرابعة هي مرحلة الاحتفالية المتجددة.

هذه البيانات، ناقشها في الندوة مجموعة من كبار المسرحيين العرب، ومن النقاد ومن الدارسين والباحثين، ومن هؤلاء الفنان المسرحي المجدد خالد الطريفي، والذ هو واحد من مؤسسي مسرح الفوانيس في الأردن، وذلك إلى جانب كل من المسرحي نادر عمران والموسيقي المرحوم عامر ماضي، لقد تحدث عن السياق التاريخي الذي ظهرت فيه تجارب البيانات، وبيانات التجارب المسرحية المؤسسة والمجددة، ولقد ذكر بالحدث التاريخي الذي عرفته مدينة الرباط سنة 1984 وذلك بمناسبة انعقاد الدورة الأولى ـ والأخيرة ـ من مهرجان المسرح العربي المتنقل، والذي شهد توقيع بيان مشترك بين مسرح الفوانيس في الأردن وجماعة المسرح الاحتفالي بالمغرب.

كما ناقش هذه البيانات واحد من كبار المسرحيين في الإمارات العربية المتحدة، والذي هو الممثل والمخرج والباحث المسرحي د. حبيب غلوم، وقد طرح سؤالاً بخصوص الثابت والمتغير في رؤية الاحتفاليين إلى مشروعهم الفكري والجمالي، وذلك بعد مضي أربعة عقود على وجوده.

أما الباحث الجزائرية جميلة زكاي، فقد تساءلت عن نقاط التماس بين السياسي والفكري والجمالي في المشروع الاحتفالي.

أما شيخ الاحتفالية في المسرح السوداني، والذي هو الفنان الشامل علي مهدي، فقد أشار إلى البعد الروحي والصوفي في الثقافة السودانية بشكل عام، وفي المسرح السوداني بشكل خاص، ويمكن أن نشير إلى أن الاحتفالية قد اكتسبت أبعاداً أفريقية جميلة ونبيلة بفضل هذا المسرحي، وبفضل أبحاثه التي تصب كلها في إيجاد لغة مسرحية احتفالية بكر وعذراء، لغة تستمد حروفها ومفرداتها من العيد، ومن اليومي، ومن الطقس الديني، ومن المناخ العام، ومن الإيقاع الأفريقي، ومن الموروث الشعبي.

أما المخرج العراقي ـ الكردي د. فاضل جاف، فقد طرح أسئلة كثيرة بخصوص العلاقة الإشكالية بين التنظير والممارسة، وأيهما ينبغي أن يسبق، وأيهما ينبغي أن يلحق، وهذه الأسئلة هي التي ظلت الاحتفالية تجيب عنها على امتداد أربعة عقود.

أما د. عز الدين بونيت، المخرج والباحث المسرحي المغربي، فقد ناقش مسألة الاحتفالية ومعضلة النقد، كما ثمن هذا الإصرار على الوجود والتجدد، والذي هو خاصية أساسية في المشروع الاحتفالي.

 

*مداخلة الكاتب المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد في مهرجان عمان المسرحي