عبر تناصاته المضمرة مع الشاعر البرتغالي الشهير فرناندو بيسوا يكتب الشاعر المغربي غربته في مدينته، واغترابه عنها، وشوقه لها في آن. بينما يرافق تبعات علاقته الإشكالية بها إلى مثواها الأخير، لكنها ما أن تشتبك مع المدينة حتى تنهض من جديد صورا تدير حوارها معها، و وذكريات تضرب بجذورها فيها.

آخِرُ الكَلامِ

عبداللطيف الإدريسي

إلى الشاعر المغربي بوحمعة أشفري والكاتب اليمني حبيب سروري، في ذكرى مقامة مجانين العقلاء.

 

صَمْتٌ بارِدٌ كان يَخْرُقُ المدينةَ

- وأنا أُرافِقُ تَبِعاتي إلى مَثْواهُنَّ الأخير -

لمّا بَدَأَ آخرُ الكَلامِ يَتَساقَطُ مُبَعْثَراً

حُروفاً

مِنْ حِبْرٍ قاتِمٍ

مُلَطِّخاً فَضاءَها

مُخْتلِطاً بآخِر شُعاع يَلْوي هُناك عِنْدَ المغيب

مُكْتَسِياً رِداءَ العَتْمَةِ الأبَدِيّ.

 

ثَـيِّباً،

على دُجْيَةٍ وَأنينِ شِعْرٍ،

تَفيقُ المدينة؛

تَبِعاتي اللاّتي كُنَّ قَدْ دَخَلْنَ في سُباتٍ أَزَليّ

وَتَدَثَّرْنَ بِأشْلاءِ صَخبِ صَمتٍ نَبْعُهُ مِنْ وَراءِ تُخومِ الكَوْنِ،

لَنْ يَبُحْنَ بِذلك.

 

صارَ غِنائي وَأَنْغامُهُ

وَشِعْري وَأَوْزانُهَ

وَصارَت كُلُّ أَقْوالي الموْروثَةُ وَالمتَواتِرَةُ

الفِكرَةَ العُظْمى الافْتِراضِية

مِثْل مَدينَتي الفاضِلَة الافْتِراضِية

مِثْل أنانِية أنايَ الافْتِراضِية.

 

أُسامِرُ نهارَ المدينَةِ الحالِكِ من دُجْيَةِ لَيْلي

   في دُجيةِ ليلي

   لِدُجْيَة نَهاري.

أَحرسُ قَطيعَ البُرتغالي

الَّذي لم يحرِسْ قَطيعاً أبداً.

قَرَأْتُ قَصائِدَهُ الأزَلِيّة

نَقَشْتُ صُوَرَ رَوابيها الحضَرِيَّةِ بِالأسْوَد

عَلى جُدْرانِ المدينَةِ النائِمَةِ حَدَّ الديجور

اسْتَيْقظَتْ لها تَبِعاتي

- عَلى حينِ غِرَّة -

وَأَنا أَقْرَؤها

        فانْطَلَقَ صَوْتُ صَمْتي يَعْرُجُ ذاتي،      

يميلُ مرّةً ذاتَ اليَمينِ

وَأُخْرى ذاتَ اليَمينِ

راسماً هَكَذا حَلقَةً مُفْرَغَةً

ثُقوباً سَوْداءَ،

كُلّما ارْتطمَتْ بِصَخبِ صَمْتي

زادَ صَمْتي بُرودةً واكْتِساحاً لِلْمَدينةِ

نَزَّتِ المدينةُ بخاراً يابِساً

أَلْبَسَ تَبِعاتي ضَباباً كَثيفاً             

صَعَّبَ عَلَيَّ مخارِجَ الحُروفِ والرُّسومِ

 

أَضواءُ المدينةِ نائِمَةٌ

اعْتَمَدَتْ عَلى نورِ قَمَرٍ لا شَمْسَ له؛

 

مَصدَرُ كَلماتي بحروفها نُدَفُ الثلْجِ المكوِّنِ للصَّقيع الأبَدِيّ،

هذا الصّقيعُ الّذي طَوّقَ تَبِعاتي.

 

أَحْسَسْتُ شِعْري جَزيرةً مِنْ ثَلْجٍ شُلَّتْ عَنِ الحرَكَةِ لانْعِدامِ الماءِ،

عَرَفْتُ كَيْفَ يموتُ الماءُ

وَعَرَفْتُ عِنْدَ إحْياءِ الماءِ كَيْفَ تموتُ الأحْياء

وَكَيْفَ أمْسى شِعْري قاحلاً

وَتَبِعاتي طوالَ اليَوْمِ

هُناكَ في الظُّلْمَةِ

في زَهْوٍ وخُيَلاءَ

يَطْرَبْنَ لإيقاعاتِ دُفٍّ مجلْجَلٍ أَخْرسَ

تَوَلَّدَتْ عَنْها أشْعاري العَقيمَةُ.

 

وَأَنا أُرافِقُ تَبِعاتي عَلى نَغَماتٍ عَسْكَرِيَّة

إلى حَيْثُ مَثْواهُنَّ الأخير،

اكْتَشَفْتُ عُقْرَهُنَّ الخالِدَ

كَعُقْرِ الماءِ الجامِدِ،

إِذْ لا رَبيع وَلا أَزْهارَ فَوْقَ الجليدِ

عِنْدَما يَجْمُدُ الماءُ

يُصْبِحُ قاتِلاً

باتراً  كُلَّ الأحاسيس

وَالمعاني

وَالاسْتِعارات

بجَدْبِهِ هنا

بِقَحْلِهِ هناك

رغم بَلاغَةِ بَياضِ بَيْدائهِ القُدسِيّ.

 

وأنا أُرافِقُ تَبِعاتي إلى مَثْواهُنَّ الأخير

كانَتِ الجِرْذانُ تَقْرِضُ ما تَبَقّى مِنَ الحبْلِ الّذي يَرْبِطُني بِهِنَّ

فَلا وَزْنَ أَصبحَ يَفيضُ

ولا قافِيةَ صارَتْ تَسْتَقيمُ

ولا مَعاريجَ

وَلا بُروجَ

باتَتْ تَرْسُمُ شاراتِ الكُهّان والأنَبِياء.

 

وأنا أُرافِقُ تَبِعاتي إلى مَثْواهُنَّ الأَخير

كانَتْ مَدينتي قَدْ وَلّتْ بِأَضْوائها وَأَنْوارِ أَقْمارهِا

وَطَفَحَتْ مَدينتي بِأَدْراجٍ مِنْ سَديمٍ لَوْلَبِيٍّ

 

في حين كانَ آخرُ الكَلامِ يَسّاقَطُ !

 

بيزوس المحروسة – روان  31/12/2009 - 1/2010

 

شاعر من المغرب مقيم في فرنسا