يقدم لنا محرر (الكلمة) القاص المصري المرموق هنا من خلال التوازي السردي المرهف بين حياتين: عجوز في آخر العمر يتعثر في نسياناته وهو يحث الخطى نحو الموت، ومراهق في مقتبله مترع بالحياة والتوق للتحقق فيها، قادر على تخليقها حتى في موات فضاء الشقة الخاوية، التباسات الحياة المراوغة وقدرة الوهم على تخليق الواقع.

المفتاح

منتصر القفاش

كان يعيش بمفرده. تزوره ابنته مرة في الأسبوع. تطبخ له طعاما يكفيه حتى زيارتها التالية. رفض الذهاب للعيش معها. وجد إلحاحها الدائم على أن يأتي معها مجرد كلام. لو كانت بالفعل تريد انتقاله إلى شقتها لحضر زوجها معها بسيارته، وأصرا على عدم التحرك من مكانهما إلا إن غادر معهما. لكنها دائما كانت تلح عليه بنبرة توحي بـ "تعالى معايا ويحصل اللي يحصل".

كانت هي صاحبة الاقتراح بأن يوارب الشباك المطل على الشارع ليستطيع أحد القفز وفتح الباب له حينما ينسى المفتاح. اضطر لتنفيذ اقتراحها بعد تكراره كسر شراعة الباب وشرائه زجاجا لها في كل مرة. رفض تثبيت قطعة كرتون مكان الزجاج المكسور. كان يتحجج دائما باحتمال أن يسافر أو ينتقل إلى الإقامة مع ابنته. ماذا ستفعل قطعة كرتون في غيابه؟

منذ أن وارب الشباك صار يحس كلما خرج لشراء شيء أو لزيارة أحد الجيران أو لصرف معاشه بأنه سيعود ليجد الشقة مسروقة. لم ينشغل بتحديد أي الأشياء في شقته يدعو للسرقة. شقة بالدور الأرضي لا أحد فيها وشباكها موارب لا ينقصها سوى أن يقفز داخلها شخص ويسرقها. لم يقتنع جيرانه ولا ابنته بهذا الكلام. طمأنوه بطريقة جعلته يشعر باستهانتهم بمحتويات شقته، فازداد قلقه وثقته في إمكانية سرقتها بأكملها دون أن يحس الجيران. وأحيانا كان يعود قبل أن يكمل مشواره ليتأكد من عدم حدوث شيء. ويلمحه من يقفون في البلكونات وهو عائد بسرعة والمفتاح في يده وعينه مصوبة نحو شباكه ولا ينتبه لمن يسلم عليه. صارت كلمة مفتاح هي التي تخطر في بال الكثيرين عندما يرونه سواء كان خارجا من بيته أو عائدا إليه، وقد يتحسس أحدهم جيبه فور أن يراه ليتأكد من وجود المفتاح معه، أو يحكم قبضة يده على ميدالية المفاتيح.

تكرر نسيانه للمفتاح، وتكرر نداءه عليّ لأتولى مهمة القفز داخل الشقة وفتح الباب له. كان معتادا على أن ينادي على أحد أخوي، ومنذ أن وصلت لأقضي إجازة الصيف معهما كلفني أخي الكبير بتلك المهمة. وأعطاني عدة الشغل: كرسي بلاستيك أرفعه إلى أعلى وأنا نازل السلم ثم أقف عليه وأدخل يدي بين الضلفتين لأرفع المزلاج وأثب لأجلس على قاعدة الشباك ثم أقفز داخل الغرفة. في كل مرة كان يناديني فيها كنت أتخيل نفسي إما أحد الأبطال الذين يسرعون لنجدة شخص يستغيث بهم أو لصا يتسلل إلى الشقة في خفة، ويقضي على من يعترضون طريقه بضربات سريعة قاتلة. كنت أتقمص أحد الدورين فور سماعي نداءه. وأنزل السلم وأنا أصيح الصيحات المناسبة لكل دور، لكنها في الحقيقة كانت صيحة واحدة "يا. يا. يااااه" وأنا الوحيد الذي يعرف إن كان قائلها البطل أو المجرم. وحينما أدخل وأفاجأ بكثرة أعدائي كنت أتأخر ثواني في فتح الباب، ويعلو صوته "فيه حاجة؟" فأسرع بفتح الباب له وأنا أجهز على أخر شخص. وفي مرة إثر ضربة قوية من يدي كادت زهرية بها ورود بلاستيك أن تتهشم لولا التقاطي لها ووضعها في مكانها وأنا أراها كأس الانتصار. قال لي إنني على عكس ابن الجيران الذي كان يستعين به حينما يكون أخواي في الجامعة فقد كان دائما يكسر أو يوقع شيئا كلما قفز داخل الشقة. تخيلت ابن الجيران وهو لا يقضي على خصومه بسهولة واضطراره للاستعانة بشيء ليزيح عنه من يحاول خنقه أو قتله. خروجه من الشقة كان يعني أن أستعد لأؤدي مهمتي فور عودته. وكنت أشعر بالضيق حينما أجده لم ينس المفتاح ولم ينادِ عليّ. قال لي إنني أسرع من أخوي اللذين يحتاجان إلى أن يكرر نداءه. ويظل واقفا أمام الشباك في الشارع حتى ينزل أحدهما. وقال إنه سيأتي يوم لن يستطيع فيه دخول شقته التي عاش فيها معظم عمره. رددت عليه أن كثيرين من أبناء الجيران يتمنون لو نادى عليهم ليقفزوا، وفي أسوأ الأحوال يستطيع أن يكسر باب الشقة. ضحك "ياريت الحياة تبقى دايما سهلة".

أحسست أنه يقصد معنى آخر لم أفهمه. وقلت له إنه لا توجد شقة لا يمكن دخولها إلا إذا كانت بلا نوافذ ولا أبواب، فرد علي وقد اشتد ضحكه "ودي الشقة اللي حاسكنها في النهاية"  قالها وهو يحدق في عينيّ كأنني حللت لغزا مستحيلا دون أن أدري. ودفعتني كلماته إلى تخيل نفسي وأنا اقتحم مكانا بلا نوافذ ولا أبواب دون أن أحطم أي جزء من جدرانه. انشغالي بشقته جعلني أيضا أول من يشم رائحة الغاز. وأسرع في النزول وأظل أدق على بابه حتى يفتح لي، وأصرخ فيه "ريحة غاز"، فيسرع ليغلق البوتاجاز وقد بدأ بعض الجيران ينادونه ليحذروه . كنت أطرق بابه وفي نفس الوقت أتمنى ألا يفتح.  أتمنى أن تتاح لي فرصة القفز والاندفاع داخل الشقة دون قلق من وقوع أي شيء أو انكساره بسبب ضرباتي القاتلة، فمهما كانت الخسائر فإن الجميع سيفهمون أنها نتيجة اندفاعي لإيقاف تسريب الغاز.

كانت أمي تتوقع أن أمل بسرعة من الإجازة مع أخوي في القاهرة، فهما مشغولان بأصدقائهما ونادرا ما أخرج معهما. وكلما سألتني في التليفون إن كنت أحب الرجوع كنت أجيبها أن المكان هنا جميل جدا، وهناك أولاد كثيرون ألعب معهم ولم أخبرها بحكاية عم إبراهيم. في مرة ناداني. وقفزت بسرعة كالعادة داخل الغرفة من الشباك وانهمكت في قتل وضرب أعدائي. وكانت ضرباتي يومها أقوى من المعتاد لأعوض الفترة الطويلة التي مرت ولم ينادني فيها. فتحت باب الغرفة المفضي إلى الصالة وفي نفس الوقت كنت أوجه ضربة بقدمي لمن يترصدني خلف الباب وينوي أن يهشم رأسي. نجحت ضربتي لكن سمعت صرخة مازلت أسمعها حتى الآن. في هذا اليوم لم ينس عم محمود المفتاح فقط بل نسي أن ابنته موجودة في الشقة. واستقرت ضربتي بكل قوتها أسفل بطنها. وظلت تتأوه وهي مكومة على الأرض. وسبتني أنا واللي جابوني، بينما في الخارج عند باب الشقة كان عم إبراهيم يضحك بعدما ظن أن ابنته صرخت فزعا من وجودي، وظل يردد بصوت عال "أنا نسيت إنك جوه". أسرعت بفتح الباب له وأنا أتخيل الدماء ستتفجر من جسدها. واندفعت أصعد السلم وصرختها تدوي في أذني كأنها صرخات كل من وجهت لهم ضرباتي من قبل ولم يكن يسمعها غيري.