يقدم الأديب الأردني في مقالته مروحة من شخصيات محفوظ النسائية. يعمل على إضاءة دوافعها الغريزية والنفسية والاجتماعية ضمن شبكة العلاقات السردية، كما ويستبين علاقتها البنيوية مع تركيبة المجتمع المصري، وتواشج بعضها مع مفهوم المرأة بالمطلق.

نساء نجيب محفوظ

نايف النوايسة

بنى الروائي العربي العالمي نجيب محفوظ شبكة علاقات اجتماعية دقيقة في رواياته، ذات دلالات عديدة في الأبعاد الإنسانية، والاجتماعية الضيقة، والسياسية، والاقتصادية، والفكرية، إلى حد يمّكن المبدع أي مبدع من التقاط إشارات ذات وزن من فضاء هذا الروائي ليشرع في بناء أعمال إبداعية لها خصوصيتها، أي أن الإنجاز الضخم لنجيب محفوظ يغري بإعادة إنتاج بعض العناصر التي يراها المبدعون تملك القدرة على الإغواء.

للمرأة حضور قوي في شبكة نجيب محفوظ باعتبارها عنصراً مهما في حركة النص واعترف أنني من خلال قراءتي لبعض أعمال هذا الروائي قد دخلت في مناقشة كلية لها تعرضي لجزئية فيها هي المرأة بكافة نماذجها وسأحصر هذا الحديث في روايات محفوظ التالية: القاهرة الجديدة، خان الخليلي، زقاق المدق، السراب، بداية ونهاية، الثلاثية، أولاد حارتنا، اللص والكلاب، السمان والخريف، الطريق، الشحاذ، ثرثرة فوق النيل، ميرامار.

في رواياته التاريخية الأولى أولى نجيب محفوظ المرأة اهتمامه الواضح وبدا هذا الاهتمام في مطالبته بتعليم المرأة والتحاقها بالجامعة، وظهر ذلك جلياً حين التحقت أولى خمس فتيات لجامعة القاهرة وما قابل ذلك من استغراب لدى الجميع وبخاصة الطلبة الذين فوجئوا بوجود الطالبات بينهم، فذكرت رواية "القاهرة الجديدة "الحوار التالي حول هذا الحدث:

ـ هنَّ دفعة أولى من الجنس اللطيف وسيتبعهنَّ أخريات، الجامعة، موضة حديثة لا تلبث أن تنتشر، وإن غداً لناظره قريب.

ـ أتحسب أن فتياتنا يقبلن على الجامعة كما اقبلن على السينما مثلاً؟

وتحمل هذه الرواية وجهات الشارع المصري حول المرأة في الفترة التي كتبت فيها، فضلاً عن أنها تعكس التيارات الثقافية والفكرية والسياسية بهدف الرصد التاريخي الذكي لواقع حركة تحرر المرأة في مصر، ففي المناقشة التي جرت بين احمد بدير وعلي طه ومحجوب عبد الدائم ومأمون رضوان نقف على آراء أربعة نماذج من المستويات الفكرية في المرأة، فواحد يراها طمأنينة الدنيا وسبيل لطمأنينة الآخرة، وآخر يراها شريكة للرجل في الحياة وتقوم هذه الشركة على المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات، في حين يراها ثالث أنها صمام الأمان في خزان البخار، بينما يرى الرابع أن أرذل رجل بين الرجال يساوي امرأتين. إن هذا الرصد لواقع المرأة في المجتمع المصري نلمسه في القرية والمدينة، في المصنع والمكتب والمدرسة والجامعة، في البيت والشارع. وقد حرص نجيب محفوظ على ترسيم هذا الواقع في الأحياء الشعبية التي كان يتصيد فيها شخصياته مثلاً:

المعلم نونو في "خان الخليلي" والمعلم كرشة في "زقاق المدق" ومحمود أبو عباس في "ميرامار" عبّروا عن مواقفهم تجاه المرأة ؛ فأبو عباس لا يحترم آدمية المرأة ويشبهها بالحيوان لذلك رفضته "زهرة" البطلة الفلاحة وهذا تمرد منها على الحالة القمعية التي يمارسها الرجل، ورفضٌ للوصاية الظالمة عليها.

في رواياته التي نشرها بعد 1945، نلاحظ اقتراب نجيب محفوظ من الواقعية الحديثة التي تقوم على المعالجة الجادة للواقع المعاصر، وحسب أوبرباخ، بمعنى صعود فئات بشرية ذات وضع اجتماعي متدنٍ إلى مستوى أرفع وإدماجها في الأحداث العادية في مسار حركة التاريخ المعاصر على أن تظل الخلفية التاريخية لهذه الفئات غير مستقرة، وقام محفوظ بتصوير المرأة في روايات هذه الفترة وفق منظور هذا الاتجاه، إذا دخل الروائي الأحياء الشعبية باعتباره ناقداً اجتماعياً وسلّط نظره على الطبقة المتوسطة التي هي أساساً طبقته الاجتماعية التي ينتمي إليها.

اختار محفوظ شخصيات نسائية لها مشكلات عادية عاشتها معظم نساء مصر في هذه الفترة، ويقع دور الشخصية النسائية ضمن حركتها في المجتمع وتطور وضعها في إطار الحركة الصاعدة للحياة الاجتماعية في مصر المعاصرة.

الفتاة الجميلة إحسان شحاتة في "القاهرة الجديدة" خطيبة محب الاشتراكية علي طه متورطة في مأساة تجعلها في صراع دائم مع نفسها فهي ذات طموحات طبقية من جهة وهي واحدة من أسرة فقيرة متدنية المستوى إذ أن أمها "عاهرة" متزوجة من "قواد". وضع متمزق لهذه الفتاه بحيث جعلها حائرة بين الحب العفيف لعلي طه وبين إغراءات وسطها الأسري غير النظيف، وبالنتيجة لم تصمد إحسان في هذه المعمعة؛ فخطيبها مثالي جداً لم يستطع شدها وإنقاذها من هذه المعركة الفاصلة، وأسرتها المتورطة بالسوء أكثر إلحاحاً على إحسان لتعود إلى الوسط الذي نبتت فيه، فتنحرف الفتاة وتصبح عشيقة لواحد من الطبقة الأرستقراطية، هذا العشيق يورط سكرتيره محجوب عبد الدايم بالزواج من عشيقته إحسان بعد أن بان حملها، ليسترها من الفضيحة وتظل علاقته معها.

ويبين نجيب محفوظ أسباب الانحراف في هذه الصورة على لسان إحسان شحاتة في حديثها مع زوجها محجوب: "الذي اضطرني إلى الارتباط بكما معاً هو نفس ما جعلك تقبل هذا الزواج"، فالاضطرار هنا شيء واحد هو عدم قدرة الزوجين من الاختيار في مثل ظروفهما القاهرة.

في رواية "خان الخليلي" يفتح أمامنا نجيب محفوظ الحارة الشعبية بكل أعبائها المعيشية والاجتماعية ويضعنا أمام نوال، هذه الفتاة الهادئة المستسلمة التي تنتظر فرصتها في الزواج، هي شخصية عادية في الرواية لا تبني حدثاً ولا تحرك أحداث في مسيرة العمل الروائي، ولكن ـ كعادة نجيب محفوظ ـ نرى هذا النمط النسائي يخترق رتابة القطيع الذي يُسيّره راعٍ واحد، ففي الوقت الذي لم تصنع "نوال" فيه شيئاً بقيت ملتزمة بحركة القطيع المستسلم، غير أن حميدة في "زقاق المدق" تخرج على هذه الرتابة فتخترق العادات والتقاليد وتنعكس من خلالها الصراعات الدائرة داخل نفوس أهل الزقاق وداخل نفس حميدة نفسها، هذه الفتاه تتطلع من نافذتها فترى العالم يركض إلى الأمام إلا هي، إذ ترى نفسها لا تتجاوز حشرة قذرة ملتصقة بهذا الزقاق فيدفعها طموحها للتمرد، هذه هي الروح التي سادت مصر في فترة الأربعينات، هي مرحلة انتقال بعد الحرب العالمية الثانية، وتغيير جذري في منظومة العادات والتقاليد، وخروج تسوغه الحركة الصاعدة للخلاص من رتابة الحي وثقافة الحارة باتجاه الرحلة الحضارية الإنسانية بكل أعبائها.

وتصور حميدة زقاق المدق بهذه اللوحة من الصراع الداخلي الذي عاشته: "مرحباً بك يا زقاق الهنا والسعادة، دمت ودام أهلك الأحباء يا لحسن هذا المنظر، ويا لجمال هؤلاء الناس، ماذا أرى؟ هذه حسنية الفرانة جالسة على عتبة الفرن كالزكيبة عيناً على الأرغفة، وعيناً على "جعده" زوجها، والرجل يشتغل مخافة أن تنهال عليه لكماتها وركلاتها، هذا المعلم كرشة القهوجي متطامن الرأس كالنائم وما هو نائم، وعم كامل يغط في نومه، الذباب يرقص على صينية البسبوسة بلا رقيب، آه. هذا عباس الحلو يسرق النظر إلى النافذة في جمال ودلال، ولعله لا يشك في أن هذه النظرة سترميني عند قدميه أسيرة لهواه، أدركوني يا هوه قبل التلف. هذا هو الزقاق فلماذا لا تهمل حميدة شعرها حتى يقمل".

إن هذه السخرية الحادة من حميدة تعد المقدمة المنطقية للتمرد على قبضة الزقاق وبالتالي الخروج من قمقم ثقافة الحارة، بمعنى أن حميدة كما أرادها محفوظ طليعة ثورية في المجتمع المصري على السائد من القيم والعادات والتقاليد التي تكبل الإنسان المصري وتبعده عن دوائر المشاركة والتأثير في البناء الحضاري، لكن خروج حميدة لم يكن محصناً فوقعت في دائرة أخرى أقسى وأمر، هي دائرة الانحراف. وهذا أمر يكشف عن الأزمة السياسية والاقتصادية التي كانت تسود المجتمع المصري آنذاك ومن ضحايا هذه الأزمة "حميدة" كنموذج نسائي إنساني حاول اختراق الأزمة لكنه لم يستطع، فهي حالمة بعالم غير عالمها وانتماء غير انتمائها، ونسب غير نسبها

وفي رواية "السراب" دخلت المرأة في عالم نجيب محفوظ ميادين العمل فـ "رباب جبر" الموظفة ظلت متمسكة بوظيفتها رغم كل الظروف وهذا تطور ملحوظ على واقع المرأة الاجتماعي، أما زوج رباب فهو متعلق مرضياً بوالدته المطلقة التي أفسدت حياة ابنها فهو أيضاً غيور وعاجز جنسياً إلا أن رباب قاومت كل المثبطات التي وضعها زوجها "كمال" وأمه المتجبرة، وأدى الموقف المتحرر لرباب وتمسكها لعملها إلى أن تخرج على الأعراف السائدة ومن التقاليد الإسلامية بإقامتها علاقة غرامية مع رجل آخر غير زوجها، وهي بهذا الصنيع تسقط وتنهار وتفقد كل شيء حتى حياتها بعد عملية إجهاض فاشلة.

وتقوم نفيسة في رواية "نهاية وبداية" بما قامت به إحسان شحاته في "القاهرة الجديدة" وحميدة في "زقاق المدق" أي تجسيد الأزمة الحادة التي يمر بها المجتمع المصري آنذاك وبخاصة الطبقة المتوسطة التي تعيش حالة تمزق بين تقاليد تكاد تسقط وحياة مدنية تداهم طبقات المجتمع بكل قوة.

نفيسة فتاة شريفة بادئ الأمر، مات والدها واضطرت للعمل خارج البيت خياطة لإعالة أخوتها وأمها. وكانت في سن الثالثة والعشرين ذات جسد يمور بالرغبة ولكن على غير جمال. حاولت مع ابن الشغال لتتزوج فرفض والده فعاشت عنوسة قاتلة بكل توابعها النفسية والسلوكية فبحثت عن المتعة عن طريق البغاء في السر والخفاء، كل ذلك أدى بها إلى الانتحار كضحية للمنظومة الاجتماعية القاسية والتي تشير إلى انهيار الطبقة المتوسطة، ونلاحظ ميل نفيسة إلى السخرية من نفسها ومن الآخرين كقناع يخفي وراءه مرارتها وإخفاقها في الحياة، وتتجلى هذه السخرية بقولها: "ومن قال إنه لابد من الزواج؟؟"

وصورة المرأة في الثلاثية "بين القصرين"، "قصر الشوق"، و"السكرية" مرآة تعكس رؤية هذه الروائي تجاه الشخصية النسائية المصرية، ففي الجزء الأول من الثلاثية "بين القصرين" نرى هنية الزوجة الأولى للسيد أحمد عبد الجواد ذات الرغبات الجنسية الجامحة قد تحدت زوجها وطلقها، ويقابلها الزوجة الثانية أمينة وهي سيدة مسكينة خانعة ضيقة العقل محدودة الثقافة مستسلمة بلا شروط، أما ابنتها خديجة وهي الكبرى، فسمراء غير متناسقة الملامح ورثت عن أبيها صلفه وعن أمها قدراتها في الطبخ. وتبرز صورة عائشة ذات الستة عشر ربيعاً، مراهقة ورغبتها في التزين بلا حدود مع أنها جميلة، وهي شغوفة باختلاس النظر للمارة من وراء المشربية، هذه الشخصيات تظل في أدوارها المرسومة داخل الجزأين الآخرين "قصر الشوق" و"السكرية".

حرص نجيب محفوظ على إبراز ثلاث طبقات تنتمي إليها نساء الثلاثية؛ الطبقة الأرستقراطية وتمثلها عايدة شديد، المتعلمة المرفهة والتي تعرف مجموعة لغات ولا تعرف عن تاريخ مصر وحاضرها شيئاً وهي عشيقة كمال عبد الجواد. والطبقة المتوسطة وتمثلها أمينة وبناتها خديجة وعائشة وحفيداتها كريمة ونعيمة، وسوسن حماد زوجة الحفيد. والطبقة الشعبية وهي طبقة مسحوقة محرومة وتجسد هذه الطبقة الخادمتان أم حنفي ونور، والبغايا اللواتي يمارسن الرقص والغناء كتغطية لما يقمن به من حرام، لعل زنوبة أبرز هاتيك الشخصيات، وزوّجها نجيب محفوظ لياسين بن السيد احمد عبد الجواد من مطلقته هنية. في الثلاثية يبرز محفوظ صورة المرأة المصرية بكل ندوبها وأوجاعها مع الحفاظ على التطور التاريخي في بناء هذه الصورة.

وفي رواية "اللص والكلاب " يقدم نجيب محفوظ نموذجين للمرأة هما نبوية زوجة سعيد مهران، ونور الفتاة المومس عشيقة مهران، وفي هذه الرواية يعيش سعيد مهران أزمة حادة بين زوجته الخائنة التي يتأهب لينتقم منها ومن عشيقها، أما نور البغي التي حمته من مطاردة الكلاب/ الشرطة وموهت عليهم، وكانت راغبة به زوجاً، فإن مهران لم يكن يأبه بنظراتها المتوددة ولا بحبها له، على الرغم من موقفها الشريف منه ومغامرتها بحمايته ورفضها المكافأة السخية التي عرضتها الشرطة لقاء القبض أو الإرشاد على مخبأ مهران، وتختفي نور من حياة مهران دون أن يفصح محفوظ عن مصيرها أو مكان اختفائها.

وفي "السمان والخريف" يضع نجيب ثلاث شخصيات نسائية حول البطل عيسى، هي خطيبته الأولى ابنة عمه سلوى، وعشيقته البغي ريري، وزجته قدرية، فعيسى فقد وظيفته بعد أحداث ثورة 1952، فما كان من سلوى إلا أن فسخت الخطوبة فيبتعد عيسى عن وسطه الاجتماعي ليبحث له عن بيئة أخرى، فيسكن في الحي اليوناني في الإسكندرية حيث يقيم علاقة مع المومس ريري، وما إن اكتشف أن ريري حامل حتى بادر بطردها، ثم يلتقي قدرية والتي تكبره بالسن فيتزوجها ثم يتبين أنها عاقر، فيدخل دهليزاً من اليأس والإحباط لأنه بدأ يدرك حقيقة وضعه المأساوي، أي بلا ذرية ولا عمل ولا مستقبل.

كما تظهر ثلاث شخصيات نسائية في رواية "الطريق" أولاهن أم صابر وهي بغي يلجأ الكاتب إلى دورها ليكشف طرفاً من أسرار ومظان المجتمع المصري، وقبل أن تموت أم صابر نجدها تنادي ابنها بطل الرواية وتذكر له اسم والده الذي عليه أن يبحث عنه. وفي رحلة البحث يلتقي صابر بالمرأة الثانية "إلهام" وهي سكرتيرة الجريدة التي نشر فيها الإعلان الذي تضمن معلومات عن والده. والمرأة الثالثة هي كريمة زوجة صاحب الفندق الذي يسكن فيه صابر في القاهرة ويتعلق بالمرأتين ويقول المؤلف: "العقل ينصحه بأن يهجر إلهام ولكنه لم يستطع، هي كأبيه فيما تعد به، وفي أنها حلم عسير التحقيق، أما كريمة فامتداد حي لأمه فيما تهبه من متعة وحرية"؛ فإلهام أحد معالم الطريق أمام صابر في بحثه عن والده، لكن صابر انقاد للمرأة الأخرى "كريمة" التي أضاعت من تحت قدميه الطريق وجعلته يتعلق بها ويكف عن البحث عن والده وبيته في طرق أخرى من طرق الضياع كالإجرام، فما كان من كريمة إلا أن زينت لصابر قتل زوجها العجوز، الأمر الذي تقود به العاشق الغيور إلى المشنقة وبهذه الطريقة تكون قد تخلصت من الرجلين لترث المال وتستعيد حريتها، لكن صابر يدرك خطة هذه المرأة الشريرة فيقتلها. كانت كريمة السراب الخادع الذي قاد الراحل التائه إلى المهلكة المحتومة، وكأن محفوظ أراد أن يبين أن البحث عن الحقيقة لا يقود إلا إلى المزيد من الحيرة.

وتظهر المرأة في رواية "الشحاذ" على هيئة الشخصية النسائية زينب زوجة بطل الرواية الحمزاوي، وهي فتاة مسيحية، أحبت البطل فتزوجته وأسلمت وكانت وفية مخلصة لزوجها المحامي إخلاصاً شديداً، لكن البطل يتيه في طريق حياته حين يلتقي المومس وردة ويقيم معها علاقة، فيضيع الرجل بين المرأتين مع أن الأولى بقيت على إخلاصها الأمر الذي زاد في تمزق البطل وتشتته.

أما محور رواية "ثرثرة فوق النيل" فهو ثرثرة مجموعة من شخوص الرواية رجال ونساء في عوامة على أحد شواطئ النيل، وما يهمني هنا هو لجوء عدد من الشخصيات النسائية إلى هذه العوامة هرباً من جو القاهرة الخانق وحالة القمع التي كانت سائدة في الستينات ومن أهم نسوة هذه الرواية:

ليلى زيدان، التي قدمها نجيب محفوظ قائلاً: "الآنسة ليلى زيدان، خريجة الجامعة الأمريكية، مترجمة بالخارجية، جمال وثقافة إلى مركز باهر في تاريخ المرأة الرائدة في بلادنا، وعلى فكره فإن شعرها ذهبي حقيقة لا زيف فيه ولا صباغة".

إن تردد ليلى زيدان على العوامة هو بديل عن الأمومة والحياة العادية والزواج ولم تكن هذه العوامة حكراً على العازبات فقط، وإنما كان للمتزوجات نصيب فيها، فسنية كامل، كما يقول محفوظ: "من بنات الميردي دييه، زوجة وأم، امرأة ممتازة حقاً، وفي أوقات الكدر العائلي تعود إلى أصدقائها القدماء، سيدة مجربة عرفت الأنوثة عذراء وزوجاً وأماً، فهي تعد كنزاً من الخبرة للفتيات الصغيرات في عوامتنا".

والشخصية النسائية المتحررة الثالثة هي سمارة بهجت، صحفية شابة مهتمة بالمسرح، لا تتعاطى الحشيش لذلك يقع عليها دور مهم في مراقبة ما يجري داخل العوامة لسببين هما الأول: أنها صحفية، والثاني أنها بكامل يقظتها كونها غير واقعة تحت تأثير المخدرات، ويبدو أن نجيب محفوظ يعي تماماً ما يريد، فهو يزرع شخصياته في أعماله الروائية للهدف الذي يسعى إلى تحقيقه وهو إماطة اللثام عن تركيبة المجتمع المصري في كل المراحل، فهذه الصحفية تشبه إلى حد كبير سوسن حمادة في السكرية فكلاهما ترصدان الموضع الذي تواجدا فيه وتحاولان المساعدة وتسليط الضوء على حالات الوهم والأباطيل التي يعيشها هذا المجتمع.

أما زهرة في رواية "ميرامار"، فهي فلاحة شريفة ترحل إلى المدينة من الريف بحثاً عن لقمة العيش، وتعمل خادمة في بنسيون ميرامار، ويقع دورها في مراقبة ورصد ما يدور من حديث عن السياسة والمرحلة الانتقالية في مصر بين خمسة من الرجال مقيمين في البنسيون. وزهرة هنا هي رمز للفلاحة المصرية النظيفة المتطلعة للمستقبل بكل ثقة.

أما رواية "أولاد حارتنا" التي لها طابعها الخاص وتختلف كثيراً عن بقية رواياته؛ فالمرأة في هذه الرواية لها طابعها الخاص باعتبارها تمثل المرأة بصورة عامة وليست المرأة المصرية على وجه الخصوص؛ فأميمة فتاة سمراء وسيمة خفيفة الروح خرجت من ضلوع أدهم، ترعى زوجها رعاية فائقة وكذلك حماتها. كما تظهر في الرواية شخصية ثانية هي هدى هانم صاحبة النبرة العصبية المقطبة دائماً وتحرص على لبس الشال الأزرق، أما ابنتا البلقيطي "شفيقة وسيدة" فتلبسان جلبابين فاقعي الألوان وترتديان خمارين وهما نشيطتان، وماتت والدتهما منذ زمن وقامتا بمسؤولية رعاية والدهما، وتظهر شخصية الفتاة الحسناء ياسمينة وهي خائنة جريئة في وقاحتها، لا تأبه بمن حولها، ومن الشخصيات النسائية في الرواية عبدة وقمر التي تملك مالاً في حي الجرابيع ولها نعجة تسميها نعمة، وسكينة خادمة قمر، والفتاة الصغيرة بدرية التي تغار على قاسم من قمر.

ختاماً، ظهرت المرأة في روايات نجيب محفوظ على الهيئة التي أرادها الروائي، بحيث تخدم الرواية من جهة وتكشف جوانب من مراحل تطور المجمع المصري، فالمرأة هي أم وزوجة وابنة وخادمة و"عالمة أي بغي" وصحفية إلى آخره. أي أن الروائي جاء على كافة النماذج النسائية ليقرأ هذا المجتمع من وجهة النظر النسائية قراءة ملمة صحيحة.

هذه إضاءة سريعة لبعض جوانب التراث الروائي الضخم الذي تركة لنا نجيب محفوظ، ولعلي وفقت في هذا العرض.

مصادر الدراسة وروافدها:

1.  روايات الأديب نجيب محفوظ: "القاهرة الجديدة"، "خان الخليلي"، "زقاق المدق"، "السراب"، "بداية ونهاية"، (الثلاثية: "بين القصرين"، "قصر الشوق"، و"السكرية")، "أولاد حارتنا"، "اللص والكلاب"، "السمان والخريف"، "الطريق"، "الشحاذ"، "ثرثرة فوق النيل"، "ميرامار".

2.  سليمان، سعيد: توظيف التراث في رواية نجيب محفوظ، ط1، 2000.

3.  العشماوي، فوزية، المرأة في أدب نجيب محفوظ، ط1، 2002.

4.  الزهراء، فاطمة: الرمزية في أدب نجيب محفوظ، ط1، 1981.

5.  أبو العوف، عبد الرحمن: الرؤى المتغيرة في روايات نجيب محفوظ، 1991.

6.  بيومي، مصطفى، الفكاهة عند نجيب محفوظ، ط1 / 1994