يقدم الناقد المصري هنا دراسته للرواية التي نشرتها (الكلمة) في العدد الماضي، كاشفا عن أصلها التجنيسي الضارب في مجموعة قصصية لمؤلفها، وعن الوحدات السردية التي تتشكل منها بنيتها وعن العناصر مابعد الحداثية فيها وقدرتها على بلورة ذات تعاني بدورها من ملامح الذات مابعد الحداثية وإشكالياتها.

العناصر مابعد الحداثية في «شارع بسادة»

شوقي عبدالحميد يحيى

كثيرة هي الأعمال التي بدأت كقصة قصيرة وتحول بها كاتبها إلي عمل أكبر، غالبا عمل روائي، وأحيانا، عمل مسرحي، وقد يتم المزج بينهما – الرواية والمسرحية - مثلما فعل توفيق الحكيم في (بنك القلق) والتي أطلق عليها "مسرواية". حيث من الممكن أن يشعر الكاتب بأن الفكرة أو الرؤية التي أرادها تحتمل مساحة كتابية أكبر من مساحة القصة القصيرة، أو أن لديه في ذات الفكرة، أو الرؤية، ما لم يوفه حقه بعد. أما أن تتحول مجموعة قصصية إلي رواية، فهذا هو الجديد في العمل الروائي الثاني (شارع بسادة) في سلسلة أعمال سيد الوكيل، والتي هي من قبل مجموعته القصصية (مثل واحد آخر). الأمر الذي يثير العديد من الأسئلة والعديد من الإشكاليات، حول حدود النوع الأدبي، وحدود التجريب الإبداعي، إن كان له حدود، وحدود حرية الكاتب في التصرف فيما صدر له من إبداع وأصبح بين يدي القارئ، وهل له أن يعدل فيه، أم أنه أصبح ملك الغير وليس له حق عليه، ثم ماذا يعني ذلك بالنسبة للكاتب ذاته؟

 من البداية، يجب التسليم بمجموعة من النقاط التي نراها قد أصبحت مسلمات، وهي في ذات الوقت ما ستقوم عليها دراستنا لشارع بسادة، في حضور من الكاتب وزمنه وما كتب:

1 - أن تعريفا جامعا مانعا لأي من الأجناس الأدبية لم يوجد بعد، غير أن ترك الأمور بلا مبادئ أساسية، يحيل الشيء إلي الفوضى في ظل الاستسهال من قبل البعض، وهو ما حدث بالفعل في ما سمي بقصيدة النثر، والتي لم أعلم بعد إلي أي جنس تنتسب. إلا أنه في حالتنا هنا فإن العلاقة قائمة بين القصة القصيرة والرواية.

 2 - أننا أمام كاتب قد دأب علي التجريب والتجريد في أعماله، فها نحن نستطيع أن نقول أن سيد الوكيل، يلاعب قارئه، فيحول المجموعة القصصية إلي رواية، وهو بعد لم يغادر القصة القصيرة. فإذا كان الأسد هو مجموعة من الخراف المهضومة، كما يقولون، فإن الرواية هي مجموعة من القصص القصيرة الملضومة. فقد أجري سيد الوكيل علي مجموعته (مثل واحد آخر) بعض الإضافات التي تربط القصص ببعضها وتقيم ذلك الحوار بينها، إلا أنها لازالت تدور في فلك اللحظة، التي هي جوهر القصة القصيرة

3 – أن الكاتب سيد الوكيل، يتابع بدأب كل جديد في مجالي القصة القصيرة والرواية، ويلم بكل ما دخلهما من محاولات التجديد والثورة، وبحس يضمر السخرية – وربما الاستهانة – بتلك التقاليع الكتابية أراد أن يخرج بتجربة غير مسبوقة – علي حد علمنا ومطالعتنا المتواضعة – قائلا لهؤلاء وأولئك: بإدخال القليل جدا من الإضافات، أستطيع أن أصنع من المجموعة، رواية (سواء كانت نوفيلا، أو رواية طويلة).

 وعلي الرغم من صعوبة تحديد حدود قاطعة تفصل بين كل من الجنسين (القصة القصيرة والرواية)، إلا أن تصورا قد يحدد إلي حد ما الفارق بينهما، رغم التشابهات الكثيرة. ذلك إذا تمثلنا القصة القصيرة بالصورة الفتوغرافية. إي بالصورة الثابتة، رغم ما يمكن استشفافه من حركة داخلية في عناصرها. وصورنا الرواية علي أنها الصورة المتحركة، الصورة الفلمية. وذلك التصور هو ما قد نفرق به بين عملي سيد الوكيل (مثل واحد آخر) المجموعة، و (شارع بسادة) الرواية. فإذا كنا قد تصورنا – في دراسة سابقة – أن مجموعة (مثل واحد آخر) ترصد تفتح الحواس، ونقول الآن أن ذلك كان في لحظات ساكنة، أي في لحظات التفتح، فإن (شارع بسادة) تتبع تلك الحواس فيما هو أبعد من اللحظة. حيث يمتد الزمن بشخوصها إلي مراحل عمرية متأخرة، وإن لم يفارقها ذاك الإحساس بتلك الحواس.

فمن العنوان في الرواية، يواجهنا الاتساع، والامتداد، بما توحيه كلمة "شارع" وما يؤديه الإتيان بها غير معرفة، لتظل كلمة شارع مشاع. غير أنه لا يلبث أن يقيدنا معه بالتحديد الذي يأتي من اسم "بساده". وكأنه يريد أن يوحي لنا بأن الفضاء متسع، لكنني أريدكم هنا بالتحديد، في هذا الشارع تحديدا، ولتتابعوا معي ذلك الولد البدين، وما دار معه في نفق الحياة المظلم، وكيف غاب عن نفسه وعن جسمه. وقد لا أكون متعنتا إن قلت أن سيد الوكيل أرادها رواية في شارع، وقصة قصيرة في بسادة. وربما زاد الأمر وضوحا إن لاحظنا أن نهايات الرواية لا تبتعد كثيرا عن بداياتها – حيث تتم الحركة في الداخل. ففي البداية نتعرف علي الزمان – الثامنة والنصف من مساء الجمعة، حيث يصدق الشيخ عبد الباسط عبد الصمد بعد التلاوة اليومية - والزمان هنا يوحي ببدايات دخول الليل، دخول العتمة، أو المنطقة الضبابية، مستشهدين بالجدة في بداية الصفحات التي تنعس في أثناء التلاوة، أي أنها ما بين اليقظة والنوم. والمكان، نفق المحطة، وهو هنا أيضا يوحي بذات الشعور الذي يحي به الزمن، فالنفق هنا هو الواصل بين المحطة، والتركيز هنا علي الوصول، أي أن النفق هو ذلك المكان الآخذ في العتمة، والواصل بين محطة الوصول، والشارع "شارع بسادة". ذلك الذي ينتهي بالدير، بينما بدأ بالتلاوة. وهو الأمر الذي يفجر السؤال أيضا هنا، ويدعو للتأمل.

 ونتعرف في هذا النفق علي العربجي رجب، وحصانه البني بالغرة البيضاء، ومن البداية يؤكد السارد علي أهمية هذا الحصان الذي يدعوه العربجي رجب بـ(النجس) لممارسته الجسدية لمجرد إحساسه بالدفء، إلي جانب أهميته – الحصان – في الشهادة علي علاقة العشق غير المكتملة بين الولد البدين، وزينب سليمان، فضلا عما للحصان من قيمة رمزية جنسية – في مجال الأحلام. ثم كلاهما – العربجي والحصان – في مهمة محددة، هي انتظار رجل (يقول الناس له) الحاج وهدان ص 8، بينما نتعرف في النهايات بأنه ليس الحاج وهدان تحديدا، إلا في نظر الآخرين، بينما هو في الحقيقة ابنه – ابن الحاج وهدان – فهو سمير وهدان. كل ذلك يدعوا للتأمل، وللاستخدام كمفاتيح للدخول إلي عالم الرواية التحتي.

وفي نهايات الرواية ص 91، نعود لنجد أنفسنا لم نزل في ذات المشهد، في النفق المظلم والعربجي رجب وحصانه البني بالغرة البيضاء، لم يزل ينتظر من (يقول الناس عنه) الحاج وهدان. غير أننا في ذات الوقت نكون قد تحركنا عشرات السنين، وكأن تلك السنين قد مرت عبر شاشة سينمائية، فتحرك الزمن أمامنا بينما نحن جلوس في أماكننا، وهي الأقرب إلي تقنية القصة القصيرة منها إلي تقنية الرواية، وكأن سيد الوكيل صنع من المجموعة القصصية (مثل واحد آخر) قصة قصيرة واحدة هي (شارع بسادة).

ونعود للحظة النهاية، والتي هي ذات مشهد البداية، ولكنا نتعرف علي أن من (يقول الناس عنه الحاج وهدان) ليس الحاج وهدان، إذ يقول هو عن نفسه:

{اسمي سمير

سمير وليس وهدان.

وهدان هذا اسم أبي

لماذا يتجاهل الناس اسمي وينادونني باسم أبي؟

ألم يكفهم أنه لخبط كل حياتي؟ سجنني في جسد ليس جسدي، جسده هو، فلماذا تسجنونني في اسمه أيضا ؟}. وتلك بؤرة الرواية – في نظرنا. حيث تستحضر الفقرة قولة أبي العلاء المعري "هذا ما جناه عليَ أبي، وما جنيت علي أحد". فلنعد إلي البداية، بحثا عن البداية. تلك التي تتمثل في:

{هذا القطار كان دائما يأتي بغرباء هذه البلدة.

ذات مرة جاء بولد في الثانية عشرة، بدين وخجول، يرتدي "شورت" قصير وصندل، ممسك بحقيبة من الورق المقوي، جاء بصحبة امرأة جميلة تشبه هدي سلطان. المصادفات وحدها تلعب دورا كبيرا في حياة الغرباء، ففي العربة الأخيرة من نفس القطار الذي جاء فيه الولد الخجول وأمه، جلس رجل وبجواره طفلة خمرية ونحيلة بفستان منقوش وقصير وشعر كخواتم كستنائية}(1). فهنا نتعرف علي الطفولة البعيدة التي هي السبورة البشرية التي يخط المحيطون خطوطهم عليها. طفل صغير، وجميل، ولأم جميلة، غير أنها تتركه وحيدا مع جدته العجوز، والتي لن تستطيع بالطبع مباشرته ومتابعته، تتركه أمه نهبا لأطفال في بيئة غير سوية، وبعد أن جاء وحيدا كولد وسط أخوات عديدات، تتطبع بطبعهن، فنشأ ولديه إحساس قوي، بانه سميرة وهدان، وليس سميروهدان، فعاش بين الناس رجلا، وبينه وبين نفسه عاش امرأة، حيث ظلت كل أحاسيسه، أحاسيس امرأة.

تقنية السرد المابعد حداثي

أ - إزاء التطورات المتسارعة مع الزمن، بداية من قبيل منتصف القرن الماضي – القرن العشرين – وتزايد سرعته اللاهثة في أواخره، شعر الإنسان الفرد بالانسحاق، وربما التلاشي، ولم يعد الكائن الفرد يشعر بوجوده المتحقق، وهو ما انعكس بالضرورة علي الإنسان المبدع عامة، والروائي خاصة. فتشظت الحكاية، وتشظى الزمان، وربما غاب المكان، وابتعدت الرواية عن التصاعد المنطقي، وربما ابتعدت عن المنطق أساسا. وهذا بالتحديد ما بدأ في التصاعد والظهور في نهايات العقد الأول من هذا القرن – الواحد والعشرين – ونعني به غياب المنطق وغياب السببية. وهو ما ظهر بشكل ما في الفترة الأخيرة في (ملاك الفرصة الأخيرة) لسعيد نوح، و(عشق البنات) لهويدا صالح، وها هو أيضا – وإن بصورة أقرب للسخرية – يتجلى بشكل أكبر في (شارع بسادة) – والذين يجمعهم مجموعة من الروابط، أقلها الرابط الجغرافي - حيث يقوم علي مجموعة من الوحدات السردية المتجاورة، قائمة علي مجموعة من الشخوص النابعة في الأساس من شخصية واحدة، هي شخصية الولد البدين الآتي في قطار بدايات الليلة في الليلة الأخيرة من العام.

فعلي الرغم من أنه أتي مع الولد البدين في نفس القطار "زينب سليمان" والتي تلعب دورا في تفتح مسام ليس الولد البدين فحسب، وإنما في تفتح حواس أولاد الشارع جميعهم، وعلي الرغم من بدايات الولد البدين الرومانسية معها، حيث يضع الورود لها في الكتاب، كشأن الأولاد في هذا العمر، إلا أن العلاقة، لا تثمر إلا على تفتح الحواس، عندما تلفحها الشمس بدفئها فتتوهج نجومها، وتثير الأولاد. وهو أحد خصائص الفترة، وما يطلق عليه رواية ما بعد الحداثة، وهي في ذات الوقت أحد الخطوط الشفافة التي تلضم الوحدات السردية المتجاورة، والتي بكثير من التأمل نستبين منها العلاقة غير المرئية التي تصنع رؤى كلية لمجموعة الوحدات، وتصنع منها الرواية، فارقة عن المجموعة القصصية التي قد تظل وحداتها مستقلة عن بعضها البعض.

فيمكن تقسيم الرواية – علي صغرها – إلي ست وحدات سردية علي النحو الأتي:

1 – الولد البدين الذي صار رجلا يرسم الوجوه علي الحوائط الطينية. ونلمح تفتح حواسه المادية حين يتحدث السارد عنه وزينب سليمان التي كانت في نفس القطار القادم لشارع بسادة – الفضاء الروائي - في: {في الجنازة سيصافح امرأة خمرية ونحيلة. سيذكرها بأيام المدرسة ودروس الحصص الخصوصية، ورحلة القناطر في شم النسيم، وورود وأغان دسها في حقيبتها المدرسية، لكنه لن يكاشفها بلحظات اشتهائه الأولي لها. فيما بعد سيتعلم كيف يكتب ذلك علي الورق، غير أنه لم يحدث أن قرأته ولو لمرة واحدة.}(2) وهنا نلحظ أن الجانب الرومانسي – الورود والأغاني - ظهرت للسطح، بينما الجانب الحسي – الاشتهاء – ظل في الظل، وهو ما يتفق مع الزمان والمكان السابق الإشارة إليهما، وهو النفق المظلم – في الثامنة والنصف – وكونه في مستوي أقل من مستوي السطح العادي. كما نلحظ الإشارة علي تحول هذه الأحلام – المسكوت عنها – إلي كتابة علي الورق، والمتمثلة في حيوات الشخوص المتخيلة، والتي سيرد ذكرها.

2 – زينب سليمان. تلك التي رافقت بداية الرحلة أو العودة إلي شارع بسادة، وهي من الشخصيات القليلة التي كانت حقيقية، وهي التي كانت محور تفتح الحواس كما شهدنا تفتح حواسها أيضا: {وبث في جسد زينب صهدا لذيذا، وهمس في أذنها أن دعي أصابع علي تتسلل تحت فستانها. هكذا تمس النار فخذيها مسا رقيقا ومرتعشا، فلا تقول زينب شيئا، فقط تغمض عينيها وتختلج لما تصعد النار إلي شفتيها.}(3)

3 – علي الذي رفض الحب المثلي – طبقا للظاهر – كما سيتضح فيما بعد – مع سيد وهدان، بعد ما تفتحت أحاسيسه ومارس الحب مع مارسا وشكلا معا ومعهما زوجها ناشد وحدة سردية أخري أو حلقة من الحلقات حول الولد البدين: {في الليالي التي يأتي فيها بصحبة ناشد، كان علي يلمسها عن قصد، ويلتصق بها حتي أحست عضوه ينتفض بين ردفيها فلا تعرف كيف تمكنت من صعود السلم، ولا كيف ملكت أعصابها حتي وضعت ناشد في سريره، وفي ليال أخر كانت تتفادي لمساته التي ظنتها عن غير قصد، حتي ليلة أخيرة تسلل فيها ضوء القمر، وأضاء بضع درجات من سلم البيت، فكانت مهيأة تماما للمسة واحدة، لمسة واحدة لنهد مؤرق فوق قبلها تماما.}(4)

4 – سيدة آلاجا ورجالها والولد النحيف الساقين، وهذه الوحدة تحديدا أكثر الوحدات تصاعدا مع الزمن، حيث تقترب من الصورة الحركية، أو من الشكل الروائي، إذ نتعرف علي سيدة (القحبة) وهي في زهرة شبابها، وكيف تمنح وتستمتع بلذة الحاسة، ونتعرف عليها وقد عشيت عيناها ولم تعد بقادرة علي منح المتعة أو الاستمتاع بها، بل تعيش علي الذكريات مع بعض ما تبقي من رجالها، أبناء السوق. وأيضا نتعرف معها علي الولد ذو الساقين النحيفتين التي اشترت له (سبت) وأطلقته لبيع السوداني، بينما هي في الحقيقة أطلقته للمتعة، لمن أراد مجرد التمهيد لمضاجعة بيتية ناجحة، وكأنها السوبر مارت الحاوي لأشكال المتعة.

5 – ثم العربجي "رجب" وحصانه البني بالغرة البيضاء، ومعهما من يقول الناس عنه "الحاج وهدان" وما هو بالحاج وهدان، وإنما هو في الظاهر سعيد وهدان، وفي الباطن وما يحسه في نفسه "سعيدة وهدان" وثلاثتهم – أيضا نموذج للشهوة والاشتهاء. حيث نري رجب العربجي: {فسيبقي قليلا في انتظار رجل لم يظهر بعد، مع أن رجب جاء خصيصا من أجله. سيغفو قليلا فوق عريشته، وسيحلم، غالبا، بوجبة عشاء دسمة ومضاجعة خرافية تعوض خيباته السابقة.}(5) وحتي الحصان، إلي جانب رمزيته – كما سبق وقلنا – فهو أيضا لم يفلت من تفتح اللذة الحسية: {إنه وقت كاف ليستمتع الحصان البني بعادته السرية سعيا وراء لحظة قذف هائلة.}(6) {أما حصان رجب، وكان أقربهم للنار، فكان منتشيا جدا، حتي أن عضوه تمدد فراح يضرب به بطنه في حماس.}(7)

ثم سمير وهدان، ذلك الذي هو رجل في التكوينات الجسمانية، وامرأة في الأحاسيس والمشاعر، حتي أنه لا يطلب الرغبة المثلية السالبة، وإنما يبحث عن الدفء الإنساني في أحضان رجب، والذي لم تفارقه غيرة المرأة المعروفة، فوشي بعليّ عندما عرف أنه هجره لمارسا، فكانت النتيجة هي الموت، موت علي على يد زوج مارسا، وكأنها الغيرة القاتلة التي اشتهرت بها المرأة. ولقد بلغ صدق المنولوج الذي خاطب به سمير وهدان نفسه حدا كبيرا بلغ ذروته في التعبير عن الرغبة في إشباع الحواس في: {حملنا اللوري يا حاج .. العتالون يريدون عرقهم يا حاج .. المخزن محتاج بضاعة يا حاج .. يلعن أبو الحاج. لأبو أيامكم السودة. ما حدش حاسس باللي أنا فيه.. ما حدش فاهمني، أنا مش خول يا جماعة. أنا محتاج إنسان يفهمني. واحد يبقي صاحبي .. صاحبي بجد .. يحبني وأحبه.}(8)

6 – الوحدة السادسة، والأخيرة في مجموعة الدوائر المحلقة كالنجوم حول الشمس/ الولد البدين، هي نادية. تلك الطفلة التي لعبت مع الأولاد، ومد الطويل فيهم يده إلي حبات التوت في جسدها، فأيقظ شيئا لم تدركه، لكنها لمزيد من الاكتشاف، استسلمت للضرير خادم المسجد في ميضة المسجد متأملة { كيف احتواها وهدهدها باشتهاء أبوي حتي هدأت في حضنه مثل قطة ضالة، واستسلمت لأصابعه تتحسسها، وتلمس أوتارها حتي تصدح بالرنين}.(9) حتي الجدة التي لم تمثل وحدة مستقلة، لم تسلم هي أيضا من تلك الرغبة الساعية للتحقق عندما كانت تستنيم لذلك الملاك الذي يقبله كلما نعست، ثم عندما رأته يزور المكان من أجل حفيدها، تنعته بـ(العيل)، وكأنها تعاتبه في دلال ورغبة. تلك الجدة، ونادية، ومن ساقهم السارد في بدايات الرواية، موظف السجل المدني، مدير بنك ناصر، مدرب فريق مصنع الغزل، وشيخ المعهد الأزهري، ورغم محاولات الكاتب أن يرسم لهم (بورتريهات  في محاولة لخلق شخصية، إلا أنهم يظلون (عشوائيين) فلم نستطع بالمنطق التقليدي أن نجد لهم دور محدد، أو تشابك مع الشخصيات الأخرى لتصنع فعلا، إلا أنهم يظلون بلا فاعلية. وهي العشوائية التي يقول "ليبتوفسكي" إنها أحد عناصر مابعد الحداثي في الرواية.

ب - كان من الممكن ألا تتمكن الرواية مابعد الحداثية، من الإمساك بالقارئ، إزاء تلك العشوائية المشار إليها، وانهيار الحبكة، وغياب الفعل. لذا استعانت الرواية، واستعان سيد الوكيل، لتخطي تلك العقبة، واستعادة الإمساك بالقارئ بطريقتين:

1 – تعدد مستوايات اللغة، والتي تمثل الصعود والهبوط فيما يخلق نوعا من الحركية الدرامية، الجاذبة للقارئ. فبينما تسير اللغة عربية مُعربة، نجدها فجأة تهبط بلفظ إلي مستوي الشارع، وكأنها المطب في سطح الأرض الأملس، والتي تستدعي الانتباه واليقظة. وعلي سبيل المثال لا الحصر:

... ربما سيصير صديقا له، فقالت في سرها: يا لك من ملاك عيل.

... الولد الخجول أصبح الآن رجلا، فقدر علي مواجهة البيت.

... لولا أن الشيطان كان يوزهم.. فيمش في مدنه.

... الشيطان هذا شاطر وابن وسخة.

... سيبدو ذلك مجرد إعلان أنهم أبرياء وليس لهم في الوساخة.

..... اقترب منها حتي شاف حلمتيها.

... في هذه الليلة انسكب عطرها فلم تقدر تحوشه.}

2 – روح السخرية التي تبسط الأسلوب وتخلق نوعا من التحبيب للقارئ والإمساك به، فحين يتحدث السارد عن الولي الذي عبث ببطن أم سمير وهدان، وحوله من (بنت) مثل أخواته إلي ولد في الجسم وبنت في الروح والرغبة: {أمي التي لم تجف مخدتها في ليالي المضاجعات المباركة بأحجبة الشيوخ وأدعيتهم، ودماء الذبائح التي أريقت علي عتبات الأضرحة، لابد أنها يد الولي، أو علي الأقل أرسل واحدا من الملائكة الطيبين الذين يعملون علي توصيل بركاته للمنازل ويودعونها الأرحام، لابد أنه خجل من عطايا أبي.}(10) الأمر الذي يعكس روح السخرية السائدة بين ثنايا السرد، فتشيع روحا مرحة قادرة علي تقبل التيه الذي ربما يصنعه غياب الحبكة.

العودة إلي عناصر الطبيعة وبعض المنطق

كما سبق وقلنا بأن عوامل ومعطيات العصر فرضت علي الإنسان الغربة والانسحاق، وأن الرواية حاولت أن تعيد لهذا الإنسان كينونته ومنطقيته. تقع الأحداث في النفق الواصل بين ما هو ظاهر ومعلن، وما هو خفي يدور تحت السطح. وبينما تكشف لنا من مجريات العمل أهمية هذا الذي يدور تحت السطح، بل هو فعل حيوي وأساسي في حياة الإنسان. فإن هذا التجاهل خلق مجموعة من الغرباء، الغرباء عن الطبيعة، وكأن الرواية تفضح الوضع المعكوس، حيث أصبح الطبيعي والجوهري مخبأ في الظلام، فتاهت خطواته، وغامت الرؤية له، وأصبح غريبا. أولئك الغرباء {الذين يعرفون طريقهم جيدا، حتي في الظلام}. فالغربة إذن غربة داخلية، خلقت وضعا غير منطقي، وكأنها تخفي وجود الشمس بضوئها وبنيرانها.

 وإذا كان سيد الوكيل قد حاول أن يمنطق بعض ما جاء بشارع بسادة، حين صور الولد البدين صورة سمير وهدان فجعله أقرب في الجمال الشكلي إلي البنت منه للولد {بعد سنوات سيمشي في نفس الشوارع ولد جميل بعينين رماديتين وشعر أصفر وجسد أبيض ممتلئ قليلا. ستقول اللاتي رأينه يمشي، هذا ولد جميل ورث عيني أبيه ومشيته، وأخذ صوت أمه الدافئي.}(11) وجعل الولد البدين يأتي إلي جدته في «شارع بسادة» صغير السن، ليحرم عطف الأم ورعايتها – بينما الأب بالطبع غائب، حيث لم يرد له ذكر – وفي رعاية جدة هي أولي بالرعاية منه، منعزلا وليس له أصحاب، فأصبح مهيأ لأن يستبدل الحياة بالرسم، بمساعدة ذلك الملاك الوهمي الذي يفتح لنا الجانب الآخر من البحث عن الجذور في الإنسان، وما ساقه سيد الوكيل في التدخل الكبير والواضح في مجريات حياة الشخوص من الملائكة والشياطين، مؤكدا في ذات الوقت أن كلاهما، يوسوس فقط ولا يصنع. فإذا ما تذكرنا أن الملائكة خلقت من النور، والشياطين خلق من النار – وكأنهما وجهي عملة واحدة – وارتبطت غوايات الشخوص وتفتح حواسها جميعها بالدفء المنبعث من النار ومن وهج الشمس، وارتبطت الرومانسية والعفة والطهر بضوء القمر. فإن تصرفات الإنسان هنا تكون قد ارتبطت بعناصر الطبيعة، وكأنها محاولة للعودة لحضن الأم من جديد.

ثم يؤكد أن لكل منا شيطانه وملاكه، النابع منه هو، من داخله، وعندما يفقد المجتمع البراءة الممثلة في البدايات، وفي الطفولة، عندما يغيب الملاك، فإن الشيطان يبدأ دوره في مهمته الأساسية، الغواية: {الولد الذي أصبح رجلا، لا يدري كيف فقد ألبوم صوره الأولي. كانت صورا رسمها بنفسه لناس طيبين تملأ البراءة قلوبهم، لولا أن الشيطان كان "يوزهم" فيمشون في مدنه، ويتسكعون في شوارعها، بحثا عن غواية، فراح يمشي معهم في الطرقات والشوارع القديمة. يبحث عن وجه يعرفه، أو جمال قديم في وجه امرأة مرت به.}(12)

 

EM: SHYEHIA@YAHOO.COM

 

هوامش:

(1) - الرواية ص 14

(2) - الرواية – ص 21

(3) - ص 24، 25

(4) - ص 62

(5) - ص 9، 10

(6) - ص 41

(7) - ص 44

(8) - ص 93، 94

(9) ص - 69

(10) - ص 95

(11) - ص 95، 96

(12) - ص 21