تسبر الباحثة في تاريخ الكتابة منذ النص المسماري إلى الرقمي، وتبين الكيفيّة البصريّة والصوتيّة الذي أحيطت به في بعض الأحيان، وترى أن كل حقبة زمنيّة كانت تلغي ما قبلها، فتفرض سيطرتها وهيمنة أدواتها، لأن التطور الطبيعي يقضي بتراجع القديم لصالح الجديد.

الكتابة بأدوات العصر

إيمان يونس

مرت الكتابة عبر العصور المختلفة بمراحل تطور عديدة، وقد حددت أدوات الكتابة التي استخدمت في كل عصر شكل الكتابة، خصائصها، ومميزاتها. كما حددت شكل وأنواع الكتب التي تلائمها. وقديماً قيل:

ربع الكتابة في سواد مدادها* * *والربع حسن صناعة الكتاب

والربع من قلم سوّيَ بَرْيه* * *وعلى الكواغد رابع الأسباب

يقودنا هذا إلى افتراض بديهي في أن اختلاف الأداة يؤدي إلى اختلاف في طبيعة المنتج. وإذا أردنا تطبيق هذا الافتراض على الأدب، فمعناه أن ننظر إلى أداوات العصر المستخدمة في الكتابة كأدوات محددة لشكل وماهية الإبداع الأدبي. فأقدم أشكال الكتابة التي عرفتها البشرية كانت الكتابة "المسمارية" وذلك في نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد. وسميت بهذا الاسم نتيجة لاستخدام قلم محدب وحاد في عملية الكتابة يشبه المسمار. كان لاستخدام هذا القلم تأثير كبير على طبيعة وشكل الكتابة نفسها. فكانت عبارة عن علامات ورموز حادة الشكل تتناسب مع طبيعة الأداة وطبيعة المادة التي كتبت عليها وهي ألواح من الطين أو الفخار (دورا، 2008، ص21).

ولما كانت الكتابة المسمارية بالغة الصعوبة لما تحتاجه تلك الألواح من عناية ومعالجة، فقد أدى ذلك إلى تقييد استعمالها واقتصارها على فئة صغيرة من الناس، كما حددت عدد الكتاب والقراء الذين باستطاعتهم التعامل معها (شاربان، 2008، ص38-37).

وفي الألفية الثالثة قبل الميلاد ظهر نوع آخر من الكتابة هي الكتابة الهيروغليفية التي استعملها الفراعنة في مصر القديمة. وكانوا يكتبونها بداية على الألواح الفخارية التي لم تكن تصلح لتدوين النصوص الطويلة نظراً لمساحتها المحدودة وثقل وزنها، مما دفع بالفراعنة إلى الكتابة على جدران المعابد والقصور. فأصبحت الكتابة أقرب إلى الرسم منها إلى الكلمات. وبما أن الكتابة كانت تتم بالحفر على الحجر والصخور، فقد اعتبرت عملية شاقة، الأمر الذي جعلها تقتصر على الوثائق الرسمية فقط. فكانت بذلك ذات طابع وظيفي وشكل من أشكال الاتصال ليس أكثر(بينز، 2004، ص151).

أما النصوص الأدبية فكانوا يحفظونها غيباً، ولم تدون إلا حين اكتشفت الكتابة الهيراطيقية وهي مشتقة عن الهيروغليفية لكنها أبسط منها وأكثر طواعية (فيرنو، 2005، ص48-46).

ظلت الكتابة بالنقش على الصخر والطين سائدة إلى أن اكتشف المصريون ورق البردي، فكان لهذا الاكتشاف تأثير على ماهية الكتابة وعلى شكل الكتاب. فقد أدى اكتشاف البردي إلى إمكانية تدوين نصوص أكثر طولاً من تلك التي كانت تكتب على الألواح (مصر الخالدة، 2008-8-3).

ومن المواد الأخرى التي شاع استخدامها بكثرة في صناعة الكتب كان نوع من الجلود يعرف بـاسم "الرق"، وكان يصلح للتزيين والزخرفة بماء الذهب، فاستخدمه العرب لكتابة القرآن ومعه بدأت العناية بالناحية الجمالية الفنية للكتابة (الوكيل، 2008-8-1).

كانت الكتابة على الرق أو على البردي تتم بواسطة فرشاة أو ريشة يتم غمسها في حبر خاص، وقد أحدث استخدام هذه الأدوات ثورة في عالم الكتابة، حيث برزت أهميتها في قدرتها على إحداث اللمسات الدائرية بشكل طيع، والتي لم يكن بالإمكان خطها على الحجر، الأمر الذي أدى إلى تغيير شكل الخط وتعدد أنواعه وخصائصه، لاسيما في الخطوط العربية (الجبوري، 1994، ص96).

بعد الرق عرف العالم الورق المستخدم في عصرنا هذا، وكان أساساً من ابتكار الصينيين في القرن الأول للميلاد، ومنهم انتقل إلى بقية شعوب العالم.

ومع اختراع آلة الطباعة الأولى في العالم على يد المخترع الألماني يوهانس جوتنبرغ عام 1483 حدثت نقلة نوعية في عالم الكتابة والتدوين. فمن ناحية أصبح بالإمكان طبع آلاف النسخ من الكتاب الواحد مما ساعد على انتشار الكتب وجعلها أضعافا مضاعفة، وازدياد عدد القراء، كما أصبح بالإمكان كتابة مؤلفات طويلة جدا تقع في عدة أجزاء. والأهم من ذلك أن الطباعة أحدثت تغييراً في مبنى النص وأكسبته حلة جديدة. فبعد أن كان النص يكتب بشكل كلمات متراصة على ورق البردي أو الرق لتوفير عدد الصفحات، أصبح بالإمكان تقسيم النص إلى فقرات لتسهيل عملية القراءة، وأدخلت علامات الترقيم لتساعد في تنظيم النص، كما بدأ الطباعون يتركون مساحات فارغة لكتابة الحواشي، أو لإدراج الصور، أو لإتاحة المجال للقارئ للتنفس(مارتان، 2008، ص345).

لفتت هذه المساحات الفارغة أنظار الكتاب فأخذوا يهتمون بالتشكيل البصري للنص وذلك بحسب توزيع السواد على البياض، ونشأ عن ذلك كتابة قصائد بأشكال زخرفية وهندسية مختلفة، فتشكل ما يعرف بالشعر البصري (Visual Poetry)، وتعددت أشكال قراءاته ودلالاته (كريستان، 2008، ص379-377).

وقد أدرك الكتّاب القيمة التعبيرية لتلك الفراغات فانتقلوا من التركيز على الفضاء النصي، أي ما يمنح  للقراءة فقط، إلى التركيز على الفضاء الصوري أيضاً، وهو ما يمنح للمشاهدة والتأمل (الماكري، 1991، ص241).

أدت إمكانيات التكنولوجيا الهائلة في عالم الطباعة من تحكم بحجم الخط، تعدد الألوان، الصور والرسومات، إلى فتح مجال الإبداع ونشوء "الظاهرة التشكيلية" التي تدعو إلى تسخير جميع أنواع الفنون في عمل واحد.

ففي نهاية القرن التاسع عشر قام مالارميه بنشر قصائد عرفت بالشعر المجسدConcrete poetry حاول من خلالها أن يجمع بين العناصر الأدبية والبصرية والصوتية معاً (عبد الحميد، 2005، ص176).

على الرغم من الإيجابيات الكثيرة التي أحدثتها الطباعة في عالم الكتب والكتابة، إلا أن الكتاب الورقي ظل محدوداً فيما يمكنه أن يتيح للكاتب من إمكانيات الخلق والإبداع وذلك بسبب طبيعة مادته الجامدة الصماء.

ظل حال الإبداع مقيداً على هذا النحو إلى أن جاءت المرحلة الأخيرة في عالم الكتابة، مرحلة الإنفوميديا، حيث انتقلت من آلة الطباعة إلى آلة أكثر تطوراً وتعقيداً هي الحاسوب، ومعه افتتح مجال الإبداع على نحو غير مسبوق. أصبحت الكتابة تتمم بواسطة لوحة مفاتيح (Keyboard) وفأرة (Mouse)، وتحولت الصفحة من ورقة بيضاء جامدة إلى شاشة عرض مضيئة. ولم تعد الكلمة سوى وسيلة واحدة من بين وسائل عديدة متاحة للتعبير، كالصوت والموسيقى، الصور والرسومات، والألوان. وأصبح بالإمكان تحريك كلمات النص في فضاء الشاشة أفقياً أو عمودياً أو دائرياً.

إن استعمال الوسائط المتعددة في الكتابة حول الكتابة الإبداعية من عملية فردية إلى عملية جماعية. ولم يعد الكاتب هو المنتج الوحيد للنص، بل أصبحت الكتابة عملية معقدة يشترك فيها مبرمجون ومصممون وخبراء في برامج الحاسوب المختلفة، كما صار بمقدور القراء أن يشاركوا في كتابة النص وذلك بإضافة فقراتهم الخاصة إليه.

إمكانيات النص الإلكتروني غير المحدودة هذه، قلبت مفهوم الإبداع الأدبي بشكل عام. فلم تعد الموهبة أو ملكة الكتابة وحدها تكفي لكتابة نص، بل أصبحت الكتابة الإبداعية تتطلب مواصفات عديدة أخرى يجب على الكاتب أن يتحلى بها، كالخبرة بفن الإخراج السينيمائي، الثقافة الموسيقية، تذوق الفن التشكيلي وغيرها.

ولما كان الغرب سباقاً في هذا المجال، كان من الطبيعي ألا يظل مبدعوه مكتوفي الأيدي أمام كل هذه الأدوات والإمكانيات فأخذوا يستثمرونها في الكتابة لابتكار نصوصهم الخاصة، مما أدى إلى إنتاج أنواع جديدة وأجناس أدبية مبتكرة تحمل صفات وخصائص الوسيط الذي أفرزها والأداة التي ابتكرتها. فبدأنا نسمع بمصطلحات أدبية جديدة مثل "الرواية التفاعلية" و"الشعر التفاعلي" و"الكتابة الجمعية" وغير ذلك.

نخلص مما ذكرناه حتى الآن، أن الكتابة الإبداعية مرت بمراحل تطور عديدة خلال الحقب الزمنية المختلفة، وفي كل حقبة استخدمت أدوات مختلفة للكتابة، كما استعملت أنواع مختلفة من الكتب تتلاءم وطبيعة تلك الأدوات. فظهرت أولاً الأدوات الحادة، تلتها الفرشاة والريشة ثم آلات الطباعة، وأخيراً ظهر الحاسوب ووسائطه المتعددة. وقد لعبت الأدوات التي استخدمت في الفترات المختلفة دوراً هاماً في تحديد صفات، ومميزات النص الناتج عن استخدامها، وكثيراً ما استمد اسم النص المنتج من اسم الأداة التي أفرزته مثل النص المسماري والنص الرقمي. وغني عن القول إن كل حقبة زمنية كانت تلغي ما قبلها، فتفرض سيطرتها وهيمنة أدواتها، لأن التطور الطبيعي للأمور يقضي بتراجع القديم لصالح الجديد.

وهنا صار لابد أن نتوقف قليلاً لنتساءل عما ألم بالإبداع الأدبي العربي إزاء كل هذه التطورات، وكيف استجاب كتابنا العرب لهذه المتغيرات؟ وهل استطاعوا التخلي عن أدواتهم الكتابية القديمة واستثمار أدوات العصر الرقمي؟ وهل تمكنوا من توظيف هذه الأدوات بشكل يخدم النص الأدبي شكلاً ومضموناً؟ وإلى أي مدى نجحوا في ذلك؟

في الحقيقة فإن الإجابة عن هذه التساؤلات يحتاج إلى دراسة طويلة، لا متسع لها هنا، ولكن بإلقاء نظرة سريعة على واقع الأدب العربي يمكننا القول إنه مع بداية الألفية الثالثة بدأت أولى براعم الإبداع العربي الرقمي بالتفتح، الأمر الذي يدعو إلى التفاؤل ويبشر بالخير، على عكس ما يظنه الكثير من النقاد. فقد بدأ الكتاب العرب، لاسيما الشباب منهم، يطرقون هذا الميدان على المستويين النظري والتطبيقي. فعلى سبيل المثال نجد على الصعيد النظري دراسات عربية هامة نذكر منها كتاب "من النص إلى النص المترابط" للناقد سعيد يقطين، وكتاب "مدخل إلى الأدب التفاعلي" لفاطمة البريكي، كذلك كتاب "أدباء الإنترنت، أدباء المستقبل" للأديب المصري أحمد فضل شبلول وغيرها. هذا بالإضافة إلى عدد كبير من المقالات النقدية التي تنشر يومياً في مواقع مختصة على شبكة الإنترنت مثل مقالات اليسد نجم، ومحمد أسليم وعبير سلامة وغيرهم.

أما على الصعيد التطبيقي فهناك العديد من الأعمال الرقمية لأدباء عرب من جنسيات مختلفة، نذكر منها الأعمال النثرية للكاتب الأردني محمد سناجلة وهي "ظلال الواحد" و"شات" و"صقيع". كذلك "قصة ربع مخيفة" لكاتب الخيال العلمي المصري أحمد خالد توفيق، وقصة "احتمالات" للكاتب المغربي محمد أشويكة. كما صدرت عدة روايات جمعية منها رواية "على قد لحافك" و"الكنبة الحمرا" وغيرها. وكما طرق أدباؤنا رقمياً باب النثر فقد طرقوا باب الشعر أيضاً، فحققوا فيه إبداعات جميلة، وكثرت القصائد البصرية كقصائد منعم الأزرق، مثل "سيدة الماء"، "الدنو من الحجر الدائري"، "نبيذ الليل الأبيض وغيرها. وأما الشعر التفاعلي فعلى الرغم من أن حظه لم يكن بوافر مثل بقية الأجناس الأدبية الرقمية الأخرى، إلا أنه لم ينج من التجربة العربية، ولعل قصيدة "تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق" للشاعر العراقي مشتاق عباس معن خير دليل على ذلك.

على الرغم من هذه التجارب المباركة إلا أنها بداية الانطلاق، فالطموحات كبيرة والآفاق غير محدودة، وقد أصبح لزاماً على كل مبدع عربي لم يخض غمار التجربة الرقمية بعد، أن يسرع في تأهيل نفسه معرفياً ومعلوماتياً، تلبية لحاجات عصره ومواكبة لتطوراته، فيتحرر من قيود الحبر والورق ويأخذ بأدوات العصر، فالمبدع هو ضمير مجتمعه والشاهد على عصره والمعبر عن ثقافته. ولن يقبل من مبدعينا أي عذر في التأخر عن اللحاق بركب الحضارة الغربية وما حققته من إنجاز في حقل الإبداع الأدبي الرقمي. خاصة وأن اللغة العربية قد أثبتت قدرتها علمياً على التكيف مع أجهزة الحاسوب الإلكترونية بفضل خصائصها المميزة على كافة فروعها: صرفاً ونحواً وصوتاً وكتابة ومعجماً. أضف إلى ذلك أن اللغة العربية أثبتت جدارتها كلغة عالمية أيضاً مما يجعلها لغوياً وحاسوبياً فئة عليا Superset يمكن أن تندرج في إطارها كثير من اللغات الأخرى (علي، 2003، ص46-47). وعليه، فما دامت اللغة تسمح، والأدوات متوفرة، والمواهب موجودة، فلا شيء يعيق أدباءنا عن خوض التجربة الرقمية والانخراط في هذه المرحلة التاريخية بأبعادها العلمية والتقنية والتي تشكل منعطفاً هاماً في تاريخ الإبداع البشري أجمع!!.

 

المصادر

البريكي 2006،

فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، 2006.

بينز 2004،

John Baines, The Earliest Egyptian Writing: Development, Context, Purpose, The First Writing, Script Invention as History and Process, Cambridge University press, Trumpington, 2004.

الجبوري 1994،

يحيى وهيب الجبوري، الخط والكتابة في الحضارة العربية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994.

جواد (2008-8-3)،

محمد علي جواد، ألواح الطين من سومر إلى كربلاء، (2008-8-3):

http://www.aliraqiyamag.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=11091

دورا 2005،

جون ماري دورا، الكتابة المسمارية، تاريخ الكتابة من التعبير التصويري إلى الوسائط الإعلامية المتعددة،  مكتبة الاسكندرية، الاسكندرية، 2005.

شاربان 2005،

دومينيك شاربان، كتبة بلاد ما بين النهرين، تاريخ الكتابة من التعبير التصويري إلى الوسائط الإعلامية المتعددة،  مكتبة الاسكندرية، الاسكندرية، 2005.

عبد الحميد 2005-

شاكر عبد الحميد، عصر الصورة، المجلس الوطني للثقافة والفنون، عالم المعرفة، الكويت، 2005.

علي 2003-

نبيل علي، تحديات عصر المعلومات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003.

فيرنو 2005،

باسكال فيرنو، الكتابات في مصر القديمة، تاريخ الكتابة من التعبير التصويري إلى الوسائط الإعلامية المتعددة،  مكتبة الاسكندرية، الاسكندرية، 2005.

كريستان 2005،

آن ماري كريستان، الشعر المرئي والصورة المقروءة، تاريخ الكتابة من التعبير التصويري إلى الوسائط الإعلامية المتعددة،  مكتبة الاسكندرية، الاسكندرية، 2005.

مارتان 2005،

هنري جون مارتان، نشأة الطباعة في الغرب، تاريخ الكتابة من التعبير التصويري إلى الوسائط الإعلامية المتعددة،  مكتبة الاسكندرية، الاسكندرية، 2005.

الماكري 1991-

محمد الماكري، الشكل والخطاب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991.

مصر الخالدة، أدوات الكتابة في مصر القديمة(2008-8-3):  http://www.eternalegypt.org

الوكيل( 2008-7-28)،

بسيوني الوكيل، الوراقون(2008-7-28)، http://www.al-jordan.com/vb/t31033.html