ضمن زخم الربيع العربي كثر الحديث عن خيانة المثقف وتخليه عن دوره الطليعي والضميري. هنا يعود باب علامات في هذا العدد لنص قديم لسلامة موسى نشر سنة 1947، وفيه يربط بين النضال الوطني وبين مفهوم التزام المثقف والمواطن بـ"الكفاح أو الجهاد الثقافي" الذي يتغيا بناء أمة عصرية سياسياً واجتماعياً وفكرياً.

ليكـن لنـا كفـاح ثقافـي

سلامة موسى

يجب على كل مثقف أن يكون له كفاح لأن الدراسة تحتاج إلى حوافز من العواطف الظاهرة أو المختفية تدفع إلى المثابرة والجهد. ولكن الحافز يضعف أو يقوى باختلاف البئية والدراسة والشخص. فنحن نقرأ الجريدة في الصباح لأن عاطفة الاستطلاع تدفعنا إلى ذلك. ونحن ندرس الكتاب كي نتهيأ به للوصول إلى الهدف الذي قد يكون تكملاً في الفن الذي نمارس أو رغبة في الرقي الذهني أو نحو ذلك. فالطبيب يقرأ كتاباً في شرح أحد الأمراض، لا أقرأه أنا، لأنه يجد الحافز الذي لا أجده. وأنا أقرأ كتاباً في السيكلوجية لا يرضى غيري بقراءته ولو أُجر عليه.

فلكل منا حافزه الذي يبعثه على الدرس. وقد يزداد هذا الحافز قوة حتى يحمل القارئ أو الدارس على الجهاد. وعندئذ يفتح هذا الجهاد أبواباً للدرس مدى الحياة. فالشاب المصري الذي عاش فيما بين 1918 و1943 وعاين الحركة الوطنية واشتبك فيها وأصبح مجاهداً للوطن يدعو للاستقلال والحرية، قد حمله هذا الجهاد على دراسة لا تنقطع بالحديث وقراءة الجريدة ودراسة الكتاب لكل ما يتصل بالاستقلال والحرية والاستبداد والدستور والإمبراطوريات واستغلال الشعوب الصغيرة وخيانات الملوك والأمراء والوزراء لأوطانهم رغبة في الانتفاع بسلطان الدول المتسلطة ونحو ذلك. وهو يجد نفسه مشتاقاً لدرس تاريخ الدول المتسلطة ونحو ذلك. وهو يجد نفسه مشتاقاً لدرس تاريخ الولايات المتحدة وكيف استقلت. وهو يدرس مبادئ الثورة السوفيتية بل جميع الثورات وهو يعطف على الحركة الهندية التي يتزعمها غاندي أو نهرو. وهو أيضاً مضطر إلى التغلغل في الاقتصاديات كي يقف على ألاعيب الماليين الذين جروا على وطننا الخراب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وهو يقرأ الجريدة بعناية واختيار ومراجعة. واشتباكه في الحركة الوطنية يرشده إلى الكتب التي يحتاج إلى قراءتها.

فهنا مثال الجهاد السياسي يحمل على دراسات مختلفة تشع من بؤرة مفردة هي إرادة الاستقلال. وألوان الجهاد مختلفة متنوعة. فهنا سيدة تسعى لمنع الخمور. وهنا سيدة أخرى تسعى للمساواة بين الجنسين في الحقوق المدنية والاقتصادية. وهنا شاب يدعو إلى الاشتراكية. وآخر يجاهد من أجل الفلاح. فكل هؤلاء يجدون الحافز الذي يبعثهم على الدرس والاستزادة من الثقافة التي تتصل بموضوعاتهم. وليس هناك موضوع مستقل. فإن الدعوة إلى المساواة بين الجنسين تتصل بدراسات اجتماعية وتاريخية وفيسيولوجية بل دينية. ومن ينصب نفسه لهذه الدعوة محتاج إلى المثابرة والجهد في دراسة عميقة. وهو بهذه الدراسة يستنير وينتفع من هذه الناحية بدعوته كما أن دعوته تنتفع به.

انظر مثلاً إلى شاب قد أحس أنه يجب أن يجاهد لتحقيق المجتمع الاشتراكي، فإن جهاده سيحفزه على الدرس الذي لا ينقطع طيلة حياته. وتاريخ البشر يعد عنذئذ بعض موضوعاته. واقتصاديات الصناعة والزراعة وكذلك الأخلاق والأديان بل الاستعمار والحروب وإمبراطوريات المدفع والجنيه، كل هذا يعد من ميادينه الدراسية. وهو يرقى بهذه الدراسات وينظر النظرة العلمية الفلسفية للمجتمع. وفي عصرنا الحاضر أجد الفرق عظيماً جداً بين شاب يجهل الاشتراكية وآخر يدرسها. لأن الأول يجري الحوادث أمامه وهي لا تعني المعنى ولا تدل الدلالة في حين يجد الثاني معناها ودلالتها واضحين. كما أن الأول يقرأ وهو راكد متثائب أما الثاني فيقظ متنبه. وقل أن تجد للأول مكتبة بل هو قد يهمل شراء الجريدة أما الثاني فيعرف الشأن العظيم لهما في ترقية ذهنه. الأول ينظر إلى الحوادث متفرجاً والثاني يبصر بحركة التاريخ في الحوادث الحاضرة والمستقبلة.

وأستطيع أن أقول إن كل ثقافة حسنة تؤدي إلى جهاد من نوع ما؟ والثقافة السئية هي وحدها التي لا تؤدي إلى جهاد. لأن الثقافة السديدة المتصلة بالمجتمع تسبق هذا المجتمع بمسافة قصيرة أو طويلة. وهي لهذا السبب تدعو إلى التغيير لأنها ترسم لنا مُثلاً جديدة نشتاق إلى تحقيقها. ومن هنا، أي من الرغبة في التغيير، نحس الجهاد.

وقيمة أخرى للجهاد في الثقافة أنه يكبّر شخصيتنا ويجعلنا نشعر بأن لنا قيمة تاريخية أي لنا رسالة نؤديها بالدعوة إلى إصلاح معين، وهو يكسبنا الفلسفة التوجيهية التي يحتاج إليها كل شاب أو فتاة متمدنين في عصرنا. ونحن بهذا الجهاد نسير وقد رفعنا رءوسنا عالية وشخصنا إلى القمم، بل إننا لنحيا عنذئذ حياة تاريخية.

ولست أستطيع أن أعين للقارئ الجهاد الذي يجب أن يختار لأن لكل إنسان بيئته وظروفه واستعداده، فلعل القارئ المصري يطلب إصلاحاً للغة العربية أو تعميم الكيمياء الصناعية أو نشر المبادئ الاشتراكية أو مكافحة الإسراف في الطلاق أو الزواج أو تحديد النسل أو غير ذلك. وهو وحده القادر على أن يقول أي الأنواع تحتاج إليه بيئته ويقوى هو على الاضطلاع به. إنما الذي أقرر هنا هو أن الجهاد حافز عظيم للدراسة. وقد وجدت هذا باختباراتي الشخصية. فإني أذكر أني في سنة 1930 أنشأت جمعية "المصري للمصري" وكانت غايتها أن تدعو المصريين إلى أن يشتروا السلعة التي يصنعها أو على الأقل يبيعها المصري دون الأجنبي. وذلك كي نرفع المستوى الاقتصادي بين المصريين ونشجع المصانع المصرية على الإنتاج اعتقاداً بأن أساس مشكلاتنا هو الفقر، وبأن الأمة التي لا تمارس الصناعات العصرية هي أمة غير متمدنة. وقد كنت أعجب العجب العظيم حين كنت أجد الشاب لم تتجاوز سنه العشرين ومع ذلك يحضر إليّ ومعه مستندات حافلة بالإحصاءات عن وارداتنا من الأطعمة والأقمشة التي كان يمكن أن نصنعها في بلادنا. فهذا الجهاد من أجل الصناعة المصرية عند هذا الشاب قد استحال إلى حافز لدراسة الاقتصاديات المصرية بجميع أنواعها.

وعندما أراجع ذاكرتي أجد أن معظم الموضوعات – بل ربما كلها – التي شغلتني دراستها إنما كنت مكافحاً فيها.

فكانت الدراسة بهذه المثابة عضوية تتصل بشهواتي الذهنية ومشكلاتي النفسية. وأحتاج إلى تحليل عميق كي أعرف البؤرة التي تشععت منها اهتماماتي الثقافية. وظني أنها الوطنية المصرية ومكافحة الإمبراطورية البريطانية. والآن يطفر إلى ذهني حادثان كان لهما عندي أكبر الوقع النفسي. فقد صدمني حادث دنشواي وأنا في الثامنة عشر وبقيت أسبوعاً وأنا كالصائم لا أستمري الطعام.

وحادث آخر كان له وقع في نفسي كله مرارة وأسى. ذلك أني كنت في باريس وأنا في التاسعة عشر أو العشرين وقد قعدت إلى بعض الفرنسيين في بهجة وأنسة تزيدها الكأس نشوة حلوة. وإذا بالحديث يجرنا إلى السياسة ثم استحال الحديث إلى مناقشة حادة. فإذا بأحدهم يقول لي بصوت عال في لهجة الزجر والاحتقار: "لا شأن لك بهذه المناقشة، أنتم أمة مهانة، والانجليز أسيادكم".

وكان هذا القول حقاً، وتولاني غضب وحزن لم يخفف منهما توبيخ الحاضرين لهذا الشاتم. فقد كان عطفهم علي أكثر إيلاماً لي من شتمه. وقد بكيت كثيراً تلك الليلة. وذهبت إلى الطبيب جملة مرات أشكو إليه ألماً في الأمعاء، وإسهالاً دموياً مخاطياً لم أعرف أنا ولم يعرف هو سببهما الذي يتضح لي الآن. وظني أن هذا الطبيب لم يستطع وقتئذ أن يتخيل شاباً في سني يمكنه أن يتحمل هماً وطنياً كبيراً يفتت أمعاءه إلى هذا الحد.

وعندما أنظر إلى جميع مؤلفاتي أرى أن جميعها أو معظمها يتشعع من بؤرة الوطنية ومكافحة الإمبراطورية البريطانية. بل أستطيع أن أقول إنه حتى دراستي البيولوجية وما تفرغ منها لم تكن لشهوة العلم وحده كما يتضح للقارئ من النية المضمرة في كتابي "التطور" وهي الإصلاح بقشع الخرافات العقيدية حتى تصير مصر أمة عصرية.

ولا أقول إن هذا التعليل مقنع، ولكن هذين الحادثين يومئان على الأقل إلى بعض البواعث الكفاحية لثقافتي. وعلى كل حال أقول إني لم أعش قط في البرج العاجي. وكانت كل دراساتي كفاحية. ووجدت في هذا الكفاح خصوبة ثقافية وتوسعاً ذهنياً لما أصل إلى حدودهما. والعبرة أننا يجب أن نمارس الثقافة لا متفرجين أو محايدين بل مكافحين مشتركين.

 

(موسى، سلامة: التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1947، ص 234–239)