يمر الكاتب على أثر الماركسية والداروينية والماورائية في مسار الرؤية الدينية وتفسير الوجود، ومن ثم ينتقل لتوضيح وجهة نظره في الموضوع اعتباراً من أن الكون ليس ساكنًا، وأن الانفجارة أو الزلزلة الكبرى "البغ-بانغ" هي من أعطى للمادة الذبذبات الإلكترونية مما أدى لتشكل المادة وانبثاق الحيوات.

التفسير العلمي لعملية تخليق الكون

أفنان القاسم

يستند قول ماركس "الإنسان يصنع الدين والدين لا يصنع الإنسان" إلى كون عالم الإنسان كمجتمع ودولة يُنتجان الدين، هذا الوعي المغلوط للعالم، ونتساءل مع ماركس المغلوط لماذا؟ لزيف المجتمع والدولة. وهو يرى أن الصراع ضد الدين لهو صراع ضد هذا العالم، صراع مهول انتصار الشغيلة فيه حتمي، يقول حتمي ودأبه الغُلواء، وما اغتراب الإنسان سوى نتيجة لشروط اجتماعية محددة يزول بزوالها، وكأن زوالها أمر سحري. هذا الغُلواء لدى ماركس على علاقة باللفظ وبالمعنى، وبلغة اللسانيين بالقول، ودراسة عملية القول لدى ماركس ستكون بمثابة قراءة جديدة لفكره تزيل الناحية "الدينية" في هذا الفكر، وتنفحه بنفس جديد يتواءم وعصرنا.

هناك الكثير من الميكانيكية فيما يتوهمه ماركس، إذ ليس بزوال شروط الاغتراب يزول الاغتراب في مجتمع ودولة لا يتوقفان عن أن يكونا زائفين منذ ما قبل ماركس إلى ما بعد ماركس، إلى اليوم، وإلى الغد، فالدين على كافة أشكاله الرباني منها والدعائي إنتاج يومي للدولة والمجتمع، ولهذا أخذ الزيف خاصية الثبات. صحيح كما يرى ماركس في أن الثورة العلمية والتنوير ونقد الكتاب المقدس كل هذا كشف عن عقم محاولات المسيحية في تقديم صيغة واقعية ودقيقة للتاريخ، لكنه يذهب في تحليله، ودأبه الغُلواء دومًا، إلى أن ذلك كان ضروريًا لاستحالة القيام بتحليل نقدي حقيقي ما لم يتحرر الفكر البشري من غشاوة العقائد الدينية، فهل تحرر الفكر البشري من هذه الغشاوة بالفعل أم بعض الفكر البشري، وهذا البعض هل تم له التحرر بفضل معرفة العالم الواقعي حتى ولو لم تكن معرفة كاملة أو مطلقة كما يطلق التحليل المادي حكمه غير القاطع (حتى ولو لم تكن) في زمن ماركس؟ بينما على التحليل المادي أن يكون قاطعًا ومطلقًا أيًا كان مستوى المعرفة ودرجة التطور لتحكيم العقل والعلم لا الدلالة والاستعارة كما هو في الأدب.

الصراع الطبقي كمولِّد تثويري للوعي وبالتالي لتأصيل (عكس تزييف) الدولة والمجتمع لهو صراع هلامي اليوم، يكفي أن ننظر إلى الثورات العربية (حتى هنا في الغرب ومجتمعاته المتطورة بعد صيرورة البرجزة)، لنرى أننا نرمي كل شيء على عاتق الطبقة المتوسطة، ولا تحديد لمعالم هذه الطبقة، تمامًا كأداتها "الثورية" التي هي الشبكات الاجتماعية، دون تحالفات إستراتيجية مع غيرها من الطبقات، ودون دينامية هي بالفعل ثورية بل دينية، بمعنى أن الصراع الطبقي الذي من المفترض أن يكون ضد الدين ولو على المدى البعيد لهو مع الدين، وهذا ما لم يقله ماركس في كل أدبياته العلمية، ربما بسبب القصور العلمي في زمنه بالنسبة لزمننا، وربما لتشبثه بمقولة أن العالم المادي موجود بشكل مستقل عن الوعي الإنساني، وهذا صحيح لدرجة وصل تأكيده إلى حد نفيه دلاليًا، فالرفض على الثبات أو الثبات على الرفض هما في نهاية الأمر واحد، من هنا كانت أدبياته ناقصة، لا الدقة ما ينقصها، ولا الترابط المنطقي، وإنما الخيال، وفي العلم كل شيء يبدأ من هنا، من الخيال، ومع ذلك سأثبت ظاهرة الوجود علميًا، وسأصل إلى معرفة كاملة ومطلقة للعالم الواقعي، ولولا الخيال لما تمكنت من ذلك.

تجمع الأديان التوحيدية الثلاثة على أن الكون من صنع الله بعد أن تناقلت هذه الصورة الماورائية للوجود عن بعضها، وقبل ذلك نقلتها التوراة عن قصيدة الألف ومائة بيت الملحمة الأكّادية "الأنوما إليش" في بلاد ما بين النهرين مع بعض الاختلاف لكن الفكرة تبقى واحدة، ولا ننس أن هناك كتابات عديدة للتوراة كان كُتّابها يكتبون عن شخصية الله تبعًا لفكرة كونوها عن خلق الكون، فكرة لن تصمد طويلاً أمام بعض التساؤلات حول مفهوم الزمن مثل: لماذا خلق الله الكون في ستة أيام وليس في سبعة أو خمسة أو ثلاثة أو حتى في يوم في دقيقة في ست ثوان أليسه من يقول كن فيكون بفضل كلام الله كما يقول القرآن؟ أو الخلق من عدم كما يقول الإنجيل؟ وكيف عرف كُتّاب التوراة أن أيام الخلق كأيامنا بطول زمني قدره 24 ساعة؟ وهل كانت هناك شمس ليكون هناك يوم شطراه النهار والليل كما هو يومنا؟ ولماذا لم يستعمل كُتّاب التوراة المفردة "مراحل" بدلاً من المفردة "أيام"، وهي أقرب إلى المنطق؟ وإذا ما تم خلق الكون في أيام ستة كان للأرض والشمس والنجوم عمر واحد بينما علم الفلك يحكي عن نجوم شيخة ونجوم شابة ونجوم وليدة أو لم تولد بعد؟ كيف عرف كاتب التوراة أن لا شمس هناك وبالتالي أن لا ضوء هناك وأن الأرض مغطاة بالماء (نقل حرفي عن الملحمة الأكّادية) وأن الله خلق النبات فالحيوان فالبشر وليس البشر فالحيوان فالنبات، وعلى الخصوص مفهوم الفضاء، أن هناك بداية: "في البدء خلق الله السموات والأرض" يقال في التوراة، الشيء نفسه في القرآن والشيء نفسه في الإنجيل مع فارق لفظي: "في البدء كانت الكلمة"؟ إلى آخره... إلى آخره...

رؤية ثانية لخلق الكون، ماركسية، أي من بنات أفكار أواسط القرن التاسع عشر، تجيء في خضم الثورة الصناعية لا الثورة التكنولوجية كما هي عليه اليوم، وهي لهذا رؤية ناقصة، عندما تعجز عن تفسير ما لا تعرف تفسيره علميًا تنهج النهج الديني نفسه، فالكون لديها كان هكذا ولم يزل منذ الأزل، هكذا تحل مسألة خلق الكون دونما حاجة إلى تحطيم رأسها في أمور من العبث الدخول في طياتها والبحث عن أسرارها، وهي محقة في هذا لولا أن الفكر الديني السائد في عصر التعتيم المجتاح للعالمين العربي والإسلامي يبقى ها هنا منتظرًا الجواب، ولن يقبل بالجواب الهيغلي الممكن صوغه من خلال السياق الذي ندرسه قائلاً بوجود الكون في ذكائنا، وفي هذا مؤشرات مدلولية لاستباق الوعي على الواقع في الفلسفة المثالية أنا لا أراه من ناحيته السلبية، ولكنه كجواب مقنع أرقى بكثير مما تقدمه الماركسية وكل الفلسفة المادية في هذا الموضوع.

رؤية ثالثة لخلق الكون، داروينية، هذه المرة، تنظر إلى الخلق كفبركة أرضية، بمعنى أن الأرض تخلق نفسها كصيرورة متواصلة، والخلق هنا يجري تفسيره على أساس ميكانيزمات مادية بحتة تكون عمادًا للتطور ذي القفزات النوعية تتمثل أول ما تتمثل بظهور البكتيريا فالأعضاء التي تتغذى وتتناسل وتتحول تبعًا لوسطها، فالتحولات الجينية هي من وراء عالمنا اليوم عالم يخضع للانتقاء الطبيعي، وهذا هو جوهر النظرية التي اعتمدها الغرب الرسمي والفلسفة النيتشوية في اختيار الوسط أحسن ما يتكيف معه، وتبرير كل العَسْف الذي ألحقه الغرب البربري بالبشرية.

رؤيتي لوجود الكون
أعطت قوانين النسبية التي توصل إليها اينشتاين مفهومًا يحاول تفسير المفهوم التوراتي (الديني) للزمن، بمعنى أنه يمكن لليوم ألا يكون اليوم بساعاته كما هو في المفهوم الشائع وإنما بأجياله، لأن دَفْقَ الزمن يختلف من مكان إلى آخر، لكن على عكس ما ارتأى اينشتاين مجرى الزمن ينفي التزامن كمفهوم مطلق، ويؤدي بالتالي إلى استنتاج أن أيام خلق العالم الستة لهي مليارات الأعوام. وبفضل القمر الصناعي هيباركوس عام 1997 تمكن العلماء بيقين لا ريب فيه وبدقة لا زلّ فيها من قياس الأبعاد بين المجرات الكوكبية، ووجدوا أن العالم أصغر مما كانوا يظنون، وأن عمره 13 مليار عام، وليس 5700 عام كما تقول التوراة (كتبت التوراة لأول مرة منذ 3300 عام). ما أعرضه هنا ثابتة كوزمولوجية وليس نظرية مجردة، وهذه الثابتة تعارض ما توصل إليه اينشتاين من سكون الكون عندما تراه في حركة دائمة، والكون تبعًا لذلك في توسع دائم. هذا لا يعني أن حركته لانهائية، فحدّا الكون المتمثلان بالكبر غير المحدود والصغر غير المحدود يصطدمان بالأفق، وما وراء الأفق لا يوجد فضاء. يكبر الكون ويتسع باتجاه الكبر غير المحدود والصغر غير المحدود أي ما بينهما وعلى الإطلاق لا يتجاوزهما، وما دفق الزمن في تغيره سوى نتيجة لسرعة جريانه تبعًا لتساوق الاتساع، وهكذا تم حل معضلة عمر الكون.

إذن الكون ليس ساكنًا، ليس جامدًا، و "البغ-بانغ" من أعطى للمادة الذبذبات الإلكترونية. وليعرف القارئ ما هو البغ-بانغ نقول: البغ-بانغ هو نموذج كوزمولوجي لوصف أصل الكون وتطوره، والذي حَسْبَهُ انبثق العالم من حالة شديدة الكثافة والسخونة. وأنا هنا لن أدخل في تفاصيل هذا النموذج إذ يمكن للقارئ العودة إليه في الكتب المختصة وعلى إنترنت، لكنني سأحاول الإجابة على سؤال المتدين الأول، والأخير برأيي، في هذا الأمر: أليس من وراء هذه الحالة الشديدة السخونة والكثافة لا أحد آخر غير الله؟

ما سأعطيه من تفسير لهو الأول من نوعه، فلا العلماء أعطوه من قبل ولا الفقهاء، وهو يعتمد على نظرية اينشتاين في الكمّات، والكمّ هو أصغر مقدار من الطاقة. الإشعاع الكمّي لدى اينشتاين هو إشعاع واقف ينقسم تيار جزيئاته إلى مجموعات طاقة، ويسمى هذا الإشعاع الكمّ، وبما أن الكمّ لا وجود حقيقي له (واقف) يتحرك الضوء كموجة وكدفق للجزيئات التي تأخذ طاقتها من الحرارة، لكن الضوء يحتاج إلى وسط، والوسط هو الأثير، والأثير شيء غير موجود بينما الزمان والمكان شيئان نسبيان، ليصل في الأخير إلى أن كل جسم جامد يتوقف على ما يحوي من طاقة.

الطاقة في الجسم الجامد، في المادة، هي الإلكترونات، يسقط الضوء على المادة، فتتحرر بعض الإلكترونات منها، وهكذا يمكن تلخيص المعادلة بضوء-مادة-إلكترونات. الضوء كما أوضحنا هو مجموعة من الكمّات التي لا وجود حقيقي لها، والمادة هي مجموعة من الإلكترونات التي هي الأخرى لا وجود حقيقي لها، في تلك المرحلة الأولى من مراحل الكون الجسيمات كالذرات هي إلكترونات لا وجود حقيقي لها، إنه العدم، فالعدم لا وجود حقيقي له، إنه اللاشيء، واللاشيء لا وجود حقيقي له، إذن ما أن نقلب المعادلة إلكترونات-مادة-ضوء حتى نصل إلى تفسير الوضع السابق للبغ-بانغ، إذ عن طريق الإلكترونات غير الموجودة بالفعل تشكلت المادة، وعن طريق المادة تشكلت الكمّات غير الموجودة بالفعل، تشكلت الطاقة، تشكل الضوء، الضوء الأوّلي الذي اكتشفه علم الفيزياء الفلكي في العام الماضي، وهذا الاكتشاف ليس لعبة الغميضة مع الله يؤكد مائة بالمائة ما توصلنا إليه، تشكلت الحالة الشديدة السخونة والكثافة التي انبثق منها العالم. معادلة أوجزناها بسطور، ولكنها في الواقع ربما أخذت عشرات المليارات من الأعوام لزمن لم يولد قبل أن يكون الكون.

ramus105@yahoo.fr