تكشف هذه القراءة الحصيفة لأجرومية فيلم (الفنان) ولمحتوى الشكل فيه، عن مستويات مضمرة في الفيلم، لا تقل أهمية عن المستويات الظاهرة فيه، تتعلق بأنطولوجيا الفن السينمائي وجمالياته المميزة التي تعتمد على الاقتصار والغياب الذي يدعم الحضور، والتي تسعى للنأي به عن الاستخدام التجاري الذي يطمر جمالياته الأساسية.

معراج سينمائي في منطق الصمت

قراءة في ميتاسينمائية فيلم «الفنان»

عبداللطيف عدنان

عادة ما يستعمل تشبيه السينما بهذا المخلوق الذي ولد صامتا، ولم يتكلم إلا حين بلوغه ما يقارب سن الخمسين. وينطوي هذا التشبيه على مغالطتين: الأولى تكمن في رؤية السينما الصامتة كعصر سينمائي ما قبل تاريخي، وأنّ حدث دخول الكلام المنطوق على الصورة هو بداية تاريخ السينما الحقيقي، مع الاشارة أن نعت ما قبل تاريخي مقرون في فهمنا بكل ما هو ما قبل حضاري أو مرحلة بدائية من التطور. السينما لم تتعلم الكلام حقيقة بعد بلوغها سن الرشد بحقب، وإنما في سنواتها الأولى كما البشر. وعدم استعمال السينما للكلمة المنطوقة حينها، كان ناتجا عن عدم حاجتها لذلك؛ كما لم تكن بحاجة للألوان، مع أن إمكانية التلوين كانت في حوزتها منذ البداية كذلك. المغالطة الثانية تكمن في هذا الإسقاط الأنتروبومورفي على الفن السابع والواضح جليا من استعارة تقيس فنا على النمو البشري. وهو إسقاط مسؤول عن اختزال فن السينما، كما حصل وباقي الفنون، في تمثيل الواقع الممركز حول الإنسان بمعنى التشخيص والإنابة.

وهو اختزال، بمرده إلى المحورية اللفظية السائدة في الثقافة الإنسانية، يرى في ثرثرة الحوارات السينمائية مؤشرا على ارتباط السينما أكثر بالواقع. المغالطتين تشكلتا وشكلتا هذا الفهم المنحرف عن السينما الذي يلغي حقيقة كينونية/ أنطولوجية مرتبطة بها كفن ووسيلة تواصل. وهي أن هذه الأخيرة، ومنذ بدايتها، كانت تمشي في اتجاه تعبيري وجمالي بعيد عن الأدب والمسرح، إن لم نقل بعيد عن الكلمة المنطوقة. وكنتيجة جدلية لذلك، كانت السينما هذا الطموح التعبيري والتواصلي الذي يرمي إلى ما هو أبعد من محاكاة الواقع العيني والمعاين والمركّز بتفاصيله حول الإنسان من داخل الوعي، بهذا الإنسان طبعا، الذي قولبته وصاغته وأسست أدوات وأبعاد فهمه "الكلمة". و كما لا تسمح المناسبة للخوض في هذه "الواقعية" من منظور فلسفي ألتوسيري، يرى في المرجع الواقعي للفن ما يؤشر عن سياسة، وينم عن أيديولوجية معينة توجه العمل الفني، وإن كان في كل مناسبة حديث سينمائية ما يدعو صراحة للتطرق لذلك؛ لا تسمح في الخوض في ما كان في إمكان السينما في تفتيق خطابات جديدة لم تدخل بعد في أفق الإدراك والفهم الإنساني.

في هذا الفهم المبتذل والسائد عن تطور السينما التاريخي المقرون بالقدرة على الكلام، تغيب وتلغى حقيقة الطموح الإبداعي الأول من وراء فن السينماتوغراف. وما نعني هنا هو هذا الفن البصري المستقل في التعبير، المستقل في خلق الدلالة؛ الفن الذي سيفتح آفاقا أخرى على مظهر من مظاهر الواقع الإنساني التي ليست في مرمى الكلمة. ما رسخ المغالطتين في هذا الفهم هو عودة السينما في خلق حواراتها للنموذج المسرحي، ثم انحرافها في السرد إلى الرواية الواقعية الديكينزية. في كلتا العمليتين إجهاض من نوع ما لما كان سيميز الفن السابع عن الفنون الستة التي سبقته، ليس فقط في طريقة العمل وإنما كذلك في إمكانية خلق رؤية جديدة وخطاب إنساني جديد ينفتح على آفاق إنسانية جديدة.

فيلم الفنان من هذه السينما التي لا يمكن مشاهدتها دون طرح السؤال القديم في الماهية السينمائية. سؤال تؤسس له شكلية أي فيلم بالأبيض والأسود وغير ناطق من هذه العينة التي بقيت في الذاكرة السينمائية كخزان ليس لطرائق وسبل التعبير السينمائي الأولى ولكن لطموح السينما الأول الذي ضاع في الفهم المنحرف الذي تطرقنا له أعلاه. هذا السؤال عن الماهية السينمائية قد يدخل في خانة الأسئلة المطروحة حول التقييم الفني عموما، بعيدا عن النظرة التي ظلت أسيرة في التعاقبية الزمنية والتحقيب. سؤال بالتالي قد يمنح لنا فرصة استجلاء رؤية بدائيلة تقارب الفن كطاقة وإمكانية وليس كحالة وكائن. الرؤية التي تقترحها "فرجة" الفنان هي هذه النظرة للفن المجردة من أثر الزمن، والتي قد تجد الجمالية في النكوص والاضمحلال في التطور.

فيلم المخرج ميشيل هازانفيشيوسHazanavicius Michel  بعنوان سينمائي كالفنان وثلاث شخصيات بطلة أحدها حيوان، جورج فلانتين (جين جيرادين)، بيبي ميلير (بيرينيس بيجو)، وجاك ( الكلب أوغي) هو نوع من الاحتفاء بالفن السابع فيما يرد الاعتبار لهذا الفن من داخل خصوصيته الجمالية وفي أبعاد طموحاته التعبيرية. في هذا الفيلم ما يستفز كل مشاهد لإجراء مقاربة أخرى للسينما، تقوض هذه المغالطات التي أصبحت بمثابة أعمدة ترتكز عليها عملية الفرجة والإدراك السينمائي، وتتحكم كذلك في شروط الإنتاج والمادة الحكائية والصياغة التعبيرية الفيلمية. فيلم أقل ما يقال عنه إنه معراج في سماء كانت السينما ستنتعش فيها بحياة أخرى، تتميز فيها كفن وكخطاب فكري. هذا الفيلم يعود للغة الصمت الفصيح وبشكل مجرد من كل ما هو تطبيعي في السينما من صوت وألوان، وأصبحنا ندركه كطبيعي في هذا الوسيط. فيلم يخوض في موضوع سينمائي لا يتجاوز السينما نفسها. وفيلم صامت بعد قرن وما يقارب عشرين سنة من عمر السينما. ضرورة يقترح نفسه كمرافعة في حق الفن السابع تتطلب الإصغاء المتمعن، أي المشاهدة المتمحصة. في هذه المقاربة المحدودة في أفق اجتهادنا، سنحاول لمس بعض الجوانب السينماتوغرافية والفيلمية التي تخدم الطرح العام لهذا الفيلم في احتفائه بالسينما الصامتة، والذي لا يشكل سوى الدفاع بالسينما عن السينما كجمالية وتعبيرية، مراعين الجدلية المفروضة بين الشكل والمضمون داخل الخصوصية الفنية للسينما.

الخصوصية الفنية للسينما: سؤال يتجدد
لا يمكن أن يختلف اثنان على أن فيلم الفنان ليس مجرد معارضة
pastiche متقونة للوحات فيلمية عتيقة لازالت متعتها تنبض في رواسب ذاكرتنا السينمائية. لا يمكن أن نختلف كذلك على أنه ليس تأريخا لمرحلة انتقالية في تاريخ السينما بما يعنيه الانتقال من تجديد لا يحتفظ بالضرورة بمنجزات القديم. فيلم الفنان هو هذا وأكثر. كما هو تذكار ربما لكل الأشياء التي جعلت الفيلم السينمائي إنجازا عظيما، وجعلت السينما سحرا لا يقاوم؛ هو كذلك مناسبة للسينما لإعادة مراجعة هويتها الفنية، والقيام بفحص ذاتي لمقوماتها الجمالية والتعبيرية. في هذا الفيلم تحضر السينما في المشهد الرئيسي والممثل والجهاز الإنتاجي إضافة إلى الحيثيات المحيطة بها كالآلية الإعلامية. صاغ المخرج قصة عن فنان سينمائي وجد صعوبة في استساغة الحوار المنطوق في السيناريو، مما أدى إلى غيابه عن الشاشة، وأفول نجمه نتيجة لذلك. لكن علاقته بنجمة صاعدة كان هو من ادخلها فلك السينما، تنقذه في الأخير من موت محقق كإنسان وكفنان. نصية الفيلم عبارة عن نسيج من القناعات السينماتوغرافية التي تحيل مباشرة إلى الماضي السينمائي، بداية من الأبيض والأسود، والعناوين الحوارية المؤطرة، وحتى في الشفرات المتفق عليها في معالجة الميلودراما الغرامية الكلاسيكية، كالتعبير عن العواطف دون الحاجة إلى إشارات شبقية كالتقبيل. بهذا الاختيار يعلن المخرج عن مشروع سينمائي تنصهر فيه مادة الشكل مع مادة المضمون، تاريخ السينما في هذا الرهان التأليفي وحاضرها في المشاهدة المشفرة بقوانين وشروط جديدة، مما يفسح المجال لتأمل يبدأ من السينما وينتهي فيها.

لم يقدم المخرج ميشيل هازانفيشيوس بطل فيلمه "جورج فلانتين" كممثل، أو مؤد لدور، أو مشخص، أو نجم، وإنما كفنان. بعتبة العنوان يدخلنا المخرج في عوالم السينما من خلال رد الاعتبار أولا للفنان السينمائي. وطبعا في واقع إما يقلص الفنان السينمائي في مجرد ممثل، أو مؤد لدور actor، أو يرفعه إلى مستوى لاواقعي كنجم يعتم بنوره على المجهود الجماعي لكل الفاعلين في عملية الإنتاج السينمائية، أقول في ظرفية مماثلة، ما يبرر تعريف بطل الفيلم كفنان، يشتغل بأدوات وينم اشتغاله عن ممارسة وتمرّس. عادة ما تغيب مؤهلات وجدارة الممثل الفنية في هذا الاستيعاب الساذج الذي يرى الدور الفيلمي "للممثل" كمجرد استنساخ لدوره الطبيعي كإنسان في الواقع. فعلى عكس الأداء المسرحي الذي لا تختفي فيه بالمرة آثار التصنّع (فالمسرح مجال مثالي لتفعيل الأقنعة) تنصهر الشخصية الفيلمية في شخص الممثل السينمائي بشكل يجعلنا نعي التشخيص السينمائي كمجرد "رد" فعل طبيعي أكثر مما هو اصطناع فني يتطلب احترافية. وقد رسخت الانطباعية السينمائية تقليد قياس نجاح التمثيل في السينما بهذه القدرة في تحويل الشخصية إلى شخص. وهو تقليد تسرب إلى التعبير المبتذل حول التجارب السينمائية حين تتم الإشارة إلى الدور باسم الفنان وليس باسم الشخصية، أو حين يتم الإقبال على عمل سينمائي من باب شعبية الممثل ليس إلا. زد على هذا أن لقب الفنان صار مرتبطا بالفنون التشكيلية، بشكل قسري واحتكاري، في فهم شريحة واسعة من مستهلكي السينما، وخصوصا منها هاته التي أصبحت السينما تعني عندها مجرد حقل تجارب لإنجازات الثورة المعلوماتية بتعاويذها الرقمية.

عبر عتبة العنوان إذن يدخل فيلم الفنان في حوارية مع حاضر الاستهلاك السينمائي ليعيد تأسيس الإدراك الفني والجمالي للسينما كفن سابع، وذلك من خلال وضعنا وجها لوجه أمام عملية التشخيص السينمائي بكل ما تتضمنه من مجهود خلق وإبداع واحترافية، مبني على قناعات فنية وتعبيرية تعتمد المبالغة والأليغورية، وتجعل الأداء للدور بالإضافة إلى تمثيل للواقع، إضفاء بصمة جمالية لا تنقصها رؤية وتصور خاص لهذا لواقع. التشخيص السينمائي مهنية تتطلب قدرات تمتد من الفيزيائي الكوريوغرافي إلى السيكولوجي، وفنية تنصاع هي الأخرى لتصور وميولات ولمدرسة خاصة، أو تيار معترف عليه، كما ينسحب على كل عمل فني.

بالنسبة لهذه الشريحة الخاصة من جمهور السينما، هذه المؤهلة بطاقة التشفير، وبخطاب مفاهيمي وفهمي ما للسينما؛ وتمتلك قدرة على التفكيك والتأويل تتجاوز مضمون الصورة إلى مادة وشكل هذا المضمون، عنوان فيلمي كـ"الفنان" يشكل فرصة لإعادة النظر في الإشكالية التنظيرية للفنية السينمائية في واقع الألفية الثانية. وهو واقع توسعت فيه رقعة التعبيرية السينمائية في تخوم جغرافية مختلفة، وتنوعت فيه وسائط الانتاج والعرض والاستهلاك السينمائي، واكتسبت فيه السينما كنتيجة لذلك، أدوات جديدة ترتبت عنها طروحات جديدة في المضمون، وتصميمات متنوعة في الشكل. يمثل هذا الفيلم فرصة لإعادة قراءة المتن النظري السينمائي الذي حُكم على بعضه بنهاية مدة الصلاحية أمام التطورات الجديدة، خصوصا هذا المرتبط بالمرحلة الصامتة والمرحلة الانتقالية للكلام. فمن منظور نقدي أو تفكيكي، يعتبر فيلم الفنان توقيعا سينمائيا يعبر زمن النظرية الفنية السينمائية. فهو يربط واقع سينما الأمس بواقع سينما اليوم من خلال السجال حول الفن مقابل التكنولوجيا من جهة، والمهمة الفنية مقابل الوظيفة الترفيهية من جهة أخرى. فالسجال حول الماهية الفنية للسينما لازال لم يفصل فيه بعد رغم الأشواط التي قطعتها السينما في الكيف قبل الكم. وهو سجال يؤرخ زمكان فيلم الفنان لمرحلة احتدامه. سواء كان موضوع السجال هو الحوار المنطوق أو الصورة الرقمية فأطرافه لازلت هي هي، ومقاربته لازالت كذلك مدخلا لغزو السينما عبر مباحث معرفية كانت ولازالت مركزة حول الكلمة بالدرجة الأولى.

فيلم الفنان فرصة إذن لإعادة طرح سؤال هل السينما فن؟ وإن كانت فنا فما يميزها عن الفنون الأخرى؟ أسئلة قديمة جديدها رهين بإعادة طرحها من موقع زمني يفرض تأملها بحساسيات وأدوات مختلفة. كما هو معروف في الحقل الفني تطرح إشكالية التعريف والخصوصية الفنية فقط حين يراكم فن ما إنجازا كميا ونوعيا لا يمكن تجاهله. من داخل هذا الشرط يذكرنا زمكان الفيلم عبر حوارية الذاكرة في الفترة التي فرضت فيها السينما وجودها كأداة تعبيرية قوية الفعالية في التواصل والتأثير على الجماهير، وأصبح من السذاجة تركها رهينة نمو طبيعي كما حصل مع فنون أخرى. في النصية الخلفية الموازية للفيلم يمكن ترصد أصوات الجدل حول الخصوصية الفنية للسينما، هذا الذي كان حلبة صراع بين الأديب واللساني والسوسيولوجي والتقني والسياسي. يمكن كذلك ترصد طبيعة هذا الجدل بكونه مقارعة كلامية حول مهمة السينما وليس ماهيتها. هل مهمة السينما استنساخ الواقع كما تحتم آليتها والهاجس وراء اختراعها؟ أم مهمتها ابتكار شكل تعبيري جديد كفيل بإنتاج خطاب مستقل قائم بذاته. منذ البداية كانت اشكالية الخصوصية الفنية، وبكل تضارب الآراء فيها داخل معسكري المدرسة الواقعية والشكلانية، إشكالية في تحديد وظيفة برغماتية للسينما.

فيلم الفنان يشكل من هذا المنطلق مسرحا فكريا لتنوع وتعدد الخطاب الوصفي الذي حاول التقبض بخصوصية السينما والقبض عليها كملكية خاصة. فهو فيلم يلامس هذا التجاذب بين التيار الفني والتيار البرغماتي الذي تحكم وأثر في مسار السينما منذ بدايتها. موضوعة فيلم الفنان تتطرق لهذا التجاذب في تفاصيل تجلياته الواقعية من خلال أليغورية حياة فلانتين في منعطفها حين دخول الحوار الناطق للسينما. موقف فلانتين في صده عرض الانتماء للسينما الناطقة في وجه المخرج المنتج آل زيمر (جون غودمان) يبين بشكل مجازي موقف الخطاب التنظيري الذي كان يسعى لتحقيق خصوصية تعبيرية للسينما. عرض المخرج المنتج يستند على حقيقة برغماتية السينما بقطبيها الفني والمادي، مع مراعاة الجدلية التي تربط بينهما، وإن كانت هذه الحقيقة لا تبدو مبررا كافيا لكي يتنازل فلانتين عن المبادئ الفنية التي ينطلق منها في عمله السينمائي. وهي مبادئ لا زالت بشكل أو بآخر المحرك الرئيسي وراء العديد من الإنتاج السينمائي بما فيها الآلية الإنتاجية وراء فيلم الفنان نفسه.

فلانتين كشخصية يعبر عن رؤية المؤلف حين يعلق على الاختيار المستقبلي للسينما الناطقة بأنه ليس اختياره. يقول لآل زيمر: «إن كان هذا هو المستقبل فهو لك». هذا التعليق حين ننظر إليه مع اعتبار الجانب الشكلي للغوية الفيلم نتفهم أكثر موقف الفنان كصدى لموقف المؤلف المنحاز إلى فنية السينما، واستقلالها عن الكلمة في خلق لغتها الخاصة، وتطوير جماليتها المتفردة. لكن تأويل موقف المؤلف كموقف ضد السينما الناطقة، سيكون إسقاطا من نوع آخر ينم عن مغالطات، إذا لم تراع فيه الحوارية التناصية intertextuality التي ينخرط فيها الفيلم مع ظرفية إنتاجه الخاصة، أي مع واقع السينما الحالي عموما. بناء على هذه الحوارية يمكن قراءة فيلم الفنان كرسالة موجهة من المخرج تعبر عن موقفه ضد هذا النوع من الإدماج التكنولوجي الباروكي الذي أصبح هو أكثر ما يميز السينما. وهو إدماج لا يراعي الخصوصية الفنية للسينما، ولا تفسره إلا الاعتبارات التجارية، وفيه يتحول الفنان السينمائي إلى مجرد "افاتار". وضع المخرج المؤلف ينعكس نوعا ما في وضع المخرج الشخصية آل زيمر؛ كلاهما مستقطب بين الهم الفني والإرهاصات التجارية. كلاهما يشتغل في فن رهين بالصناعة والتكنولوجيا، في واقع رأسمالي يملي شروطه بدون أي اعتبار للفنية. وهي وضعية تعبر عن الموقف الإشكالي للسينمائي الذي فسر قبول دخول الحوار الناطق للسينما بمنطق التطور التكنولوجي، وفسر رفضه بمنطق الخصوصية الفنية.

بناء على هذا تصبح ضربا من السطحية والعفوية مشاهدة الفنان كمجرد فيلم يحكي عن مرحلة انتقالية في تاريخ السينما وهي مرحلة دخول الحوار المنطوق على الشريط الصوتي. وتصبح نوعا من السذاجة تناوله كفيلم صامت كذلك. فقد راهن المخرج على بناء شكلي يفضح هما تعبيريا وجماليا متعلقا بفن السينما أكثر من هم التأريخ لمرحلة سينمائية. حين فضح شكل الفيلم نية المؤلف في الالتزام بالخطية الفنية الجمالية، مع احتمال التشويش الذي يمكن ان تفرضه المسافة الزمنية بين شكل format الصامت والأبيض والأسود مع واقع المشاهدة الراهن، كان تصاعد الأحداث على مستوى المضمون يقود إلى انفراج معاكس. وقد نجح المخرج بشكل ملفت للنظر في عَكس الهم الجمالي الذي طمحت له السينما الصامتة والارهاص التقني الذي فرضه واقع الحوار المنطوق داخل نفس الاطار وعبر نفس الصورة. فهو قد أوصلنا إلى قناعة الكلام ككشف وإغلاق منطقي لحدث القصة، لكن عبر لا منطق المفارقة والذي هو الحوار الصامت. فـ"الفنان" فيلم صامت لا ينطق حتى يَقتنع ونقتنع معه كجمهور بضرورة النطق، ولكن ينطق فقط حين يوصل رسالته كاملة مكتملة دون حاجة إلى الكلام.

رهان الفنان على المستوى الشكلي والمنبني على المفارقة، والذي يخدم مقصدية النية التأليفية بطرحها الإشكالي وبشكل مباشر كما سبق وأشرنا، نلمسه في التنويعات السينماتوغرافية التي ميزت لغوية الفنان. وأقصد هنا بالتحديد طريقة معالجة عنصر المركب الصوتي الخارج حكائي والمركب الصوتي داخل الحكاية في الفيلم. علما أن هذه البنية الفيلمية في فيلم كالفنان، لها صلة إشكالية بالصوت داخل السينما، ويقع عليها الثقل الدلالي والرمزي بالدرجة الأولى وأكثر من البنى التعبيرية الأخرى والمرتبطة بالصورة والعوامل الأيقونوغرافية. ويتمثل المركب الصوتي الأول في الموسيقى الخارج حكائية التي راهن المخرج على اختيارها بناء على وظيفة مزدوجة: هناك من جهة هذه الإشارة التاريخية المباشرة لسينما المرحلة التي كانت صورتها تتطعم في حركيتها بموسيقى السوينغ، هذه النسخة السينمائية بامتياز لموسيقى الجاز. وهناك من جهة ثانية، هذه الإحالة لروح الإبداع السينمائي في المرحلة، والذي هو الآخر على غرار أسلوب الأزمنة المعاصرة الذي أبدعه لويس آرمسترونغ في الجاز، كان يتسم بالارتجال والارتماء في أحضان المغامرة الشكلية وعدم الانصياع لأي تقليد معين (علاقة السينما بموسيقى الجاز تتطلب وقفة متمعنة لا تسمح بها هذه المناسبة).

بالنسبة للمركب الصوتي داخل الحكاية، نجد المخرج يوظفه كتشكيلات أليغورية سينمائية صرفة تخدم الرؤية التأليفية. نتذكر المجموعية السمفونية التي كانت تؤدي أمام الشاشة الموسيقى المصاحبة للقطة تعذيب بطل الفيلم الذي نتعرف من خلاله على الفنان. المقطع الأول من الفيلم أدخلنا الأرشيف السينمائي في مرحلة غياب العنصر الصوتي داخل الشريط. في هذا المقطع يؤدي المركب الصوتي مهمة تأريخية تنسجم مع تصميم الفضاء الذي يستحضر دور العرض السينمائي الأولى، والتي كانت نفسها دور العرض المسرحي، ومع الجمهور السينمائي الذي كان يستهلك العرض السينمائي برواسب المشاهدة المسرحية. فيه نقف كذلك على العتبات الأولى لما سيسمى لاحقا بسمفونية الفن السابع أو ما هو معروف بالموسيقى التصويرية. في اقتران مشهد الفرقة السمفونية مع إشارات داخل الحكاية، مثل التي تقول «ممنوع الكلام أمام الشاشة»، ما يعزل عالم الصوت إطلاقا عن عالم الصورة ويربط الأول بعوالم الإستهلاك الفيلمي التي كانت في بدايتها مشوشة بطرق تلقي رسبتها الفنون الأخرى خصوصا المسرح والأدب. في لعبة المرايا هاته بين جمهور داخل العرض وجمهور خارج العرض، في الفيلم داخل الفيلم، في شاشة حاضر السينما تنعكس في شاشة ماضي السينما ما يحطنا، عبر الذاكرة التناصية أمام واقعنا كجمهور هو الآخر يتلقى الصورة السينمائية برواسب صور أخرى أهمها الرقمية والتلفزية.

في بعض المواضع يأخذ المركب الصوتي في الفيلم بعدا مجازيا أكثر تعقيدا، تتشابك فيه موتيفات من الحكاية كالخلفية السيكولوجية للشخصية، وأخرى من خارج الحكاية كرؤية المخرج التي تنم عن مرجعية مفاهيمية ترى في السينما أفقا لا محدودا لإنتاج خطابات جديدة. أبرز حضور لهذا التنويع الوظيفي للمركب الصوتي داخل الحكاية في الفيلم يتجلى في مقطع الكابوس. هذا المقطع الذي يدخلنا في العوالم النفسية للفنان لنقف معه على هواجسه الخاصة كفنان سينمائي يرى في الصوت عنصرا تهديديا لوضعه الفني والوجودي. في هذه العوالم يصير غياب الفنان مرادفا لغياب صوته. كابوس فلانتين هو نوع من الرؤيا التي تستجيب لرؤية تنبعث عن هاجسه الأول في الواقع والذي ليس إلا تحول السينما إلى فن رهين بإنتاج الصوت عوض إنتاج الصورة. ما يميز مقطع الكابوس، زيادة على الأصوات المبالغة فيها للأشياء، هو المفارقة السمعية البصرية الناتجة عن دوي انفجار حدث بوقع ريشة على الأرض. انزياح سينمائي من هذا القبيل كما هو خلاصة تركيبية لهواجس الشخصية فلانتين، هو من الناحية التأليفية نوع من لفت النظر إلى قدرة السينما على تجاوز تصوير الواقع بأصواته المعقولة والمحسوسة إلى تصوير لاواقع الأشياء المدركة عبر ميكانيزمات أخرى كالهاجس واللامعقول. كأن في هذه اللقطة ما يذكرنا أنه فقط فن السينماتوغراف الذي يستطيع تصوير الأحلام والكوابيس، قادر على تشكيل واقع لا يخضع في إدراكه لشروط الاستيعاب المنطقي المنخرط في طقوس العادي واليومي، واقع يمكن أن نسمع فيه صوت ريشة. وهو ما لا يمكن أن نتصوره في الواقع نظرا لحدود طاقتنا الإدراكية، بينما يمكن للطاقة التعبيرية السينمائية أن تخرجه في أشكال مرئية.

نستخلص من هذا أن ارتباط الصوت داخل الحكاية بالدواخل السيكولوجية للبطل نابع عن حافز ينتمي إلى الخلفية التأليفية الرئيسية للفيلم. إذ نفهم حضور الصوت في فيلم صامت، من خلال هذه الحيثية، دعوة من المخرج للمشاهد أن ينخرط في عملية تأمل، تكشف عن جوانب مهمة من الإشكالية التي يطرحها الفيلم بخصوص الجمالية والتعبيرية السينمائية. وفي ظل هذه الإشكالية يقترح المخرج كذلك طرح السؤال الأكبر وهو هل الحوار المنطوق إضافة أم إعاقة لهذه الأخيرة. تصوير مشاهد الحلم ابتكار سينمائي بامتياز و الشهادة الأولى التي تصادق على قدرات السينما كفن بصري في خلق عوالم خاصة، تتجاوز الواقع المعاين والمعقول، والذي يُستسهل في التقليد والمحاكاة، إلى واقع باطني ظلت صورته محاصرة في المخيلة والحلم، ولا يطلع للإدراك الحسي إلا عبر الوصف التقريبي بواسطة الكلمة في الأدب، أو الفضاء الرمزي في المسرح.

فعديدة هي العوالم التي كان وعيها مرهونا باللفظ ودخلت هامش الإدراك الحسي بواسطة فن السينماتوغراف. وهو ما جعل السينما منذ تدشينها كفن سابع محط اهتمام المقاربة التنظيرية الفنية التي تتكئ على النظرية الجيشتالية التي لا تنظر للفن أو إدراك العالم فنيا كعملية دافعها التقليد وإنما كتركيب له بنيته الخاصة وله مقاصده المستقلة عن المحاكاة والاستنساخ. هذه النظرية وجدت في المشهدية السينمائية حقلا خصبا لإنارة طروحاتها العامة. وهي طروحات سرعان ما تسربت إلى التنظير في السينما، لا سيما مع المنظر الألماني رودولف آرنهيام Rudolf Arnheim إشتغال آرنهيام على الفيلم يدخل ضمن مشروع أشمل ينظر للفنون البصرية كحيز يفسح المجال بشكل أفضل لدراسة الادراك البصري عامة . لهذا السبب كان هذا المنظر يركز على جهاز الدلالة السينمائية التي تعتمد المركبات المرئية بالدرجة الأولى. وكانت تنظيراته في جلها إن لم نقل في كليتها تنصب في خلاصة أن السينما فن يجب أن يظل مرتبطا بالمشاهدة، وبأي ثمن كما أضاف منظر سينمائي جيشتالي آخر هو ريني كلير Rene Clair.

مادة الشكل لمشهد الكابوس هي الأخرى تقترح تأملا قد يفضي بنا إلى الاستنتاجات نفسها التي خلصنا إليها مع مادة المضمون. فهي الأخرى تراهن على الخاصية السينمائية داخل الإشكالية العامة للفيلم التي أشرنا إليها أعلاه. فالعلاقة بين الصورة والصوت لا تخضع في مشهد الحلم لمنطق التوافق الطبيعي أو بالأحرى الانطباعي الواقعي، وإنما لمنطق الترابط السينماتوغرافي الذي تتنوع أشكاله حسب الإمكانيات الخصبة للمونتاج. المونتاج السينمائي لغويا ومجازيا مجال لاقتراح علاقات جديدة بين الأشياء بعضها مع بعض وبين الأشياء ودلالاتها من خلال معجم اليومي والواقعي. وهو ما نقف عليه في المشهد مع دوي انفجار الريشة (لاحظ الانزياح الذي يفرضه وصف اللقطة على اللغة) حين عوض المخرج هذا الترابط عبر المزامنة synchronization التطبيعية، بمونتاج جدلي توليدي يخلق علاقة جديدة بين الصورة والصوت. عبر إضفاء عنصر الصوت على الريشة يفتح الصوت السينمائي أمامنا هامشا إدراكيا جديدا غنيا بالدلالة والرمزية. هامش من هذا القبيل ، كما يقترح المخرج من خلال هذا التوليف، لا يمكن معاينته بالتوظيف المبتذل للصوت في الحوار الناطق والكلمة الممسرحة والذي لا ينتج عنه إلا سقوط السينما في وظيفة المحاكاة لواقع، له مرجعية في العالم الخارجي، عوض تأسيس واقع جديد مرجعيته في ذاته. حين يحصرنا صمت الريشة في الواقعية والمحاكاة، يقترح علينا انفجارها إلى الارتماء في أحضان أبعاد إدراكية جديدة وخصبة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه المعالجة الشكلية، في الوقت الذي تربط الصوت أكثر بالفنية والجمالية السينمائية، تذكرنا بما أشار له إيزينشتاين Eisenstein من الإمكانيات التعبيرية التي يمكن أن تمنحها السينما الناطقة إذا راعت الخصوصية الشكلانية للسينما. يرى إيزينشتاين للسينما الناطقة كفرصة لإيصال هذه الأصوات التي لا يمكن للآلات الموسيقية، أو أي صوت من العالم الواقعي أن يوصلها، كما يرى إلى الكلمة كإمكانية تقوي من الطاقة التعبيرية السينمائية. لكن هذه الإمكانية لا ترتبط حسب المنظر والمؤلف السينمائي الروسي بأي علاقة منطقية بين الصورة والصوت وإنما بنية المؤلف في خلق مفعول ما من وراء هذه التوليف لهذه العلاقة. إيزينشتاين بدوره، هذا الذي يرى في المونتاج الخصوصية الجمالية والتعبيرية للفن السابع، يشترط حضور هذه الخصوصية في في اعتماد المفارقة كمنطق للتوليف بين الصورة والصوت. فالصوت داخل السينما، والحوار المنطوق كامتداد لذلك، قد يؤدي إلى نتائج رائعة مع مؤلف يرى أن المونتاج هو الفاعل الوحيد الذي يحقق استقلالية السينما كفن.

كابوس فالانتين يترجم بصريا هم الهوية الفنية السينمائية: هل الخصوصية الفنية السينمائية تكمن في انطباع الواقع أو في الطموح الشكلاني لتأسيس واقع مشهدي مستقل؟ هل الطموح الفني لهذه السينما الجديدة المسماة بالسينما الناطقة هو اختزال السينما في واقعية اليومي والعادي المتمركزة حول الكلمة، أم هو المغامرة الشكلانية في مفارقات جديدة بين الصورة والصوت؟ مشهد الكابوس، كان هو الاستثناء الصوتي داخل النسق الشكلي الذي يعتمد الصمت، وبالتالي فهو تسطير مجازي من المخرج يعلن من خلاله أن السينما الصامتة لم تستنفذ بعد طاقتها التعبيرية والجمالية كفن؛ وأن إخضاع أي جديد تقني لمبدأ الخصوصية التعبيرية السينمائية يجب أن يكون الهاجس الأول لأي تجديد في السينما؛ وأخيرا أن الفن السابع الذي صور الكوابيس هو أكثر الفنون مطاردة بهواجس الخوف والقلق والتردد. هذه الهواجس التي تشكل حافزه الأول للمغامرة الشكلية التي يطلع فيها كل مرة بالجديد.

لغة السينما الصامتة: لغة السينما
على ضوء ما ذكرنا يمكن مقاربة فيلم الفنان كمتن يبين وينير الخطاب التنظري، حول السينما في مرحلة القطيعة بين الحوار الصامت والحوار المنطوق، من قبيل تنظيرات رودولف آرنهيام Rudolf Arnheim وبيلا بلاز Bela Balaz و جرمين ديلاك Germaine Dulac و إيزنشتاين Eisenstein على سبيل المثال لا الحصر. عبر سينماتوغرافية توظف الفضاء الفيلمي كدال وليس مجرد إطار لحركة الشخصيات استطاع المخرج أن يعرض هذا الخطاب من عدة جوانب أهمها حالة التجاذب الذي تأرجحت فيه النظرية بين السينما الخالصة والسينما الممسرحة. هذا التجاذب هيئنا له المخرج منذ المقطع التقديمي للفيلم، والذي يتضمن لقاء الفنان بالجمهور في قاعة العرض. علما أن العرض عملية تشمل السينما والمسرح ولحد الآن كما هو سائر في بعض اللغات، لازال إسم "المسرح" ينسحب على دور العرض السينمائي. في هذا المقطع الاستهلالي تحضر الشاشة كعلامة دلالية مباشرة عن السينما تعزلنا كجمهور سينمائي محض يدخل في خانة الجمهور المحتمل والذي ننتمي له في الواقع وجمهور شخصية حاضر على مستوى الحكاية. طقس المشاهدة السينمائية يجمعنا بالجمهور الشخصية حين نتتبع معا لقطات فيلمية تخضع فيها للتعذيب شخصية يؤدي دورها الفنان. نهاية الفيلم داخل الحكاية تحدد وضعيتنا كمشاهدين بموقعتنا في خانة السينما بالدرجة الأولى في حين تخرج الجمهور الشخصية من حالة المشاهدة السينمائية وتدخله في طقس المشاهدة المباشرة لشخصية البطل على خشبة المسرح. في الوقت الذي نبقى فيه نحن كجمهور خارج فيلمي نخضع لقناعات التلقي السينمائي في الفيلم الصامت ولا نسمع الأصوات، يدخل الجمهور داخل الفيلمي في طقس مسرحي يسمع فيه صوت الفنان متكلما أو ضاحكا، وهو شيء لا يتحقق له أثناء المشاهدة السينمائية.

في لعبة المرايا والانعكاسات هذه في المتواليات الأولى، حيث تكون لقطات نهاية الفيلم داخل الحكاية هي لقطات بداية الفيلم الذي نحن بصدده، وحيث نتماهى مع الجمهور في المشاهدة السينمائية وننفصل عنه في المشاهدة المسرحية، ويقوم الفنان بأداء دور داخل الدور، ما يحضرنا كـ"متلقي مثالي" لنوع من الخطاب الميتاسينمائي مرتبط مباشرة بإشكالية الصورة والصوت في السينما بالشكل الذي يطرحه المخرج المؤلف. يمكن تحصيل استنتاج أولي كهذا في اعتماد المخرج بشكل مكثف على مؤشرات بصرية ونصية كلامية ترتبط بعوالم الصوت والصورة كاللافتة التي تقول ممنوع الكلام أمام الشاشة، أو صورة عملية تعذيب مركزة على العضو الجسدي المرتبط مباشرة بالسمع، أو النص المؤطر الذي يؤكد بلسان الشخصية عزوفه المطلق عن الكلام بقوله "لن أتكلم".

في الوقت الذي يمكن فيه مقاربة لقطة عملية التعذيب كنوع من الاختزال المجازي لحكاية محنة الفنان التي تشكل موضوعة الفيلم الرئيسية، يمكن كذلك استشراف أرضية هذه المحنة من خلال لقاء الفنان بالجمهور الذي يتم بعد العرض، ونضيف، الصامت للفيلم في هذا اللقاء نوع من الرغبة في تحقيق إشباع ما من الفنان له علاقة بالدرجة الأولى بجوانه المرتبطة بالصوت من كلمات وضحكات، وهي الجوانب التي احتجبت في العرض السينمائي الصامت. هناك إذن نوع من التشريط اللامباشر للفنان يحدد نوعية عمله بناء على رغبة الجمهور هذا العنصر الرئيسي والفعال في جدلية الثنائية الإنتاجية الاستهلاكية في السينما. لقاء الفنان بالجمهور يضعنا أمام مفارقة الحتمية المأساوية التي ستحدد مصير الفنان لاحقا مع تطور الأحداث في القصة. فخشبة المسرح بما تفرضه من قوة تمثيل وطاقة أداء، كما تشكل منصة تتويج لنجاح الفنان تشكل كذلك أرضية مفخخة ستبتلعه كفنان سينمائي لأن المسرح أساسا فن الكلمة المنطوقة. الفنان نفسه يعبر عن هذه المأساة باستعارة عبر مسافة تشكلت في الرمال المتحركة التي تبتلعه في لقطة لاحقة من داخل الفيلم الذي أنجزه على أمل إنقاذ ما تبقى من نجوميته. علاقة فلانتين مع الجمهور التي ترفعه في درجات النجومية هي التي ستكون السبب الرئيسي في سقوطه لحضيض النكرة والنسيان. هذه العلاقة تدخل في الحيثيات الباراسينمائية التي تؤثر على الآلية الإنتاجية السينمائية خصوصا المشروطة منها بقوانين الرأسمالية والسوق.

من ناحية لغوية سينمائية، نجد هذا المقطع الاستهلالي ينبني على شكل المتوالية الممسرحة بالمفهوم الغراماتولوجي الذي أعطاه كريستيان ميتز للمقطع السينمائي الذي يتوحد فيه عنصر الزمان مع المكان، أي ما يصطلح عليه ب scene. نوع المتوالية هو الآخر يؤثث لجو الالتباس بين المسرح والسينما. فالفنان الذي كان ينتمي لعوالم السينما يتحول إلى فنان مسرحي بمجرد إسدال الستار على الشاشة السينمائية.
لقطات الفيلم الأولى تتميز بالتباس على صعيد تحديد الهوية: هي لقطات مسرح وسينما وفي الوقت نفسه، ويؤدي فيها الفنان دورا مسرحيا ليس له من أساس بدون مرجعية في دوره السينمائي. في هذه اللقطات كذلك يتحول جمهور السينما هو الآخر إلى جمهور مسرح. خشبة المسرح هي فضاء الارتياب والتردد الذي سيواجه به الفنان السينما الناطقة لاحقا. هذا الارتياب هو نفسه الذي اعترى السينما في بدايتها وشكل منعطفا حاسما في تطورها على مستوى اللغة والتعبيرية والجمالية. تراجيديا الفنان هي أصلا نكوص السينما إلى النموذج المسرحي الذي تحدث عنه جيلبيرت سيلدس
Gilbert Seldes

على مستوى السينماتوغرافيا ندرك مكانة فلانتين كشخصية ودور ونجم من خلال تقاسيم وجوه الجمهور وتعابيرها إضافة إلى تصفيقاته الصامتة. تفاصيل أداء الجمهور- الشخصية هو إثبات حقيقة بخصوص التعبير السينمائي تجد أرضيتها في السينما الصامتة، وهو التعبير على الفعل من خلال رد الفعل. لكن انتباهنا لتعبيرية تقاسيم الوجه أو هذه الكوريوغرافية المصغرة، لم يكن ليتم لولا غياب المركبات الانطباعية التي عادة ما تملأ الشريط الصوتي في سياق مماثل. فغياب صوت التصفيقات والهتافات هو ماجعلنا نستسلم كلية للتعبير الجسدي للجمهور، أي لقوة التعبير بواسطة الحركة (هذا المفهوم الأولي لفن السينماتوغراف). كما لا يخفى ، غياب الحوار في السينما أو نذرة المؤثرات الصوتية يجعل التركيز أكثر على الجانب المرئي ويفسح المجال أكثر لتذوق جمالية الصورة.

تجدر الإشارة إلى أن مشهد الجمهور بخصوصيته اللغوية السينمائية يدشن نوعا من التعالق مع السينما الصامتة من خلال إحالته مباشرة على مشهد آخر أصبح ركيزة مرجعية في النظرية السينمائية التي تدافع عن السينما الصامتة، وهو مشهد الحفل الموسيقي في فيلم فييدرFeyder  في هذا المقطع لا نتلقى الموسيقى كسمع (إحدى المفارقات الجمالية للفيلم الصامت هو عدم إسماعه للموسيقى داخل الحكاية) وإنما كإدراك من خلال عرض الجمهور وهو في حالة استماع. ندرك الموسيقى من خلال استرخاء تقاسيم الوجه وميلان الرأس بلطف من جهة لأخرى. في مشهد فيلم فييدر، كما في المشهد الافتتاحي في فيلم الفنان تعهد السينماتوغرافييا لفسيولوجية الوجه لتعويض الدال الصوتي. ما يميز هذا التعويض هو استبداله الدلالة المباشرة بالدلالة المجازية.

على المستوى الخطاب التنظيري نقف من خلال عينات من هذه المشاهد على التقنيات التي طورتها السينما الصامتة لتصبح نوعا من البلاغة السينمائية فيما بعد. وهي كلها تقنيات تعبيرية، كما يشير رودولف آرنهيام، ناتجة عن الافتقار لعنصر الصوت والكلمة المنطوقة بالدرجة الأولى. وكما يسطر بشدة هذا المنظر الألماني معادلة الافتقار الذي يفيد الكمال هي أساس قوة التعبيرية الفنية للسينما. فالسينما فن طور لغته وتعبيريته بناء على الافتقار المتضمن في صمته أو ما أسماه آرنهيام الإعاقة via negativa  فحين يبغي الفيلم التسطير على عنصر مسموع يحوله إلى مشهد يغيب فيه العنصر الصوتي بشروطه الطبيعية ويحضر فيه عبر إحدى تداعياته. ففيلم الفنان عبارة عن ذخيرة مرئية répertoire من هذه الوضعيات السينمائية التي اعتمدها الخطاب التنظيري المنحاز لجمالية السينما الخالصة، أي ما يعني في منظوره جمالية السينما الصامتة.

وهي وضعيات تذكرنا ببناء البلاغة السينمائية من خلال معادلة التنافر بين المعطى الواقعي والأداة الفنية السينمائية التي تود التعبير عنه. هذا تنافر كما يذكر آرنهيام يعطي للممثل والمخرج مجالا لا محدودا للخلق والابتكار. من خلال الفنان نسترجع الصور السينمائية العديدة التي أصبحت متداولة ومستعملة ولم تكن في الأصل إلا مجازات مركبة من باب هذا التنافر. فالمجاز الذي تعتمد عليه جوهريا الكتابة السينماتوغرافية، كما توسع في ذلك بيير باولو بازوليني، يرجع فعليا إلى مرحلة السينما الصامتة ومبدئيا إلى معادلة الافتقار الذي يفيد الكمال. يزخر الفيلم بالعديد من الإشارات البصرية التي تحيل على وضعية الفنان من الاجتماعية منها إلى السيكولوجية. لقاءه مع بيبي ميلير عبر السلاليم يؤشر على وضعية هبوطه في الوقت الذي ترتقي فيه البطلة في سماء الشهرة. لافتة Exit التي كان يقف بجانبها وقت المزاد العلني فيها نوع من الإشارة لوضعه كفنان يخرج من عالم النجومية. عزلة الفنان في الأخير يتم الإشارة إليها من خلال ملصق سينمائي بعنوان "عزلة فنان" معلق على باب دور عرض يمر أمامها فلانتين وكلبه جاك. هذه التدويرات البصرية والنصية التي أصبحنا نألفها مع جون ليك غودارد وسينما التعبيرية الألمانية كانحيازات سينمائية تميز مدرسة عن أخرى، وتيار سينمائي عن آخر، تجد مرجعيتها كما أشرنا في جمالية وتعبيرية السينما الصامتة. فيلم الفنان من هذا المنطلق يدخل في علاقة تناص وتعالق تفكيكي إن أمكن القول مع متن السينما، ينير فيه الأرضية المرجعية للعديد من التيارات والميولات السينمائية كذلك.

نجح المخرج ميشيل هازانفيشيوس في إنجاز فيلم بعين مخرج ينتمي لمرحلة السينما الصامتة، لكن بنظرة مؤلف تشرب النظرية السينمائية التي تناولت المرحلة بالدرس والتحليل. إحدى لحظات الفيلم التي تضيء حنكته التأليفية هي لحظة الحوار الذي قدمته الفنانة بيبي ميلير للصحفي في الحضور غير الملحوظ للفنان فالانتين. في هذا الحوار تجتمع مقصودية المؤلف والنص والمتلقي، التي تحدث عنها أومبيرتو إيكو، بشكل يستفز المشاركة الواعية للمشاهد بالتماهي مع الشخصيات، والذي لا يعني سوى تبني طرح سينمائي عوض آخر بخصوص الحوار المنطوق في السينما. هذا الحوار كان منعطفا دراميا في علاقة فلانتين وبيبي وتأتى عنه برود في العلاقة بينهما. فجواب بيبي ميلير لاستفسار الصحفي لاختيارها سينما الكلمة، ركز على مكامن افتقارات السينما الصامتة، والتي ليست في الأصل إلا جردا مفصلا لطريقة أداء فلانتين السينمائي. من جانب مقصودية المؤلف يمكن أن نجد في كلام يبي ميلير، ويجب ألا ننسى أنه كلام غير مسموع، وإنما عبر نص مصاحب، ما يبين عن نية تفكيكية تضعنا على أرضية السجال النظري حول الحوار الناطق في السينما. فإنطلاقا من قناعات ردولف آرنهيام، والتي لحد ما هي قناعات المخرج، يمكن حمل كلام بيبي ميلير عن مكامن النقص في السينما الصامتة على عكس مقصده، أي كوصف دقيق لعيوب السينما الناطقة. حضور الصحافة في هذه اللحظة الدرامية في الفيلم هو الآخر يؤثث لاستيعاب جديد للسينما، بعيدا عن عوالمها الفنية والجمالية، وظهور وعي سينمائي مبتذل ينزل السينما إلى العالم المادي البراغماتي. الحوار الصحفي لبيبي ميلير هو بمثابة صياغة بيان طلاق السينما من الفن، ودخولها مرحلة الفرجة الجماهيرية، وما تتطلبه هذه من تنازلات ومساومات سواء في الشكل أو في اللغة التعبيرية.

نصيا تميزت كذلك براعة المخرج بالتزامه بخطته وخطيته التأليفية، وتجلت في استناده في خلق الدلالة والإحالة في متوالية الحوار الصحفي على ثلاث قنوات تعبيرية تطورت فقط في السينما الصامتة. وهي النص المصاحب، الكوريوغرافية المعبرة لبيبي ملير، وردود فعل الفنان من خلال تقاسيم وجهه. كان من الممكن للمخرج أن يلجأ للحوار المنطوق في لحظة السيناريو هذه. فقد كانت اللحظة الأكثر مناسبة لدخول الكلمة المنطوقة في الفيلم. لكن لجوءه إلى المفارقة مرة أخرى سيجعلنا نقف على هذا الجانب المهم من التعبيرية الجمالية السينمائية التي لم تعد فيها الشفتان مجرد هذا العضو المتحكم في القدرة على الكلام، وإنما أداة تعبير بصرية. ولم تعد حركة الفم نتيجة فيزيولوجية لعملية الكلام وإنما كوريوغرافية معبرة عبر جمالية الأليغوريا. هذا إلى جانب الضحك الصامت الذي يضاعف من الوقع الدرامي للمشهد بشكل لم يكن ليتحقق في حالة الضحك المسموع. لحظة الحوار الصحفي في الفيلم شكلت نموذجا مثاليا للكوريوغرافية السينمائية، وهو ما من شأنه خلق نوع من الاستفهام بالنسبة للمتلقي المشاهد بخصوص جدوى الكلمة في السينما. فالمتلقي المثالي الذي يتضمنه خطاب الفيلم لن يجد بدا من معالجة موقف تستقطبه رؤيتان تتضمنان من المشروعية ما يجعل من الصعب إلغاء إحداهما بأخرى. طرح بيبي ميلير الذي عبرت عنه بالكلمة يجد ما يبرره في الفنية والجمالية السينمائية، وكذلك طرح فلانتين الذي عبرت عنه السينماتوغرافيا الصامتة.

«جاك»: الزواج بين الصورة والكلمة بشروط السينما
كما سبق وأشرنا، اعتمد فيلم الفنان في توليد معانيه على سينماتوغرافيا الحركة والتعابير الجسدية والنص المكتوب وهي كلية تقحمنا في عوالم السينما الصامتة بكل حيثياتها الجمالية والتعبيرية. على طول الفيلم التزم المخرج بطرح نظري مفاده أن السينما فن مستقل في تعبيريته ولا يشكل دخول الكلمة المنطوقة بالنسبة له إلا الإضافة. أقل ما يمكن أن نخلص له من مشاهدة فيلم الفنان هو أن السينماتوغرافيا الصامتة لازالت قلبا ينبض في جسد السينما مادامت هذه الأخيرة فن المشهد والحركة بامتياز. شخصية جاك التي أداها الكلب أوغي، هذا الحيوان الوحيد في تاريخ السينما الذي حصل على جائزة الأوسكار، هي معادل أليغوري لهذا القلب النابض للسينما المتمثل في الحركة. فدور جاك حاضر بحركاته حضورا لا يستدعي الكلمة من جهة، وبدونه لا تتحقق أي ذروة للقصة في التصالح بين الشخصيتين الرئيسيتين من جهة أخرى، أو ما يشكل رمزيا الزواج بين الصورة والصوت.

في حرص المخرج على إعطاء دور للكلب أوغي في شخصية جاك والاشارة إليه في الجنيريك، وإن لا تبدو أي جدوى لذلك، نوع من الاحتفاء بحضور الحيوان في الفن السابع، وبفنية الحركة التي يعتمدها هذا الأخير بالدرجة الأولى في التواصل والتعبير. أوغي يشتغل في نصية الفيلم بمثابة حلقة تربط بين عالم المؤلف والشخصيات والمتلقي. إضافة إلى شرط حضوره الما قبل وبعد الإنتاج بالنسبة للفيلم يقوم الكلب أوغي بدور مماثل إن لم يكن امتدادا رمزيا لدور الفنان. فدوره الفيلمي كـ"جاك" هو الآخر يشخص حالات داخل الفيلم الذي نشاهده وداخل الأفلام التي نشاهدها في الفيلم الذي نشاهده. جاك هو الآخر يقوم بدور مزدوج مثل فلانتين نفسه. يمثل ويقوم بدور الممثل. في دوره الدرامي داخل الحكاية كجاك أو خارج الحكاية كأوغي يمثل أوغي قمة الإبداع السينمائي الذي يتضافر فيه مجهود المخرج مع مجهود الممثل. وكون أوغي حيوان غير ناطق ومحدود الإمكانية في التواصل فهو هذا العنصر الفيلمي الأقوى في إحالته عن الخطاب التنظيري الذي يرى أن الإعاقة في الإمكانية، كما أشرنا أعلاه، عنصر إيجابي وخلاق في فن السينما. الكلب جاك استعارة لفلانتين في حدود السينما التي يؤمن بها والكلب أوغي استعارة عبر مسافة بعيدة تعزز طرح المخرج داخل سياق المنظومة النظرية للسينما الصامتة.

وكما يشكل أوغي بالنسبة للمخرج حقيقة السينما كفن الحركة، يشكل جاك بالنسبة لفلانتين حقيقته كفنان سينمائي حرفيته مرتبطة أكثر بالحركة منها بالحوار. هذه الحقيقة التي تصمد في وجه التغيير وتضمن استمراره كفنان سينمائي بالدرجة الأولى. فجاك هو الذي سيلعب دور المنقذ بالنسبة لفلانتين كإنسان وكفنان. رمزيا انقاذ فلانتين هو إنقاذ سجل السينما الصامتة، التي كانت ستلغى في رماد النسيان. وفي كون هذا الإنقاذ بمحولته الرمزية يتحقق بجاك الذي بحدود إمكانياته التواصلية استطاع استدراج رجل شرطة للبيت المحترق، يجعلنا لا نعيد النظر فقط في السينما الصامتة ولكن في ثقافتنا الأنثروبومركزية التي ترى في الإنسان الكائن الوحيد القادر على التواصل بإشارات وشفرات، وهي نظرة احادية تمشي جنبا إلى جنب مع اناتية أخرى هي المركزية اللفظية التي تدور كل ثقافة الانسان في فلكها ولا تستوعب التواصل دون نظام لساني. دور جاك في هذه الحالة هو دور المنقد للسينما التي أصبحت هي الأخرى مقرونة بمنطق الكلمة صوتا وفعلا. و دور أوغي بالدرجة الأولى هو لفت الانتباه لقدرة السينما على الارتقاء بعيدا في هذه العوالم التي تخرج عن قدرة وطاقة الكلمة.

الكلب أوغي أنقذ فلانتين الإنسان كما أنقذ فلانتين الفنان وبالتالي فهو يشكل استمرارية السينما الصامتة في استمرار عاملها الأول. تصالح فلانتين وبيبي ملير يدخل هو الآخر في شروط هذه الاستمرارية حين شكّل جاك السبب الرئيسي لتحقُّقه. لعبه لدور سينمائي تمثل في محاكاة دور من سقط صريعا من طلقة رصاصة كان بمثابة قطيعة بين فترة اليأس و فترة الأمل بالنسبة للبطل وفرصة للتصالح بالنسبة للبطلة ببيبي ميلير، والذي تتأسس عليه رمزية الزواج في المستوى الإحالي بين الصورة والصوت والمستنفذة الاستعمال في هذا السياق. لكن المخرج ارتأى أن يمرر لنا فكرة هذا التصالح أو الزواج عبر فنية السينما الصامتة بامتياز، وذلك حين راهن على التعبير بمجاز النتيجة عوض مباشرة السبب. على المستوى السينماتوغرافي كان سقوط جاك ما هو يعادل في الصورة صوت طلقة المسدس. هذا المشهد يدخل في حوارية مع مشهد سينمائي آخر تحتفظ به الذاكرة التنظيرية السينمائية التي تدافع عن السينما الخالصة والتي لا تعني عندها شيئا أخر غير السينما الصامتة. إنه مشهد إقلاع الطيور في فيلم "بجع نيويورك". في هذا المشهد ندرك طلقة رصاصة من خلال الإقلاع المباغت لسرب من الطيور. تجدر الإشارة أن رودولف آرنهيام تناول هذا المشهد بالتحليل الدقيق والمسهب في كتابه الفيلم كفن وعليه اتكأ في تمرير تنظيراته حول السينما ذات الطابع الجيستالي.

دور أوغي المزدوج مع دور جاك في السقوط صريعا مع الطلقة هو دور الواقع حين يقلد السينما. في هذا الحيز بين واقع السينما وسينما الواقع يتحقق فلانتين الفنان، وداخل هذا الحيز تتحقق مصالحته مع بيبي ميلير والتي لا تعني سوى مصالحته الفنية مع الشكل السينمائي الجديد. يتنهي الفيلم بلقطة بروفة موسيقية راقصة يؤديها كل من فلانتبين وبيبي ميلير وجاك. هذا المشهد يحيلنا داخل الفيلم إلى المشهد الذي أعاد فيه فلانتين التعرف على بيبي ميلير من داخل هويتها السينمائية. ما ميز ذاك المشهد هو حوارهما عبر حركات راقصة من خلال شاشة تفصل بينهما من أعلى الركبتين. في المشهد الأخير تختفي الشاشة كحيز فاصل بينهما لتتحول إلى حيز تواصل. في هذا الحيز يتحول الرقص الفردي إلى رقص ثنائي أوثلاثي تنسجم فيه الشخصيات الرئيسية في الفيلم.

في المشهد الأخير في الفيلم يجتمع مرة أخرى العامل التأريخي مع الهم الإشكالي الأول للفيلم والمعني بالفنية و الخصوصية الجمالية السينمائية. هذا المشهد الذي تحضر فيه كل الآلية السينمائية الإنتاجية يعلن فيه عن ولادة جديدة للفنان. كما في هذه الولادة إحالة مباشرة إلى الظرفية التاريخية التي ظهر فيها النوع الموسيقي في السينما والذي كان المخرج الفعلي من أزمة الانتقال من السينما الصامتة إلى سينما الحوار المنطوق، هناك هذه الحمولة المجازية التي تحقق فيها على طول الفيلم الهم الرئيسي من وراء إنجازه و هو الاحتفاء بالسينما الصامتة وتتويج السينما الخالصة التي ترمي إلى التميز على مستوى التعبير والجمالية. ينتهي فيلم الفنان و هو يعلن استمرار السينما بشرطها الخاص والذي هو الحركة. حركة تتمثل في رقصة أبطاله و في الكلمة التي تختمه “action!”

 

هيوستن 2012