يتناول الباحث الجزائري هنا قضية العولمة ببعديها الثقافي والفكري، ويطرح بعض الاستقصاءات عن بنيتها الفكرية باعتبارها أحدث مراحل الاستعمار، وأخطار تعاملها مع دول لا تعي أهدافها وليس لديها مشروعها، على عكس الصين مثلا، وهو أمر أرجو أن يفتح الباب لجدل تود (الكلمة) دعوة الكتاب للمشاركة فيه.

البعد الثقافي والفكري للعولمة

بوبكر جيلالي

إنّ الحديث عن مظاهر العولمة وتجليّاتها لا يكون في غياب الحديث عن ظروف تكوينها وعوامل انتشارها ومن دون ربطها بالواقع الرأسمالي والإيديولوجية الليبرالية والفكر الحداثي وما أفرزته هذه الروافد من آثار وتداعيات كان لها السبق في إنتاج العولمة بالمفهوم المعاصر وفي سياق العصر وما تميز به من تحوّلات وتحديات، ومن غير الممكن حصر تداعيات العولمة على الحياة الثقافية كما يفعل البعض، فهي كوكبية وكونية ذات تركيبة عامة تشمل الحياة برمتها وتمس جميع ميادينها، ويظهر تأثيرها في المجالات الفكرية والثقافية والعلمية والتكنولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، لأنّ أصل تكوينها يعود إلى ما تمّ إفرازه من انفجار علمي وتقدم تكنولوجي وتطور اقتصادي وتحول سياسي وتغيّر اجتماعي. وتجلّى ذلك في بلدان الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية، البلدان التي احتكرت منتجات التقدم العلمي والتكنولوجي وشرعت في تعميم إيديولوجيتها وثقافتها ونموذجها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على شعوب العالم الأخرى، خاصة تلك التي تختلف معها إيديولوجيا، وتفرض القيود على كل المحاولات التي تستهدف التنمية الاقتصادية، والخروج من التخلف خارج النموذج الليبرالي الحداثي الغربي، فاتجه النموذج الحداثي الليبرالي نحو العالمية لتوفر عواملها الموضوعية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، والعوامل الذاتية السياسية والإيديولوجية، والتي تعبر عن الخصوصية الفكرية والثقافية الغربية في مقابل خصوصيات شتى عرفها ويعرفها العالم.

إنّ السياق التاريخي الذي نشأت فيه العولمة وتكوّنت يكشف عن تجلياتها، وهي تجليات ارتبطت أساسا بالفكر والثقافة وبالسياسة والاقتصاد وبالحياة الاجتماعية عامة، وإن كان الاقتصاد وتطوّره كانت له الأولوية في جرّ العالم صوب العولمة وجعلها تشمل ما هو ثقافي وسياسي واجتماعي وعسكري وغيره، بالنسبة للمظهر الفكري والفلسفي والثقافي عمومًا, ويتمثل في الحرص على تعميم الفكر الفلسفي الليبرالي الرأسمالي الذي يقوم على مبادئ الحداثة والتحديث كما يفهمها الغرب، وهو فكر مناهض لكل أنماط الفكر في العالم، هذه المفاهيم والمقولات التي ارتبطت بالنهضة الأوربية وبالإصلاح الديني والسياسي والتربوي والاجتماعي عامة وبالانفجار العلمي والتكنولوجي وبالثورة الصناعية، وهي المفاهيم التي قامت عليها العقلانية والفكر النظري في الحضارة الحديثة والمعاصرة، وتمثلت في إصلاح العقل وفي العقلانية ذاتها وفي الروح النقدية وإخضاع كل ما هو قائم وتراثي من فكري وثقافي وعلمي وفلسفي لمعيار النقد والغربلة، والتمسك بالروح العلمية وبمقوماتها في مواجهة الأفكار غير العلمية، وإقصاء الفكر الفلسفي الكلاسيكي الذي تميز بطابعه الميتافيزيقي والغيبي أحيانا وبطابعه المثالي المجرد في أحيان أخرى، وإبعاد كل ما هو لا علمي من ديني وسحري وغيره، والتمسك بالتوجه العلماني الذي يُقصي كل مقدس أخلاقي أو ديني أو إنساني، ويفصل بين الدنيوي وغير الدنيوي ولا يهتم إلاّ بما هو دنيوي، ومن المفاهيم الأساسية في الفكر الغربي الحرية في الحياة الفردية وفي الحياة الاقتصادية، والحرية والتعددية في الحياة السياسية، وصار مفهوم الحرية شعار الحياة في العالم الغربي فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وممارستها بالصورة الغربية علامة التحضر ومواكبة العصر.

صارت العولمة في الفكر الغربي من الضروريات والبديهيات المطلوبة، فهي كما يقول جيرار ليكلراك: “إنّ العولمة أمر يختلف عن الأمر البسيط والمحض. العولمة كتابة عن ولادة كرة أرضية واحدة، هي من الآن وصاعدا ملك الناس أجمعين: إنّها ليست ملكية أيّة حضارة كبرى، ولا سيطرة لأي منها عليها، لكرة أرضية لا مركز عليها. أما التغريب وخلافا لذلك فيعني انقسام العالم إلى مركز مسيطر وإلى طرف خاضع للسيطرة، إنّه اسم آخر للإمبريالية والاستعمار”[1].

وارتبط تعميم الحداثة ونقلها خارج الغرب الأوربي وخارج الولايات المتحدة الأمريكية بجملة من المبادئ, منها:
       نقل التكنولوجيا وتسويقها لمختلف شعوب العالم.
       اعتماد أسلوب الحوار من خلال حوار الأديان والثقافات.
       الحرص على حماية حقوق الإنسان.
       المحافظة على البيئة والحد من التسلح النووي وغيره.

فالعقلانية التي قام عليها الفكر الليبرالي الحداثي والمبادئ التي تمثلّتها القوى الكبرى أخذت طابع العولمة وصفة الكونية من خلال حرص القوى المهيمنة على نشر ثقافة العولمة الفكرية والفلسفية، والتي تمُثل في جوهرها النموذج الثقافي الفكري والفلسفي الغربي الأمريكي، بجميع خصوصياته، النموذج الذي ارتضاه الغرب لنفسه، وفرضه على غيره – من خلال عولمة المناهج التربوية – عن طريق العولمة التي تجلّت فيه تربويا وثقافيا وفكريا وفلسفيا.

كان للوضع الثقافي في جو العولمة أثره البارز على ثقافات الشعوب في الأطراف، التي تعرّضت وحدتُها للتصدع والتشقق، وطرحت لديها إشكالية العولمة والخصوصية الثقافية، وإشكالية العولمة والوحدة الثقافية والفكرية والدينية، وإشكالية العولمة وتاريخ الثقافة وماضيها وحاضرها ومستقبلها، مما يعني أنّ العولمة نابعة من الشعور بالعظمة وصادرة عن إرادة الهيمنة، يقول محمد عابد الجابري: “العولمةGlobalisation  إرادة الهيمنة، وبالتالي قمع وإقصاء للخصوصي. أما العالمية Universalite-Universalisme ، فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصية إلى مستوى عالمي: العولمة احتواء للعالم، والعالمية تفتح على ما هو كوني عالمي. نشدان العالمية في المجال الثقافي، كما في غيره من المجالات، طموح مشروع، ورغبة في الأخذ والعطاء، في التعارف والحوار والتلاقح. إنّها طريق الأنا للتعامل مع الآخر، بوصفه أنا ثانية؛ طريقها إلى جعل الإيثار يحل محل الأثرة، أما العولمة فهي طموح بل إرادة لاختراق الآخر وسلبه خصوصيته، وبالتالي نفيه من العالم، العالمية إغناء للهوية الثقافية، أما العولمة فهي اختراق لها وتمييع. والاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة يريد إلغاء الصراع الإيديولوجي والحلول محله .. الصراع الإيديولوجي صراع حول تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتشريع للمستقبل، أما الاختراق الثقافي فيستهدف الأداة التي يتم بها ذلك التأويل والتفسير والتشريع: يستهدف العقل والنفس ووسيلتهما في التعامل مع العالم: الإدراك.”[2]

وكان لإشكالية الخصوصية الثقافية والعولمة وقعها الكبير على الثقافة والفكر والمعتقدات الدينية في العالم أجمع, وفي العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر بصفة خاصة، خاصة وهو العالم الأكثر استهدافا من قبل العولمة لأسباب تاريخية وعقدية وجيوسياسية واستراتيجية، وإذا كان المركز والعولمة قد حرصا على تفتيت العالم العربي والإسلامي سياسيا هدرا للطاقة وضربا للوحدة وقضاء على التكتل والتجمع إلى سني وغير سني، إلى بربري وغير بربري، إلى عربي ومسلم إلى غيرها من الثنائيات والثلاثيات وأكبر منها تكريسا للصراعات الطائفية والمذهبية والنزاعات العرقية والجهوية وغيرها، فإنّهما حرصا على ذلك من قبل ومن خلال المدخل والمقدمة إلى ذلك، أي الانطلاق من تفتيت العرب والمسلمين ثقافيا وعقائديا وتراثيا وتاريخيا، لأنّ الشعوب العربية والإسلامية مازال التراث فيها حيّا، يحركها في وجه عواصف العولمة ورياح ثقافتها التي تستهدف إقلاع ثقافات الشعوب من الجذور، وإعادة تشكيلها وفق ما تتطلبه ثقافة العولمة وسائر مصالح المركز.

والصراعات السياسية في بلدان العالم العربي والإسلامي بين أنظمة الحكم والمعارضة بمختلف انتماءاتها هي في منطلقاتها وفي جوهرها صراعات ثقافية وفكرية وإيديولوجية تحرص العولمة على خلقها وإذكاءها لإيجاد التفرقة والقضاء على الوحدة الثقافية والفكرية والعقدية، والمركز يعي جيدا دور الوحدة الثقافية في تجميع القوة والنهوض بالتنمية والتطور والازدهار، هو الوضع الذي عرفته الدولة الإسلامية في أيام عزها الديني والثقافي والحضاري عموما، وكان للوحدة الدينية وللرابطة الثقافية الأثر الأقوى في تحقيق تلك القوّة والعزة، لهذا كان من حرص العولمة أن تجعل من الثقافة والفكر في العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر تيارات فكرية متصارعة، واتجاهات داخل التيارات متباينة، ومدارس فلسفية مختلفة تستمد شرعيتها من الموروث والوافد، التيار الإسلامي والتيار الليبرالي والتيار الاشتراكي والشيوعي، وكل تيار من هذه التيارات منقسم على نفسه، فالتيار الإسلامي فيه الاتجاه السلفي الأصولي المحافظ والاتجاه السلفي المعتدل والاتجاه السلفي الجهادي التكفيري وغيره بل نجد كل اتجاه هو الآخر منقسم على نفسه في مواقف تحددها أراء الأفراد والفئات، أما التيار الليبرالي القومي نجد فيه الاتجاه الليبرالي التغريبي والليبرالية التوفيقية وهكذا مع التيارات القومية الاشتراكية والتيارات الشيوعية، وصار كل تيار يقدح في الآخر ويطعن في مبادئه وأفكاره، هذا يكفر ذاك وهذا يخوّن الآخر.

انتقل الصراع الفكري والديني والثقافي إلى الحياة السياسية والاجتماعية، ثم تحول إلى عمل مسلح واقتتال بين الإخوة الأشقاء في الوطن وفي الثقافة وفي التاريخ وفي المصير المشترك، هو الأمر الوضع الذي عاشته ولا تزال تعيشه الكثير من شعوب العالم العربي والإسلامي، في لبنان وفي الجزائر وفي السودان وفي الصومال وفي غيرها.

ومن جانب آخر نجد حقد الشعوب على العولمة والمركز بسبب محاولات تشويه ثقافاتها وطمسها ومحو وحدتها، مما أدّى إلى تنامي وتطور العنف الفكري لديها ضد العولمة والمركز، وانتهى عند البعض إلى العمل المسلح ضد مصالح الغرب الأوربي ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وضد مصالح كل من يتجه في اتجاه العولمة والمركز، فالهدف الأساسي من العولمة الثقافية تسخير كل وسائل الإعلام والاتصال والنظم المعلوماتية ومؤسسات العلم والفكر والثقافة وكل النشاطات الفكرية والثقافية والعلمية من مؤتمرات وندوات وملتقيات وغيرها للوصول إلى ثقافة تتخطى الحدود السياسية والجغرافية مهما كانت صلابتها وتخترق حدود الدولة الوطنية والقومية ولا تعترف بالخصوصية الثقافية والتاريخية والدينية لأيّة جماعة بشرية، وتبحث عن مواطن التقاطع التاريخي والتشابه الثقافي والتماثل الفكري بين شعوب المعمورة، بهدف توحيد القيّم الفردية والاجتماعية التاريخية والجغرافية، قيم الاستهلاك المادي والثقافي، ولتصب في وحدة عالمية وكوكبية واحدة تحت سيطرة الأمركة المتصهينة بالدرجة الأولى، والغرب الأوربي المتقدم بالدرجة الثانية أما بقية بلدان العالم فتعيش التبعية والاستغلال بمختلف أشكاله.

ففي الأطروحة السابعة من أطروحاته حول العولمة يقول محمد عابد الجابري: «ومع التطبيع مع الهيمنة والاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري يأتي فقدان الشعور بالانتماء لوطن أو أمة أو دولة، وبالتالي إفراغ الهوية الثقافية من كل محتوى، إنّ العولمة عالم من دون دولة، من دون أمة، من دون وطن. إنّه عالم المؤسسات والشبكات العالمية، عالم الفاعلين وهم المسيرون، والمفعول فيهم وهم المستهلكون للسلع والصور والمعلومات والحركات والسكنات التي تفرض عليهم. أما وطنهم فهو الفضاء المعلوماتي الذي تصنعه شبكات الاتصال، الفضاء الذي يحتوي-يسيطر ويوجه- الاقتصاد والسياسة والثقافة. العولمة نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن: نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، وبالتالي إذابة الدول الوطنية، وجعل دورها يقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العالمية. والعولمة تقوم على الخوصصة، أي على نزع ملكية الوطن والأمة والدولة، ونقلها إلى الخواص في الداخل والخارج. وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز لا يملك ولا يراقب ولا يوجه. وإضعاف سلطة الدولة والتخفيف من حضورها لفائدة العولمة يؤديان حتما إلى استيقاظ وإيقاظ أطر للانتماء سابقة على الأمة والدولة، أعني القبيلة والطائفة والجهة والتعصب المذهبي … الخ، والدفع بها جميعا إلى التقاتل والتناحر والإفتاء المتبادل: إلى تمزيق الهوية الثقافية الوطنية القومية … إلى الحرب الأهلية”.[3]

إنّ العولمة بتوجّهاتها وأبعادها وتجلّياتها المتعددة والمختلفة من جهة والمتداخلة والمتشابكة من جهة أخرى تمثل استعمارا قديما جديدا يتماشى مع تحولات العصر وهو استعمار موصول تاريخيا بالاستعمار القديم، تمثل العولمة فيه أبرز تحول يقود العالم تجاه أهداف الكوكبية، «العولمة هي ما بعد الاستعمار» باعتبار أنّ الـ“ما بعد” في مثل هذه التعابير لا يعني القطيعة مع ال “ما قبل”، بل يعني الاستمرار فيه بصورة جديدة، كما نقول “ما بعد الحداثة».[4] وتمثل العولمة في الواقع الإنساني المعاصر واقعا بعينه محتوما من الأمركة والغرب الأوربي المعاصر بكل ما أوتيا من قوّة وغلبة، واقع تتسرب مؤثراته وآثاره وتداعياته بدون هوادة ومن غير توقف عبر كل المداخل لغزو حياة الشعوب فكريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا وغيره، وزاد في قوّة الغزو دور وسائل الإعلام وتطور تكنولوجياتها، فمن الجانب الفكري والثقافي وإذا كانت الثقافة تعبر «عن مرحلة تاريخية بعينها، وتتشكل في إطار الوعي التاريخي لأمة ومن خلاله، وتتعدد المسارات بتعدد الثقافات عبر التاريخ، فإذا ما سيطرت ثقافة وذاعت، وتحولت إلى ثقافة مركزية وأصبحت باقي الثقافات في الأطراف، وأصبح مسار الثقافة المركزية هو العصر والتاريخ والمسار لباقي المسارات، يعادل الثقافة العالمية، وغيرها ثقافات محلية.» [5]

إنّ ثقافة العولمة في عصرنا تشكّلت في الوعي التاريخي الغربي الأوربي والأمريكي الحديث والمعاصر، سيطرت وانتشرت فأصبحت تشمل كل ثقافات شعوب الأطراف بوجود من يتبناها في عدد قليل أو كثير، وهي ثقافة المركز في الأصل والنشأة والتكوين والهوية. إنّ تمكّن المركز الأوربي الحديث والمعاصر من امتلاك أسباب السيطرة ونشره ثقافته في ربوع العالم خارج حدوده في مختلف ثقافات العالم جعل اتجاه الثقافة الأوربية هو الاتجاه التاريخي لكافة الثقافات، هو الأمر الذي عرفه الإنسان في ماضيه الثقافي والحضاري، مع الثقافات الشرق القديم مثل الثقافة الصينية والثقافة الهندية والثقافة الفارسية والثقافة المصرية وبعدها ثقافة اليونان القديم ثم الثقافة الإسلامية وغيرها، فكل منها كان يشكل المركز وغيره يمثل الأطراف، مما يؤكد تعدد وتنوع المسارات الثقافية في التاريخ، وثقافة العولمة الغازية واحدا من المسارات الثقافية تنكّر للحقيقة التاريخية التي تمتاز بالحياد والموضوعية، وهي أنّ الثقافة مهما كان مسارها والوعي التاريخي الذي تكوّنت وتربّت تنطوي على ما هو ثابت وما هو متغير، على الخاص والمشترك، الخاص يلزمها ويعكس عناصر ذاتها وخصوصيتها، أما المشترك فهو إنساني عالمي عام ملك للجميع، مثل الحكمة الشرقية القديمة والحكمة اليونانية والحقيقة الإسلامية والتقدم الفكري والثقافي والعلمي والتكنولوجي الحديث والمعاصر.

إنّ أصول ومصادر وتجليات الثقافة الغربية الحديثة والمعاصرة التي تسهر العولمة بكل ما أوتيت من قوّة على ترويجها ارتبطت كلها بحركة الإصلاح الديني والفكري والسياسي والتربوي، وبالثورة على القديم في الفكر واللاهوت والسياسة وغيرها، وبالتقدم العلمي والتكنولوجي وبالثورة الصناعية، مما أدّى إلى ظهور فلسفة جديدة وقيّم ثقافية جديدة أفرزها الوعي التاريخي في الغرب الأوربي الحديث، أهم ما تميّزت به هذه الثقافة والفلسفة هو ارتكازها على عدد من القيّم وهي قيّم مستمدة من الطبيعة البشرية ومما يعطي الأولوية القصوى للجانب الحياتي في الدنيا من اعتبار للقيّم الأخلاقية والدينية، مثل الاعتماد على العقل والعقلانية ونبذ كل ما لا يقبله العقل، واتخاذ الحرية والتحرر سبيلا في الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وإبعاد كل ما يعيق ويقيد أو يمنع سير الإنسان نحو التقدم والازدهار في شتى المجلات، هذا ما تقوم عليه النظرية الليبرالية وفلسفتها الاقتصادية والسياسية، الحرية والتعددية والتداول على السلطة، وإبعاد الدولة والتوجيه مهما كان مصدره من التأثير في الحياة الاقتصادية، وارتكاز الاقتصاد على الحرية والملكية الفردية وعلى قوانين السوق الحرة، ومن قيّم الثقافة الغربية الحديثة التوجّه العلمي والإيمان بالعلم الذي حلّ محل كل فكر وكل حقل معرفي عرفه الإنسان، توجّه أقصى كل صنوف التجلّيات الثقافية الكلاسيكية من فلسفات وديانات وآداب وأخلاق وفنون علوم وغيرها إلاّ ما يخدم المسار العلمي والعقلاني الحر القائم في الوعي التاريخي والحضاري في الغرب الأوربي الحديث، المسار العلمي في الثقافة الغربية وانفصاله عن سائر المسارات غير العلمية جعله يقطع أشواطا رائدة في دراسة الطبيعة والطاقة والإنسان، ومعرفة العلاقات الثابتة بين الظواهر واكتشاف القوانين التي تتحكم في تلك العلاقات، التقدم العلمي وحاجة الإنسان إلى التأثير في الطبيعة والسيطرة عليها وتسخير ظواهرها وتحويل الطاقة من صورة نافعة إلى صورة غير نافعة كل هذا فجّر الثورة الصناعية والتطور التقني الذي أصبح ميزة من ميزات العصر وأبرز تحول أثّر في حياة الإنسان اليومية وبصفة مباشرة من خلال الإنتاج الصناعي للاستهلاك اليومي ومن خلال تحول حياة الإنسان من اعتمادها على وسائل وأساليب وتقنيات بدائية إلى وسائل وتقنيات متطورة جدّا يستعملها في سائر أعماله وفي مختلف مجالات الحياة. ما تحقق بعد الاعتماد على العقلانية وعلى الحرية وعلى العلم والتكنولوجيا صار التوجّه الحديث للغرب الأوربي عقلاني علمي حر، ولما أقصى هذا التوجّه كل ما هو غير علمي ومقدس أخلاقيا كان أو دينيا أو غيره، واهتم فقط بما هو طبيعي موضوعي وبشري، وبما هو دنيوي لا ديني ترسّخ الطابع العلماني في الثقافة الغربية، وأصبحت ذات قيّم استوحاها الإنسان من وعيه التاريخي الحضاري الحداثي والتحديثي في مضمونه وفي المرحلة التاريخية بتحولاتها وتطوراتها المختلفة.

إنّ الخصوصية الثقافية في الغرب الأوربي الحديث التي ارتبطت بقيّم الحداثة والتحديث والليبرالية من عقلانية وحرية وتعددية وعلمنة وتقانة وعلمانية وغيرها، والتي تطورت واتسعت مجالات استعمالها، صارت تمثل النموذج الثقافي في المركز ومساره الذي يجب أن يُحتذى به في الأطراف، تضطلع بالمهمة عدة جهات مهتمة بالعولمة ومؤيدة لها في المركز وفي الأطراف عن طريق ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، ثقافة العولمة أي تعميم ثقافة المركز لتشمل ثقافات الأطراف وتحتويها دونما اعتبار للتنوع الثقافي والفكري والديني، وعولمة الثقافة أي تحويل ثقافات الأطراف من خصوصياتها الضيقة ونقلها إلى سعة ورحابة العالمية والانفتاح على ثقافة المركز والاندماج معها في جو من الانسجام والتوافق، وفي الحالين معا سواء عولمة الثقافة أو ثقافة العولمة فإنّ النتيجة واحدة ومحسومة، هي أنّ ثقافات الأطراف الأجزاء تُصبح محتواة في ثقافة المركز الكل، ليس على سبيل التفاعل الثقافي الندّي وإنّما على سبيل إعادة تشكيل ثقافة المركز لثقافات الأطراف حسب ما تقتضيه الحاجات والمصالح المختلفة للمركز، ودون مراعاة حاجات ومصالح الأطراف، ولما كانت الثقافة الغربية ذات طابع علماني فهي لا تتقيد بالمفاهيم غير العلمانية كالدينية والأخلاقية بل لها العداء وتبدي، «ومن لغريب أن عداء الثقافة العلمانية الغربية المادية الحديثة ينصب أساسا على الثقافة الإسلامية، بل إن القادة الغربيين السياسيين وقادة الثقافة والفلسفة والفكر، يصوبون سهامهم نحو الثقافة الإسلامية، ويتخذون منها العدو الرئيسي لثقافتهم العلمانية المادية، وكثير من آراء بعض هؤلاء القادة مثل الرئيس نيكسون وفوكوياما وهنتنجتون وغيرهم، وصراع الحضارات وحوار الحضارات تتجلى فيها هذه الأفكار المعادية للفكر الإسلامي».[6]

إنّ جو ثقافة العولمة وعولمة الثقافة حريص كل الحرص على صهر ثقافات الأطراف في ثقافة المركز، وكان له تأثير ملموس في هذه الثقافات وفي أهلها، فأصبح للثقافة الغربية مروّجون في الأطراف، مما أدّى إلى الاختلاف بين دعاة العولمة ومعارضيها، وكثيرا ما تحوّل الاختلاف إلى نزاعات وصراعات مسلحة، والحقيقة أنّ الكثير من النزاعات والصراعات الدموية وغير الدموية هي نتيجة صراع بين أنظمة سياسية وثقافية دخيلة ليبرالية وغيرها من جهة وبين تيارات وتنظيمات محلية ذات انتماءات ثقافية ودينية وتاريخية موروثة، وكثيرا ما لعبت العولمة الثقافية والسياسية دورا في تمزيق وحدة الهوية ووحدة الخطاب الديني وحدة الخطاب القومي ووحدة الخطاب الوطني السياسي، «من نماذج هذا التمزق والهوية المفقودة حال الجزائر والتي لم يستقر فيها الخطاب السياسي على مفهوم واضح يحدد خصوصيات المجتمع الجزائري، وبالتالي انتماءاته السياسية، يوظف هذا الخطاب مفاهيم غير قارّة لتحديد هوية الجزائر مثل مفهوم الأمة الجزائرية حينا وأحيانا أخرى مفهوم الأمة العربية ثم مفهوم الأمة الإسلامية بكل ما يحمله هذا الأخير من تنوع وشمولية وأخيرا دخل مفهوم المتوسطية».[7]

تحرص العولمة على نشر ثقافة التفسخ والانحلال الأخلاقي وثقافة الشهوة والمتعة وإذاعة أنشطة الترفيه واللهو واللعب والتسلية التي فيها مضيعة للوقت وهدر للجهد من دون فائدة تُذكر، ثقافة تزرع الفساد والتعفن والمسخ الفكري الذي لا يأخذ في الاهتمام سوى الجانب الحيواني الشهواني في الإنسان، يعامله بطريقة آلية في الفكر والممارسة بأتمتة صماء وبعقلانية مفرطة وبحرية مشبوهة وبعلمانية غير متوازنة، ويسحب منه كل ما من شأنه يوفر له التوازن والتوافق بين ماديته وروحانيته من قيّم عليا دينية وأخلاقية وإنسانية، وتحرص وسائل الإعلام والاتصال على غرس قيّم العولمة الثقافية في الأطراف من خلال ما تبثه من أنشطة وبرامج تطبق فيها مناهج تربوية وتعليمية باسم التجديد والتطور في حقل التربية والتعليم والتكوين، تستهدف من وراءها تربية وتكوين الأجيال على قيّم النموذج الثقافي الغربي والأمريكي، وهو مطلب وطموح المنظمات العالمية الفكرية والثقافية والعلمية مثل منظمة اليونسكو، وهي منظمات تعمل تحت إشراف وتوجيه المركز، وتشرف على وسائل الإعلام والاتصال التي تسعى للنيل من ثقافات الأطراف ومن خصوصياتها، خاصة ممن يُعارض العولمة الثقافية ويتمسك بعناصر هويته الثقافية جهات من المركز حريصة على تغليب نموذج ثقافة العولمة في التربية والتعليم والتكوين والتثقيف والمثاقفة والترفيه والتسلية وغيرها.

ونجد أنّ “باسم المثاقفة يتم انحسار الهويات الثقافية الخاصة في الثقافة المركزية مع أنّ اللفظ سلبي Acculturation ويعني القضاء على ثقافة لصالح أخرى، ابتلاع ثقافة الأطراف داخل ثقافة المركز. وتخفف بعض المصطلحات الأخرى من مستوى عدم الندية بين الثقافات فتبرز مفاهيم التفاعل الثقافي، التداخل الحضاري، حوار الحضارات، التبادل الثقافي، وهي مفاهيم تنتهي إلى أنّ ثقافة المركز هي الثقافة النمطية ممثلة في الثقافة العالمية والتي على كل ثقافة احتذاؤها، ويُستغل ضعف شعوب الأطراف فيتم تغيير النظم والمناهج التربوية، وتطوير الكتب المدرسية وغيرها في مؤسسات التربية والتعليم والتكوين عامة، مثل ما يحصل في جامع الأزهر بمصر وفي غيره استجابة لتحولات العصر وتماشيا مع التطورات الحاصلة في التربية والتعليم في بلدان المركز، واستجابة لآليات العولمة ومداخلها المتعددة مثل حاجة شعوب العالم إلى التسامح وإلى حوار والحضارات وإلى حوار الثقافات والأديان وتعايشها، الاستجابة وتمثل ما يترتب عنها كفيل بإفراز تداعيات خطيرة من شأنها أن تطمس الخصوصية الثقافية والسادة الوطنية والمعتقدات الدينية، وتؤيد وتؤبد الاحتلال والظلم الذي تتلقاه الشعوب العربية والإسلامية وغيرها في مختلف أقطار العالم وتنتهي أسطورة التعددية التي طالما قامت عليها حضارة المركز، وعبّر عنها وليم جيمس في «عالم متعدد لصالح عالم أحادي الطرف. ثقافة تبدع وثقافات تستهلك، ثقافة تصدر وثقافات تنقل .. والوطن هو الضحية، ميدان لصراع القوى الكبرى بالمال والسلاح، وتضيع الخصوصية لصالح الصراعات المحلية والدولية، ويصمت الحوار الوطني، ويشق صف الوطن. فالمعركة إذن بين الخصوصية والعولمة ليست معركة بريئة حسنة النية أكاديمية علمية بل تمس حياة الأوطان ومصير الشعوب»[8].

 

أستاذ الفلسفة بجامعة حسيبة بن بوعلي الشلف، الجزائر

 

الهوامش:
1. جرار ليكلراك: العولمة الثقافية، ترجمة جورج كتورة، ص 333.
2. محمد عابد الجابري:العرب والعولمة، ص301.
3. المرجع السابق: ص303-304.
4. محمد عابد الجابري: قضايا في الفكر المعاصر، ص 135.
5. حسن حنفي: حصار الزمن، إشكالات، ص448.
6. محمد الجوهرى حمد الجوهرى: العولمة والثقافة الإسلامية، ص116.
7. عبد الباسط عبد المعطي: العولمة والتحولات المجتمعية، ص213.
8. حسن حنفي: حصار الزمن، إشكالات، ص 494-495-496-497.