يعود بنا الناقد الفلسطيني المرموق الى لحظة افتتاح الألعاب الأولمبية، والتي تحظى بمتابعة غير مسبوقة، لا ليقدم تفاصيلها بل نتعرف من خلال هذا المقال الفريد على معاني ودلالات ثقافية ثاوية حولت العرض الافتتاحي الى تاريخ للرأسمالية وتأريخ للعولمة وكل الصرعات الموسيقية والغنائية التي تظل نتاجا للثورة الصناعية.

لندن 2012: المعاني الثقافية لحفل افتتاح الأولمبياد

إبراهيم درويش

افتتاح الدورات الاوليمبية هو لحظة ثقافية وفنية بصرية وفيلمية تتسابق فيها الدول المستضيفة لها بعرض أحسن ما لديها، ولندن ليست استثناء، لندن -2012، قدمت بريطانيا في الافتتاح الذي ادار وقائعه المخرج داني بويل الذي نعرفه من خلاله فيلمه الشهير عن مدن الصفيح في بومباي والذي حقق الملايين من خلاله. 
وكانت فكرة بويل في حفل الافتتاح هي تقديم صورة عن الحياة الثقافية والاجتماعية في بريطانيا والتي اختصرها في لندن وحياتها الثقافية والشعبية. وصور الفيلم العهود التاريخية التي لم تكن تاريخيا للملكية ولكن تاريخا شعبيا وعلميا لتطور الحياة الثقافية ـ الشعبية في صورتها، وقد نتجرأ ونقول ان الحفلة قد كانت احتفاء بمفهوم الثقافية الدنيا الشعبية وليس العالية بمفهوم الدراسات الثقافية. وفي النهاية جاء الافتتاح مبهرا تنافست الصحف الصادرة في لندن بوضع عنوان رئيسي لهذا الحدث الكوني. وجاء العرض مفرحا للمعلقين البريطانيين الذين ظلوا وحتى قبل الافتتاح يتحدثون عن حفلة افتتاح دورة بيجين-2008 حيث قدم فيها الصينيون سلة مليئة بقطع من تاريخهم القديم والحديث، في تعدد سلالاته الحاكمة ومدنه السرية وساحاته الشهيرة ورقصاته وأغانيه، ويومها لم يجد المعلقون هنا اي شيء كي يقولوه عن ذلك الافتتاح بإعجاب وبحث عن عيوب ايضا. ومن هنا جاء افتتاح لندن صورة اخرى وليست متشابهة لان بيجين 2008 ليست معيارية في النظر الى الحدث الاوليمبي الذي يوحد الناس في العالم بطوائفهم وجنسياتهم دون النظر للسياسة والاختلاف وهذه هي الروح الاوليمبية التي يقسم عليها الجميع. وعلى الرغم من الابهار وليلة العجائب التي ارادها المخرج وعبر فيها عن شوق الناس بجعل الحدث حدثا لا ينسى لان الناس قالوا ان حدث والاوليمبياد لا يتكرر في حياتهم، إلا ان المعلقين الثقافيين قد يختلفون في تقييم معانيه، فقد يرى البعض فيه رؤية متركزة على لندن العاصمة وليس عن بريطانيا وان قدم العرض الاختلاف العرقي وكون بريطانيا بلدا متعددة الثقافات إلا انه لم يخرج عن لندن، من ناحية شكلها الذي تكون، وبالتالي جاء العرض تاريخا للرأسمالية في وجهها المشرق من الصناعة، والمناجم، والبنايات والطرق الحديثة والازدهار السياسي والسيطرة على البر والبحر وتطويع الطبيعة لخدمة مشروع الرأسمالية، وجاء ايضا تأريخا للعولمة التي بدأت من هنا، حيث قدم مخترع الشبكة العنكبوتية التي غيرت طريقة حياة الناس واتصالاتهم مع بعضهم البعض. ولكن الصورة الاساسية في عرض بويل هي حرصه على ان يقدم في العرض سير تيم ـ تيموتي- بيرنرز لي مخترع الشبكة العنكبوتية وجي كي رولينغ مخترعة شخصية هاري بوتر في سلسلتها الروائية التي انهتها عند الجزء السابع وأنهت بذلك عقدا من السحر الذي يدور ايضا في اقبية وعوالم لندن السحرية، حيث جسد السحرة صغارا وكبارا تاريخ الحياة وأشكالها في لندن. ويظل الملمح الاخير هو تقديم بويل تطور الحركة الغنائية وفرقها وصرعاتها من جيل الروك، وجيل البيتلز، سيكس بيستول وكوين ـ فردي ميروكوري. وكل هذه الصرعات الموسيقية والغنائية تظل نتاجا للثورة الصناعية الذي اكد بويل انها النقطة التي احدثت التحول التاريخي في بريطانيا والعالم، حيث ادت الى ظهور حركات اجتماعية، وحركات مطالبة بتحرير المرأة ومنحها حقوقها السياسية، كما في الحركة التي ظهرت في بداية القرن العشرين، ودولة الرفاه الاجتماعي، والمطالب بالرعاية الصحية المجانية وللجميع. ومن هنا جاء العرض الذي قدمه مرضى مستشفى الاطفال في “اولد برمتون” حيث حول المسرح الى ساحة من اسرة المرضى البيضاء رقص فيها وغنى عليها اطفال حقيقيون.
لحظة مهمة
ويرى بويل ان الثورة الصناعية كانت لحظة مهمة لأنها بنت المدن والتي اقيمت فيها الملاعب كي تقام عليها المناسبات الرياضة والألعاب الرياضية خاصة الشعبية والتي ولدت في لندن من مثل كرة القدم والرغبي والكريكيت. فهذه التطورات انعكاسات وملامح لتأثير الثورة الصناعية على بريطانيا ولندن تحديدا بطريقة ملتوية. فالعرض بدأ بصورة للحياة الزراعية في بريطانيا في القرن الثامن عشر او قبله، عن مزارعين يعملون في مزارعهم وحولهم 70 نعجة، و12 فرسا و 10 دجاجات و 3 بقرات واثنان من الماعز، و10 اوزات و9 بطات وحول المزارعين لعبة كريكيت وراقصون وتحتهم ظهرت اعمدة وسلالم ملتوية سمحت للراقصين من الطبقة العاملة لكي يخرجوا منها بزي كي يذهبوا الى عملهم والعمل في المصانع حيث بدأت الثورة الصناعية ودخلنا القرن التاسع عشر، حيث نرى التحول من خلال اعمدة دخان المصانع التي تنفث الدخان والتلوث وطول كل مدخنة يتراوح ما بين 80 -100 قدم، وأعطى العرض حسا ان الآلات التي كان يرفعها العمال والراقصون قد تحركت بفعل آلي وليس يدويا. ومنها ظهرت حلقات من الصلب ثقيلة وهي التي قادت الى ولادة العالم الجديد والتأكيد على الحلقات الملتهبة، فالحلقات التي تطلق اولا الشرارات الفضية والذهبية لها معنى من ناحية الربط بين شعار الالعاب الاوليمبية والثورة الصناعية، ومن اجل حماية العمال ـ الممثلين ـ من النار المنبعثة من الحلقات ومن الحرارة والأشعة لبسوا ملابس واقية غطت كل اجسادهم. يقود العرض بعد ذلك الى ظهور العجلة البخارية التي تنفث الدخان والغبار وتشق ظلام الليل وحولها عمال يحملون المطارق والمعاول وهم في وقت ألعمل وتعيد الحركة للذاكرة اسماء المدن الصناعية اكرينغتون وبيرنلي وكليثور ب ودونكستر واكسل، وتظهر على المسرح اربع بطاريات اعطى المشهد فكرة انها تدار بيد عمال.

نجوم ورقص وضحك
صور وأنوار وحركات ورقص، نجوم وموسيقيون “مستر بين” الذي اعاد لحظة الفيلم الشهير “عربة النار” 1980 والذي يحكي قصة سباق تم عام 1924 شارك فيه اريك ليدل- مسيحي اسكتلندي ملتزم شارك فيه بدافع ديني، وهارولد ابراهام يهودي انكليزي شارك فيه من اجل مواجهة التحيز ضد ابناء جلدته، وهناك المحقق العميل والذي اخترعه ايان فيلمنغ والذي يعمل في خدمة صاحبة الجلالة والذي يصورها وهي تقفز من الطائرة بالمظلة، حيث يظهر جيمس بوند 007 وهو في مكتبها حيث تقوده الى مروحية كانت تنتظرهما ويقفزان منها، وقد تم تمثيل المشهد قبل اربعة اشهر من الافتتاح. حاول بويل او هكذا يفترض الواحد ان يقدم قطعة راقصة من التاريخ وحول الافتتاح من خلال الصوت والصورة الى “ليلة العجب” كما جاء في الصورة الرئيسية لـ”الغارديان” يوم السبت. 

المعاني الثقافية
يطرح حفل افتتاح الجمعة الكثير من الاسئلة الثقافية حول هوية بريطانيا التي حاول المخرج تقديمها وعرضها لأكثر من مليار مشاهد وأنفقت الحكومة على انجازها اكثر من 30 مليون جنيه استرليني، هل اراد منا ان نعرف ان بريطانيا هي ارض المهاجرين- هناك صور للكاريبيين القادمين على سفن ويندراش في الخمسينات من القرن الماضي، وبالتالي فهي ارض التعددية الثقافية، ام ان الصورة اوسع من ذلك فهي محاولة لاستكشاف تاريخ بريطانيا الحديث من العصر الزراعي والريفي الى الصناعي، الذي جلب معه البنايات الضخمة والآلات العملاقة. وهناك سؤال آخر، هل تاريخ لندن الذي حضر معظمه في الحفل الافتتاحي يمثل تاريخ انكلترا عامة في تراثها الثقافي والأدبي، فهل الثقافة الشعبية هي التيار الرئيس للثقافة البريطانية، وان كان هذا صحيحا فأين هي اذا الثقافة العالمية. ولعل طموح بويل ان يقدم كل شيء عن لندن او بريطانيا ادى احيانا الى انتقال سريع من مشهد الى أخر ففي مرة كنا نتابع مشهدا لتخليد ذكرى قتلى الحربين العالميتين الاولى والثانية، ثم ننتقل لمتابعة مشهد راقص.. على العموم فإن هذا الانتقال كان طابع العرض، مع محاولات للترفيه الضاحك عن المشاهدين مع انه كان مملا أحيانا كما في حالة مستر بين الذي كان يشارك مع “لندن سيفموني اوركسترا” حيث كان يحلم بفيلم “عربة النار” وهي كليشيهات معروفة، يعيد تكرارها الممثل المعروف، وبدا العازفون في الاوركسترا كأنهم تبع له. لكن مستر بين مثل دبليو دبليو سيفن وسيارة البيتلز هو جزء من تاريخ التلفاز والإعلام الجماهيري. ومن هنا فليلة الافتتاح جاءت بتنوعها مزيجا مفرحا للعين ولم تعجب البعض في نفس الوقت، فمع الاحتفاء بالثورة الصناعية هناك احتفاء بقصص الاطفال التي حولت الى افلام ناجحة مثل “تشيتي تشيتي بانغ بانغ”.

ماذا اراد قوله؟
وقد يتساءل البعض ماذا اراد بويل قوله في هذه الحفلة الساحرة، فبعيدا عن قصة التحولات الحديثة في الحياة البريطانية، هل كان يريد ان يقول لنا ان بريطانيا كان لها ماض “رومانتيكي” دمرته عجلة التصنيع المتوحشة، ام اراد ان يقول لنا اننا نعيش في عالم رقمي مفتوح على الامكانيات اللانهائية، وقد تكون الفكرة التي ارادها دويل قد ضاعت بالتفاصيل لكن اراد الواحد منا محاكمة العرض كفيلم سينمائي وهو فيلم في تقنيات عرضه ولغته فإنه يقف على فيلم “مجنون”. وكما اشار معلق فالبريطانيون كانوا خائفين من ان لا يكون العرض البريطاني بمستوى العرض الصيني في بيجين، لكن بويل استطاع ان يقيم علاقة بين حلقات اللعبة الاوليمبية اي شعارها وبين حلقات الصلب التي خرجت من الثورة الصناعية. وأشار المعلق هذا ان الفيلم ـ العرض احتوى في داخله على كل مقومات الفيلم من ناحية السرد والأبطال والحركة ـ الفوضى والممثلين والرقص والموسيقى والضحك والعبث، ملكة تهبط بالباراشوت، وفيه فكرة عن الديمومة او الابدية كما في مجسم الفنان اكرم خان. وفي هذا السياق فحفلة الافتتاح الاوليمبية منذ عام 1936 عندما قامت المخرجة ليني ريفستال بإخراج الحفلة الافتتاحية لدورة برلين ظلت تقاليدها متواصلة. وفي دورة لوس انجليس عام 1984 اضيفت اليها مسحة هوليوودية وهما ملحمان يبدو ان بويل قد استلهمها في فيلمه ـ عرضه لكن ما اضافه المخرج هو انه جعل من العرض مسرحا للضحك والجذل وارض عجائب. ومن اهم ما قدمه بويل هو انه ذكرنا بفيلمه الشهير “ترين سبوتينغ”.

ان كان للعرض الافتتاحي للندن -2012 اهمية خاصة من ناحية ملاحقته للنقلة الحضارية فإنه لا يعني ان الرأسمالية والعصر الصناعي لم يكونا بدون ثمن خاصة على المجتمعات التي كانت محط استغلال لها في العالم الاخر او الثالث، فالعصر الصناعي وان غيّر حيوات الملايين إلا انه لم يكن ليتم بدون ان يرفق به العصر الاستعماري والتنافس على المصادر الطبيعية كي تظل عجلات المصانع في يوركشاير ومانشستر تدور، قطن مصر، وبهارات الهند وقرنفل جنوب شرق اسيا.

النكبة
فالاحتفاء الجمالي والانبهار بالضوء حتى درجة السحر يجب ان لا يعمي العيون عن الحقيقة المرة والآثار التي خلفها الاستعمار على نفسيات الشعوب التي حكمتها بريطانيا. ولعل ما يجب التذكير به في هذا السياق هو ان اخر دورة اوليمبية نظمتها بريطانيا كانت عام 1948 اي جاءت بعد عام من انسحابها من فلسطين وفي عام النكبة وولادة اسرائيل، التي جاءت لتغيب الوجود الجسدي للفلسطيني، لكن مجرد ارتفاع علم فلسطين من بين الدول المشاركة اكد حقيقة ان بلفور وحكومة جلالته لم يستطيعا نفي الفلسطيني، فحقيقة ان ترتفع راية فلسطين في دورة لندن 2012 لحظة محملة بالرمزيات الكثيرة، ان تذكرنا ان العاصمة هذه هي التي كانت سببا في نكبة الفلسطيني وتشرده.

نقطة اخيرة علق احد الاصدقاء قائلا انه عندما تقدمت الدول المشاركة بأعلامها وأزيائها كانت اول دولة تظهر هي افغانستان “اكثر دولة فسادا في العالم”، وكانت آخر دولة تظهر هي زيمبابوي التي يحكمها ديكتاتور اسمه روبرت موغابي، ثم جاء مسك الختام بريطانيا التي تعاني من مديونية عالية. واهم ما في العرض بالنسبة للبعض انه فرصة للتعرف على دول لا يعرفونها ولم يسمعوا بها أبدا فأحدهم قال انه لم يسمع بدولة اسمها جزر القمر.

 

ناقد فلسطيني من أسرة "القدس العربي"