في ذكرى رحيل الشاعر الكبير، يشتبك الناقد العليم بأسرار تجربته مع صيرورة الشعري في القصيدة الدرويشيّة، وكلما جال في آمادها تنحل حبائل السحر وتنعقد على مفاتن تودي إلى إشراقات أُخر. وكأن طيرانيّة الشعر فيها تسفّ قراءة التجاريب المغموسة بالدم لتغمدها في مهاوي التحوّل والتأويل، فتتعدد وجوه الاحتلال.

محمد الدرة، حمزة الخطيب، ومحمود درويش

صبحي حديدي

صرفتُ ليلة 8/9 آب (أغسطس)، الذكرى الرابعة لرحيل محمود درويش، في قراءة قصيدتَين للشاعر: «حالة حصار»، القصيدة الطويلة التي تسجّل ما يشبه اليوميات، في رام الله، خلال شهر كانون الثاني (يناير) سنة 2002، تحت وطأة الحصار الإسرائيلي؛ وقصيدة "محمد"، مرثية الفتى الفلسطيني الشهيد محمد الدرة، وكانت قد نُشرت في هذه الصحيفة (القدس العربي)، تشرين الأول (أكتوبر) سنة 2000. وكنت لا أقرأ هاتين القصيدتين إلا وفي البال شهداء الانتفاضة السورية، في دير الزور وحلب وحمص وكفرنبل، هنا وهناك في أرجاء سورية الثائرة.

أقرأ، إذاً، قراءة صامتة تارة، وجهورية طوراً؛ هادئة تأملية تذوّقية مرّة، وانفعالية عاطفية وجدانية مرّة أخرى؛ لا سيما حين تفتح مفردة "الشهيد" بوّابات واسعة شاسعة، تختلط فيها مساحات العِبَر والاستعبار، وفضاءات التشابه الرهيب بين شهيد فلسطيني سقط برصاص الاحتلال الإسرائيلي، وشهيد سوري تربّصت به نيران النظام السوري، سواء أتت من قنّاص أو شبيح أو قائد دبابة أو مدفع ثقيل أو قاذفة مقاتلة. وتلحّ، ولا تكفّ عن استدعاء ذاتها، تلك الفقرات المشحونة بوضوح جارح طيّ المعنى البسيط: "الشهيد يوضّح لي: لم افتش وراء المدى/ عن عذارى الخلود، فإني أحبّ الحياة/ على الأرض، بين الصنوبر والتين، لكنني/ ما استطعتُ إليها سبيلاً/ ففتشت عنها بآخر ما أملك:/ الدم في اللازورد". أو هذه: "الشهيدة بنتُ الشهيدة بنتُ الشهيد/ وأخت الشهيد وأخت الشهيدة كنّةُ/ أمّ الشهيد حفيدة جدّ شهيد/ وجارة عمّ الشهيد".

ألا تبدو هذه النصوص وكأنها تصف شجرة عائلة الاستشهاد، ليس في رام الله والخليل وغزّة هذه المرّة، بل في درعا والمعضمية والزبداني ودمشق، حيث صار سقوط شهيدة أو شهيد، أخت أو أمّ أو كنّة، أخ أو أب أو عمّ أو جدّ، بمثابة طبــيعة ثانـــية للأسرة السورية، وطابع لصيق بحياة الناس اليومية؟ وحين يقول درويش، عن محمد الدرّة: "يريد الرجوع إلى البيت، من/ دون درّاجة أو قميصٍ جديد/ يريد الذهاب إلى المقعد المدرسيّ/ إلى دفـــتر الصرف والنحـــو: خذني/ إلى بيتنا، يا أبي، كي أعدّ دروسي/ وأكمل عمري رويداً رويداً/ على شاطئ البحــــر، تحــت النخيل/ ولا شيء أبعد، لا شيء أبعد"... أفلا يُلزمنا، بعد منحنا الحقّ المصان في تأويل النصوص الأدبية الكبرى على نحو كوني منفتح الآفاق، بواجب استذكار حمـزة الخطــيب، الفــتى السوري الشهيد الذي صار، على غرار الدرّة، أيقونة ورمزاً وعلامة وذاكرة؟

لعلّي أيضاً أنصف الشاعر الكبير، وأقصد الفنّان الذي يكتب شعراً عظيماً في المقام الأوّل، فلا يؤدّي الواجب تجاه الشهيدة والشهيد إلا من باب الفنّ الرفيع، لا الخطابة العابرة المسطحة؛ فأتوقف، استطراداً، عند جانب التذوّق الجمالي، في قراءات تلك الليلة. هذا بُعد ذو صلة بقدرة درويش على الخروج المرن، دون خسران أو تنازل أو تبديل هيئة، من قلب انهماك تامّ في سيرورة تطوير محددة، ومعقدة؛ وذلك لأداء واحدة من أنبل وظائف الأدب، والشعر بخاصة: تسجيل شهادة عن العصر، وتثبيت حقّ الواقعة الفارقة في احتلال موقع شعري على خريطة حوليات العصر.

لقد فعلها درويش، من قبل، في "قصيدة الأرض"، و"أحمد الزعتر"، و"قـــصيدة بيروت" و"مديح الـــــظلّ العـــــالي"، و"عابرون في كلام عابر". كما فعلها، ضمن وجهة أخرى، حين كانت برامجه الجمالية الكبرى تشدّه إلى مشاغل مجموعات شعرية فاصلة، في الموضوعات والأسلوبية والخيارات الجمالية الجذرية، مثل "تلك صورتهـــا وهذا انتـــحار العاشق"، و"هي أغنية، هي أغنية"، و"ورد أقلّ"، فضلاً عن عشرات القصائد الفردية التي كانت تصنع الجديد وترسّخ قامة "المختلف الحقيقي"، التعبير الذي نحته الشاعر اللبناني عباس بيضون على سبيل وصف درويش.

وحين نُشرت قصيدة "محمد" للمرّة الأولى، قرأتها كما أقرأ كلّ شعر جديد من درويش: بإعجاب، و... بإشفاق! أمّا الإعجاب فمردّه أنني كنت،  وهكذا بقيت حتى رحيل درويش، أعتبره معجزة مفتوحة، جمالية ولغوية وفكرية وأخلاقية، لا تكفّ عن الصعود والتصاعد والاتساع: في النصّ، كما في أقدار استقبال النصّ؛ وفي معادلات المحتوى، كما في وشائج الشكل الحامل لهذه المعادلات؛ تحت أثقال الالتقاط الملحمي للتاريخ، كما في خفّة التحليق العالي للنشيد الغنائي.

وأمّا الإشفاق فقد كان مبعثه أنّ قصيدة "محمّد" أتت بعد مجموعتَي "سرير الغريبة" و"جدارية": الأولى كُرّست بأكملها لقصائد الحبّ، وقالت إنّ درويش (مثل كلّ فلسطيني) آدمي من لحم ودمّ، وله أن يعشق امرأة من بني البشر، خارج مجاز المرأة/ الأرض/ فلسطين؛ والثانية أقامت حواراً كونياً بين الشاعر وأسئلة الموت، وأنماط مقاومة الموت. الخشية، والحال هذه، كانت أن ينقطع قارىء درويش العريض عن المختبر الجمالي الذي انشأته هاتان المجموعتان، وأن يرتدّ إلى "أحمد الزعتر" و"مديح الظلّ العالي" و"عابرون في كلام عابر".

رهاني، مع ذلك، كان أنّ ذلك القارىء نفسه لن يخطىء قراءة "محمد" كما يليق بها حقاً: مرثية منمنمة بديعة، طافحة بالشجن والقوّة الأخلاقية والعذوبة الإنسانية، تشهد أن الفلسطيني يستشهد ويموت، وبعده تبقى فلسطين وتعيش. بهذه الروحية سمحت لنفسي، في ليلة 8/9، أن أتأمل شهداء بلدي، سورية؛ وأستذكر الراحلين الثلاثة معاً: الدرّة، والخطيب، ودرويش!