تقدم هذه الدراسة قراءة متأنية في ديوان محمود درويش (لاتعتذر عما فعلت) تسعى إلى تقصي مرجعيات هذا الديوان المختلفية الثقافية منها والواقعية.

الدرويشية وما بعدها

قراءة في ديوان "لاتعتذر عما فعلت"

نصر جميل شعث

الورقة الأولى:
يعتبر درويش في مقدمّةِ الشعراء الذين ظفروا بحضورٍ خلاّقٍ ومؤثر في خارطة الشعر العربي المعاصر ، فلقد استطاع ، من جانب ، أن يُقدّم أعلى المراتب الغنائية في القصيدة ، ومن جانبٍ مرافقٍ ، كان له الإطلاع الناضج على تجربة الرواد ، ومن ثم راحَ يطوّر عليها متجاوزاً بشعريتهِ مسافات قُصوى على صعيد التجديد والاستثمار التقني في قصيدة التفعيلة ، التي يتخذها هويةً جماليةً لا تتغيرُ . هذا بالإضافة إلى ارتباط شعره بالموضوعات والقضايا الوطنية الساخنة التي حلّت بخطابه الشعري حلولاً جعل منه شاعراً جماهيرياً لصيقاً بالوجدانيات العربية. وقبل أن ننصرف لتناول ديوانه الجديد " لا تعتذر عما فعلت" سنلقي أبعاضًا من الضوء على السياق المراحلي الذي عُرفَ فيه ، وبه الشاعر . فلقد عُرِفَ عن خطاب درويش الشعري على أنه " أنموذجٌ مثاليٌّ للنص الكبير المحمَّل بالإشارات التاريخية ، والمحمول من جمهرة قراء سياسيين على تأويلات تفصيلية لا يتحملها المشروع الجمالي للشاعر . وبذلك ، فإن الخطاب السياشعري لدى درويش قد أرهق القصيدة " بمفردات واضحة تماماً: " تفاوض ، سلام ، حرب ، إعلام ، معاهدة ، .. .إلخ ..، وحين يستخدم شاعر ذو حثيثة محددة مثل محمود درويش هذه المفردات ، فإن علم الأجناس الذي يصف الإنسان بأنه حيوان سياسي ، سيدرج لغة الشاعر في قاموسه الصارم ، لتدخل معمل التأويل وتخرج بيانًا سياسيًا وثوريًا أو أي شيء سوى الشعر " (1)

واستنادًا لما سبق ذكره يمكننا وضع درويش في محطتين إعلاميتين بارزتين، وهما:
المحطة الأولى: منظمة التحرير الفلسطينية ، فارتباط اسم محمود درويش الشاعر بذاكرة القاعدة الجماهيرية والثقافية ترافق ومكانته كشاعر وسياسي في بيت المؤسسة الوطنية التحررية ؛ فهو ، أنذاك ، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي خاضت وتخوض المعارك القتالية وغير القتالية مع الآخر على جبهات متعددة، بمستويات متنوعة . إذًا ، تجاورُ الخطاب الشعري مع الخطاب السياسي ، جعل من درويش شاعراً رسولاً يحمل رسالة أرضية سائحة وعادلة .

المحطة الثانية : وهي المحطة الأهم ، بيروت زمان ومكان الفعل والقول والانقسامات والميليشيات ، ففي تجربة بيروت كان درويش يصغي جيدا لتتابع سير المعركة وتداعياتها من جهة وتوالي ردود الفعل القاعدية والرسمية من جهة ، وموقف الوجدان من جهة أُولى ، فقدم خطابه الشعري للجمهور المفجوع ، للمدينة المدمرة ، للمثقف المشروخ ، للعالم الأصم ، ألقى خطاب الصرخة الشعرية المتحلقة " في مديح الظل العالي " ، فصرنا نردد معه أو مع مرسيل خليفة ، بغنائية عالية [ " بيروت تفاحة / والقلب لا يضحك / وحصارنا واحة / في عالمٍ يهلك ] و [ حاصر حصارك لامفرُّ/ إضرب عدوك لا مفرّ ] و نلقي مثله ، تماماً ، بنبرةٍ تهكمية [ ندعو لأندلسِ إن حُوصرت حلبُ ] ، وننتمي إلى هذا الألم الناصع في منظومته الكوكبية ، [ للحقيقة وجهان ، والثلج أسود فوق مدينتنا / لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا ]

في ديوان " لا تعتذر عما فعلت " وما قاربه سابقًا ، أراد الخطاب الدرويشي أن يكون مختلفاً إلى حدّ ما ، ويتضح ذلك من إنصراف الشاعر إلى مخاطبة ذاته ، وآخره ، صورته ، مرآته ، ظله ، شبحه ؛ في محاولةٍ منه لتغيير مادة الخطاب الجاهزة ، التي عُرِفَ بها ، وتخليصِ الذاتِ بنقلها من العام إلى الخاص ؛ غير أنّه لم يستطع أن يُقدم للقاريء ذاته المخلَّصة في القصيدة الجديدة ، ذلك أن الذات الشاعرة عند درويش تحرصُ دائما على إدغام " الأنا بالنحن " منتجةً خطابًا واحدًا غير منفصل ، ولا يمكن له الانفصال . ويُشير الناقد العراقي محمد الجزائري إلى ذلك في كتاب "خطاب العاشق" ، قائلاً: " المبدعونَ عشّاق إندمجوا بفنهم ، اندمجوا بخاصة ، بذلك الوهج الذي يقدمه خطابهم ، تماما مثل نحاتي سومر وأكد وبابل وآشور...، اندمجوا بالذات العامة ضمن فضاء التعبير الخالص الانتماء إلى آلهتهم ، ملوكهم ، مقاتليهم ، طقوسهم . ويضيف ، كذلك الحال في قصص البطولة ، والمقاومة والنضال ، والهيمنة تبقى لعاطفة الخطاب لأن العاشقَ يمدّ خطابَ عِشقه إلى الوطن ، الناس ، ضد قطيعة خارجية ، ضد قطيعة تفتعلها قوى ضاغطة ، كي ينأى بنفسه وإنسانيته ، عن نفسه وإنسانيته . (2)

وهو ما يؤكدّه درويش في " لا تعتذر عما فعلت":
...وأنا صوتُ
نفسي المشاع: أنا هو أنت ونحن أنا .
( بيت من الشعر/بيت الجنوبي)
... كلما ضاق سجني توزّعتُ في الكلّ ،
واتسعتْ لغتي مثل لؤلؤةٍ كلما عسعس
الليل ضاءتْ /
( كحادثة غامضة)
يخلق درويش في هذا الديوان تشبيكاتٍ وعلاقات وصلات وروابط بين القصائد المُرتّبة عن وعي تام ، ومن جانب آخر يخلق الشيء ذاته فيما بين دواوينه . ويسعى بذلك إلى استدراج القاريء وإبقائه في فلكٍ شعريٍّ متناغمٍ وفق رسمهِ لخرائطه المتشابكة ، فنجدُ أن دليلَ أو مفتاح أو عنوان قصيدة تالية ترتيبيًا يندرجُ كسطر شعري في قصيدةٍ سبقتها سواء في الديوان ذاته أو في ديوان آخر ، فمثلاً: عنوان الديوان " لا تعتذر عما فعلت " نجده في ديوان " هي أغنية .. هي أغنية " كسطرٍ شعريٍّ في قصيدة . أما فيما يتعلّق بتناولنا لمتن الديوان ، فسنلاحظ عند قراءتنا لهذه القصائد ( وأنا وإن كنت الأخير/ في بيت أمي / لا تعتذر عما فعلت)، والتي تعتبر من البداية المُهمة والخصبة في الديوان ، سنلاحظ أن بذورها كامنة في قصيدة " يختارني الإيقاع " تلك القصيدة التي ، من جانبٍ، تمثّلُ بيانًا استهلاليًّا محتواه الرضا بالشكل الشعري الذي يتعاطاه الشاعر ، ومن جانبٍ آخر ، تُمثّلُ تأسيسًا لتناول شعري يتسع في قصائد لاحقة . كيف ذلك ؟!

عند قراءة أول قصيدة في الديوان " يختارني الإيقاع " سنلاحظ أنّ الشاعر قد شَغّل وركّب وكثّف معانٍ في جُمَلٍ ، وجاور بين مفرداتٍ مثل ( قلب الأم/ مرآة/ امرأة مطلقة/ مازلت موجوداً/ لن تعود كما تركتك/ ولن تعود..) ومن ثمّ كانَ الذهابُ لفرطِ المكثّفِ ، وطرق المعنى ذاته بتوسعٍ شعري مُفَصّلٍ ؛ من شأنه أن يضع المتلقي في دائرة التساؤل حول تضخّم وتكرار الخطاب . في قصيدة (وأنا، وإن كنت الأخير) يقول:
وأنا سيحملني الطريق
وسوف أحمله على كتفي
إلى أن يستعيد الشيء صورته
كما هي ،
واسمه الأصلي في ما بعد/
كل قصيدة أمٌّ
وهو ما تطرّق إليه ، بصيغة أخرى ، في قصيدة "يختارني الإيقاع ":
أنا مازلت موجودًا
ولكن لن تعود كما تركتك
لن تعود ولن أعود .

إننا نقرأ مما سبق اقتباسه انعكاساتِ التغيّر والتبدّل والتحوّل التي طرأت على " الشيء " ، الذي يعبأ الطريقُ بحملِ الشاعر فيه ، كما يعبأ الشاعر بحمله على كتفه ؛ إلى أن يستعيد الشيء صورته ، وهو ما يعني أن الغاية هنا حاملةٌ لطلبِ الاستعادة ، وهو ما يشي بوجود شيء- رمز ، بالضرورة ، معنويّ ، ما يزال ناقصًا أو مفقودًا لدى صاحبِ " أنا مازالتُ موجودًا " الذي يقول في قصيدة " إن عدت وحدك ":
قل لنفسك:عدتُ وحدي ناقصًا
قمرين ،
لكن الديار هي الديار
أيضا يتناول المعنى ذاته في قصيدة " لو كنت غيري ":
كم أنتِ أنت
وكم أنا غيري أمامكِ ها هنا

ولعلّ في قوله " وأنا سيحملني الطريق/ وسوف أحمله على كتفي " ما ينفتح على محتوى قصيدة " لو كنت غيري " ، والتي فيها ما يشي بانشغال مسافة الشاعر الزمنية والمكانية بالسفرِ الخياليّ ، وبالتمني وبالغناء إلى البيت الأبعدِ ، رغم كون الشاعر فيه ، وهو بذلك يؤكد المعنى المتناصّ بشكله الفعليّ في الديوان مع بيتين شعريين: "لا أنتِ أنتِ ولا الديار ديارُ [ لأبي تمام] ، و "والآن ، لا أنا أنا، ولا البيت بيتي" لـ [لوركا] حيث يضعهما الشاعر تحت لافتة: " توارد خواطر، أم توارد مصائر " .

لو كنت غيري لانتميت إلى الطريق ،
فلن أعود ولن تعودي . أيقظي الجيتار
كي نتحسس المجهول والجهة التي تغوي
المسافر باختبار الجاذبية . ما أنا إلا
خطاي ، وأنت بوصلتي وهاويتي معًا .
لو كنت غيري في الطريق ، لكنتُ
أخفيت العواطفَ في الحقيبةِ ، كي
تكون قصيدتي مائيةً ، شفافةً ، بيضاء ،
تجريديةً ، وخفيفةً ... أقوى من الذكرى ،
وأضعف من حبيبات الندى ، ولقلتُ:
إن هويتي هذا المدى !
لو كنت غيري في الطريق ، لقلتُ
للجيتار: درّبني على وترٍ إضافيّ !
فإنّ البيتَ أبعدُ ، والطريقَ إليه أجملُ -
هكذا ستقول أغنيتي الجديدةُ - كلما
طال الطريق تجدّد المعنى ، وصرت اثنين
في الطريق: أنا ... وغيري !

أما في قصيدة " لا كما يفعل السائح الأجنبي " ، فإننا نقرأ وجهَ الانتماء ، والمسوؤلية التي يحملها خطابُ الشاعر في المكان العاطفيّ ، متخذاً من الخيالِ فسحةً وملهاةً لتجاوز الواقع الخراب ، ففي قصيدة " ولنا بلادُ " يجسّد ذلك بقوله:
فانفتح الخيال
على مصادره ، وصار هو المكانُ هو الحقيقيَّ الوحيد ،
وكلّ شيءٍّ في البعيدِ يعودُ ريفيّـًا بدائيّـًا
كذلك في قصيدة " بغيابها كوّنتُ صورتها " يقول:
يعلمني الغيابُ دروسَهُ:
" لولا السرابُ لما صمدْتُ.. "
وفي قصيدة " لا كما يفعل السائح الأجنبي " يتساءلُ:
كيف يصير المكانُ
انعكاسًا لصورته في الأساطير ،
أو صفة من صفات الكلامِ ؟
وهل صورة الشيءِ أقوى
من الشيءِ ؟
لولا مخيلتي قال لي آخري
أنا لست هنا .
وبخصوص التجاور والعلاقات البينية بين القصائد (وأنا ، وإن كنت الأخير/ في بيت أمي/ لا تعتذر عما فعلت) فإننا نقرأ إشاراتها ومعانيها في هذين السطرين:
1. "إلى أن يستعيد الشيء صورته"
2. " وكل قصيدة أمّ " .
بمعنى أن الاقتباسيين السابقين هما محوران هامان في قصيدة " في بيت أمي، التي يستهلها الشاعر بسطر شعري يجمع بين المحورين [ الصورة والأم ] = " في بيت أمي صورتي ترنو إليّ ":

إذن ، المكان = [ قلب/قصيدة/بيت] + أمّ .
حيث نقرأ من قصيدة " لا تعتذر عما فعلت ":
أنا الأمُّ التي ولدته ،
لكنَّ الرياحَ هي التي ربتهُ
قلتُ لآخري: لا تعتذر إلا لأمّك!
وكان الشاعر قد أفرد ديوان " لماذا تركت الحصان وحيدًا " (3) للحديث عن الذاكرةِ ، وهو ما يكرّره في الديوان الأخير، فنقرأ في قصيدة " أرى شبحي قادمًا من بعيد ":
أطلّ على صورتي وهّي تهرب من نفسها
إلى السلم الحجريّ، تحمل منديل أمي
وتخفق في الريح: ماذا سيحدث لو عدت
طفلاً ؟ وعدتُ إليكِ وعدتِ إليّ .

إذن ، " في بيت أمي" هي جملةُ " المكان العاطفيّ " التي يستهل بها الشاعر القصيدة ؛ صورة الشاعر القديمة التي ما تزال ترنو إليه . إذ نقرأ الاستمراريةَ من الفعل " ترنو" ، كما نجد في " صورتي " هذه المفردة المؤنثة دلالةً تتماهى في مفردة " أمي ". والأخيرةُ معادلٌ تأنيثيٌّ لمفردة " صورتي " وصورتي أيضاً مرادفةٌ في أحد وجوه المعنى للمرآة التي قد خذلته:
أما أنتَ ،
فالمرآة قد خذلتكَ ،
أنت... ولست أنتَ ، تقولُ:
" أين تركت وجهي " ؟
(إن عدتَ وحدكَ)
ويتجلى غناءُ صاحب " أنا مازالتُ موجودًا " في حضرة ياء التخصيص الموجودة في "أم/ي"، والموجودة ، أيضًا ، في " صورة / ي" . كذلك ، فإن هذا التخصيص يقودُ إلى قراءة مستوى ذاكرة المكان في مفردة " بيت " الذي هو بيت أم الشاعر ، إشارة إلى هوية المكان وخصوصيته ، فإنه لأمه ، وفيه ذاكرة وتذكاراتُ الشاعر " صورته" التي في فضاء معانيها تنشط ذاكرة الشاعر ومُسائلاته ؛ وهي الصورة الموجودة في [ بيت الأمّ/قلب الأم ] ، والتي لا تكف ، هي ، عن السؤال ، وليس الشاعر في عمره الآن .

ويتجلّى سؤال الاغتراب في " أأنت ،يا ضيفي ، أنا؟ " كما تجلّى أيضاً في قصيدة " إن عدت وحدك ":
"أنتَ .. ولست أنتَ ، تقول:
أين تركت وجهي " !
ويكرر الشاعر ذات السؤال على ذاته في ثلاثة أسطرٍ من قصيدة " في بيت أمي" ، وهي:[- أأنت ، يا ضيفي ، أنا / ويا ضيفي ...أأنت أنا كما كنا / أأنت أنا ] . ومجيباً عليها بقوله ِ: " قلتُ: يا هذا ، أنا هو أنتَ "، ثم يعود ليطرق ذات السؤال في قصيدة " لا تعتذر عما فعلت ": " أهو الذي قد كان .. أنت أنا ". وهي كلها أسئلةٌ لا تنطوي على إنكار بقدر ما يثير ويشيْعُ بها ، الشاعرُ ،الدهشة وحالات التبدل والغرابة بين زمنين مختلفين: زمن الشاعر في صورته ، وزمنه الآنِي ، وهو بذلك ، أيضا ، يضع المتلقي في صورة توتراته التي توتّر صورة المعنى في هذا المكان العاطفيّ = [ البيت/القلب/القصيدة+ الأم ]: في مثل هذا اليوم ، في الطرف الخفي
من الكنيسة ، في بهاء كامل التأنيث ،
في السنة الكبيسة ، في التقاء الأخضر
الأبدي بالكحليّ في هذا الصباح ، وفي
التقاء الشكل بالمضمون ، والحسي بالصوفيّ ،
تحت عريشة فضفاضة ، في ظل دوري
يوتر صورة المعنى ، وفي هذا المكان
العاطفي/
سألتقي بنهايتي وبدايتي .
(في مثل هذا اليوم)

وبالعودة إلى قصيدة المحور " في بيت أمي " ، نجد أن الشاعر في المقطع التالي يخاطبُ آخرَه الزمني بـ " كنتَ "[ التاء منصوبة] ، ولا يخاطب ذاته القريبة ، ولو أرد ذلك لجاء بـ " كنتُ " [ التاء مرفوعة ]: هل كنتَ في العشرين من عُمري ،
بلا نظَّارةٍ طبيةٍ ،
وبلا حقائب ؟
كذلك نقرأ المسافة الزمنية الواسعة في قوله " في العشرين من عمري "، فتخصيصه هنا لـ " عمري " من شأنه أن يحيلَ المتلقي إلى الوقوف عند " العمر الآني " الذي وصله الشاعر ، وفي ذلك إشهار للفارق الزمني بين الآن و العشرين من عمره ، وهو الفارق الزمني الذي تخللته أحداث وانكسارات وطنية بها تأكدت وأنيطت شهرةُ الشاعر .

ولعلّ تناول الشاعر لمسألة العمر هنا ، ينطوي على الخاصّ الذي يتزيا بصورة العامّ ، لاسيما وأنه يتطرق لعمره في موضع آخر من الديوان ، كما في قصيدة " لا كما يفعل السائح الأجنبي ":
" لكنني قلت في السرّ:
لو كنت أصغر عشرين عامًا "
وفي الفارق الزمنيّ بين العشرين والآن ؛ تجدُ الذاكرةُ مجالَها واستمرايتها .حيث يعرض الشاعر مشهدين مختلفين عندما سألَ: "هل كنتَ في العشرين من عُمري ، بلا نظارة طبية ، وبلا حقائب " . إنه في صيغة السؤال هذه يروح لمعنى يفتقده الآن ، صورته الطبيعية والمستقرة ، دون نظارة طبية ، ودون حقائب ، أما الآن ؛ فلديه نظارة طبية ، ويحمل حقائب وأعباء المعنى والشيء . إن نظرتُه إلى صورته العشرينية ؛ تنطوي على أمنيةِ شاعرٍ يطمح بعودة البهاء واجتياز دورة الحزن والاختلاف والاغتراب وصولاً إلى الأنا المحررة من النظارة الطبية ومن الحقائب .

ولكن ، ثمة في الديوان إنتاج لا يخلو من تهمةِ الصنعة والاجترار، فكثيرًا ما نقرأ نصوصًا مُترتبة عن إعمالِ لغويّ ، وعن ترفٍ مُوسيقيّ غير محبّذين لتفوق اللغة كصناعة على الشعر كأعطية . فبالنسبةِ لقصيدة " التفعيلة " ، فإن المتلقي العابرَ قد يصرفُهُ هذا الترفُ الموسيقيّ عن حقيقة الاصطناع اللغوي ، أما في منطقة كتابة " قصيدة النثر " ، فإن المناسبة والقصدية والذهنية والصناعة في النصّ ستنكشف ، لأنّ لا غطاءً موسيقيًّا يَحمِي أو يُخبيءُ صرامة البناء ، وفداحة العَمديّة، وتتكرّس ظاهرة الترفَ الموسيقي والبذخ اللغوي في أكثر من موضع ، كما في هذا المثال:
في مثل هذا اليوم ، في الطرف الخفي
من الكنيسة ، في بهاء كامل التأنيث ،
في السنة الكبيسة ، في التقاء الأخضر
الأبدي بالكحليّ في هذا الصباح ، وفي
التقاء الشكل بالمضمون ، والحسي بالصوفيّ ،
تحت عريشة فضفاضة ، في ظل دوري
يوتر صورة المعنى ، وفي هذا المكان
العاطفي /
سألتقي بنهايتي وبدايتي
(في مثل هذا اليوم)

ويشتغل درويش على ذلك كثيراً ، على امتداد منجزه الشعريّ ، الذي يتألف من مرايا شعرية ، كثيراً ما ، تُتهم بترداد وبِعكس الصورِ ذاتها . بمعنى أن مرايا شعرية درويش أصبحت تجترّ كائناتِ المعاني والمفرداتِ المُشعَرنة ذاتها ، تلك التي وطأتها وألفتَها ذائقةُ المتلقي العابر والمقيم سواء من قبلُ ومن بعد . ويكرّر درويش ذاته داخل ديوان " لا تعتذر عما فعلت " كما يكررها خارجه . فمثلا نجد أن المقطع التالي من قصيدة (تنسى، كأنك لم تكن-أ- ) مكررٌ ، تمامًا ، في المقطع الذي يليه من قصيدة (ليس للكردي إلا الريح -ب- ):
-أ-
أمشي على هدي البصيرة ، ربما
أعطي الحكاية سيرة شخصية ، فالمفرداتُ
تسوسني وأسوسها .
-ب-
ويسوسُ خيلَ
الأبجدية كالخراف إلى مكيدته .
وكان الشاعرُ قد كرّر معنىً مرتين في كلّ من قصيدة (تنسى/ كأنك لم تكن-أ-) ، وقصيدة ( سقط الحصان عن القصيدة -ب- ):
-أ-
لكن قيل ما سأقولُ
يسبقني غد ماضٍ
-ب-
لم يبق في اللغة الحديثةِ هامشٌ
للاحتفاء بما نحبّ
فكلّ ما سيكون كانْ .

كذلك الحال بالنسبة للمعنى المكرر في كلّ من قصيدة " بغيابها كونت صورتها-أ- " ، وقصيدة " لا كما يفعل السائح الأجنبي-ب- ":
-أ-
يُعلّمني الغيابُ دروسَه:
"لولا السرابُ لما صمدْتُ ..."
-ب-
لولا مخيلتي قال لي آخري
أنت لست هنا.

الورقة الثانية:
أولاً مرجعيات الديوان

إنّ الكلامَ المباشرَ للشاعر ، أي شاعر ، يكونُ حاملاً لأفكارٍ ومعانٍ ومرجعياتٍ ثقافية ومعرفيةٍ ؛ تشارك المخيلة في كتابة القصيدة . وهو بدوره يشكّل أهميةً للقرّاء عند تناولهم لمنجز شعري ما . وكانَ الناقد العراقي حاتم الصكَر في تناوله التطبيقي لبعضٍ من ديوان " لماذا تركت الحصان وحيداً " ضمن دراستهِ في " مرايا نارسيس - قصيدة السرد الشعرية " ؛ قد لجأ إلى الحوارات التي أجراها البعضُ ، مع درويش . غيرَ أنّ سؤالاً يطرح نفسَه في هذه المناسبة: هل هذه الطريقة في النقد محبّبةٌ وتعبّر عن ذاتية الإبداع النقدي ، ودقّته ؟ ليس من شكّ بأنّ هذه الطريقة تتضارب مع التعريف الدقيق للناقد ؛ إذ " الناقد الممتاز هو فنّانٌ تَبَحّر في المعرفة وذوّاق كبير ، لا أفكار مسبقة عنده ولا غير .(1) كما إن العمل بها يَهدمُ ويلغي مصطلح " موت المؤلف " من قاموس رولان بارت ، ويَحِلّ محلّه " موت الموت " ، ما يعني " نجاة المؤلف " الحاصلِ بتبحّرنا في سيرته الذاتية . هذا ، بدوره ، يقودنا إلى مارسيل بروست Proust ، الذي " ربط العمل الفني بمؤلفه في مجال النقد ، فبّين السمات المشتركة في مؤلفات رسكن Ruskin المختلفة كي يرسم " الشخصية الأدبية " للفنان ، ولكنه اكتشف بعد ذلك خطر مثل هذا المنهج الذي يخلط ، كما فعل سانت بوفSainte Beuve ، بين الأنا الاجتماعية والأنا المبدعة ، وبالفعل فإن جوهر العمل الفني لا يتطابق مع شخصية مؤلفه كما تبدو في الحياة الظاهرية ، والكتاب هو ثمرة أنا أخرى ، يتعذر بلوغها من خلال دراسة السيرة الذاتية ولا يمكن فهمها إلا بمحاولة تأليفها من جديد في داخلنا " .(2)

إن كل ما أوردناه سابقًا يدعوننا إلى هدم ما جاء في ورقتنا الأولى ، وكأننا بقصد أو من غير قصد ، نُمارسُ علينا مَحْواً نقدياً حيادياً ، يُعلّمنا أن النقدَ أرقى مما نتصوّر في حدودنا هذه . ولنا أن نقف عند تلك المحاذير النقدية النظرية السابقة ، لاسيما ما قاما به مارسيل بروست وسانت بوف من خلط بين الأنا الاجتماعية والأنا المبدعة ؛ لنقولَ: إنها لم تُشكّلَ بُعدًا جوهريًا يَحدّ من حراك ناقدٍ كالصكَر ، رأي أن ينهض بكتابه على سير شعراء كتبوا جوانب مهمة من سيرهم شعرًا ؛ كما هو الحال في قصيدة " هذا هو اسمي " لأدونيس الذي اتفق كثير من النقاد على أن لها خصائص السيرة ، كذلك الحال في ديوان " لماذا تركت الحصان وحيدًا "، والذي يعيدُ فيه درويش كتابة وسرد الذاكرة بالشعر . وبذلك يكون الصكَر قد عَمِلَ ، بذاتيةٍ نقديةٍ إبداعية ٍ، فخلق كائنًا اصطلاحيا نقديًا مَسْنودًا بالتطبيقِ ، ما يعني اتساع دائرة الاشتقاق والخلق النقدي خارج المحاذير وشروط النقدنة الصارمة .

كذلك إلى أيّ حدّ ، ستقنع تلكَ المحاذيرُ النظرية القاريءَ الذي باتَ لا يستطيع في ، حالة محمود درويش ، أن يفصل بين الأنا الاجتماعية والأنا المبدعة ؟ وقد قلنا في الورقة الأولى: إن الذات الشاعرة عند درويش تحرصُ دائما على إدغام " الأنا بالنحن " منتجةً خطابًا واحدًا غير منفصل.

أما فيما يتعلق بقراءتنا التي نحن فيها ، نشير إلى أنّ كلّ شيءٍ تمّ بالمصادفةِ ؛ فبالمصادفة عثرنا على مجلة الكرمل في عددها 33، وباهتمام قاريءٍ ، من أجل القراءة ، قرأناها ، وبشغفٍ . دون أن نفهم أو نتعرفَ على الدافع الخفيّ الذي جعل عجلة الرغبة تقودنا لقراءة هذا العدد ، أو لعلّها حَسَنات النوستالجيا !
هنا ، أعني في المجلة العتيقة ، توجد دراسة لصدوق نور الدين عن دلالات شعرية الماء ؛ ونص للشاعر والروائي السوري سليم بركات مُهدى إلى محمود درويش ؛ وحوار مع محمود درويش . إنها إذن نعمة عظيمة!

كنا نتحدث ، في الورقة الأولى عن الاختلاف ، وعن المغايرة التي نفّذَها درويش في ديوانه الجديد ، لأجل الخروج من إهابِ السياقِ الذي تكيّف فيه . ولعلّ المغايرة التنفيذية في هذا الديوان: بترتيبه وتجديده ؛ تنهض على فكرة التحديث الداخلي ، مع الاحتفاظ بتقاليد القصيدة " السيّابية "، أو الدرويشية في المشهد الشعري الراهن.

وبالعودة إلى مجلة الكرمل في عددها33 ، فإن قراءتنا للحوار المنشور هناك تحرّضنا على إعادة القراءات في ديوان "لا تعتذر عما فعلت" . حتى بتنا نُسلّم بأن هذا الحوار يُشكّل أهم منطقة كلام مباشرٍ حافلٍ بالمعاني والتوجهاتِ الحاضرة في الديوان . يستهل المحاور"عقل العويط" الحوار(3) بهذا السؤال:

بالرجوع إلى الديوان ، نجد أن الشاعر يُعدّد من الأسئلة التي تدور في فلك الصورة والأنا ، وتبدو " الأنا المبدعة " ، في إجابة درويش السابقة ، حاضرة بكامل فرديتها وخصوصيتها ؛ أما حضور " الأنا " في الديوان فيتمثلُ في اندغام " الأنا بالنحن "، حيث يتعذر على القارىء الفصل بين " الأنا المبدعة " و" الأنا الاجتماعية ". والأدلة التي تتناول هذا المعنى المصرّح به في الحوار، والمُشعرن في الديوان ، من ثَمّ ، غنية وواضحة من كثافة الأسئلة المطروحة على امتداد قصائد الديوان ، لاسيما المتركزة في قصيدتي (في بيت أمي ، ولا تعتذر عما فعلت) وفي المحاورة أيضاً يسْألُ المحاوِر:

ثانياً/ بين درويش وبركات
(محاكاة أو توارد الخواطر أو توارد مصائر أو تناصّ)
كانتْ إلتماعةٌ خاطفة قد أحالتنا مباشرة إلى ديوان " لا تعتذر عما فعلت " عقب قراءتنا نصّ الشاعر والروائي السوري سليم بركات في المجلة العتيقة ، ويحمل عنوانَ: [محمود درويش(مجازفة تصويرية)] ، وقد كُتبَ ، بخطٍ صغير ، في أعلى يسار صفحة البداية (إلى الذكرى التاسعة معا في " الكرمل ")، والنصّ مؤلّفٌ في ثلاثة أقسام ، هكذا:
I/المكان بحسب انشغالاته: أ- وصف الريح، ب - وصف الظلال، جـ - وصف الشرفة ، د- وصف المصعد ، هـ - وصف الردهة الخارجية ، و- وصف رواق البيت ، ز- وصف البيت
II/ مشيئة تؤلّف المشهد: أ- محبرته ، ب- علبة تبغه ، جـ- قهوته ، د- كسله الصباحي ، هـ-سيرة قلبه ، و- نظارته.
III/ هو ، في الأكيد ذاته .(5)