يكتب الروائي المصري عن واقع قرية تزحف عليها سمات مدنية عشوائية، وعبر لغة تقترب من التداعي الحر تكّون أبعادا جمالية قادرة على تجسيد الواقع النفسي لشخصيات هذه الرواية ومعاناتهم، وحيث تنفرد كل شخصية بسرد ذاتها، في غفلة من هيمنة الراوي العليم، نكون في محيط رواية أصوات تستدعي تعددا في مستويات اللغة.

لأنهم يموتون فى الربيع (رواية العدد)

العربي عبد الوهاب

إهداء:

إلى القادم بلا اسم

 

دق المسامير
الطاهر مرزوق
مابين طحلة ومسطرد تتخبط الآن قدمى.

ما بين الزقازيق، وظلام الليل فى الشوارع الضيقة واصلا إلى الحجرة التى أسكننى إياها العم شوقى كنت أتخبط.

تعبت ـ يا طاهر ـ وأخيرا تحت صحن من الترمس تنادى.

يستوقفك شلن.. بريزة.. يستزيدون.. تزيدهم.. حبات.. ملاليم.

صارت القاهرة أفعى تلتهمنى كل يوم. أموت بين شوارعها، وعماراتها العالية.. أتعثر فى الحفر والبالوعات والشوارع المتربة. على رأسى صحن الترمس وقراطيس ورقية. وأمامى شمس تصفر وتذبل فى طريقها للغروب.

راحت أيام عربات أنابيب الغاز، مكسب عشرون جنيها فى اليوم.

كنت أتكرع كالتيس بعد أكل الكفتة والكباب.. أيام ليست بعيدة.. باعدت الوظيفة بينى وبين التكرع اللذيذ. قبّلنى حمادة فى المدرسة. وقبلت الصغيرة شيماء. أيام المرضى أوشكت على الانتهاء. أخرج من حبسى. كيف حالــك ـ الآن ـ فى الحبس يا بهيه؟ تختبئون فى شقوق السعودية حتى يحضر الحجاج من كل بلد، كالنمل يزحفون. فينطلق سراحهم. يختلط الحجيج.. يتساوى القادم على ظهر سفينة بالمسافر كالبرق.

الساعة العاشرة صباحا، والشمس مازالت تتبختر بين سحب رمادية، ولا عربة تلين فتأخذنى.

… لو تشعرين بألمى يا نجلاء رغم نومك بجوارى على سرير واحد. تقلقين بحضورك نومى، وسكوتى ووهنى.. النقر القديم يعاود الدق … مسامير تخبط فى رأسى، تكسر العظام.

يركبنى النوم. وعدم الرغبة فى رؤية الناس، والطعام، والحياة، ماذا أفعل إذا كاد الشرود يقتلنى تحت عجلات عربة نقل منذ أسبوع؟!

زحف العجلات أفاقنى. طار الطبق من فوقى. تبعثرت. ملعون الترمس والطواف بين العزب ومسطرد والمسلة. أحياء الغلابة متهالكة.

من يشترى يا ناس؟

ترمس.. تسالى

تسالى.. يا ترمس

كيف اختصرت قوتى تحت صحن الترمس؟ بين حارات وشوارع وبلكونات تشبه عجوزا. تقوس حتى لا مس الأرض. من المسؤول؟؟

حمادة.. شيماء.. أم حمادة.. أبى.. عرفه.. زنوبه.

أم العمل صباحا فى جامعة الأزهر. أحمل شكائر الأسمنت، الطوب، الرمل، نبنى كشكا يصلح لخروف سيقتله الانتظار عند البوابة الفرعية بجامعة الأزهر حيث البرد ومراقبة اللاشئ.

مأمورية.

الأسبوع قبل الماضى أخذت ثلاث مأموريات على حساب كشك الأمن.

عربة نقل نصر بصندوق خشب.

" استنى يا أسطى "

بكل سرعة استندت على عجلة العربة. تعلقت بالأيدى الممدودة.

انطلق السائق. فور ارتفاع قدمه اختل توازنى فارتميت عليهم.

… ترانى وضعت القفل فى العجلة. الولد حمادة يتحنجل عليها. ربما يسحبها للعيال فى الشارع تركبها.. أو تكسرها.

ملعون النسيان.

ما كان يجب أن أسافر.

كادت الحوائط أن تكتم أنفاسى.

أذهب لدار أختى.. لا.. الزقازيق مازالت بعيدة. فلأنزل المشروع. أذهب إلى طحلة أولا. أود أن أنام وحدى.

ارتجت العربة، وتلاعبت بالطريق.. واضح أن السائق يتمايل مع غنوة سلامات.

بهيه، إبراهيم، عزيزة، عرفه، محمد، مصطفى، وأنا

غير من ماتوا من أمى ومن زنوبه.

كثيرون يا أبى وبرد الشتاء لا يرحم.

الصديرى خفيف.

وعربة مكشوفة تشكو لرب السماء ضعفها وانقيادها الفج لسائق غير مهتم.

ليست لى علاقة بك يا بلبيس. لا أحبك. ولا أعرف السر. ربما الرشاح.. رائحته النتنة.. المياه الطافحة تذكرنى بالشوارع المؤدية إلى أوضتى فى عزبة الحريرى، حيث بيت العم شوقى الحاتى. ظلمة ونباح كلاب وخبط فوق رأسى.

لو جابت ولد.

امرأة إبراهيم أخى، يكون فأرا صغيرا كأبيه. يستحق لطمتى له فى المرة السابقة. يسب الدين؟!!!

تقول بهيه " الخير راح من وشها " أنا شفت أواخر أيام الخير هذه.

كان الذرة يملأ سطح الدار. زنوبه تبيع للجيران دون علم أبى. استحرمت واحدة ـ كانت تحب أمى ـ سرقة شقاء الرجال والعيال.

زنوبه تبيع الذرة والأرز لتأكل بلح الشام والحلوى.

كان أبى على فراش الموت. قام ليضربها، فلكزته "إنت لسه فيك صحة يا راجل".

عشرة أعوام على رحيلك يا أبى.

أنت مسؤول عن عشرين عاما من عمرى.

ولن أسامحك.

الساعة تقترب من الثانية عشرة. قدمى تخبط إسفلت الطريق من المشروع. رشاح الصرف واصلا للبلدة.

أرمى بعينى لاخضرار الحقول، ثم تخرج من الصدر آهة.. هنا العشر قراريط التى اشتراها عرفه ـ بفلوس زوجته ـ مؤخرا من عيال زنوبه.. يتمايل زرعها. يزرعها الآن محمد. أذكر عرفه مشمرا جلبابه فى حر الظهيرة. يضرب فأسه فى خطوطها. ويزعق فىّ أن أضرب الجاموسة المتوقفة فى مدار الساقية بالفرقلّة. ويتساقط الصمغ المتجمد فى شقوق شجرة السنط تحت ضربات سن قلمى. أتسلق وقت غفلة أبى أو عرفه شجرة السنط لأقطع منها فرعا كى أضرب الجاموسة.. وأجمع الصمغ السائل من عينى الشجرة فى حقنة بنسلين فارغة محكما عليها الغطاء الأحمر.

ربما تكون الشجرة باقية لكن الأرض !!

من مزق الأرض وباعها؟؟

أكان عليك يا عرفه أن تجرب الترمس مثلى. تحاول الوقوف على كوبرى مسطرد ـ بعربة خشبية ـ ولم تجد موطأ لقدم.

العربات الآتية من عبود متجهة للمسلة أو بهتيم القادمة من شبرا ذاهبة إلى المطرية، السرفيس، الملاكى، النقل، السريحة، عربات الفول المدمس، الكشرى، اللب، كلهم احتلوا المكان يا عرفه.. لم يتبق لنا إلا أقداما تتخبط فى شوارع وأزقة يعلوها الغبار وأكوام القمامة.

يقبلنى من يحتكر توريد الترمس ـ سريحا آخر ـ يقول أن هذه منطقته.. ربما نتبادل السب، يحتدم الجدل، فنشتبك بالأيدى. يضحك علينا سكان البيوت، ولا ينزل أحد كى يشترى. تتورم قدمى ويجف الحلق.

ونجلاء تنحنى كل سنة ـ على ماكينة الخياطة ـ أكثر.

عشر سنوات ونعافر.

قرأت الفاتحة لسيدى " على النجار " تتمايل أعواد الفول والشمس تختال بسطوعها على الغيطان، ينزل أبو قردان يغرس منقاره الطويل فى طين الأرض باحثا. ويصعد.

ترتاح روحى إذ أقترب من طحلة بردين. أحبها وأمقتها معا. أحب شوارعها.. بيوت الطين.. يتجلى من فوق أسطحها قش الأرز. أما صوامع الطين الواقفة فى شموخ فهى مملوءة بالحبوب. أنا رأيت تلك الصوامع فى بيتنا سرعان ما تنقص ويسأل أبى زنوبه عن السر فتقول " العيال كبرت وبتاكل ".. أحب الجرن ولعب الاستغماية، نجرى بين حوارى طحلة، نختبئ فى الأزقة المظلمة ولا نخاف ننادى على بعضنا حين نحس بالتعب. نتجمع عند " الأمة " فى الجرن. ونختتم ليلتنا تحت شجرة الصفصاف نتبادل الحكايات والمواقف المضحكة، نتبارى فى إظهار بطولاتنا الوهمية مع الكبار؛ أحس دفئا حين أدخلها. ولا أعرف لماذا يغتم القلب قى لحظات. حزن كدبيب النمل يتسرب إلى النفس. هذا الولد الذى كنته منذ عشرين عاما يطرده أبوه. يغلق دونه الأبواب.

أفترش حصير المسجد، أو الخلاء أمام بيت عمتى. بزحف البرد إلى عظامى ـ ليلا ـ فأتكور.. أحتمى بالجوالات المهملة.. يتشممنى كلب عابر، حين تكون زنوبه قد أوسعت ساقيها، فيأتيها أبى، يمضغ الطعام والدفء. حتى " عرفه " العاقل الذى تعيرنى بصلاحه، ويزرع معك الأرض طردته أيضا. من أجل زنوبه.. لا.. هى زنوبه من تطرد أو تعفو.

كيف جعلتك هكذا يا أبى؟!!

ثانى يوم

قال الحاج أحمد زوج عمتى: عمك صبحى سابلك الفلوس دى.

وعليك أن تدفع أنت وأخوك ما يخصكما لهدم المقبرتين، ورفع البناء.

وضعت الفلوس ـ بلا اهتمام ـ فى جيب الصديرى.

طبق الجبن القريش والقشدة على طبلية قصيرة الأرجل أمامه. قال: أفطر.. قعدت. حشوت بطنى الخاوى منذ ظهر أمس. شربت الشاى.. جاءت عمتى. كانت فوق سطح الدار تقشر أغلفة الذرة.

بادرتنى: مال صوتك واطى.. معرفش إنك هنا.

ابتسمت.

تابعتنى بنظراتها من أن لآخر.

قالت: مسهّم ليه يا ولا؟

رد الحاج: سبيه يا أم السيد.

وضعت قدمى فى الشبشب وانطلقت إلى الدار كى ألحق بإبراهيم قبل ذهابه إلى المزرعة التى يشتغل فيها. بالأمس لم أتحدث معه، باركت له على المولود. أعطيت زوجته النقوط. كانت ليلة طويلة ما لها آخر. سمعت فى الليل دقا على بابى. كان محمد عائدا متأخرا. ربما دارت دماغه، فأخطأ باب زوجته. حاولت النوم فما جاءنى غير وجوه الراحلين. أتقلب على الفراش إثر تسرب البراغيث إلى جسدى مرحبة بحضورى. كان الولد الشقى يطلع منى زاحفا مشكشكا الذاكرة.. أتحسس الشباك الحديدى للسرير. أذكر بهيه أختى، طلبت منها السرير لكى أنام عليه، وأحتجز به أودتى ـ ميراثى ـ فى دار أبى. وأضع القفل على بابها.

زنوبه تستحوذ على الدار. وأرض أبنائها. وتبيع للناس ـ وللفلوس ـ حتى آخر قيراط.

إبراهيم يكلم الولد النائم فى أقماطه كما لو كان رجلا. يزعق فيه آمرا بالسكوت. قلت تعالى معى اليوم نهد المقبرتين. قال: والمزرعة. قلت: ساعتين يا أخى. وافق متضررا.

الريح تصفر وإبراهيم يحمل الفأس ومقطفىْ الجلد. ينظر حواليه. قامات الكافور تتمايل وسط المدافن. تراب ناعم يهبط بأقدامنا. السكون يبعث على الوحشة. قرأت الفاتحة، إبراهيم يصفر. نبهته أن يقرأ، فردد الفاتحة بصوت عال. هل عقل إبراهيم أبيض؟!!

قد قارب العشرين، لا يستحق الأربع قراريط التى باعتهن – من نصيبه - لزواجه.

وقفت أمام مقبرة أمى.. أردد قصار الصور. أذكر قوالب الطوب والسيدة واختفائها. ولم يرتعش القلب. أتحسس بيدى محارة المقبرة، فتنهار.. هنا قعدت بهيه تنادى على أمها. حملت التراب بيدها وحطت على شعرها المحلول لم يكن سوى التراب.

إبراهيم وقف كحمار ربطته فى الأرض ونسيته. لم ينزل من على كتفه الفأس ومقطف الجلد.

سحبت من بين يديه الفأس. وطلبت الأجنة. مد يده بتراخ. كدت أوبخه لكنى تراجعت. هيبة المكان منعتنى.

بجوار قبر أبيه وقف واضعا يده على الشاهد. أخذت أهيل بالأجنة بعضا من المحارة ـ مقبرة أمى ـ ثم أثبت طرفها الحاد بين تجاويف الطوب. الإسمنت غائر بين القوالب الحجرية المتآكلة الحواف. دققت.

تأبى الطوب أن ينحل عن بعضه بعد عناق طويل. أدق.. تسقط الأجنة. وإبراهيم نائم بجزعه محتضنا الشاهد. صرخت فيه، أفاق مذعورا.

بكل قوتى ضربت العناق الحميم، فانهارت كتلة حجرية.. سقطت داخل المقبرة، خارت قواها وأشعرتنى أنى تجبرت عليها. بدقة واحدة فصلت العلاقة القديمة.تمزق خيط التلاحم. بانت عظام المقبرة ـ لحظة ولاحظت عظاما تندك فور مرور الهواء إليها. حتى العظام تأبى الحياة.

… أكملت الهدم بتؤدة. مسح إبراهيم وجهه أكثر من مرة؛ كان ماردى يتطلع لأطلال مقبرته ـ بداخله ـ كلما سقط حجر. كأنه يسقط فى نفس حجرة مظلمة. يتعثر.. يقوم.. يقابلنى فى حوارى طحلة فأتضاءل، أولى الأدبار فارا منه

الآن.. كيف أفر؟ وإلى من؟ وممن أفر؟!

من ماردى الذى يعذبنى؟.

أم من الجوالات القديمة فى برد شتاء قاس.

أم من زنوبه وطحلة كلها.

يا ألله كم أنت رحيم.

إبراهيم كوم ناتج الهدم سليما ورصه بنظام.

اندفعت إلى المقبرة الملاصقة ـ لأبى ـ سبقنى إبراهيم قاتئلا: استنى. بسمل وتحلقت شفتاه بما لا أفهمه. إنه لا يحفظ شيئا.. لا يعرف القراءة. ألحقه أبى بمعهد التربية الفكرية فى الزقازيق بعدما رسب ثلاث سنوات ولم يفلح.

قلت: كفاية يا إبراهيم.. أبوك مات من عشر سنين. تراجع متضايقا؛ كأنه لا يصدق أن الأب ملت فعلا.

ما تبقى من العظام خمسة جماجم. أخرجت من مقبرة أمى اثنتين وثلاث من مقبرة أبى. لملمت بقايا العظام المنهارة.. كومتها فى الوسط. إبراهيم يتطلع للعظام. يدقق النظر. قلت أرسله إلى البلدة كى يحضر البناء والطوب من دار الحاج أحمد زوج عمتى حتى أستكمل الهدم.

نظرت إلى الغيطان المحيطة بالمدافن. والغيط القريب الذى باعته زنوبه بعد موت أبى بعام واحد.. أمى وقفت تبكى على أختى ثناء وهى ذاهبة ـ من هنا ـ إلى أبى بالغداء.

كيف تسمرت قدماها فى الأرض؟. قالت بهيه: انغرست فى الأرض تحاول نقل قدميها ولم تقدر.

كأن واحدا يمسك بهما. دموعها نزلت من أجل ثناء وعلى حالها.. " خدينى يا أختى ".. لولا عبور واحد أثناء القيالة وبسؤاله عن سبب وقفتها هكذا. لما انفك لجام قدميها.

تحسستُ الجماجم واحدة.. واحدة.. من أمى فيكم؟؟

تطاير التراب فى وجهى، الريح تعفر المزارع، تلطم بقوة أعالى الكافور؟

قعدت بجوارهم. لامست يدى واحدة تنظر نحوى.. رفعتها إلى وجهى.. ترانى كنت قاعدا عند قدميك ـ ابن عامين ـ فى مرضك الأخير.. أشد جلبابك. هل نظرت لى وبكيتِ؟

أم تركتنى للقريبات والعيال. لا أذكر شيئا.. هل أجولة الملح التى حطت على قدميك فى تلك القيالة أمام المدافن هى سر موتك.

ثلاثون عاما يا أمى، أبكى ولا أحد يحس بألمى. أنا ابنك، لماذا تركتنى تخسف بى الحفر ولا أصل ـ أبدا ـ التلال. تههدنى يد " بهيه " ومئات الأيدى تحفر فى جسدى كرابيج الألم.. صرت لا تقدرين يا بهيه على آلامى، تتأبى على مراهم يديك.

اتركينى للعطش، لا ماء يروى ظمأى. انفلتت الجمجمة آخذة وضعها الأول. مرتاحة لدفء التراب.. جريت تاركا الفأس والعظام ذاهبا إلى الطلمبة ـ الموجودة أول المدافن ـ أديرها. لم تدر. أضع فى قلبها ماء عكرا من القناية وأدير. يزيِّق الحديد؛ قعدت بجوارها تاركا يدى عليها غسلت وجهى من ماء القناية الجارى. رطوبة الماء أغرتنى، فانبطحت على بطنى ومددت فمى. يا رب العباد كم أنت رحيم.

تقابلنى عمتى محاسن كعادتها بوجهها البشوش. تقول:

أجيب غدا؟

قلت: تغديت مع البنّا.

سألت عن المقبرتين وهل أكملت البناء؟.

قلت: فى مرة أخرى نستكمل أعمال المحارة. سألت عن العظام

قلت: أعدتها إلى جانب المقبرة.

نادت على امرأة ابنها تستعجل الشاى، ثم اقتربت. بجانبى على الحصيرة. تملتنى جيدا وقالت: بقالك شهر مجيتش.

: ظروف.

: لونك رايح ليه يا طاهر؟.. انت تعبان؟.

: شوية.

نفس التعب؟.

وليت وجهى تجاه الأرض الفضاء فى الخارج. كانت الشمس قرصا أحمر يسقط وراء البيوت البعيدة.

قالت: حبت لك اتنين كيلو جبنة من أم السعد.

: مابشتغلش اليومين دول يا عمه.

: يعنى البطن هتبطل؟

تحوطنى الشرود وشكل جمجمة أمى يطالعنى. قلت لنفسى من يعرف؟ ربما كانت لجدتى أو عمة أبى أو ثناء..

عادت عمتى تسألنى عن العيال وامرأتى.

قلت: بخير.

قالت: وانت كمان بخير؟

: الحمد لله.

: يا بنى ياما دقت على الراس طبول.

كان كلامها معادا. الناس لا تقدر متاعب الناس.. وأنى أقود مركبا ولو غفلت لحظة يتحطم. ما ذنب امرأتى. ما ذنب حمادة وشيماء.

قلت: ما ذنبى أنا؟؟

ما أكثر ذنوبنا يا عمتى. كفى عن دق مسامير الحياة فى نعشى.

نهضت قائلا: أصلى المغرب.

أهرب من كل المتاعب إليك

كيف أودعت الألم فى جسمى

فك أسرى يا رحيم.

قالت زنوبه: تدفع معانا فى أكلة سمك.

تحاول أن تبعث الحياة فى عروق الدار. تضحك بلا داع. تستوقف امرأة محمد ـ ابنها الكبير ـ سائلة عن زوجها الضائع مع زملائه الحشاشين.

تطلع إلى المقاعد. تدق الباب. فلا يفتح لها ابراهيم. تقول: نايم من العصر. أنت عملت فيه إيه، تبددت رغبتى فى الكلام. سلمت عليهم.

زنوبه تحاول تأخيرى للعشاء قائلة مش مهم تدفع. قلت:

العشاء فى الزقازيق. أشوف أولاد أختى بهيه وأبيِّت هناك.

اندفعت إلى عمتى.. حملتنى الجبنة والأرز لعرفه. كأن طحلة تدير وجهها عنى. تنطفئ أنوارها فى قلبى. يشملها ضيق النفس.. ومشاجرات ما قبل العشاء. لهاث البهائم العائدة فى غبش المغرب من الغيطان. وراءها أصحابها على حميرهم. صامتون.. متعبون. يرفعون أياديهم بالتحية. صوتهم خافت، ذابل كفتيل لمبة جاز فى أماسى الطفولة.

 

الزئبق
[ مدخل ]
* كل ما تظن أنه الحقيقة.. ربما كان بحرا من سراب.

* هؤلاءس الناس أعرفهم، كلما أمسك بالقلم يفلتون.

* كل ما يدعو للضحك يشدنا إلى البكاء.

* يا خالق الممر أرشدنى لفجوة كى أستريح.

* ربما لأنك تحبهم تظن أنهم شرفاء.

* كدب مساوى ولا صدق منعكش.

* أنتم كاذبون. لكنى أحبكم إذ تفتحون عالما واسعا للرؤى.

* الحزن ـ وحده ـ لا يكفى.

* أنا هكذا.

فتحى عبد التواب

 

للأمام تغوص أقدامنا فى رمال الحقيقة. نفتح أبوابا للرؤية فلا تنزاح التكهنات.

كان الولد الذى يشبهنى يتحسس كفل الحياة، فتتفتح رغبته دائمة السطو على عنفوان الجسد. لا يلتئم.. تنقصه الحقيقة فيتعثر فى حجر أملس يشج الرأس مبعثرا ملايين النمل والدهشة. يخرج ملتاعا، أحاوره فى ظلماتى مادا يدى. إليه يضحك ويتركنى. حين قعد الطاهر على كنبة الأنتريه كادت تنفجر من ثقل العالم الذى حط عليها. لم يواجهنى صخبه الرنان ـ كعادته ـ إنما حط سحابات داكنة كنست رغبتى فى الكلام، الطواف. دار الكلام تافها عن حال العيال والزوجة وخالى عرفه وأبنائه؛ والبراغيث التى تأكل الجلد فى ليال مظلمة. وهو غير مرتاح للحَك.. غير نائم.. غير صاح.

قلت: دمت لنا يا سيدى القلق. ودامت الفراشات الساقطات من ألق الطيران على أجنحتها دم غادر. قال الطاهر هل لك فى كأسين معتقين من نبيذ حياتى، بدلا من تكهناتك الخاصة عن بشر من وهم خيالك يحبون؛ قلت: ويغادرون إلى غير شواطئ. ينكفئون على أعتاب البداية؛ محاولين فك طلاسم انهيارهم. ولم أرد.

سكت الولد الذى أحببته، غاصت قدماه فى وحل الطريق والظلام. الكلاب مسعورة لا تكف عن النباح، قلت يا طاهر أنت استطعت أن تعيش..تقتنص دفء الزوجة والعيال. قال: وأنت تزوجت..ما الفرق؟

قلت كبلنى الولد بقيود وقفته لما اندفعت للدفء. للتلاحم.. أرخى حبال التواصل، وتركنى عند بدء الظلام والظلام ظلمة. كأننا مخلوقات زئبقية تستطيل أمامنا مسافات الألم، فينبعث فى الظلام، فى النوم، فى النكات الساخرة، لكأن الحزن مقيم معنا دائما، نندفع بلا هوادة محاولين اختصار المسافات غير مدركين أننا ننفلت حين تسبح بنا الأحلام.. ونتمدد على أول الدرب كل صباح. حاولت السير رغم قيودى. لم يندهش الولد. بل وضع فوق كاهلى الطوب والحصى. فى خلواتى يقول هئ، وينسحب ساخرا. أمسكت بياقته.. كدت أتفل فى وجهه قائلا: لماذا تجرجرنى فى صحراء تعرف خطواتى ولا تجيب؛ فما رد، إنما فتح أمامى مغارات سوداء، ورؤى كابوسية. قال: أنت فى البدء فاتحد. ولا تسلم ذاتك لدق المسامير. ذاكرتك أول الطريق للهلاك؛ كنت واضعا يدى أسفل ذقنى غائصا فى تقاطيع الطاهر التى تشبه الولد. واضح أن الطاهر وقع فى فخاخ الدفء والعيال وأفاق هو الآخر على حصير فرش فوق حصى وزلط وحجارة مدببة. أداعب فيه الصبى الذى رافقته دافعا إليه ماء التجلى. أشده من وهدة التقوقع والتساؤل، فتبين منه ابتسامة هازئة. قال: ماعليك إذا تركتنى ما أنقصتنى، وإذا مددت يديك ما نجدتنى. قلت: الدور إياه. قال: أنت تعرف سر بلائى أوشكت أيام المرضى على الانتهاء. ضحكت.

كأنه تعاقد مع الإفاقة بانقضاء الأيام. وكل يوم تفر منى الأيام تاركة أشعة باهتة تضيف إلى ضباب الرؤى؛ رؤى مهشمة، أحلاما؛ نواقيس خطر تتأهب لافتراسى. دبيب الشيب يتسحب قطا بريا يفاجئنى صدفة فى المرآة. أنت يا صديقى الشيب ملأت هوامش النفس. تفتح كل يوم حوارات جديدة تحت عجلات الحضور والانصراف والتلاميذ على مقاعدهم يكتبون البراءة، يرسمون صورة لوطن تجلى دفعة واحدة.

أنا الواقف فى الطابور لم أزل. لم أتقدم للأمام أو الوراء. فقط أسير فى المكان ناظرا حولى بعدما نزلت زوجتى إلى النسوة زوجات إخوتى.. وبقيت ندى تنشر شغبها الوردى معلنة عن حضور فذ، قائمة بأدوار عدة، كى تلفت انتباهنا ـ أنا والطاهر ـ كنا قد صعدنا إلى جبل عال، أشرفنا على الهاوية. متشبثين بندى وحمادة وشيماء معلنين إفلاسنا.

فى تلك الأوقات دخنت سيجارة والطاهر رفض التدخين، رغم أنه يجارينى أحيانا.

لا أعرف للآن سر شراهتى للسجائر. كنت إلى وقت قريب أدخن المعسل والطاهر يشاركنى. كأنه عشق القرويين أمثالنا. ربما يرجع السر إلى اكتشافى الأخير. كثرت التكهنات. إذا كان التحليل إيجابيا فلا ضير. أهلا سيدى الفناء الجميل. قال صديقى الشاعر لآخر تجاوز الثمانين [ جميل هو الموت لك ] ولم يمت؛ وقد تجاوز ـ الآن ـ التسعين.

سأل الطاهر عن مشروعاتى: سكت ولمن أقل أننى أخطط بطريقة محكمة. رؤية ساخرة تشكل بحميمية نهايتى المتوقعة.

أوعز الطاهر لى ونحن فى انتظار القطار ليلا كى يعود إلى شبرا ومنها إلى مسطرد قائلا: أكتب حكايتى. قلت: لا أكتب حكايات أحد.. فقط تنفتح الرؤى الغائمة على عالم أكثر غيوما قاحلا، فجا لا أرتاح إليه. قال: عالمنا واحد، فلا تتفلسف خذ طينة بينة وشكلها.. تذكرت الطير الموزع على جبلين، مختلط اللحم والدم والملامح. إذا ناديت. لن يأتى سعيا. كان متعبا، ولم يطل ولم أناقش حتى طواه الليل والقطار فى المساء من ذلك اليوم.. كتبت أوراقا كثيرة ومزقتها عن بدء الولد.. ضياعه فى معمل التحاليل بين تكهنات وآراء متناقضة.. حوادث صغيرة تجثم على الروح. ولم أفلح فى خلق علاقات واضحة.

أدور فى أركان غرفتى ناظرا تارة للبعيد وأخرى لهالات دخان سجائرى. أدخل مع أنفاس السجائر إلى أعماقى، شاعرا أن خنجرا ينتظر ـ منى ـ إغفاءة أو بدونها سيلتحم غائصا، مسربا سمه اللذيذ إلى الجسد، فيرتخى تماما.. تماما. يمسك بالصغيرة ندى. يودع أمه وزوجته وإخوته وآخر خيوط الحياة.

فى المرة التى لم يستطع تحديد رقمها. استقرت البداية آخذة مسوح الحقيقة، لابسة نمنمات الوجوه التى ترغب فى الانعتاق من ظلمة النسيان.

كان الطاهر ساحبا خيط البداية. يدور ويلف، يخبط رأسه فى حوائط صلبة لا ترتاح إلى دق المسامير. فلما تعب أسلمنى طرف الخيط: وفرّ؛ فى قطار العاشرة والثلث ليلا إلى صقيع حياته؛ موقنا أنى لن أفلت الخيط. لذلك لم يحاول مجادلتى. إنما أوقفنى أمامه فى غرفتى؛ قلت أتملى.. فتمليت.. إذا هم ينهضون فاتحين أعينهم صوب الوراء تارة وصوب التخوم البعيدة. كأن لمعانا يشبه البريق، يتراوح بين السطوع والخفوت. يرمينى أحدهم بنظرة قاسية كأنه يتوعدنى. ينشغل الباقون.

بعدما انشغلت يإشعال سيجارتى، كانوا قد اشتبكوا مع بعضهم فى عراك محتد. رمتنى زنوبه بنظرة ذات معنى فارتبكت لحظة ثم تشاغلت.

أمسكت هى خيوط اللعبة واختفت.

أخذو يهمهمون عن اختفائها، ويطالبون بضرورة حضورها كى تكتمل الحكاية. ولأنى كنت أدرك ـ بحكمة باطنية ـ أنها اختفت كى تفسد عليهم مجلسهم. وتشغلهم من جديد.. فقد وليت وجهى تجاه ظلام بدأ ينادينى تركتهم فى غرفتى على حالهم. وتركت الأوراق ملقاة بلا نظام. قلمى على كوميدينو لبنى مغطى بزجاج سميك. تبين من تحته زهورا باهتا، ومن فوقه طفاية وولاعة وأعقاب سجائر.

 

فاتحة
بهيه مرزوق
بسم الله الرحمن الرحيم.. رقيتك من عين عمتك محاسن ومن عين زنوبه بنت قدريه ومن عين مرزوق ابن عريفة، ومن عين عبد التواب ابن حبيبة، ومن عينى، وعين كل اللى شافوك ولا صلوش على النبى.

ولما كان الولد طاهر قد استكان تماما لتمليس يدى على ظهره. صعب على الولد وانحدرت دمعة من عينى لما أخبرنى بأفاعيل زنوبه. تضع له الجبن القديم وتخص أولادها محمد وإبراهيم ومصطفى بالقشدة والطبيخ. مهوش ابنها. وددت لو يعيش هنا مع وجيه وفتحى وناجى وحبيبة ومحمد.

لو لم يكن راتب زوجى صغيرا يسلمه لى آخذا قدر دخانه اللف ويضعنى فى حيص بيص. أنت ولدى يا طاهر سبب قهرى وحزنى. كلما أنظر لعينيك أذكر أمى فتحيه عندما تركتْك ابن عامين تحاول فى الكلام. عاد الطاهر فارتكن إلى المساند فى آخر الكنبة بعدما أحرق العروسة الورق.. شهقتُ وعطستُ، واحمرت عينى أدمعت بعدما رقيته. قلت للشيخ عبد التواب زوجى: الولد محسود. رد فتحى من الصالة قائلا: يتحسد على إيه يا امّه.

تضايق الطاهر فقام إليه، يهذران معا. ولدت فتحى قبل أن تضع أمى الطاهر بستة أشهر.. كنت تخافين يا أمى من خلفة البنات فلم يتبق غيرى وماتت ثناء ورزقك الله بأولاد كثيرين ماتوا صغارا وتبقى عرفه والطاهر.

التفت إلى عبد التواب قائلة: همه عايزين منه إيه. كان الشيخ مشغولا بلف سجائره وإحكام البفرة على الدخان بمزج ريقه عليها. لم يلتفت.

قلت: والنبى أطلع مصارينها.

قام وتوجه إلى الحمام مشعلا سيجارته. تركنى للحائط أهرى فى نفسى. سكن صوت فتحى والطاهر. رقصت الكهرباء فى اللمبة، وجدتنى أتطلع إلى البقع المنهارة من محارة الحائط، وأشكى لرب العباد ظلم الناس للناس. عاد عبده من الحمام. تطلع لوجهى المغتم. هدهد حزنى وقال: لله فى خلقه شئون. فقلت بحزن: أبويه واتجوز.. وزنوبه وبنت كلب. والطاهر له رب اسمه الكريم.

 

الطاهر
أودة مظلمة، يدخلها ضوء النهار، يشعشع ظلمتها قليلا. والشيخ نبوى يفتح كتابا قديما. يقلب صفحاته. يشرب قهوته بتأن، ثم يسأل أبى عن الشهر الذى ولدت فيه.. ينقل النظر بينى وبين أبى. أشباح تتلوى مع بخور يتصاعد إلى عروق الخشب تحت سقف واطئ، ينام فوق الأودة القائمة فى آخر الدار بطاروط.. فجأة أمسك بكتفى، فأصابنى الخوف. قال: بتعملها على نفسك بالليل؟. لم أرد. أجاب أبى: لا. قال: نجمه شين..بس مفيهوش حاجة..بيدلّع شوية.

أشار الشيخ نبوى إلى أبى فهز رأسه ووضع يده على شعرى، فى الدار حاولت الاحتماء بيدى من هول طرقعة الأكف وشلاليت أبى. زنوبه تضحك.. وإبراهيم يصرخ فى حجرها. قال أبى: يا ابن الكلب. معندكش حاجة وبتضحك عليا.

ولم أكن قد اشتكيت من شئ، فقط كنت أصحو من النوم صارخا من ثعابين تزحف حولى.

رددت باكيا.. الله يخرب بيته الشيخ نبوى.

 

مرزوق
أعتقد أنه لن يحضر أحد من ولدى فتحيه موتى. أعتقد أيضا أننى حاولت أن أفعل ما يجب.

كما أنه من الواجب أن أوضح موقفى بأن الحياة كانت أكثر رحابة مما كنت أظن. لكنى آثرت أن أرى كل شئ بوضوح. ولم أتمكن. مثلا يوم ذهبت لحضور حفل الريس. كنت أول من طلع السلالم الخشبية. كان عرفه صغيرا.. قبل النكسة بأعوام قلائل. تطلعت إلى الهالة البادية على الحضور. ياقات منشاة يتوسطها الريس فى بدلة صيفية بيضاء بنصف كم. وهز يدى، أحسست أنى أنحنى سعيدا غير قادر على رفع عينى لهالات الشمس التى تسلطت على وجهه المبتسم.

عندما هز يدى كصديق حميم، يجلس بجوارى على المصطبة فى المغارب، ويقول تسلم إيدك لمصر، دارت عينى على كل الوجوه. هممت بالنزول، فرأيته ـ هو ـ فقط من استحوذ على الشمس ومنحنى دفء يده أثناء تماسك يدينا.

واضح أننى مأخوذ بذلك اليوم. أندهش للحظات وأقسم مائة قسم أنى كدت أبكى. تقول بهيه ابنتى.. أنت طلقت زنوبه بهذه الأقسام الباطلة مرات. يبث الشيخ عبد التواب زوجها رأى الدين فى كثرة الأقسام ولو صحيحة فى وضوح أشعرنى بخجل. نويت ألا أتسرع. ولما كانت على أقساما كثيرة تحتاج إلى التكفير عنها قلت أصوم.. أصبحت أصوم تلك الأعوام التى أعتقد أنها أعوامى الأخيرة شهور رجب وشعبان ورمضان بلا تعب. لما جاء عرفه بامرأته نوال وولده السيد وابنته فتحيه تحدث عن مسجده المجاور لسكنه.. الدروس الدينية.. جماعة التبليغ. يقول كثيرون لا يعرفون أصول دينهم. تمليته جيدا.. كانت الشعيرات تتدلى من ذقنه وبقية وجهه صحراء جرداء ( أعلم أنه جرودى ) فلماذا يصر على إظهار ذلك بفجاجة. خجلت لبعض الوقت حين انتقدنى. شتمته فى النهاية معلنا له أننى طوال عمرى أصلى الفرض فى وقته. هل نسى أنى اخترت أن أخدم يوما فى مسجد بالزقازيق تاركا أرضى وخيرى. غير أنه كان وقحا فأوضح أنه لو لم يعطنى الرجل أجرا لما ذهبت هاربا من تعب الأرض. ثم تأوه عرفه ناظرا إلى خارج الدار وقال ليتك لم تفعل. حضرتنى صورة زنوبه إنه يقصدها. أصارت سيرتها على كل لسان؟.. ربما هو أيضا كان واحدا ممن نادتهم زنوبه فخر تحت ساقيها. يا عرفه أنت ولدى وأنا أبوك.. من صغرك تفلح معى الأرض أو بدلا عنى. لكن من يعرف؟!!!

ذات مساء يا عرفه طوحت فى وجهك الطبيخ. قالت زنوبه لك: بس أنا لأ.. بحثت عن حججك وقلت: مديونة وبتجرسنى.

أتراها سارت أمامك ممتلئة رابية، يهتز ردفاها تحت جلبابها الأصفر الخفيف

تصعد السلم فتفضح الشمس ما بالجلباب.. يشف الجسد، فتراها بلا لباس.. ترى ردفين متكورين.. تطلع خطوة.. بتؤدة. كأنها تتعمد إظهار حركاتها كى تشف الشمس أكثر عن جسد طرى يتمايل. فتنتفض.

أنا رأيتها كثيرا هكذا.

فى المرة الأولى إنتصبت وانتفضت حواسى الخاملة، طلعت السلم وراءها درجة.. درجة. كانت تخايلنى هيئة فتحيه طالعة نفس السلم باحتشام فأزيحها للوراء. تستدير زنوبه ملتفتة لى، فتتملكنى الرغبة.. أطوق خصرها. تنزلق يدى إلى الردفين المكتنزين، فأغوص فى الليونة المفرطة.. أدفع باب ( المقعد) أفترش ـ على عجل ـ هدوم العيال على الأرض، تضحك.. أخلع سروالى، أنحنى رافعا جلبابها فتنكشف على بسهولها وهضابها ونتوءاتها الطرية. أنثى ممتلئة بكل شئ. تملؤنى بفحيح الرغبة والنشوة.. أهركها بكل قوتى فتلف ساقيها حولى.. أشرف على هاويتى، أسقط من فوق تلالها إلى حفر عمرى. بينما تفح ـ هى ـ متلوية تجذبنى. ولا أتمكن من طلوعها ثانية، أدرك ـ الآن ـ أنها مازالت تفح كأفعى. أوراقى تتساقط حواليها غير قادرة على تغطية المغارة العميقة.

شمسى تأفل يا فتحيه. تغيب وراء تلال زنوبه. عيدان القطن تقصر عاما بعد عام. بالكاد نضغط الأكياس بثانى جَمْعَة. كنت أورد إلى الجمعية أبيض القطن. عشر جنيهات حمراء أعطاها لى الريس جمال ظلت فى السحارة أعواما حتى أدخلتها فتحيه فى إعداد بهيه للزواج. أنظر الشهادة التى اختفى بريق حوافها المذهبة. تتوقف عينى بين فراغات الحروف. أنفض الغبار.. أقرأ إسمى باحثا عن ملامحى القديمة. ودفء اليد التى سلمتنى الشهادة وسكنت التراب.

 

فتحى
تلال من الرغبة تعترك بأعماقنا، إذ تميل كل يوم شمسنا. ربما تنحرف الأرجل إلى ضلال السعى.. تنبح الحياة فى العروق..نتسحب على أطراف الأصابع نحو الحجرات المقفلة. نكسر الأقفال فلا نجد شيئا. ربما نجد مرآة كبيرة تغطى الجدران. تبرز خيالاتنا المعوجة المفلطحة متشابكة متعاركة. تصفعنا الفجاجة أو يصيبنا الإعياء والصداع. نولى الوجه صوب الباب متعقبين أطيافا باهتة وخيوط ضوء واهنة. لعلها تسحبنا لأول الطريق.

 

عرفه
بعد العشاء أوقفنى السيد ابن عمتى ـ وكنت متعجلا أو ربما أتوقع شيئا ما ـ على رأس شارعنا.

لماذا يسأل عن ظروفى وهو يعلم أنى مغطوط فى الأرض كل يوم. تراه يغيظنى بعدما صار … لو نجحت كنت الآن معه.

حفظت عشرة أجزاء ولم أفلح. كانت اللجنة قاسية، أبى أوصى فراش المعهد ليوصى بدوره اللجنة. أية لجنة؟! وضع كوب شاى واحد ــ وهى عضوين ـ فتعازما. وحتى لا يحرجا من بعضهما. جعلانى أشربه أنا.

وأبتلع معه رسوبى.

منك لله يا فراش الوكسة.

صرت ـ الآن ـ يا سيد فى الكلية.

سنوات وأنا هكذا.

هل تعلم أنى تسكعت فى شوارع طحلة بلا هدف؟.

هل تعلم أنى كبرت إلى الحد الذى …

أنت بالتأكيد ترى هناك أحلى البنات. فى الشوارع. الأتوبيسات. الكلية.

وسيم أنت يا سيد.

لما لاحظ شرودى، ردودى القصيرة، تغير وجهى، تركنى.

اندفعت للدار، فإذا هى مقفولة بالترباس،

كما توقعت.

رغم أن صلاة العشاء انقضت منذ قليل.

دققت أكثر.

سمعت أبى يقول غاضبا: مش هتبيّت فيها.

بدأت المتاعب.

منذ أكثر من عشر سنوات وعلاقتى محددة بزنوبه.

رفعت عليها ( الشعبة ) أكثر من مرة للتخويف حتى لا تظننى طيرا يسهل أكله كالطاهر.

قلت له عندما كبر: كن شديدا تخافك.

كنت كبيرا متجاوزا عشر سنوات عند دخولها البيت أول مرة.

[ كانت وراءه وخلفهما سيدة واحدة تحمل سبتا واحدا بلا صوت.. دم أمى فى التراب لم يبرد.. فى أيامها الأولى كانت هادئة، مطيعة لأبى حتى أنجبت محمد، بدأت تقبل وترفض.. تكرر الإنجاب وتكورت قبضة يدها ]. قعدت أمام الباب مخنوقا كالزقة الضيقة التى تربطنا بالشارع.. ماذا أفعل والظلام يزداد والقلق لا يبرح النفس.

تراها حكت له بالتفصيل؟!

 

بهيه
ما أقسى تلك البلدة وأقسى قلوب أهلها. ينشبون أظافرهم فى أعناق بعضهم !! أليسوا أهلا وجيرانا؟.. وأنت يا أبى ألست إبنتك كما أن الطاهر إبنك. لماذا كل تلك الجفوة. مازال الخوف يهزنى حين أتذكر لطمتك المفاجئة ذات ليلة على العشاء فوق خد أمى، حين ضحكتُ على قولها: إخيه على أمك. أمك التى تدخر لك من أكلها فى الدار التى تسكنها وحدها وأنت تذهب حاملا من طعامنا إليها كل ليلة حتى تلك الليلة.. أرسلت جدتى ـ ولم تكن أمى تعرف ـ حمامة ملفوفة بالقماش، قالت لأمى: أمانة.. إديها لمرزوق، وفسدت الأمانة فى حر الصيف حتى عدت يا أبى، وأمسكت بالحمامة الفاسدة وضحكت أمى وقالت ما قالت. لا أنسى إلى الآن ضيق عينيك وارتفاع حاجبيك وسقوط أمى الطويل حين لطمتها. ليلتها نطت منى المياه رغما عنى.

قالت إمرأة وجيه ـ ابنى ـ بعد عودتها من طحلة: أن عائلة البشاروة قامت بالسكاكين على عائلة السود. مزقوا لحمهم وسقط قتلى وأعداد جرحى لا تحصى.. من المؤكد أن العيال الصغار بكوا على أمهاتهم اللاتى تعرين رغما عنهن بأيدى نسوان البشاروة ـ سألتُ امرأة إبنى ـ وأشعلوا النار؟. هزت رأسها.. قلت: نار القلوب أشد. صارت الناس لا تحتمل بعضها. حتى ابنى فنحى كبر، ولم يعد يحتمل كلامى. صار الولد فى الثانوية.. إخيه على ده زمن.

 

الطاهر
قال فتحى: الغش حرام.

قلت: لأ.. حلال.

مادام الموت من فوهة ( الفرد ) سينطلق ـ فى صدرى ـ إذا رسبت.. ذاكرت كثيرا رأسى كالمنخل تسقط من فتحاتها الكثيرة ما تبقى من كلام.

رأسى طلاحونة يحركها الخوف.

: مبروك.. جبت كام؟.

: نجحت.

أعاد فتحى السؤال. وأعدت الجواب بتأكيد وأمان. قال أنه أحضر كتب أولى إعدادى. لم أهتم شعرت برغبة فى الانطلاق، بين السيارات والناس فى شوارع الزقازيق.

ركبت الأتوبيس ( الدايرى ) الأصفر،ذاهبا إلى خالتى بطاروط أخبرها بنجاحى. وخلاصى من الإبتدائية. ملعون التعليم والمدرسين، وطابور الصباح.

أعطتنى قطعة معدنية بعشرة قروش. واحتضنتنى بشدة ثم قالت: روح لخالك. ذهبت إليه، فأعطانى ما تيسر بإهمال، أو ربما بحزن على فشل أبنائه فى التعليم.قضيت ليلة مع عبد الباسط، وكان عبد السلام قد تطوع فى الجيش بعد الاعدادية.

أغيب.. وأعود إلى طحلة.

فلا أجد من يرحب بعودتى.

يقول عرفه أخى بإهمال مشيحا برأسه: كنت صايع فين. ثم يمسك حبال البهائم ويركب الحمارة ذاهبا للغيط.

ربما يبش أبى أو ينشغل بلف حبال التيل للبهائم أو إصلاح الحصر أو الغبيط بمسلة كبيرة.

عندما دخلت الزقة التى تربط بابنا بالشارع عائدا من عند خالتى. كان أبى عند الباب منهمكا فى ترقيع جوال.. رميت عليه السلام. لم يرد. تأهبت لخطر قادم. ولما لم يهم بفعله. قصدت الزير لأشرب، مستطعما المياه الباردة فى حر صيف كاتم. طار الكوز من فمى وارتطمت رأسى بالزير إثر ضربتين من كف أبى طرقعتا على قفاى، تلاهما شلوت فى مؤخرتى. وانصرف.

طلعت إلى ( المقعد ) وبكيت.

فى الصباح رافقته ساحبا البهائم وكان ورائى على الحمارة. قال: كنت بايت فين ياصايع؟.

لم أرد.

وددت لو أربط الجاموسة والبقرة أو أتركهما أمامه، وأفر منه للأبد.

قالت زنوبه بعدما ضربنى بالأمس: يعنى هيه أول مرة يصيع.

لا أعرف هل خلصت الكلمات ولم يتبق سوى صايع وضايع لوصفى.

اختفيت من أمامه وقت الظهر بحجة إحضار الغداء.

وجه عرفه أحمر، يطق من عينيه شرر مثل عينى أبى ليلة أخرج لى ( الفرد ).

( الشعبة ) فى يد عرفه ويدفع الباب بكتفه، وصوت زنوبه يأتى من وراء الباب لاعنا طحلة والذى أتى بها لطحلة واليوم الذى رأته فيه؛ الباب يهتز بينهما.

وقفت عند الباب محاولا الفهم.

عرفه يحاول ضربها. وهى تنعته بأقبح الشتائم.

هو يكبرنى بثمانى سنوات. ويستطيع تلقينها درسا، بالعصى.. صباحا ذهب يشتغل مع الجيران ـ بدل ـ لجنى القطن.

عاد لم يجد غداء معدا ولا زنوبه. أكل الجبنة والمش بالخبز الناشف على عجل. عند عودته للغيط رآها قاعدة على مصطبة أبو شعبان البقال تأكل الحلويات المسكرة. عند رؤيتها لعرفه ولت هاربة. طلب البقال من عرفه المتأخر من ديون زنوبه. سحبت حتى الآن بأكثر من عشرة جنيهات.

على العشاء. كان أبى جالسا فى الوسط حول طبلية مبقعة غير مغسولة فوقها طبق من البطاطس به قطع عائمة فى ماء الطبيخ. ومحمد وإبراهيم يسرحان باللقمة حول قطع البطاطس المتبقية، ينز من بين أصابعهم السائل. أبى يكسر الرغيف الناشف إلى لقيمات. يمد يده فى طبق مخلل به قشر برتقال وجبنة قديمة، يسرح داخلها وحولها دود سريع الحركة. يطوى السريس الأخضر فى فمه.

زنوبه جالسة عند عتبة الدار. واضعة رأسها بين يديها؛ كنت قد أكلت عند عمتى محاسن قبل قليل، دعانى أبى للطعام: قرب اطفح. رفضت.

قال: أنت حر.؟

كان عرفه منهمكا فى حشو فمه بأى شئ. تتلاحق اللقيمات.

دخلت زنوبه فى البكاء دفعة واحدة، التفت عرفه إليها.

قالت بصوت عال: إن كنت كبرت أبوك يجوزك.. بس أنا لأ.

اصفر وجه عرفه، واتسع بياض عينيه.

بينما توقفت اللقمة فى فم أبى.

أعاد عرفه ما قاله أبو شعبان البقال عن ديون زنوبه. اختلطت الحجج مثلما تعاركا ظهرا. أبى صامت ينقل بينهما عينيه.

ثم قذف فجأة بطبٍق ماء البطاطس فى وجه عرفه.

 

عرفه
ذهبت إلى بهيه أختى فى الزقازيق، ماشيا من طحلة ولم تتعب قدمى، حاملا بقايا الطبيخ على صدرى. لا للبكاء على صدرها كالعيال. بل هربا من صورتى الباهتة، وقبضته.

عشرون عانا ولا شئ.

قالت أختى: لا تغضب هى وسخة وبنت كلب، مثلك سيكشف سرها. هى تسرق وتسحب شكك وأكثر من ذلك.. وأبوك يعرف. أنت ياعرفه بهيم، مثلك يجب أن يسافر إلى العراق أو أى بلد. تعمل وتتعب وترجع بالمال.. تتزوج ويكون لك أولادا. لم تعد الأرض تحتمل كى تفتح لك ولغيرك بيتا. سترث فى النهاية بضع قراريط لا تسمن فرخة. لن تترك المرأة فرصة للإمساك بخير الأرض. سافر يا ولد.

دخل كلامها مخى. وجيوبى انتفضت معلنة براءتها من أى مليم. وهو لن يعطينى. قالت لى: اشتغل ياولد مع أولادى، وجيه وفتحى وناجى فى حدادة التسليح، ووفر أجرة السفر. اعترض الشيخ عبد التواب. قال: ابن الأرض لا ينفع إلا للأرض. كالسمك يموت إذا خرج من الماء. ضحكت وقلت: ياعم الشيخ إنهم يسافرون ويعودون فى جيوبهم المال، يشترون الأرض ويبنون البيوت ولم أقل بأنهم يجلسون أيضا على المقاهى. ويتأخرون. ويصيعون فى الشوارع ثم يستأجرون من يفلحها.

أسبوع فى حديد التسليح أحاول ثنى الأسياخ وتقطيعها ولم أفلح.

خبير أنا عندما أضع السدد والعروق، فوق الدور الجديدة فى طحلة مع الرفاق.

أسبوع وحضر أبى. تحدث مع زوج أختى وأختى. عبر عن نيته فى تزويجى فى القطن القادم.

قلت: هسافر.

قال: إضرب راسك فى أتخن حيطة. وقابلنى إذا فلحت.

قهرنى الحديد، ولانت مقاومتى.

فى صباح يوم جديد.

عدت عودة الخائبين.

رضيت بالزواج من ابنة عمتى، وكدت أطير.

اختلف أبى مع أخته كعادته، فزوجنى من نوال قريبة زنوبه.

لماذا كالنعاج نستسلم للآخرين؟؟!

 

مرزوق
لم تفرح يا فتحيه بالشهادة المذهبة الحواف. عندما نزلت من فوق ظهر الحمارة طائرا إليك كى أحضنك، يعمر جيبى عشر جنيهات حمراء. وليت وجهك إلى ظلام المندرة باكية. اهتزت فرحتى، اندلق جردل ماء وسخ على شالى الأبيض حين أخبرتنى بأن ثناء فى المستشفى.

: سايبها حلوة؟!!

: مسكت بطنها ووقعت فى الغيط.

كانت يمامة تسحب البهائم طائرة بهم ـ إلى الغيط ـ بدلا منى. فى الصباح دعت لى وقالت: هتجيب لى إيه من بردين؟

ماتت ثناء.. تسلمتها فى جلبابها المنقط بدوائر حمراء.

رمت فتحيه الطاهر الرضيع على الأرض. تسمرتُ مكانى حين برز الترولى. من فوقه ملاءة خضراء باهتة تغطى الوجه المورد.. العيون شبه مغمضة. شعرها الطويل تكوم فى تربيعة بيضاء ارتخت حول جانبى الوجه.. وجوه بلا ابتسامة.. أذرع.. سيقان.. أياد تقبض على الرمل. تصرخ دفعة واحدة وبعدها الرماد.. بالرماد الخارج من الكانون تلعب ثناء. وسط الدار تملأ الزير بالماء. يرتفع جلبابها الطويل عن ساقين ممتلئين. تضرب بقدمها الأرض ثم تطلع إلى سطح الدار وتعود بكيزان الذرة. تفرفط حبات للدجاج. يرفرف بأجنحته ويتقافز مخلفا بهجة حلوة فتضحك ثناء.

ابتعد الترولى. ارتمت فتحيه على بلاط المستشفى تلطم وجهها وتتعلق بالترولى. نزلت دمعة ـ رغما عنى ـ ليمامتى الخضراء.

انفجرت فتحيه بصراخ متوحش، كدت ألطمها.. هتفضحينا.

يجب أن يتم كل شئ فى هدوء.. هكذا ألملم البقايا من هناك، خوذة مازالت محبوكة على رأس الشاويش زينهم، انغرس كتفه فى الرمال.. بيادة بداخلها ساق، جسد الشاويش مكتمل.. عيناه مفتوحتان على اتساع.. هل تتفجر الأرض بالماء.. بالألغام.. بالمدافع القاتلة.. سماء تمطرنا بالموت.. سكون يعقب كل الأشياء، وهواء فاتر يبدد الرائحة. لماذا تنسحب روحى رويدا رويدا مع ملابسها.. شبشبها أبو وردة.. هكذا فى كيس باهت لملمى معى..

فتحيه صابر يا زوجتى.. أنا حبيبك و رجلك.. أحببتك منذ رأيتك.. انطبعت فى القلب ملامح سمرتك الدافئة.. فتحت معى أبوابا ووقعت معى فى حفر. هممت ممسكة بيدى لأول الطريق.

لماذا تتركينى الآن للهلاك؟؟؟

المشيعون كثيرون يدبون بخطوهم الرتيب إلى المدافن وأنا بجوارك سائرا أنظر للنعش الذى احتواك وأكتاف الرجال تتسابق.

أربعون يوما.

وانفتحت طاقة مظلمة كى تلتهم الجسد الهابط، بتوق إلى هناك حيث لا يعرف مرزوق متى الموعد والميعاد؟؟

لماذا لمن أشتمك أو أضربك حين جئت لى بالغداء بعد يومين لرحيل ثناء. واعترفت بوقوفك على القناية بجوار المدافن، تبكين ثناء.

صارت اللقيمات مرة فى حلقى. حطت يمامة خضراء على القلب رفت بجناحيها وطارت عائدة إلى هناك. أخذتك فى حضنى.. ربت على كتفك قائلا: مات مننا كتير يا أم عرفه. كلهم فى الجنة.. واختنقت بالكلمات.

قلت ضاحكا فيما بعد: لو مقمتيش هتجوز.

كنت على فراشك أشعر الآن أنك أكبر منى ويغشانى يقين بأنك لن تقومى نافضة أجولة الملح التى حطت على رجليك ـ بسبب وقوفك ـ أمام المقبرة.. تحاملى يا فتحيه. الجارات يزرنك ثم يخرجن فى أعينهن معنى الوداع.. خفوت صوتك، يتلقفنى فى الليل بئر عميق مظلم على قاعه تتربص بى أفعى تفح؛ أفيق مذعورا.. يا فتحيه أربعون يوما فقط وتأخذك الغالية إلى جوارها.. ترف بجناحيها مخلفة ضبابا وعمى، وخطى متثاقلة.

ثناء تعد الركوبة، واضعة البردعة على ظهر الحمارة، تربط الحزام حول البطن ثم تناولنى طرف اللجام.

فتحيه تضحك وتوزع العيال بيننا.. عرفه كبر يذهب معك إلى الغيط.. ثناء لى تحمل الطاهر وتساعدنى فى شغل الدار.. البنت بقت عروسة.

أسحب البهائم مفارقا البلدة، ناظرا إلى الدور الطينية المتساندة حتى أخلص من الناس والضجر.. وجوه صفراء من المرض، آخذ طريق المدافن حتى أنحرف على شمالى تتوقف الحمارة فأنتبه على غيطنا.

أرخى الحبل للبقرة والجاموسة. تبحث يدى عن الشرشرة المخبأة. أحش البرسيم الطرى ناقلا للبهائم أولا بأول. ثم أكوم كومة كبيرة ورائى للعشاء. تطلق البهائم خوارا مبهما، على الحد الفاصل بين أرضى وأرض أبو اسماعين أقعد متمليا الشمس التى تغيب.. تنام وراء الأشجار البعيدة. أخبرتنى فتحيه قبل عشرين عاما ـ فى نفس المكان ـ بعدما تطلعت إلى عينى فى صفرة المغيب. بأن أباها مات مسموما. وأنها لم تقل لى ذلك من قبل. رمت بنظرها للغيطان من حولنا وأكملت: بسبب الأرض. رأيت فى تقاطيع وجهها ألما قديما. تحشرج صوتها. مغمغمة، ضممتها. مسحت دموع عينيها قلت: أنا أبوك وأخوك يا بت.

أحست بدفئى فاستكانت. سكتت قليلا وسكت.

قامت إلى الجاموسة وفكت حبلها. عدنا على ظهر الحمارة.

فى الليل خلعت عنها كل ملابسها. ضممتها بقوة، كأن أسى قديما يسحب روحها إلى البعيد، وأنا ألوك تفاصيل جسدها فلا تنتفض. أتساءل أين ذهبت رغبتك يا فتحيه. ألست رجلك؟. تقول حين التداخل وأنا باذل كل مائى كى أغرق شقوقها: أه.. يا أبى. طعم اليتم مر.

عدت بها يوما ولم تناقشنى حماتى فى كلمة كأنها تقول لى: خذ امرأتك. كفانا ما بنا. جئنا من طاروط بلدتك يا فتحيه إلى طحلة نتكلم هازئين من عقولنا المقفلة التى تغضب لأتفه الأسباب. هدمنا حوائط تحاول فصلنا. كدت ترتمين فى حضنى ـ ونحن على أول الطريق ـ متعبة تقولين. أخى يشتغل عند الناس. قراريط أبى القليلة لا تكفى. لا تتركنى يا مرزوق. يومها أغلق أبى الباب وقال: عد بها. هل أذنت لك بإرجاعها. لم يقهرنى رفضه لنا واحتويتك.

بكيتِ.

قلت لك: لو نموت، نموت معا.

استأجرت دارا.. نمت فى حضنى.

حضنك شلال من حنان يمحو التعب. أعود فتنزعين أشواكى ومتاعبى. وتلعب بهيه حولنا.

 

بهيه مرزوق
أبكى على أمى. أم أبكى عليك يا أبى.

اليوم موسم. من الأمس أنتظر دخولك على دافعا الفرح إلى قلبى. تهدهد حزنى وتمسح دمعة على فراق أمى، كانت تُحمِّل معك خرجىْ الحمارة بالخيرات. أو كنت ترسلها قائلا: شوفى أهلك بالمرة.

أه.. يا أبى.

اليوم صرت يتيمة حقا.

 

فتحى
ربما تكون صلابة أمى وجفاف المعاملة بيننا هو ما دفعنى مرارا إلى ترك بيتنا فى الزقازيق والهرب إلى أى مكان. ولم أعرف أنها ستبكى وحدها بسبب ذلك

لأننى بعد ست سنوات. حين سافرت إلى أسوان لاستكمال تعليمى بإحدى معاهدها.

كتبت رسالة.

عن الولد الذى قيدنى وسط حديقة عامة أمام مبنى المحافظة جعلنى أنطر للبواخر الرابضة فى النيل وهى تضج بالسياح والرقص على موسيقى صاخبة، تصاحب الأجساد الراغبة فى المرح والدوران حول بعضها ناظرة لجمال السيقان. أعواد الأجنبيات النحيفات تطلق الذاكرة إلى بلاد الثلج والشتاء والسفر أو تفتح فى النفوس رغبة متلهفة للعناق والمضاجعة التى يحيل دون وقوعها رجال أمن البواخر أو الفنادق.. هكذا أخبرنى صديقى الأسوانى مصطفى إدريس ( والعهدة على القائل ) كان مصطفى بالنسبة لى حضنا وأمنا من سخط المدينة.. راح إلى الأقصر واشتغل بفنادقها.. صرت لا أراه إلا لماما وأنا هنا ينفرد بى الولد الذى شد ـ على مهل ـ حبال الذاكرة وملأنى برغبة حميمة أن أرى إخوتى، فالليلة موسم. هم الآن حول الطبلية، أبى يوزع عليهم الدجاجة التى ربتها أمى على سطح بيتنا، وطهتها ثم حمرتها ووضعتها أمام أبى قائلة: ياراجل كده تضحك على نفسك. فين منابك؟. فيقول: بس العيال تاكل.

لماذا كتبت هذه الرسالة فى تلك الليلة؟ لا أعرف وفى النهاية أكلت سندوتشاتى وتمشيت فى المدينة أنظر الناس فى شارع السوق كأنه شارع البوستة فى الزقازيق وقت رمضان ملئ بالبازارات ومحلات العطارة ورائحة البخور تميز الشارع. أبناء البلد فى أعينهم حماس، خطواتهم واثقة وثابة. يدعون السواح للمشاهدة وعيون الغرباء تدور كأنها تبحث عن شئ مفقود؛

كانوا جميعا ممتلئين بالحياة إلا أنا.

لا أعلم أن أمى ستبكى بعد سماع رسالتى من أبى. مع سندوتشات الفول والطعمية ولم تقرب الطعام فى الموسم التالى. منتصف شعبان.

ذلك الحنان الدفاق فى قلب أمى كان دائما يختبئ وراء صلابة وجهها.

تمنحنا دفأها بالقطارة. ربما لأنها تولت أمرنا صغارا حين اشتغل أبى فى مسجد ( بالطالبية) وكنا بطاروط. كيف تدعو علينا بالموت ونحن أبناؤها. وتضربنا بعنف عند الخطأ. كانت تربط أخى وجيه بالسرير.. نعم كان شقيا وأبى غائب وهى أم وأب ولكن لماذا تعنف أبيها عند زيارته قائلة: ماشى ورا المره..

جدى مرزوق يضحك ويلاطفها.

ظللت فترة طفولتى وصباى حتى أيام ثانوى وأنا لا أفهم خشونتها المتعمدة.

حتى ضقت يوما بدعائها علينا وأوامرها، فشجعنى ذلك الولد الذى أتمنى الخلاص منه أو منى ـ على التمرد ـ كسر هدوئى ودفعنى للسفر وترك البيت، فسافرت إلى عرفه خالى فى مسطرد لأول مرة بلا عنوان.

 

عرفه
استطعت أخيرا أن أرى النور والأرض تفتح ذراعيها لى. وحدى فأضرب الفأس فى بطنها. أعدل خطوطها وأرتاح من عذاب النفس، كلما أنظر فى عينيك يا أبى.. كل ابن آدم خطاء.. وأنا جهزت قيراطا فى آخر الأرض وزرعت الباذنجان وصرت نحلة لا تهدأ، فى أرضك ـ يا أبى ـ لعلك ترضى. أحس أنك تشك. تغوص فى عينى. ماء الطبيخ لم يزل على صدرى. ذلك المساء ـ من عامين ـ أغلقت الباب دونى فتسلقته مستندا على حائط الجيران بعدما نفدت كل الحيل، نزلت السلم على أطراف أصابعى فاجأتنى بضربة عنيفة كلها غل ومرارة. ضربة عطلت ساقى أياما. ضربة انتقام ويقين. كانت مديونة وكنت أضربها. وقف الباب بيننا واسترجعت دفاترها وحضر الطاهر.

الحمد لله.. غارت.

جمعت معهم ما يحتاجونه من ملابس متظاهرا بالضيق كانت زنوبه ترمينى بنظرة أعرفها. نوال تخفى فرحها وتقول: كده تسيبنا يا با مرزوق. فلا يرد أظن إنه يهرب من الأرض. ألم يختبرنى؟! ليعلم مدى فلاحى.. أم يكرهنى؟؟!!!

فليكن ما يكون.

يذهبون جميعا إلى الزقازيق، إلى الجحيم. لا يهم. يخدم فى مسجد أم يخدم فى أى مكان يحب؛ كل واحد حر لتخلو الدار.

أنا ونوال وفتحيه ابنتى فقط. نجرى ليلا فى الدار ـ يا نوال ـ ولا أحد.

لوتمتلئين قليلا. عودك ممصوص، وعيناك غجريتان. أخذتَ زنوبه يا أبى، من أغيظها وأدفع أمامها نوال. أمسك بثديها فتأكلك الرغبة يا زنوبه.

كأنك زنوبه يا نوال ولا فرق مادامت الرغبة فى حر الصيف تفور فى عروقنا، ولا تهدأ.

وقفت نوال عارية وسط الدار.

وأنا يشغلنى ضحكها المغناج، وجريها الملسوع، طويلة ككافورة، ممصوصة لكنها ممتلئة برائحة النساء.. جريت وراءها. فأغلقت دونى الباب، فتذكرت زنوبه. انفتح الباب دخلت مهزوما، فانتصرت لى برقصها. أولجت محراثى فى أرضها.. رويتها … ثم همدت من التعب.

فى العصارى ركبت الحمارة وسحبت البهائم، قطعت الحشائش الضارة من القطن.

القطن الثانى بعد زواجى.

 

الطاهر
صحوت اليوم شاعرا بأن رأسى ثقيلة، غير راغب فى الذهاب للشغل. لكن المرأة ضربتنى بساقها وهى نائمة. لم أفتح عينى. ظلت خيالات سوداء تتراءى لى كأننى فى بيت واسع كبير متعدد الفتحات. تطل منه رؤوس مخيفة.. أهرب. رغم يقينى أن نجلاء لكزتنى ثانية ولم أنهض. كررت، فانتفضت بضيق. كان ريقى ناشفا، شربت الماء من الحنفية، وضربت ببعضه وجهى الذى لم يفق إلا على لسعات البرد، أدوس على بدال العجلة وأنطلق.

كل يوم فى ذلك الملل والزحام والناس. وجوه تفاجئك بابتسامة باهتة. أضع الطبق فى كشك خشبى.. أفرغ الطعمية والبيض والطماطم وأرغفة الخبز والجبن القريش. ويأتون يطالبون كما لو كانوا سادة. اليوم أحس أنى راغب فى التخلص من كل ما معى. من الناس والكشك والبيع والمماطلة، وتسجيل بقايا حساباتهم فى كراسة بالية. آه.. لو أوزع شرودى وألمى على شقوق هذه المدينة الواسعة. ألطمها بيدى ولو لطمة واحدة وأنام.. أنام بدون رفص امرأتى وطلبات حماتى، وطبق الترمس فى العصارى بين شوارع تلطمها شمس الغروب. لماذا أفيق اليوم ـ هكذا ـ مهموما.. حزينا، ورؤوس غريبة ذات ملامح غليظة، تمد أذرعها الطويلة نحوى كأنها تدفعنى إلى بئر بلا قرار. أصرخ متشبثا بيد أحد.. ولا أحد. فقد تباعدت البيوت وبدت رمال واسعة حول ذلك البيت المتهدم. ضحك عرفه حين أخبره السيد ابنه بأننى وقعت فى حفرة، جذبه من يده لنجدتى. قال عرفه: مجنون. ونجلاء بدلا من مد يدها حلت شعرها وشقت ثوبها فاضحة اللحم، واندهشت إذ مدت زنوبه يدها وحاولتْ. ومددتُ يدى. أوشكت على لمس يدها.. يبدو أن أحدا داعب جسدها فأفلتت يدى.. وتمايلت رؤوسهم الغليظة حين تجمعت عند رأس الحفرة ملامحك يا أبى. كانت واضحة وواضح تضييق عينيك وأن تتفل فى وجهى.

أنهيت ما بالطبق كأنى أرمى به للكلاب. ذهبت إلى ر ئيس المكتب أخذت تحويلا للتأمين الصحى هناك شكوت آلاما وهمية.. ولم أصرف الأدوية؛ قالت نجلاء على الغداء: أجازة ليه ما انت حلو. عند العصر كان طبق الترمس فوق رأسى ورأسى ثقيلة تشكو لرب العباد الخبط الدائم، دق المسامير لا يخف، درت كثيرا ولم ألب نداءات عديدة. لأننى كنت أفيق عليها بعد عبورها بمسافة. كانت عربة الأنابيب تسحبنى لأركبها.. أقذف بالأنابيب إلى وجوه صارخة هائجة. تعبت فأدرت ظهرى لاعنا الغروب والعيال التى تشد جلبابى. الطبق مازال ممتلئا.

يا رب تعبت من الدوران وكلت قدمى. فجأة، ضربة فى الظهر طيرت الطبق من فوق رأسى، ورمت بى بعيدا. كادت العجلات أن تعلن القرار لولا يقظة غبية من السائق الذى سبنى ولم أرد.

إليك يا نجلاء أندفع.. إلى ظلمة الأودة، أغلقى كل الأبواب.. دعينى أنام كى أتخلص من الدق.

لا أرغب فى السير والترمس والشغل، السيارات سريعة، وأنا متعب يا حمادة.

ارتميت ممسكا برأسى، غطتنى نجلاء، وكانت بهيه تحاول أثناء نومى ـ وأنا ضائع فى ظلام أكثر سوادا ـ أن ترقينى وتملس على ظهرى بحنان.

أرتاح لدفء يدها وأنام.

 

بهيه
أنت يا طاهر ليس لك غير الشهادة.

" واللى تغلبُّه إلعبُّه "

أبوك لا يكرهك.

ربما تكون زنوبه قد وضعت غمامة على عينيه، فدار حواليها، أعلم أنه سريع الغضب بطبعه ولا نتفاهم معه.

لكن يا أخى عيش. وذاكر. وانجح.

الدنيا مثل جمل كبير لا ينخ إلا للأقوياء.

 

مرزوق
أغلقت كل الأبواب بنفسى واستكنت صاحيا تلك الليلة. ربما هى الأخيرة لها.. أو لى. أعتقد أن أحدا سوف يأتى , واحد سوف يطرق الباب. وعلى غفلة منى تتسحب زنوبه معتقدة أننى نائم. عندها يكون شخيرى عاليا.. عاليا. يغطى على كل مخاوفها. سوف أقتلك إذا فتحت الباب أو تقتلينى. لن أترك شيبتى تعبثين بها. لن أترك جلبابى تفترشه الديوك وتتصارع عليه. الليل سكون وتأهب دائم. إشارة المتلهف للجسد المترجرج من يطفئ نار الرغبة، نارى لو وزعت على ظلام طحلة لأشعلته حريقا. يأخذ فى طريقه محمد وإبراهيم والقادم إذا كان ابنى. خسرت كثيرا كان هنا خبزا وأرضا و … عرفه. هل تمرح الآن يا عرفه فى أرض أبيك. تأكل الجرجير والخيار والقثاء. تتكرع كبغل. كلهم بغال. يحرق الصيف خراطيم رغبتهم.. يدورون على كل الخرابات، بغية العثور على كلبة قحبة تسحبهم وراءها. يتعلق بفرجها من ترغبه. حتى آخر الليل. أنا وشخيرى حماران يهزان أذنيهما الطويلتين وينامان واقفين.

 

صعود الزئبق
عرفه
كل صباح تسحب البهائم حبالها وتنطلق بمجرد فك قيدها من الوتد. وسط الدار يكون خاليا من الغبيط والناف وما يعرقل السير.. تنطلق عارفة طريقها إلى الباب، توقفهم نوال، ألحق بالعصا عنادهم. أضربهم لا أكره غير العناد والعقول المقفلة. كثيرون يا ربى مما خلقت يحتاجون العصا. لم تتوقف تحركات الطاهر بالأمس فى وسط الدار. قالت نوال ذلك الصباح يجب أن تسد الثقب الموجود بالباب. هل يتطلع الطاهر لعرينا يا نوال. هل كبر الولد وآلمه البرد وحيدا فحاول أن يأنس بعرينا؟!

عند الحد الفاصل بين أرضنا وأرض أبو اسماعين قعد الطاهر فاتحا كتابه بضع دقائق ثم رماه وأطلق صفيرا كجحش يرى فى البعيد حمارة قادمة.

تذكرت ما قالت نوال. قلت:

: ذاكر يا حمار.

: متشتمش.

: أنا هنا مسؤول عنك.

: أنا فى حالى.

: لو يسر كنت أفرح.

: تفرح تزعل انت حر.

: يا أخى خلى عندك دم.

طوح الطاهر الكتاب على طول يده. غلت دماء التحدى فى عروقى، فاندفعت إليه ولم يبال.

وقوفه الغبى أمامى جعلنى أضربه على وجهه. رد يدى بشدة، فأكملت ضربى لعله يتأكد أننى سأحسم الأمر أو يذهب للجحيم.

تلك العقول أقفلت على جهلها ولن تنفتح.

بابتعاده مسرعا، قعدت على ريشة الأرض أستعيد اندفاعى وتمرده الواضح. ولم أفق إلا على قلاقيل من الطوب يطوح بها الطاهر من فوق التل القريب. قبل أن آخذ حذرى. كانت الطوبة صاروخية فأصابت رأسى، فتحت جرحا صغيرا نزف منه الدم. لم ألحق به. عدت خائبا، غسلت رأسى بماء الترعة وأحكمت يدى على الجرح. ثلاثة أيام ولم يعد للدار.

تقول نوال: الطاهر يعمل كده؟! أنا أعلم الناس به ما توقعت جرأته ذلك اليوم ولا قلة أدبه.

أنزلت المرتبتين القديمتين من فوق العربة الأجرة، واللحاف والحِرام الصوف وسبتا محشوا بالملابس.. وحلل قديمة نحاسية قد علاها الصدأ والهباب الأسود.. تغيرت من الداخل ألوانها؛ كان الواحد يرى فيهما وجهه قبل سفرهم.

عام يا أبى وتعود. خذ أرضك، أود أن أرمى كل شئ. تعبت. أود التملى من مشية زنوبه حتى تفيق أعضائى.

نصبت السرير الحديدى المركون إلى الحائط فى الأودة. وفرشته نوال بالمرتبة المبقعة والمخدة. قامت زنوبه وعلقت ملابسها المتنوعة الإشى كأنها ترينى أو تغيظنى، كان أبى قد ارتمى وسط الدار متمليا حوائطها الطينية متسائلا عن أخبار الزرعة. قلت: القطن بيزهر وحلو.

رفعت زنوبه جلبابها عن ساقين متورمتين ولما أظهرت ضيقى لألمها خرت بجوار الحائط متباكية وقالت:

أبوك.

: ليه؟.

: طول عمره شكاك.

: طبعا.. طبعا.

كانت الكدمات التى لحقت بساقيها الملتفين قد تركت بؤرا قاتمة، محتقنة بالدماء، مبعثرة بهمجية بين ساقيها.

خفت أن تدخل علينا نوال وكانت فى ماكينة الطحين، كأنها تدس قش الأرز فى الكانون فيتوهج وجهها فى ظلام الدار، ترفع يدها بالخبز الساخن.. قعدت بجوار زنوبه وقلت غطى.. كفاية، فرفعت الجلباب وبان كلوت أحمر ضاغطا عليها.

لم تتعود إخفاء شئ. بان صدرها وتورم خصرها، وجروح حُفرت بعد معركة بأسنان قوية نزلت دموعها. غطت لحمها الطرى المدمى وثدييها العاريين.

قلت: ليه يا زنوبه؟؟

قالت: أنت تصدق فىّ الشين؟!

قالت بأنوثة ودلال، أطلقت لذاكرتى العنان واستعدت زنوبه بكل أمجاد أنوثتها.

كان أبى فى السوق تركت محمدا عند البهائم بعد الغداء، ولما دفعت الباب ناويا أن أرسلها إلى ولدها حتنى تعود بالبهائم والبرسيم وتتركنى أنام بعيدا عن وهج الشمس، كانت زنوبه تفح لهيبا ساعتئذ. يدها على وسطها، وتكور الجسد وانثنى أمامى ثم راحت وجاءت، وقفت متمليا. يدى تبحث عن كوز الماء كى أرتوى من الزير، تدللت فى مشيتها وسحبتنى وراءها على السلم مفتونا برجرجة الردفين العاريين تحت جلباب لبنى يشف عما به، ارتفعت الدماء إلى عروقى واندفعت. انثنت فتحدد حجم الردفين، أبعدت غلافة الذرة ثم ارتقت الدرج الطينى. ربما لم تهبط قدمها جيدا فى موضعها لأنها مالت بعودها الريان على. صارت فجأة بين يدى، كل هذا الامتلاء والنعومة والعرى الجميل، التصق بى. أحسست بالجسم الطرى الفوار، دفعت باب المقعد وجذبتها فتأبت. امتلكتها فى صدرى.. قالت عيب.

عصرت رغبتها.. وعصرتنى بين ساقيها القويين. اكتشفت سرا آخر للحياة يجذبنا طويلا وراء غموضه، حتى ينكشف دفعة واحدة، فنصحو باردين.. معترفين أن السر ليس مغارة غامضة تجذب أعضاءنا، وتهد حيلنا. إنما السر فى الرغبة التى لا تتحقق. السر فى الرواح والمجئ أمام البنات، نسهر الليل ونبكى ألما مبهما وحزنا غامضا نقول عنه الحب.

ربما كانت مشاجرات نوال مع زنوبه مبعثها الغيرة أو اندفاع نظراتى إليها بعد طول غياب. لو تعرفين يا نوال ما تشاجرت معها. إنها تبعث الرغبة داخلى، تفيق أعضائى الخاملة، فأندفع كالثور إليك كل مساء أروى ظمأك الذى طال. أنت جئت صدفة يا نوال. لم أبغ الزواج إنما وجدته بك وفيك لا محالة. لست زنوبه رغم أنك قريبتها. ربما تحملين تورد خديها لكنك غير راضية مثلها.. عود ممصوص، من مص عودك يا نوال؟؟ الأرض؟ أم الشقاء؟! أنا أيضا ممصوص الروح غير عائش، غير محبوب، كأنى أعادينى كلما انفردت بنفسى.

جلس أبى يسمع من زنوبه ومن نوال شكايتهما. يتحقق من صدق الأقاويل. كنت خائفا أن يفضح نظراتى إبراهيم الصغير. انجلت التهم واضحة وبعيدة عنى.

قالت نوال: عايزانى أبيع القمح لابو شعبان البقال.. ولما قلت حرام يا خالة. تفت فى وشى.

ولما كانت هذه نوال التى أعرفها وأعرف أنها لا تستغنى عن أكل المشبك والإفطار بالطعمية الساخنة. فقد آثرت السكوت تاركا أبى يمزق لحمها.

انفردت بنوال وقلت لها: ورينى هنعيش معاها إزاى يا فالحة.

قال أبى أنه يحبنى ويعز عليه فراقى، لو أسافر لأى بلد وأعود بالفلوس نشترى أرضا ونبنى بيتا واسعا يجمعنا.. زنوبه حامل جديد والعيال كثيرون.

كان ذلك دعوة صريحة كى أترك الفدانين ونصف. أحمل نوال على كتف والصغيرة فتحيه على الآخر. وأرحل إلى بلاد الله.

قلت: حاضر يا أبى.

أرسل لى عم صبحى ـ بعد أيام ـ أن أحضر شهادة الاعدادية. وأجهز بعض الأوراق.قدم أوراقى معه فى شركة إيديال وقال عد للبلدة سأرسل لك. أعجبتنى مصر وضياع الناس فيها لا أحد يعرف أحدا. لا هم يكدر النفس يا أبى. كلما أراك تحاصرنى نظراتك بالشك والاتهام. قلت أشتغل هنا. بحثت عن عمل حتى وجدت مسبكا، واشتغلت ونمت عند عمى حتى ضاق بى، فبحث لى عن سكن.

وجد بعد تعب مكانا ( عبارة عن صالة تفتح على أودة مظلمة، وحمام ضيق على اليمين، وراءه مطبخ ضيق أيضا ـ قال عنه شقة ـ رغم أن المحلات المطلة على الشارع والمكملة للشقة مقفلة دائما وعلاها الصدأ. وتظل الجحور ـ هكذا ـ للفئران ) قال حلوة لك وللعيال. ولم أدر أنى سأدفن هنا زمنا لا أستطيع الفكاك من ظلمة القبور.

أيام وليال تصهر النار جلدى وأنا منغرس حول الأفران. أنظر للسائل الأحمر وأخالنى وقعت فيه متحولا إلى لاشئ، متحدا بالحديد والوهج والانصهار.

لافتات من قماش، وصور من ورق. أبواق سيارات لاتتوقف. لماذا كل هذا الزحام؟. دفعنى الفضول فتوقفت ناظرا من خلال الخيمة.. خلق كثيرون قاعدون على كراس خشبية. فى الأمام صف واحد من الكراسى القطيفة. صعد المرشح علت الهتافات.. انتشر ضجيج وصخب وكلام كالأغانى. كانت انتخابات مجلس الشعب بعد اغتيال الريس بعام. تركت الخيمة واتجهت إلى محطة الأتوبيس يتملكنى التعب وفضولى سقط عند أول كلمة فى الخيمة. الأفران الحديد صهرت رغبتى فى الكلام؟ أم أن الأفران لا تعرف سوى الانصهار والتحول.

سألت نفسى متى أشتغل فى إيديال؟؟ ثلاثة أشهر ولا خبر. صار شكل المسبك وشارعه والأتوبيس الموصل له يبعث فى قلبى الضيق. الزحام فى المحطة كبير كأن كل الجالسين فى خيمة الانتخابات جاءوا دفعة واحدة. لم أتمكن من رؤية نمرة الأتوبيس بل جرينا جميعا وراءه حتى توقف. سألت: مسطرد؟

رد آخر: اركب.

هذا الزحام أهون من درس الأرز، وتحميل الذرة. تلك الحياة مملة لو ظلت هكذا ولم أشتغل فى إيديال.

أعدت سؤال الكمسارى عن كوبرى مسطرد قال: لأ.. انزل أول شارع الكابلات واتمشى شوية.

ملعون الزحام والناس التى لا تفهم. أنا مهدود الحيل طوال النهار أحمل وأدفع العجلات وأقف أمام الأفران، ناس تأكل الحلويات وناس تركب عربات فاخرة، وآخرون يركبون تاكسيات. لماذا يتصيدنا الفشل يا أبى؟.. ليتنى سمعت كلامك يا بهيه. قبل ثلاث سنوات وسافرت أو تاجرت كزغلول ابن أبو اسماعين، جارنا، يوقف التاكسى أمام دارهم محملا بالبضائع المستوردة أو المهربة من بورسعيد لا يهم.. زغلول تحول بقدرة قادر من متسكع على قهوة طحلة إلى تاجر كبير يفرش فى الزقازيق ويبيع للمحلات الكبيرة، وامتلك أرضا.

ربما ذلك ما قصده عمى عبد الستار بسؤاله لماذا جئت إلى هنا، أرض الله واسعة. ساعتها ظننت أنه يقصد المبيت ـ عنده ـ فى الشقة الجحر بالمساكن الشعبية.. حجرتان بلا صالة وحمام متر فى متر ومطبخ تصل إليه عبر ممشى قصير ضيق، لا يسمح لعابرين بدون احتكاك. شقة تكفى رجلا وامرأة عجوزين يتحسسان الحوائط بمفرديهما فى الظلام.. عمى عنده السيد وجيش من البنات. نعم أرض الله واسعة وتسعنى أيضا. سأعمل وأكسب ولن أفشل.. طبعا بإذن الله.

تخطيت البوابة الحديد، سائرا فى طرقة طويلة حتى وصلت لباب شقتى. نوال فتحت مبتسمة، خلعت حذائى وجددت وضوئى وصليت.

كالت نوال قد وضعت الطبلية فى الصالة. اقتربت فتحيه وتمسحت بى. قبلتها وتعشيت.

سألت نوال عن أخبار الوظيفة. أحسست بسخرية وخيبة أمل ونظرة التأنيب وراء سؤالها. هل أشتمها أم هى معذورة. الأمل الذى شدنى من طحلة إلى هنا يتحول لخيبة.

قلت لها: هعدى بكرة على عم صبحى.

قامت إلى الحمام حاملة طبقين وحلة فارغة، المطبخ بلا حوض. قمت إلى السرير مدركا أنم أياما سوداء سوف تحل لو لم أشتغل فى إيديال.

أبى حمل فرشنا على العربة كأنه يقول روحة بلا رجعة.

حاولت نوال أن تنتشلنى من همى. لكن أنوثتها وهذرها لم يخففا عنى.

بعد أسبوع

دعوت لأمى بالرحمة وشكرت الله على استلامى للعمل فى شركة إيديال، داعيا الله بالتوفيق، ختمت صلاة العشاء ثم نهضت، حذائى فى يدى..

الباب مقفول. التفت ورائى، رأيت شابا أبيض الوجه على يديه بثور سوداء، اقترب منى: اجلس يا أخى استمع للدرس.. وددت لو أخبره أن امرأتى وابنتى وحدهما غير أن واحدا منهم قطع السكوت: سيبه يا دكتور. قلت دكتور بجلباب قصير من تحته سروال أبيض. شجعنى فضولى، وجلساتى فى المسجد الكبير ببلدتنا نستمع للدرس عصر بعض أيام الجمعة، هناك المسجد يمتلئ عن آخره. لماذا هنا قلائل؟! ويدخلوننى ضمن حلقة غير مكتملة. صوت الشيخ الشاب هادئ، رنين كلماته نفذ لصدرى. ارتجف القلب واغتم لأحوالنا. شردت فى البهائم التى انطلقت بلا حبال تنطح فى الرائح والعائد. احتميت بمجلسى واستفهمتُ فما أجيب سؤالى. إنما قال من بجوارى: استزد ولا تقاطع.

اعتادت نوال تأخرى بعد العشاء. كانت تأخذ فتحيه فى حضنها وتنام.

قالوا: نحن جماعة للدعوة فى سبيل الله. ندعوا العاصى ليتوب. هذا الزمان كثرت أخطاء الناس، من يستطع عد خطاياه.. تذكرت زنوبه وانجذبت للحديث.. كانوا يعلمون أنى أعمل فى إيديال. قلت: وأبحث عن عمل إضافى، الإيجار غال والمسبك رفض تشغيلى. قالوا: يا أخى كلنا أخوة فى الله. ما رأيك أن تعلم أولاد الحى القرآن.

: أنا؟!

: كم تحفظ من القرآن.

: عشرة أجزاء.

: حسنا.

قالت بهيه: حد الطاهر معاك.

تندمي على زيارتى لها. دائما تقابلنى بالأسئلة ولا يعجبها أحد. من أول جحرى المظلم إلى هجر الأرض كى تمرح فيها زنوبه، حتى أنانيتى وعدم سؤالى عن أخى.

قالت: هو مش أخوك؟

قلت: ميفضل هنا.. مصر صعبة.

وجاء الطاهر.. اشتغل فى المسبك ثم قفز فى عربة توزيع أنابيب الغاز. اختفى شهرا لم يأت للمبيت.

ولم أسأل عنه.

كلفنى الأخوة بالدعوة إلى سبيل الله فى إيديال. كلما أنفرد بواحد وأحدثه عن الدين وأهمية الاقتداء بالسنة يهز رأسه، أسحب طرفا من حديثهم فى المسجد عن أحوال البلد وانشغال الكبار.. وضياع الضمير ثم أؤكد ضرورة العودة للمنبع.. يسمعون ثم ينصرفون. أو يقولون: واحنا مالنا.

: خليها على الله.

: ابسطها يا باسط.

أوقن أن الاستكانة وراء الكلام راقدة..عيالهم تسحبهم لتجاهل الأمور.

( محو الضلال من عقول وقلوب الناس واجب على كل مسلم ) قال الشيخ الشاب.

سافرت مع الأخوة إلى العزب والقرى المجاورة. انشغلت عن الصغيرة فتحيه ونوال الحامل. الناس يسمعون، يعطوننا آذانهم ثم ينسحبون واحدا، واحدا. ألم أعش فى قرية كهذه القرى.. هؤلاء ألا يعرفون دينهم؟؟ ربما.

جرت الفلوس فى يدى فقلت الخير آت. حتى تحولت ذات يوم للتحقيق.. قال المحقق:

أنت تحرض العمال.

: لم أفعل.

: لماذا تطلق لحيتك؟

: هل هذا ممنوع؟

: لا. لكن وقت العمل للعمل.

: …………………..

: أمور الدين لها وقتها.

واكتفى المحقق بنقلى من قسم الصيانة إلى كبس الغاز.

قال: أنا أخدمك من أجل عيالك. مرة أخرى أستخرج لك قرارا بالرفت.

الليل لما يغطى بظلامه على الناس ترتمى فى أحضان نسائهن. تبحث عن الرغبة التى طمرتها الخلافات والأيام. يدفعون ارتخاء أجزائهم السفلية ثم يمتطون جيادهم الحرون.

يا نوال لن يكون لى بهم علاقة أو صلة وغلطان أنى شكوت لك همى.

بعد شهور وضعت نوال السيد.

اشتريت حزما من القصب، وفرشت أمام البيت حيث المحال المغلقة ورائى.

أقشر القصب وأبيع للعيال. أرانى سائرا فى بلاد الله وحيدا.. على ظهرى حمولة القصب وفى الجحر العيال.

صدرى يزيق مزدحما بالغاز.

أقرضنى الطاهر من فلوسه وكان قد صار حمالا على عربة أنابيب الغاز ويبيت عندى.

أذكر ظهوره الأول بعد اختفائه. أخرج من جيبه ستمائة جنيه قال: خد يا أخى. تعللت. قال: خد احنا اخوات. ثم أشار على فى اليوم التالى بتجهيز عربة ترمس على كوبرى مسطرد.

الولد طاهر أفكاره مربحة.

يأخذنى كل جمعه ـ معه ـ أحمل عربات الغاز بالاسطوانات من المستودع الكبير بمسطرد.

يتدفق الخير، فآتى باللحم وتعم البهجة بطن العيال. والطاهر يتنطط من عربة لعربة ومن بلد إلى بلد. ثم يعود فى المساء ليرتمى كجوال الملح على السرير مع فتحيه فى الصالة الباردة.

 

زنوبه
كنت وما زلت أرضا عطشى

عند العمدة عريت جسدى. قال عيب يا " مرة " وطلب مرزوق الذى جاء يسب: بنت كلب بتسرق شقايا وشقى عيالها.

قلت: أنصفنى يا حضرة العمدة أنا ولية.. وغريبة وحيضربنى تانى. قال لمرزوق: خد مراتك. لما عدت أكمل غضبه بضرب أعمى، فأمسكت بخصيتيه وتركته مرتميا على الأرض يصرخ. قلت فى نفسى.. ذق يا مرزوق وكلنا ذنوب.

أعلم أن ضربك لى غيظا وانكسارا. قف وأرنى رجولتك وارو ظمئى.

حملت السبت على رأسى المتورمة يا مرزوق. سرت فى ظلمة الليل أبكى. والله لأرينك أياما وليال أسود من ظلام لياليك. يا بن الناس، أنا بنت عِزَب.

قالت زوجة أبى الضريرة: إنتى جيتى.

وصبت على شتائمها. حملت بقايا قمح وذرة وطحنتهما، أتيت بمن تخبز. فدائما تعيب خبيزى، وأعيبها. تركها أبى ورحل مع أخى إلى مصر.

هذا السرير الحديدى قائم كما هو.. وحوض الماء.. وصغيرى نائم فى القاع هنا.. يال الأيام التى لم تتزحزح !!، يا ألم ظهرى والقايش يحفر فى جسدى قنايات من دم. القلب مجروح يا بيت جاويش.

القلب محروق يا مرزوق.

كفاك يا عمياء عمىً.. أنت لا تفهمين ما جرى لن تخلعنى من قدمك ـ يا بن عريفة ـ فردة حذاء وترمينى. محمد وإبراهيم ومصطفى وعزيزة أمامك باقون.. يلعبون. كنت ألعب فرحة بالمشط الأبيض ذى الأسنان المدببة. أضعه فى شعرى ولا أعرف. تشده منى أمى وتخفيه. قبل المغرب يعود أبى من أرض الست هانم. فيجرى أخى خيرى إليه ويتعثر، ينحنى أبى ويرفعه على كتفه وأتعلق بيده. أيام ولت. وما بقى غير تلك العمياء.

والدار القديمة.

بعد أسبوع جاء مرزوق. عدت خلفه سائرة وهو فوق حمارته محتضنا " السبَت " وبداخله هدومى. انطق يا مرزوق.

قل: أنا.. ديكٌ يا محنتى آلامى لا تحمل التأجيل.

.. عدت يا على فى قدميك شبشب بلاستيك مقطوع. منكوش الشعر. الشمس امتصت احمرار وجهك. ومنحتك صفرتها عند المغيب. عدت بعيون زائغة، بلا لهفة بلا دموع. ارتميت على أرض الأودة. خلعت من فوق بطنك القايش والجاكت الميرى. رأيت الشريطتين. مقطوعتين، فرتقتهما. تركتك ينز منك العرق بلا غطاء. حتى صحوت من النوم مفزوعا. تغطى رأسك ووجهك بذراعين تحتمى بهما من دبابير تحوم فوقك. اقتربت كى أحتويك. كنت تنادى على رفاق ابتلعتهم الصحراء والرمال والوهج.

تقول باكيا: استخبوا يا رجالة.

أتذكر يا على رفاقك وسيركم صحبة فى أنحاء العزبة. تنظرون إلى الدور القديمة وتوزعون الأرض … هذه تصلح لـ … وتلك للبتاع الاشتراكى وأخرى. كأن عزبة جديدة سوف تقام هنا. تملأنى فرحتك بالرضا. تقول: لا تقلقى الخير آت. صار لأبى أرضا بعد شقاء الخدمة فى أرض الست. انتشرت فى دور العزبة روائح الطبيخ والدجاج المحمر. تحية للضيوف.

مالك يا على.

فى الصباح ذبحت لك ديكا أحمرا؛ كان يقنلنا بصياحه وآذانه كل آن.. أسقيتك المرق بالملعقة، فتناولت الطبق وشربت مرتويا حتى الثمالة. قلت لك: نم على السرير. لكنك افترشت الأرض وتطوحت فى نوم ليس له آخر.

تلك الليلة خلعت كل ملابسى. اقتربت منك تحسست كل أعضائك فأفقت مذعورا. ارتميت على صدرك، مهدئة من روعك، ملتصقة بكل ما فيك. مد يدك. تحسس عريى أطفئ نار شوقى. لكأنك لم تكن معى. رأيت عينيك ناظرتان إلى عرش الأودة. تتابعان الشقوق والسوس ينخر فيها. وقفتَ فوق السرير ثم تعلقتَ بالعروق الخشب خابطا ببطن كفك، فتساقط السوس على يديك. تمليته ثم لطمتَ به وجهك يا على. بكيتُ من أجلك. ضاعت ملامحك وأنا تخشبتُ فى وقفتى. قفزتَ من فوق السرير. درتَ حولى. عيناك تبحثان عن شئ. بقيتَ دائرا وأنا ناظرة لارتخاء عضوك. وللقوة التى دبت فى أوصالك. انمحت كل رغبة فى العناق. وصحوتُ على لسعات قايشك لجسدى. صرختُ قافزة. لحقتْ بتقاطيع جسدى لسعات أخرى حارقة. أخذت أدور حولك. أدور كجاموسة مغماة فى ساقية لا أعرف لدورانى آخر. وأنت تتطلع لعُريِى فاتحاً عينيك.. ولا أنسى إلى ـ الآن ـ فزعك يا على.

كبرت تلك الليلة وشاخت ملامحى. وحفرت الدموع مجرى فى كل أنحاء جسدى، فتبللت بدمعى

أنا لم أحب غيرك يا على وتلذذ جسدى بلسعاتك. كنت أخلع الغمامة وأنظر لك فتخرج آهاتك من الأعماق. تتلاحق أنفاسك وأتقطع من أجلك. كل آن أتحسس عضوك لعلك …. أتثنى أمامك فى كل ألوان الإغراء لعل نظراتك تفيق. كانت شاردة، تحادث أشباحا فى سقف الأودة وتنظرنى بحزن، تدارى عريك. أخلع تربيعة رأسى. أحل شعرى، وأدعوا ـ بحرقة ـ على من سلبك رجولتك.

كنا نخفى عنك موت الصغير. أمك الضريرة ـ زوجة أبى ـ قالت: بلاش تقولى لحد ما يسأل.

ولما أفقت ذات صباح وكان بالك رائقا. أو كنت أعتقد ذلك. سألتَ: ما شفتش الولد الصغير.. ليه مبيلعبش قدام الدار؟!

ربتت أمك على كتفك وقالت: مات.

انتفضتَ كثور عمته المفاجأة.. بحثتَ عن قايشك وضربتنى. ضربتنى حتى نشع الدم فوق هدومى. أمسكتنى من رقبتى ثم دفعتنى إلى حوض الطلمبة وقلتَ: أخرجى الصغير.. ولدنا لم يمت يا زنوبه. وبكيتَ. ارتميت على رجليك. قبلتهما وقلتُ: امنحنى ماءك يا على. فما منحتنى سوى الارتخاء والدموع ومت بعد أيام.

جاء زملاؤك لزيارتك أكثر من مرة. لكنى لم أنس آخر مرة وقد افترشوا وسط الدار. أعددت لكم الغداء. وناولتك الشاى.

سألتَهم عن الاستعداد. قالوا: احنا مستعدين لأى إشارة. ضربتَ صدرك وتكرعت.. ضحكتم جميعا ورأيتُ أسنانك الحادة بيضاء متلألئة.

فى العصارى وضعتم العروق الخشبية وسدد الغاب والحطب وأنهيتم بالقش على الأودة الأخيرة.. نصبتَ فيها سريرنا الحديدى. وتركتَ أودة عرسنا لأخواتك المتكومات مع أمك فى مكان واحد. خرجتَ معهم.. كان ضحككم وهذركم يملآن العزبة. عدت لى فى المساء. رفعتَ ساقىَّ إلى سقف الأودة الجديدة. أتيتنى بكل قوتك، كليلة عرسنا حتى تأوهتُ. وطقطقت العروق الجديدة.

من أين تأتى بشقاوتك يا على؟

كيف ملأت بطنى منذ ليلة العرس؟؟!

أنت حبيبى وسر بلائى. وليس بعدك أحد يملأ عينى يا رجل.

ربما معك يا مرزوق تنحل الكرب.

وتنفك عقدتى وأنام تحتك، فتمنحنى دفء الحياة وتشفى بأبويتك جروح جسدى. تلملم بيديك تبعثرى.

من يلملمنى يا ناس؟

رجل يعافر صاعدا تلالى ونتوءاتى. ولن أسقطه من فوقى إلا إذا رغب.. أو انهار.

أحتضنه وأقول يا ملاذى.

أنت يا مرزوق جئت محتاجا للخلاص من وحشة دارك. جئت ترمى علىَّ شقاء ولديك.

كان الطاهر صغيرا.. حملته فوق كتفى وقلت: يا صغيرى.. ربما ملامحك قريبة منه.

لكنك منحتنى أمومتى. وأسكتَّ رغبتى. جاءنى محمد ثم إبراهيم.. وتلاشى مع الوقت تقارب ملامح الطاهر مع صغيرىّ. صار ولدينا سندى وقرارى فى دارك.

أنت يا مرزوق من علمتنى أن أذهب للبقال وأشترى المشبك وبلح الشام. بعدما انهرت هابطا جسدى.. أول مرة درتَ بنظرة كسيفة إلى شباك الأودة المظلمة. وأحسستُ وهنك وكهولتك، فأخرجت حافظتك الجلدية وقلتَ: هاتى حلاوة طحينية ومشبك.

لم أكن صغيرة يا مرزوق لكن البسكويت والملبس واللبان صاروا يملأون جيوبى. مذاقهم يجرى فى حلقى ـ فى البداية ـ علقما. لكنى اعتدتهم. أمسيت كل ليلة أستعين عنك بهم. وأنقبض من تحت. ألوك اللبان وأمطه ثم أجذبه بلسانى. أراك فى الليل عاريا تحت الحرام الصوفى تتحسسنى وأستنهضك فتدير مؤخرتك. أبحث عن اللبان فى جيوبى. أضغطه بين أسنانى بحرقة ووجع.

يعود عرفه فى أى وقت كأنه يراقبنى. أنا فى الدار يا عرفه. يحاول أن يبدو منشغلا. لكن التفاتى المفاجئ يكشف سر نظراته، وتلهفه الأعمى.

كبر عرفه وتعمد أن يرينى عضوه. فقد رفع جلبابه قبل دخولى بالعلف للبهائم فى الزريبة. ولو كان كلى عطش يا عرفه. لن أرضى لك.

جرجرنى من يدى إلى الدار.وكنت قاعدة على مصطبة البقال وقت الظهيرة. قال: قومى.. قاعدة عريانة قدامه، جلبابى الأسود كان على اللحم، فالوقت صيف وأنا لا أحتمل.. خبطنى على مؤخرتى وقال: بيبيع لك إيه. وبتبيعيله إيه؟؟

غرست أظافرى فى عروقه. طفح الكيل فشتمته، لعنت أبيه واليوم الذى امتلكونى فيه. رفع الشعبة وجرى ـ فى الدار ـ ورائى. دخلت الأودة مسرعة واحتميت بالباب. يدفعه بفحولة ابن العشرين.. أوقفُ الاندفاع بردفىّ.

تحشرج صوتى وما بكيت. أنت ملعون يا عرفه وملعون أبوك.

على العشاء.

شملنا صمت القبور. وكان الطاهر سيقول لو لم أخبر مرزوق بتعديات عرفه. ولن أحتمل فحْليْن. يغلقان على الدار. يفتك بى حر الصيف ولهيب الرغبة.

يا ناس أنا امرأة.

 

تهل البهائم داخلة الزقة خلفها، مرزوق على الحمارة ممسكا بحبالها. عندما يرانى، يترك الحبال فأسحب الجاموسة والفحلة الصغيرة إلى الزريبة، ومرزوق ينزل آخذا البقرة ليربطها على " مدودها ". يفك حمل البرسيم الذى قد اعتلاه، راميا به إلى ركن الدار. يذهب إلى المسجد لصلاة المغرب ويحضر عرفه من شغل البَدَل أو الأجرة أكون قد وضعت الطبلية وتحلق حولها محمد وإبراهيم والطاهر إذا كان موجودا. يبسمل مرزوق بصوت مسموع وكذا العيال يلتهمون الأرغفة الطرية. ولا يتكلم أحد على الأكل. من يجرؤ فى وجود مرزوق.

ينهض عرفه للمسجد ويتمطى مرزوق وإبراهيم على الحصيرة يلعبان حتى يُرفع آذان العشاء. فيعدل مرزوق بُغته وبسحب إبراهيم فى يده للصلاة.

أودة فى الليل مظلمة. ولمبة جاز سهارى تشع بنورها المذبذب وسط الدار. تتأخر العيال فى اللعب أمام الدار لا نقلق، الصيف ليله دافئ. يتمدد مرزوق على الكنبة فى المندرة حتى أفيقه لينام فى الأودة.

نباح كلاب. وبقايا خطوات للعائدين متأخرين. إذا تأخر الطاهر أو عرفه بعد إغلاق الباب لا ينفتح المزلاج. أقول يا مرزوق افتح.. كل الشباب بيسهروا. يهز رأسه بعناد ولا يرد. أحيانا يسب جيلهم. وخِلفته ويفتح.. إلا هذه المرة.. صلى العشاء ونادى الطاهر ومحمد وإبراهيم ثم أحكم المزلاج. كان عرفه بالخارج ولم أتكلم يكفى ما حدث ظهر هذا اليوم. تسمَّع مرزوق خطوات تنزل السلم. أمسك بعصا توت غليظة كانت وراء الباب. تأهب. قلت: يا راجل جايز ابنك. قال: عارف. وتسحب فى الظلام على أطراف أصابعه.

سمعت ضربة قوية، انفجرت إثرها صرخة عرفه التى أفزعت كل من فى الدار.

عاد مرزوق قائلا: علشان يتأدب.

فى الصباح جرَّه وهو يحجل على قدم واحدة إلى الغيط. مرزوق على ظهر الحمارة وعرفه وراءه. تذكرت كلب أبو شعيب معلقا ساقه ولا يهمد.

تساءلت: لماذا هذه القسوة يا مرزوق. أبى كان يضرب أخى خيرى، فهجر الأرض. أرض الست هانم التى يعمل فيها أجيرا. ظلَّ أبى وحيدا، يضرب سن المحراث فى الأرض فتأتى بالخير للست. وهى مرتاحة فى سريرها حولها الكلاب الوفية. تدخل المحصول كل زرعة إلى صوامعها ولا تترك لنا إلاَّ قدْر قوتنا. أبى يحمد الله. هرب أخى إلى مصر. وصار عنده ورشة بعدما أصبح ميكانيكيا. حملك على كتفه عندما أصابك الضعف. والست هانم طلبت ابنك يقوم بدورك. سبحان مبدل الأدوار صار لك يا مرزوق فدانين بعد نصف فدان. مت من أجل أن تسد حق إخوتك فى ميراثهم.

نصف فدان دفعت ثمنه مرتين بعدما أنكروا بخس الثمن. كيف أستريح فى تلك البلدة اللعينة كل الناس يسبون بعضهم. يتقاتلون من أجل رى الأرض أو دلع البنات أو تعدى الحيوانات ناس أولاد كلب.

فى الصيف أتخفف من الملابس الداخلية. لا أحتمل احتكاك اللباس بفخذى. ضربني مرزوق مرة بسبب جلبابى الذى فوق اللحم بلا لباس. خلعت الجلباب وأبنت له التسلخات. دفع عرفه الباب بعنفه المعهود، متأففا لاعنا الحر والأرض والناس التى لا ترحم. كنت قبل لحظات أتحسس فى الأودة عريى. وأرطب بالماء جسدى. تأكلنى الوحشة وخلو الدار. كان إبراهيم صغيرا يلهو بتراب الكانون.

نظرنى عرفه وجرى إلى الزير، دب الكوز فى قاعه. شرب وتكرع. وقفتُ أتأمل عوده. وعطشى الذى بلا رى. يدى حول وسطى. وطلعت السلم لآتى بكيزان الذرة للدجاج. كان عرفه ورائى عينه وقحة ويقترب منى. تساءلتُ: بكم أكبر عرفه، ولم أُجب. بخطوات هادئة أطلع درجة.. درجة. سيموت. وتنفقئ عينه، من يفجر الرغبة فىّ. انحنيتُ أبعد غلافة ذرة تحت قدمى ـ مجرد غلاف ـ لم أتقن وضع قدمى على الدرجة التالية. اهتززت حتى وقعتُ بين يديه. فررت هاربة. قشعريرة دافئة أصابتنى. تحسست الحشائش النابتة. عند المقاعد، كانت يده تدفع الباب والأخرى تشدنى. خفت أن يرانا أحد. دخلت. جسمى لا يحتمل أية لمسة. كل ما فىَّ يفور. تحسسنى وأنا أحاول دفعه للوراء محاولة الهرب بينما كل جسدى يتراخى أمام احتكاكه بى. قلت: عيب يا عرفه.

قال: ح اموت يا زنوبه. عصرنى بين ذراعيه المتلهفتين. فناداه عطشى الدائم، اعتصرته بين ساقى فخرّ. حاول كديك صغير أن يلهو فوق دجاجة مكتنزة. أسقطته رغم المناشدة قلت لمرزوق: جوز عرفه.. الواد كبر. نظر لى بخبث.

قلت: عيب يا راجل.. عمره ما بص لى.. كنت مغتاظة منه. كان مرزوق يحب أن يصدق، فهز رأسه. وسافر إلى الزقازيق.. إلى بهيه ليأتى بعرفه.

عاد يضرب كفا بكف ويقول: الولد كبر.. زعلان منى ابن الكلب.

قلت: ما انت غرقته بالطبيخ. انتفض من أمامى كفأر ملسوع. وصرخ: ما انتى السبب. لم أرد، فذهب إلى الزريبة ـ وكان العصر يؤذن ـ سحب البهائم وركب الحمارة. قال: بيقول عايز يسافر. لكنه بعد أيام ضحك عند رؤيته عرفه عائدا أثناء القيلولة بهدومه كامرأة غاضبة.

كلهم طماعين خدوا ورثهم مرتين فى نصف فدان. ومحاسن أكتر منهم بتطلن 500 جنيه مهر بنتها.. دى قذعة هوه احنا غرب. ثم سكت مرزوق وأكمل.. أنا اتجوزت سنة خمسة وأربعين بـ 70 جنيه.

قلت: الزمن اتغير وعدى ييجى أربعين سنة.

قال: لأ 35 بس.

مرزوق تاجر شاطر. سألنى فى الليل عن واحدة تصلح لعرفه من أقاربى. ضحكت وقلت له: بكام؟؟!

امتعض قليلا: على قدنا.

أتشترى جاموسة؟

اصطحبتهم إلى أقارب أمى فى شنبارة الميمونة.

نوال طويلة ككافورة.. ممصوصة قليلا. لكن غدا تمتلئ.

أبوها يملك فدانا ودارهم واسعة. وهى البنت الوحيدة على ولدين.

ووافق عرفه بعدما ردد مرزوق كلاما عن أصول الناس. وبأن الزواج ليس بيعا وشراء. وأنهم لم يشترطوا علينا.

حضرت بهيه الفرح وكادت تعرقل الزواج لولا حكمة الشيخ عبد التواب.

لماذا عرفه غير فرح؟

ربما لأنها سمراء قليلا.

أحب المشبك والحلوى الطحينية وأضغط اللبان بين أسنانى. صارت نوال تشاركنى فى مط اللبان وتقول: يا خالتى بس كده حرام. أقول: يا بت الخير كتير. إيه يعنى حبة رز ولاّ كام كوز درة.

لهلوبة نوال فى شغل الدار.. رغم أن محمد ما زال صبيا إلا أنى أحسست أنى حماة نوال.

ربما تكون أشطر منى فى شغل الدار والغيط. ماذا أفعل وظلام هذه الدار يقبض القلب. أذهب إلى أبو شعبان البقال حين تكون نوال فى طريقها إلى مرزوق وعرفه فى غيط الوقف.محمد مازال فى المدرسة وإبراهيم بجانبى على المصطبة يشد جلبابى، يلوك الحلوى فى فمه ولا يلعب مع العيال. أُرغِّبَه فى العيال واللعب. قد أوشك على دخول المدرسة. لكنه يخاف. يتطلع لمن يصعدون المصطبة طالبين من أبى شعبان السافو والصابون والسكر. كلماته غير مفهومة. يضحك عليه أبو شعبان. يغازلنى بكلام محسوس عن فحولته ويقلل من مرزوق وأنا شابة. أضحك وأقوم منادية على إبراهيم. كلهم بالكلام يؤكدون بأنهم تيوس. وهم ينامون منذ أول الليل كمرزوق تاركين مؤخراتهم عارية. أنت يا أبو شعبان تضاهيه فى العمر. كلامك حلو. لكنى لن أنام تحتك أبدا.

يرحمك الله يا على.

فى المستشفى الأميرى بالزقازيق نام مرزوق متشكيا من خصيته. كل يوم أجهز دجاجة محمرة نائمة فى حلة أرز وحلة صغيرة ـ مغلقة بإحكام ـ فيها شوربة. الخبز أشتريه طازجا من أفران الزقازيق.. بجواره على السرير أجلس. أُقطع له كى أُطعمه. فيزجرنى: يا ولية كده قدام الناس؟؟؛ يعزم عليهم. ويقول: كفاية خلصتى الفراخ. أضحك.

أعود بالفاكهة المكومة فى الكوميدينو الصاج الذى بجواره للعيال. مرة آخذ معى محمد وأخرى إبراهيم. ولم يذهب عرفه غير مرة واحدة بصحبة نوال. كان مرزوق متضايقا من رقدته. يستند على كتفى إلى الحمام. أسأله عما فعلوا به فلا يرد. ينظرنى بخبثه ويسكت. أقول لنفسى مش مستنية منك حاجة. ألتفت إلى الرجل الذى أشار إليه، رأيت عباءة بنية اللون فوق جلباب مكوى. شعره أبيض محلوق بعناية ويغادر العنبر. عرفت أنه عرض على مرزوق أن يتولى المسجد الذى بناه أسفل عمارته هنا فى المنتزة.. مقابل راتب شهرى. أحسست أن الراتب كبير من خلال فرحة مرزوق باستعادة كل كلمة. قال أنه تعب من الشقاء في الأرض وجاء دور عرفه ليتحمل المسئولية. وسألنى هل أعلم أنه لم يأخذ راتبا منذ كان فى الجيش سنة 48؟. كان الرجل يزور أحد جيرانه ـ على السرير المجاور لمرزوق ـ ولما أحس بصلاحه ـ كما يقول ـ عرض عليه ذلك.تخيلت معيشتى فى الزقازيق وسط الناس التى لا تعرف بعضها والخبز الطازج والطعمية والفكاك من طحلة. فرحتُ لما أخبرنى مرزوق بأن الحاج يشتغل جزارا وأنه سيمدنا بغداء كل يوم. تخيلت قطع اللحم الكبيرة مطهية ونائمة وسط حلة مليئة بالشوربة. كأن مرزوق يود لو يرفس السرير والمرض ويطير إلى الحاج.. أخرج ورقة مطوية بعناية من حافظته وقال العنوان أهه. قال لى الولد الشحط ذو البنطلون المحزق، ابن الحاج، روّقتى المطبخ.. هززت رأسى بنعم. قال: ومسحتيه؟. لم أرد.

قال: روحى إمسحيه الأول.. شاطرة تشيلى الحلة وتجرى. وضعت الحلة على الترابيزة فى وسط الصالة. سحبت الخيشة وجردل الماء من الحمام.

عقدت طرف جلبابى الأسود، رفعته حتى ركبتى. دلقت الماء على الأرض بضيق. درت بالخيشة على البلاط، الماء دافئ يلاطف أصابع قدمى.

التفتُ كان الولد عند الستارة متنمرا، ومنتصبا يكاد يتمزق بنطلونه الضيق. ارتعشتُ وضربت الماء بقوة. علا الرزاز وطرطش هدوم الولد.

قال: على مهلك يا حلوة.

قلت: اطلع لم أخلّص يا أستاذ.

اقترب وتحسس ظهرى بوقاحة.

قلت: هانده على الحاجة.

قال: نامت ومش ح تصحى.

كدت أصرخ. كتم بيديه القويتين فمى. انحنى تحت ساقى طالعا بيديه من تحت الجلباب واصلا حتى ردفى العاريين. ارتعشتُ مع تقبيله الهمجى، لحمى بين يديه يكاد يمزقه. فتح بنطلونه.

فانهرت على بلاط المطبخ البارد.

علمنى محسن كل الأوضاع على سريره فى آخر الشقة. كان يطمئن أولا على مفعول المنوم مع أمه العجوز ثم يجئ ويطيل معى. أتفجر شوقا ورغبة. منذ على لم أذق ذلك. لم يحتوينى أحد بهذا العنف. يضرب مؤخرتى ويتلوى. ثم يمتص الحلمات كطفل صغير يناجى أمه. ربما كان محسن فى عمر عرفه.

ربما أكبره قليلا.

ولما سألته عن سر إطالته. ضحك قائلا: دا سر.

.. عرفت السر عندما خبط الباب ـ ليلة ـ وكان مرزوق نائما. فتحت فرأيت محسن يتمايل نشوانا أو ربما مسطولا، أنفاس المعسل تفوح من فمه.

سحبنى بقوة غير متوقعة، ودفعنى أمامه إلى الدور الأخير فى العمارة. نط شبح فى الظلام وأحكم إغلاق الباب. فزعت وتحشرجت صرخة فى حلقى. وشاهدت منقدا معدنيا وسطه جمرات متقدات ودخان خانق يكتم النفس.. الجوزة ذات الخرطوم تتنقل بينهم. ضوء واهن فى ركن السطح يشع على مجلسهم فيبينون أشباحا فى الظلام. سحبنى محسن إلى أودة مفتوحة. تراجعت غير راضية. سمعت كلمات وقحة وهذر سخيف. تلويت على السرير رافضة خلع هدومى. انهالت لطمات محسن على وجهى وكل جسدى. خبطته فى صدره، فاصطدم بالحائط.. تحوط حول الباب شابان واقفان. كل واحد يضع يده فى وسطه.

تلويت على السرير عريانة، بعدما خلعوا عنى ملابسى بهمجية ووحشية لا أصدقها. عيونهم تثقبنا أنا ومحسن.

خشب السرير يرد ساقى بقوة. أحس بمحسن كلعبة تعمل بزنبلك من فوقى وأنا قد تحولت إلى جثة لا تعى. لا تتأوه، لا تحس.

تفلت عليهم جميعا، انحبست دموعى. ريقى فى حلقى مراً. بينما كانوا يغرسون أعمدتهم فى شقوقى. ينتزعون اخضرار الأرض من قلبى. أصير صحراء واسعة بلا نهاية. أعمانى التعب فرحت بعيدا أحتمى بالولدين محمد وإبراهيم ومرزوق مطأطئ الرأس لا يرفع عينه. دفنت رأسى بين فخذى ناظرة للظلام خارج الأودة. الدخان المتصاعد مازال. يضحك محسن وتتبادل الأكف.. أسمعهم.. ألملم الملاءة الوسخة حول جسدى.

: عملت إيه فى الجمرك؟

: كان صعب.

: امبارح عديت بخمسين حتة.

: وأخبار اللون؟

: كان تحت فى قاع الشنطة.

: عديت بيه؟

: أصلك خيبة. ح أعرفك عليهم.

: لأ يا عم. أنا هتاجر لحسابى.

: السوق تساع.. من الحبايب ألف.

تسحبت من الأودة على أطراف أصابعى. فتحت الباب واندفعت إلى السلم المظلم. همّ أحدهم ورائى.

سمعت ضحكهم: كفايه.. انت لسه ما شبعتش.. يا تور.

 

الطاهر
أنا الطاهر مرزوق وسأظل.
رغم دق المسامير فى رأسى.

حجر الطاحونة يدور، رأسى تدور. أقطع الطرقات المظلمة أتعلق بمؤخرة العربات على غفلة السائقين ذاهبا لأى مكان، يقربنى منكم.

أصحو من النوم وأمد إليك يدى.. خذينى يا أمى. أنت يا بهيه أمى.

وأنت يا أبى.. أبى، مد يدك.

لا تضربنى يا عرفه.

فكى الغمامة يا زنوبه ـ قليلا ـ من فوق عينى أبى، طبطب على كتفى وخذنى فى حضنك.. أنا جائع.. متعب.. حزين والدنيا تسقينى مرها.

تضحك البنت الفائرة على سقالة الخشب، نازلة بالقيروانة الفارغة.

أحمل أسياخ الحديد على كتفى طالعا إلى وجيه.

عين البنت جميلة وثدياها يهتزان مع كل خطوة. فى التقاطع الذى يتبادلان فيه القيروانة. لامس الولد ذو الشنبات ثدى البنت، رافعا فوق رأسها حمولة الخرسانة، متمليا جسدها أثناء الصعود.

تقابلنا أنا والبنت عند التقاء السقالتين. يمامتان تحطان تحت الجلباب، شجعتا يدى أن تطير وراء واحدة.. أمسكتها، طريه كالمهلبية، ارتجفت وقفزت خائفاً أن يلحق بنا الولد. لكن ندت عن البنت صرخة قصيرة مفاجأة الأسطى شتمنى بأمى. ولم يرد وجيه. كان فتحى يعدل الأسياخ على الأرض ولم يسمع. عند العودة. سرنا فى شوارع الزقازيق أنا وفتحى، تناولنا بأجرتنا من الكباب والكفتة فى أحد المطاعم على العشاء. أقنعته أن يتجنن مثلى، تملانى قليلا، كنت أبلع قطع اللحم دون مضغ جيد. أوشك الكباب على الانتهاء ولم أصل للشبع. قال فتحى: الحمد لله. وتراجع بمقعده قليلاً فالتهمت كل ما تبقى أمامى. ضحك فتحى وقال: يا أخى نفسك مفتوحة قوى؟! أعلم أنه يقصد البنت.؟ قلت: أعمل إيه البنت حلوة. سألنى عن وجيه وكيف تصرف معى. قلت: سمعنى موال عن الحلال والحرام والدنيا والدين.

قال فتحى: وجيه دا شيخ فى النصايح.. مرة اختفى مدة وكنا فى الشغل.. مع بنت شحاته عدت علينا.. ورجع يزرر بنطلونه.

أنا وفتحى توأمان.

يضربنى وأضربه. قذف بفردة حذائى إلى الشجرة ليغيظنى، فأقسمت سوف أخبر أمه. اضطر أن يتسلق الشجرة رغم أنفه. فى الأعالى اصطدته بالطوب.. نزل وفر ورائى. كان فتحى فى ذلك الوقت أقوى منى وممتلئا عنى.

لكن دوام الحال من الـ…………

ليلتها ظل يتطلع بوجهه القمحى المربع لى ويضحك يا ويلك من أختك. فى آخر الليل نمت بجوار فتحى على سريره حزينا. قالت بهيه:

يا إبنى الاعدادية وسقطّتها. شغل فى الحديد مش نافع.. يلف الواحد وفي الآخر ما يسعهوش غير بيت أبوه.. ارجع لاخوك عرفه.. بكرة أبوك يرجع.. وعرفه اخوك.

قلت: ويضربنى؟

قالت: ابطحه ويبطحك وروحوا المركز ولاّ روحوا فى داهية. أنا تعبت.

كل الأبواب قد أغلقت يا بهيه الآن.

البنت وأمسكت ثديها وضربنى المعلم. وضربت عرفه بالطوب فى البلدة. اضربينى يا بهيه ولا تغلقى باب محبتك فى وجهى أنا الطاهر مثل فتحى.

ترى لو فعلها فتحى تطردينه.؟‍‍‍‍‍‍‍‍

تسحبتُ على السلم المظلم بعد قضاء الأمس بين المحلات والناس وعربات الأحذية فى شارع البوستة.. خاوى البطن أمر من أمام المطعم الذى أكلنا فيه الكباب، ليلة أمس. أستريح فى الحدائق العامة، شارع الجناين. بعد يوم طويل بلا هدف. لن أذهب لعرفه ولن أعمل فى الحديد. ولن أبيت عندك يا بهيه. هنا بين الشحاذين والجائعين أنام. ورائى أحمد عرابى على جواده رافعا سيفه وكل اللصوص تتصيد الخارجين من المحطة أمام عرابى وأمام الله. أعطانى واحد نصف سندوتش تبقى منه. وسحقنى البرد رغم تداخل أعضائى ببعضها. سألت نفسى هل الزقازيق بمائة وجه.. تسحبتُ.. ظلام السلم يبعث على الوحشة ولا صوت. ليس غيرك يا أبى. يسد جوعى. منذ أمس والبرودة لا تفارق جسدى. أطرق الباب خفيفا. يغطينى ظلام السلم. انفتح الباب بهدوء. خرج شبح لم أميزه وبعدها لم أميز شيئا.

دحرجتنى ضربة فظيعة. طقطقت لها عظام كتفى وغبت عن الدنيا.

أفقت على وجه زنوبه، ورائحة البصل تملأ خياشيمى. أبى قاعد على حصيرة بعيدة ينظر لى. غطت زنوبة محمد وإبراهيم ومصطفى الرضيع. ابتسم أبى عندما فتحت عينى وقال: حاسس بإيه؟

: مين ضربنى؟

: إنت كويس؟

: أنا زفت.

: الحمد لله.

لو أنتفض. أكسر ما حولى. أضرب وأسب. وأرمى بنفسى إلى الشوارع.. لو أستطيع تحريك كتفى.

: مين ضربنى؟

رد أبى: أنا.

صرخت ألما ليه؟

نظرت إليه زنوبه بتأنيب. نظرة لم أفهمها وقتها. استدار أبى وشد الغطاء. أعدت زنوبه نومتى بجوار أبى. فرشت الأرض لى. شدت طرف الغطاء من فوق أبى ورمت به علىّ.

أسكتت بكاء الرضيع.

ربما ألقمته ثديها. انطفأت الكهرباء وعاد الظلام اللعين.

قبل أعوام.

جرنى من يدى إلى الزريبة.

كنت صغيرا.

ليلتها رأيت الشرر فى عينيه.

ليس أمامه سوى الخلاص منى أنا عقدته الوحيدة.

قال: الموضوع بسيط. طلقة واحدة من الفرد سيطلقها ويستريح منى ويريّحنى.. أخذ يحفر فى الزريبة حفرة صغيرة بالفأس.. وقف أمامى مضيّقا عينيه. صرير أضراسه أشعرنى أننى هالك لا محالة. خرجت من فمه الكلمة. كل كلمة طلقة. كل حرف تك.. تك. بعدها لا شئ.

حفرة صغيرة تسع إثنى عشر عاما.

جريمتى إهمال المدرسة. ضربى لأخوتى.. ولزنوبه. عمر طويل آت، طواه الخوف فى لحظة. حين حفر تحت قدمى وأخرج الفرد.

قال: ح تاويك هنا لا حس ولا خبر.

نفخ فى الفرد ومسحه بخرقة. نادانى تراب الزريبة والخوف والسيدة اللابسة السواد عند قبر أمى. قبل عامين قعدت عند قبرها. كانت قدماى قد تعبتا من الدوران واستقرت رأسى هناك.. وحدى.. الشمس تميل إلى المغيب وقرص دموى أحمر ينطبع فى القلب. كان لسانى يقرأ الآيات القصيرة.. وأراها مرتاحة لصوتى. تقربنى منها. تمنيت لو أضع رأسى فى حجرها.. فى ثوب أبيض تخرج من العتمة آخذة بيدى تجاه البلدة تسلمنى لأبى وتنهره. قالب طوب من الحجر ارتطم فجأة بالمقبرة. مر بجوار كتفى. تلفت ورائى لم يكن أحد. سحبنى الحنين إليها، فأعدت الآيات. تلاه نصف حجر. قلت لابد أحدا من العيال يحاول تخويفى. عندما تلفتُّ لم أر أحدا. قرأت [إذا زلزلت الأرض زلزالها].

حاولت استعادة أمى. لم أفلح. دب الخوف فى قلبى. قرأت حتى انتبهت ـ فجأة ـ على قامة هزيلة لسيدة عجوز ملتفة بالسواد.. وقفت على مقربة منى.

قالت: إيه اللى جابك هنا؟!

قلت: أنا أقرأ لأمى.

نهرتنى: متجيش لوحدك فى وقت زى ده.

كلمات آمرة سحبت قدمى لأول الطريق.

بعد خطوات قلائل التفت. لم تكن.

فى الضحى نزل أبى للمسجد وجلست زنوبه بجوارى تسألنى عن سبب مجيئى فى وقت متأخر أمس. ولماذا تركت عرفه. لم أرحها رغم صوتها الذى رق لحالى حيث لم أجد ما أقوله.

ووجدتنى بعد أيام أعمل عند عم شوقى الحاتى. أغسل الأطباق الوسخة وأنظف الترابيزات بفوطة مبقعة.

كان ابنه قد رآنى على كوبرى أبو خليل. أتفرج على القطارات الخارجة والعائدة للمحطة متكأ بذراعى على السور الحديدى، أدور بعينى على العربات المخزنة على رصيف فرعى قديم. قميصى وسخ وبنطلونى مكرمش. انتبهت على واحد يقول: يا كابتن. فوق كتفه قفصين. ساعدته بإنزالهما. أخذ نفسا طويلا وقال: أستريح شوية. نظرت للقفصين اللذين يعلوهما أوراق جرائد يطيرها الهواء، فتبين دجاجات منتوفة فى أحدهما والآخر ممتلئ بالطماطم والجرجير. تطلع لى من فوق لتحت وابتسم.. قال: المحل قريب ممكن تشيل معايا قفص. فى الطريق إلى المحل آلمنى كتفى أبدلته على الآخر الموجوع بعصا أبى. الطماطم ثقيلة واللئيم حمل قفص الدجاج. عرف اسمى.. وبلدتى. وأبى الذى يعمل هنا فى مسجد بالمنتزه. ولم أقل له أن أبى طردنى فى الصباح..

: رح ساعد أخوك فى الغيط بدل القاعدة هنا.. هوه انت بنت.

جرتنى السلالم إلى الشوارع الفارغة فى الصباح الباكر. كنت أبتسم وأقول لنفسى ثلاثة أيام يا أبى وفتحت بابك ثم أغلقته دونى.

أنزلت القفص. ضرب الولد يده فى جيبه وأخرج قطعة معدنية، وضعها فى جيبى. هدوء بارد.. هل هذا هو الشارع الذى يزدحم بالناس فى الظهيرة؟

قال: إيدك.. نرفع الباب.

نظرت للترابيزات المرصوصة والدهان الباهت.

قال: أقعد.

على المقعد الخشبى حططت تعبى.

جاء رجل ممتلئ كله نشاط يناهز أبى فى السن عرفت أنه أبو الولد.. أخرج الرجل الشواية ـ دون أن يلتفت لى ـ ثم الفحم الموجود فى جردل قديم ومروحة صغيرة. أبدل الولد قميصه المكوى يآخر. واضح أنه يكبرنى قليلا، له شارب خفيف. طويل. نحيف. اتجه لى ونادانى: يا طاهر. دخلت. بادرنى الرجل ـ العم شوقى ـ انت بتشتغل؟. هززت رأسى بالنفى.

قال: تلميذ؟.

قلت: ساقط إعدادية.

ضحك وناولنى فوطة وسخة.

أبيت عند بهيه بجوار فتحى على سريره وأعمل مع عم شوقى لكن فتحى قال: انت بتشخر وانت نايم.

قلت: وانت كمان.

قال: بس انت بتنام الأول.

أعدت بهيه أودة صغيرة بجوار الباب كانت فى الأصل دكانا صغيرا مغلقا من الخارج. كنستها ورشتها يوم الجمعة. حملت كنبة غير مستعملة وفرشت المكان لى كى أنام وحدى.

أعود متأخرا كل ليلة. أجد الشيخ عبد التواب وحده صاح. فى طريقى كنت أركل الحصى وأدندن سعيد كل مساء. يعطينى العم شوقى سندوتشا لعشائى.. أقزقز اللب وأدع أيام المتاعب. أنا سيد نفسى ولا أحد يهمنى ما دمت مطيعا ومسيِّرا للشغل. يرمى زوج أختى المفاتيح لى من الدور الثانى أطلع وأقعد معه قليلا.. طيب القلب ويحبنى كأولاده. يسألنى تعشيت؟. أقبل يدى وأحمد الله.

عاد أبى إلى طحلة معه محمد وإبراهيم ومصطفى وزنوبه كانت حاملا.. عام يا أبى وبضعة أشهر. لماذا عدت سريعا؟!

وتركتنى هنا.

نفيسه بنت تتفتح كزهرة برية تخطر بجلبابها الريفى. يدب خطوها على الطريق بدلال، واصلة لأرض أبيها ـ المجاورة لأرضنا ـ فى يدها سرة الطعام وفى عينيها نظرة حالمة.

عرف القلب كيف ينط راقصا عند رؤيتها.

كنت صغيرا.. أفتح الكتاب وأقرأ.. تنطق الحروف باسمها فأقعد كل يوم منتظرا مرورك يا نفيسه. ربما أكون قد حاولت محادثتها مرة لكن لم تتكرر، لظهور الولد السمج خليفة.

ظننت لبعض الوقت أنها ميالة له. حتى لاحظت ذات يوم والأرض حوالينا خالية من الناس أنه يجذبها عند الساقية وهى تتفلفص منه.. كنت بعيدا ظننت أنهما يهزران. إغتم قلبى لكن صرختها العالية جعلتنى أنتفض خوفا من مجهول آت ولم أدرك أن ذلك المساء لن يمر على قريتنا بسلام.

نزل رجل عابر من فوق حمارته.

سمعت صوته، وفر خليفة.

تلك الليلة عجيبة ودامية. هبت عائلة البشاروة وهى أكثر من نصف البلدة.. معروفة بالعنف والجلافة.. من أجل ابنتهم نفيسة حمل رجالها العصى والشقارف لتلقين عائلة السود درسا ـ لن ينسوه ـ بسبب قلة أدب ولدهم خليفة. منعنى أبى من مغادرة الدار. صراخ النساء تلك الليلة لم يتوقف، كما لم يتوقف نزول رجال البشاروة من الأسطح على دور عائلة السود. يبركون فوق رجالها أمام عيالهم.. يمزقون اللحم. يفضحون عورات النساء. آه ما أقسى القوة والحكايات المرعبة، ما أكثر الجرحى.

سقط قتيلان من السود. جاءت الإسعاف وعربات المركز وأحاطت بالبلدة لتفض ما لن ينفض أبدا. كل هذا من أجلك يا نفيسه ومن أجلك لم أنطق.

صارت أيام الحزن بعيدة.

امتلأت نشاطا ورغبة.

ازدحمت بالمتاعب والمشاهدة.

فى محل عم شوقى الحاتى عرفت الناس وكيف تخرج الفلوس سهلة من محافظهم. والزقازيق الخالية فى الليل إلا نفرا يعبرون مثلى إلى مناماتهم.

أخذنى العم شوقى إلى حجرة صغيرة جدا تحت سلم بيته القديم فى عزبة الحريرى. بها كنبة مفروشة ومقدار قدم أتحرك فيه. أضع جنبى فى الليل وأحمل كل صباح قفصى الدجاج والطماطم فوقها حزم الجرجير والبقدونس. رغم أنى كنت مستريحا عند بهيه. إلا أنه ألح على بالاستقلال وتحمل عبئى وحدى فقد صرت رجلا وصرت أحمل الأقفاص وأفتح المحل مبكراً. كل يوم يأتى ولده، يشفى لحم الخروف ويقطعه قطعا صغيرة للشواء. أجمع العظام. أدسها فى صندوق الزبالة.

فى الظهيرة والمساء يزدحم الناس. والعم شوقى يلفحه توهج الجمرات، يتحول وجهه فى الظهيرة إلى جمرة حمراء متقدة. يقلب الأسياخ ويضع الشواء فى الأطباق. أقدمه للزبائن، وأجمع البقايا.

نعم لن أذاكر.

ولن أعيد الإعدادية ولو من منزلك يا بهيه.

أنا حر.

فتحى دخل الثانوى العام. وأنا دخلت للشقاء بقدمى، لا يهم.

مادامت نقودى فى البوستة تتزايد، ولى دفتر أقرضت منه زوجك حين مرض. فلا تخافى. أعود كما ترغبين كل جمعتين إلى أبى، تسألنى زنوبه عن الكباب، تأخذ من يدى ورقة اللحم أو كيس الفاكهة. إبنك فتحى سألنى أن آتى بعشاء المحل له. وأتناول عشائى هنا. حاضر يا فتحى.

عامان.

أحسست أنى خروف مسلوخ من التعب. الأيام تجر بعضها إلى ما لا نهاية. عرفه سافر إلى مصر. واشتغل بإيديال ويقول أنه ساكن فى عزبة شلبى بمسطرد. صار عم شوقى يدفعنى لمسح بلاط المطعم كل ليلة بدلا من نهاية الأسبوع. أصبحت راغبا فى الطيران، فى الانعتاق من الأودة المظلمة فى عزبة الحريرى. أحببت الزقازيق غير أنها دمية ثعبانية تدور حوالى كل مساء. تسحب خطواتى إلى حفر وبالوعات ووجوه متشاحنة.

سوف أدوس تلك الدمية وأنط يا بهيه فى أول قطار.

من محرقة إلى مجمرة. كيف احتملت يا عرفه كل هذه الحرارة المنبعثة من أفران الحديد؟ رائحة تكتم الأنفاس وعمال ينصهرون أمام النار. كيف أحتمل؟

شدتنى يد الولد، انطلقت عربة أنابيب الغاز وسط شوارع مصر. شتاء بارد ومطر وأنا فوق العربة سعيدا بالفكاك من المسبك. فى الصباح أحمل أنابيب الغاز، أرمى بها لخالد، يرصها ويجذب يدى لتنطلق العربة إلى بهتيم، المسلة، العزب القريبة والبعيدة. شرقا وغربا. كل البلاد يعرفنى عليها الولد الصعيدى. كل البلاد حلوة مادامت لا تغوص بأقدامنا فى الحفر.

جاء الولد خالد إلى مصر منذ أعوام.

قال: أنا من قنا. وسألنى فيما بعد. هل تعلم لماذا يترك الصعايدة ديارهم.. معظم الناس يظنون أننا هواة جمع للمال. أو نهرب من الثأر أو حرارة الجو.. لا يا طاهر.. نحن نهرب من ضيق الأرض وقلة المصانع وكثرة المقاهى وليس قلبنا حديدا. نحن نتفجر شوقا للأهل والعيال لكن طول المسافة وحبنا للعمل هو ما يجعلنا نؤثر البقاء، أنا وجه آخر للبحراوى. كأننا وجهان لعملة واحدة. فى البداية استأجرت حجرة هنا مع أقاربى الذين يتاجرون فى الأقمشة. يلفون البلاد. يبيعون ويكسبون.

سألته: وليه متشتغلش معاهم؟.

قال: لازم رأس مال. ثم أنا متعلم ومعى دبلوم زراعة.

قلت: وأنا ساقط إعدادية.

قال: مش مهم، الهم واحد والملل مشترك، وما قدرش يا بووى ع الانتحار.

يقول كلاما حلوا عن أيام زمان.. يتفجر شوقا ويتألم من أجل أرضهم فى قنا.. أبوه الذى يستأجر أرضا مازال متعبا وأصحاب الأراضى يتقاسمون معه المحصول ولا يتقاسمون التعب.

: ماقدرش أكون فلاح يا بووى.

كأنه يصرخ فى وجه السماء حتى فرت الدمعة من عيني. الأودة التى تقاسمنا سكناها فوق سطح بيت بمسطرد، تتبعثر أمامها عجلات الكاوتشوك وعلب فارغة، وعلى السطح أمام الأودة تفر الفئران كالسهام.. نشرب الشاى بعد العشاء.. يقعد خالد على حجر أبيض، أفترش الأرض أو أستند على سور السطح ناظرا للبيوت العالية من حولنا. تلك الشوارع التى لا تتجاوز بضعة أمتار تجعل البيوت والناس فى عراك دائم. تنظر خلسة على شبابيك ونساء بعضهم؛ يصمت خالد متفكرا فى حالنا.. فى أهله.. فى الصعيد.. تخرج زفراته حارة. لا أعرف الكلام الكبير الذى يقوله خالد، وأن كنت أحس بآهاته ولا أنسى.. مقدرش أكون فلاح.. ما قدرش.

ذات يوم تكاسلت متمارضا. كنت أرغب فى السفر لبهيه أختى، زجرنى قائلا: المهم يكون معاك قرش.. عشان تعيش.

آمنت بكلامه.

كل يوم كنت أعود بعشرين جنيها فى محطة مسطرد الرئيسية للغاز الطبيعى. كانت مهمتنا تفريغ العربة وتحميلها.. وانتظار السائق كى ننطلق إلى بلاد بعيدة وقريبة. لكننا نحضر مبكرا قبل السائق نحمل ونفرغ عربات أخرى بأجور إضافية.. وفى المخازن التى نسافر لها نساعدهم أيضا فيعطوننا. نأخذ من هنا ومن هناك.. عفريت يا خالد وأنا معك.

لما وجدت فتحى عند أخى عرفه يتناول العشاء. نطت الفرحة فى قلبى، رغم أنى متعب ولى ما يقرب من أسبوع لم أر عرفه. إلا أنى بعد تناول الشاى جذبت فتحى من يده فرفض. قلت: نتمشى شوية.

أكلنا المهلبية من عم أحمد الواقف بعربته الخشبية على كوبرى مسطرد.. أثرثر عن شغلى بالمسبك وفرارى على ظهر عربة الأنابيب و …… وفتحى ساكت ينظر للبعيد.. يهز رأسه فقط. سألت: مالك؟

قال: مفيش.. أنا حكيت لك عن المشتل؟.

سكت لعله يخرج عن حزنه ويتكلم.

قال: مشيت فى شارع الفرن بتاعكوا رايح جاى أسأل عن شارع خالد بن الوليد.. ولا مجيب.. لقيت حداد مسلح فاشتغلت معاه.

قلت له: الشارع اسمه أسامة بن زيد. ثم إزاى تيجى من غير عنوان؟!

ضحك قائلات: طلعت فى دماغى.

تركته يستكمل عن مبيته فى مشتل الزهور ثم تمرده ومحاولة التصعلك حتى وقع فى يد أحدهم. إذ شاهد وعرف كيف يتحول الرجل إلى امرأة وسخة طالبا العيب.. وكيف عاد فى عربة أجرة، نفس المشوار الذى قطعه.

عرضت على فتحى أن يشتغل معى.. جاء مترددا.. قعدنا فى الصباح الباكر أمام محطة توزيع الغاز التى تبين من الخارج كبنزينة قديمة للجاز.. فى البر الآخر للسكة الحديد عند شارع بهيه. تدخلها كل وقت عربة نقل تجر مقطورتها، يسبقها الغبار والضجيج، يرفع السائقون أياديهم بالتحية لزملائهم فى الغرزة المواجهة للمحطة، يفترشون طوار الطريق.. يشربون الشاى وأنفاس المعسل - أحياناً - أقعد معهم بلا كلام. غربة مازالت فى قرار النفس تسيطر عليها بالهزر والضحك العالى. يندفعون بنشاط نحو المحطة. يلكزون بعضهم.. ويستنهضون قوتهم وإقبالهم على العمل. شربنا الشاى بعيدا عنهم كما يرغب فتحى الذى لم يكن قد اكتشف سر أنفاس المعسل بعد.

ثرثرت عن خالد وقوة احتماله وكثرة المتاعب وضرورة الأسلوب اللين للنفاذ وسط الناس الحديد لكسب رضاهم. أكثر من ساعتين ظللنا قاعدين أما المحطة ولم يأت سائق عربة الأنابيب التى نعمل عليها، على غير توقع نهض فتحى ورفض الفكرة نهائيا. كان خالد فى الأودة التى تقاسمنا سكناها مريضا. حاولت البقاء معه. قال: شوية أنفلوانزا.. رح أنت. ذهبت إلى فتحى عند عرفه وخرجنا. وحتى الآن بلا فائدة. قلت لنفسى لا ينفع مع خالد غير فتحى.. يتناقشانت ولا يتعبان حتى أجهز الطبيخ مادمنا عاطلين اليوم والحمد لله.

أمسك عرفه بظهره وكح. تفل بلغما أسود.

قلت: مالك.. تعبان؟.

قال خالدج: إجمد يا جدع.

تناول من عرفه الأنبوبة. تمايل مقلدا مشية عرفه المتكاسلة.

فى المساء أنعشت عرفه الجنيهات التى دخلت جيبه وأخذ يحسبها ويضرب فى أربعة أيام جمعة فى الشهر.

قلت: حرام انت ضامن عمرك؟.

قال: أنا معك كل جمعة.

كنت أعطيه ـ قبل انتقالى للسكن مع خالد ـ خمسة عشر جنيها مقابل نومى وعشائى.. يتعلل ويتردد. تمد نوال يدها وتلتقط الفلوس.. أضحك.

تقول: معك كمان؟.

عرفه يزعق فى نوال.. يا ولية أنا الكبير ومسؤول عنه.

أضحك.

ترد نوال: انتم إخوات.

أعطيها أكثر وأطالبها بعشاء دسم. يلتقط عرفه الشبشب ذاهبا للمسجد ويتأخر..

حالما تعد نوال الشاى يكون النوم قد غلبنى.

 

: إيه رأيك.. تتجوز؟؟

: ها تجوزنى يا عرفه؟!

: إسم الله عليك.. هوه أنا أبوك.

: طب ها تساعدنى؟؟!!.

عرفه يقصد الفلوس والجمعيات التى أودعتها البوستة. كلما سألنى عن ادخارى. أقول مش عارف.. أحب أن أغيظك يا عرفه.

أحسست أن برأسه شيئا. لذلك يلف ويدور.

قلت: خليك صريح.. أصرح لك.

قال: عندى عروسة.

قلت: ماشى.

قال: معاك كام؟.

قلت: لما اشوف العروسة.

فى جلسة عائلية. أسند أبى ظهره على كنبة فى بيت والد العروس.

كنت قد سافرت بصحبة عرفه إلى طحلة. أخبر أبى أن والد العروس هو عبد المولى الجمل.. جارنا القديم. قال أبى: عبد المولى الأقرع.. ابن خالتى خضرة.

رد عرفه: الآن له بيت فى عزبة شلبى وراءنا بشارعين.

قال أبى: بس ده ساب طحلة من تلاتين سنة. وامه ماتت من زمان.. كان فى الجيش متطوع على ما أظن.

قال عرفه: الوقت بقى صول.. بس فى الداخلية.

دخلت العروس علينا بأكواب الشربات. حلوة متوردة الخدين. عرفت وقت شراء الشبكة أنها أكملت ستة عشرة عاما وشهر. خرجت من السادس الابتدائى. قالت لى فيما بعد: بس انت كبير.

قلت: مش بكتير.. عندى اتنين وعشرين سنة.

أبى فى جلبابه الكشميرى وطاقيته الصوفية وشاله الأبيض كان ملك المجلس ـ فى قراءة الفاتحة التى لم يحضر غيرها ـ مد يده بعد الغداء ووضعها فى يد عمى عبد المولى الجمل. دون أن يتفق على التفاصيل.

 

فتحى
لم يتمكن من الإضافة لأن الحزن تبدى على وجهه. طبع ملامحه بتقطيبة داكنة، هل ذكَّرت "خالد" بما هو باق وكائن مستقر برغم تباعد خيوطه. تلك اللعبة فى يد لاعب ماهر يلهب بالسياط ظهور الدمى. نحس بيده دون كلام، وإذا انجرف إليه الحديث محاولين الإمساك بخيزط متباعدة كى ندخلها فى الإطار. يجرفنا الحديث لكل هذا الحزن. قد نفتح أبوابا للتأويل. لكن القرائن كلها تدفعنا للتحول تفرغنا من الداخل حيث لا يتبقى سوى هياكل عظمية ينخر فيها سوس الحياة. تراه كان موقنا مثلى ويوارى مدركاته القاتمة فى بئر نفسه، لا يرغب فى الكلام. أم يهرب بعيدا عن ثرثرة المحزونين.

قلت: تعرف. جوز عمتى خلع خواتم الميتين فى حرب 48 ودخل البيوت اللى سابها أهلها. شال على قد ما قدر. لم يندهش. إنما صر على أضراسه وتفل على الأرض.

قال: جايز كانوا ميتين من الرعب. وزاحهم برجله. أو مشى فوقهم.

قلت: جايز.

قال: فى الحرب كل شئ جايز.

قلت: وفى السلم لأ؟؟!!

قدم الطاهر الشاى أمامنا وقال: اتخانقوا على مهلكم، قام إلى وابور الجاز النحاس الأصفر دفع بالكباس فى صدر الوابور دفعات متلاحقة فانتظمت شعلته. أذكر أن جدى مرزوق قال فى الطريق الزراعى الواصل من الغيط إلى الدار. أنهم كانوا يقتربون ـ أثناء الحرب ـ من المدفع جيدا، كأنهم يتوحدون فى جسد واحد كى ينطلقوا دفعة واحدة لولا الدانة الخائنة … عند عودته لرفاقه بالماء. رآهم جميعا قد تناثروا.. يقول جدى أنه سقاهم ـ بالرغم من ذلك ـ واحدا واحدا.

أفاقنى خالد بقوله أن أخاه الكبير يعمل هنا فى مصنع الحديد والصلب.. يندهش قبل أن ينطق.. صار مدير المصنع يردهم عن العمل إذا تأخروا خمس دقائق. حتى المهندس الشاب صار يتنطط عليهم ويزجرهم.. كل كلمة بالخصم من المرتب حتى لو كان إبداء رأى. أما من ينصب نفسه دور زعيم المتضررين يتم تسوية معاشه. العمل ليس فى حاجة.

قلت: جايز العمال اتعودوا على البلطجة فى القطاع العام.

قال: وهيتعودوا على الذل.

قلت بص للمستقبل.. أنت بتتعب فى المصنع بس بتلاقى عائد. تقدر تتجوز وتعيش. قال: ممكن بس لو رمشت بعينك من غير إذن يرفدوك.

كنت أحاول تجميل البرواز. استعادة خالد من جب أحزانه ولم أقل له أننى أتألم من أجل وجيه أخى فقد صار ينسى كثيرا، ربما يكون قد ترك تركيزه فى المصنع الذى يعمل به أمينا لمخازنه بمدينة العاشر. هل يعلم خالد أن الماكينة عندما توقفت، خاف من توقيع الخصم إذا لم يسلم إنتاجه كاملا. حاول إصلاحها لكنها أكلت جزءً من إصبعه. لم يشتك خوفا من انقطاع عيشه. ليته لم يترك حديد التسليح.

أحسست أن مخزون الألم قد يطفو على السطح.

ومرارته مرة فى الحلق تنشع فى الكلام الذى صار يدور فى دوائر مغلقة. كلنا ننظر للإنسان.. نتألم لآلامه الصغيرة، ناسين أن الواحد منا لم يعتد حتى الآن على الآلة. لذلك فهى تنتصر لنفسها بعد طول معاشرة تطبع داخلنا التجهم والشرود، تمنحنا البرودة والملل. أما رأس المال والسوق فهما الخطان الفاصلان بين الألم وكمية الإنتاج. بين الإنسان والمؤسسة. كل شئ يمر بعادية تامة. يختمون أحاديثهم بالأمثال: تبات نار تصبح رماد ,

تحدثت أمى مع زوجة وجيه أخى عن المعركة الشديدة الدائرة بين البشاروة والسود. فأخبرتها بما عرفته من مصادر مؤكدة ـ وكانت تستقى التأكيد من أمها محاسن عمة أمى ـ أن الجرحى عددهم تجاوز الستين. أما القتلى فهما اثنين فقط قابلين للزيادة لامتلاء العناية المركزة بحالات خطيرة.

كنت صغيرا أطلق الأحكام القاطعة. والتساؤلات غير المدركة فقلت متسائلا: هل البشاروة فوق الحكومة؟.

انفردت بحجرتى، وانفرد الحزن بى. خططت على ورق الرسم ملامح شديدة السواد. برز لها رأس وتدلت منها أذرع ضخمة، مزقت المسخ.

أذكر الآن (ديروط الشريف)، بالذات قصة الرجل الذى كان يحتمى بداره خوفا من الجموع الهائجة ـ بلا جريمة تذكر ـ التى تدفع عليه الباب ـ كما أعتقد ـ وعند خروجه مزقوه بالبلط.

الآن فقط يستطيع ابن عبد التواب أن يحتسى قهوته المرة بلا هوادة حتى يسقط إعياء أو موتا.. لا يهم. مادامت الألوان الرمادية تصعد بهمجية إلى أنحاء اللوحة. تلك السحب الداكنة العابرة فوق زرع أخضر. لماذا تتوقف متصلبة دون أن تنحل. إنما تتجه بكل احتشاد إلى أسفل.

زميلى فى المدرسة التى أشتغل بها دخل هذا الصباح متكدرا يحاول عبور الحواجز التى توقف الكلام فوق لسانه. ويتراجع، هشمت حواجزه وانتشلته بلطف المنجى المبتسم. قال بأن الدم الذى تبرعت به لوالدته المريضة أعدم.

لم تدخلنى الصدمة بادئ الأمر. إنما برزت دهشتى قليلا، قلت أن المستشفيات ربما تحاول الاستحواز على بعض الأكياس للاتجار بها. قال أتمنى ذلك. لكن السيدة التى تشتغل بالمعمل جارة موثوق بها. دب القلق بقلبى. طلبت منه معرفه سبب إعدامه، من نفس مصدر الثقة. طالبنى بالاطمئنان. فلو كان شيئا خطيرا، يضر بالناس مثلا كالأيدز لما تركونى كل هذا الوقت. لماذا يزيد الزميل قلقى ويفجر طاقات الحزن؟؟!!

بعد أيام من الاحتراق.. جاء مبتسما وقال بسيطة بسبب فيرسc وطالبنى بضرورة عمل التحاليل بعيدا عن الروتين.

قال طبيب العيادة الخيرية الملتحى. لماذا أنت قلق هل تشعر بشئ؟ لماذا تخاف الموت.. كلنا سوف نموت. ثم قال أن تلك التحاليل مكلفة وغير متوفرة عنده. قلت لنفسى لماذا يبدأ الاحتراق دفعة واحدة.

تساءلت والطاهر نائم بجوارى ذات ليلة. اشترك جدى مرزوق فى ردم البحر القديم عام 55 كما يقول وكان يمر بطاروط وميت أبو على. واشترك فى حرب 48 وسقى الشهداء ماء على أرض فلسطين. تسلم من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر شهادة تقدير كأحسن مزارع. لماذا لا يطلق زنوبه؟؟

ذلك الرجل العجوز الواقف على كوبرى مسطرد. استغل وقوفى مستندا بظهرى على حديد الكوبرى أنظر للعربات والزحام ومر أمامى أكثر من مرة ثم توقف بجوارى.. جذب طرف الحديث معى، تشاغلت لكنه ثرثر عن متاعب الشباب وحاجتهم للفلوس وعدم تقدير الأهل لأحلامهم البريئة.. وأخيرا دعانى للسير معا، كنت قد تمردت على النوم فى المشتل ولم أبحث ثانية عن خالى حتى قادتنى الصدفة وحدها ـ فيما بعد ـ للوقوف أمام مسجد السنية ورأيته. دعانى العجوز للمبيت عنده تلك الليلة.

هذا العالم المغلق بأقفاله على أسرار عديدة. لماذا لا أفك مغاليقه؟. لماذا أخاف من الغرباء؟. هل يمكننى الاعتماد على نفسى بعيدا عن الأهل، هل سأبحث عن خالى ثانية؟؟. خمسة أيام أنام فى المشتل الذى أخذنى إليه صاحب البيت عندما توقفت فى الطريق واشتغلت مع حداد المسلح فى بيته على سبيل المساعدة، فقد غربت الشمس ويئست من الوصول لخالى.

تذكرت وأنا راكب عربة السرفيس ـ مع العجوز ـ عم فايز خفير المشتل وكيف خوفنى من النوم وحدى فى أودة مظلمة من الجريد والغاب. تساءلت كيف يعم كل هذا الظلام؟ أسمع نقيق الضفادع. هل يكون كلام عم فايز صحيحا وأقع فريسة للصوص تلك الليلة.. لا يمكن أن يكون هذا المشتل هو الذى أراه فى النهار، تضئ الشمس نباتاته الخضراء، المزهرة، الفضية، البنفسجية.. تمنحها لونها الذهبى. تلك القنايات الصغيرة المليئة بالضفادع ـ وربما ـ الزواحف الآن. تتهادى فيها المياه نهارا إلى الأحواض المزروعة فى آخر المشتل؛ لا أخاف الليل ولا الظلام، لكن ذلك الاتساع الكبير مخيف حين أكون وحدى. قال عم فايز: أنا باروَّح كل ليلة.. ثم ذكر حكاية ولده المشلول وحكاية زواجه مرتين ولولا الإحراج لاقترض منى، فأنا مثل إبنه تماما. تحول ما بجيبى إلى جيبه ـ لإحضار الدواء ـ بيسر ورضا.

توقف العجوز أمام أحد المحلات المغلقة، فتح بمفاتيحه الباب الصاج. دخلنا. بحث عن زر النور. أضاءه ثم أغلق علينا الباب من الداخل. ثرثرت قليلا عن رحلتى إلى خالى الذى لم أجده، تطلعت للكراتين المغلقة. صار العجوز يقترب أكثر، يكاد فمه أن يلامس شفتى. كنت فلاحا بريئا لم يشاهد من قبل فيلما مشجعا. لم يتوقع من عجوز مثله أن …..

زغدنى فى كتفى بلطف متمايلا برأسه نحوى ثم تحركت يده فوق بنطالى حتى وصل ….. كأنى أشاهد مجهولا لأول مرة. فى البداية كذبت هواجسى المجنونة عندما نقرت بداخلى شيئا فشيئا حتى انتفضت.. رفعت الباب بعنف، ناظرا بازدراء وقلت لو لم تكن عجوزا …

 

هبوط الزئبق
بهيه
قلت: إيه رأيك يا شيخ عبده.. الطاهر غلبان.. نفرش له الدكانة بالكنبة المرمية على السطح. رد قائلا بتستأذنينى يا بهيه.. نسيتى إنه إبن خالتى وزى واحد من العيال. قلت وقد غطانى المعروف من أجل أخى: فتحى بيذل فيه ويقول له انت بتشخر وانت نايم.

قال: افرشى الدكانة يا بهيه ولاّ عايزانى أفرشها له.

قلت: لأ يا خويا.

بعد شهر جاءت حماتى من طاروط لكى تقضى معنا رمضان. فتحت لها باب الدكانة لترى منامة الطاهر. اغتم وجهها: يا ضنايا يا ابنى.. الله يرحمها فتحيه أختى. فى المساء كان الشيخ عبده فى المسجد، اقتربت منى ـ كنا وحدنا ـ قالت: عشان يبقى مستريح فى مكانه يدفع لكم ولو عشرة جنيه كل شهر. تطلعت لها مندهشة كأنها تخاف أن يأكل الولد أخى لقمة من بيت ابنها !!

قالت: يا عبيطة.. عشان أخوك نفسيته تبقى مرتاحة. وافقتها على رأيها. رغم أن كلامها فى البدء ضايقنى. إلا أنى نظرت إلى راتب وزجى ومصاريف العيال، وقلت: مش مشكلة.

عينى عليك يا طاهر. هل أنت مخلوق للشقاء. تسافر من بلد إلى بلد وأبوك هنا مع زنوبه يشتغل ـ على آخر الزمان ـ خادما فى مسجد.. أبوك صاحب الأرض، كانت تطلع من بين يديه الخيرات وأحلى زرعة قطن زرعها بيده وسلم على الريس بيده، يمسح بيديه البلاط.. زمن غريب.. ماشى بضهره.

صرت يا طاهر بلا أم.. بلا أب، وأبوك على قيد الحياة. أخذْتَ يا طاهر تجرى ثقيل على كل الناس حتى أخوك !! تجرى حتى وقعت عند نزولك من عربة مسرعة، تراك كنت آتيا لى؟ أنا أمك وأختك يا حبة عينى.

سلقت دجاجة وأعددت أرزا. ثم حملت الشنطة ذاهبة إلى المستشفى.. اندفعت كالمجنونة رغم محاولة عامل التذاكر منعى قائلا: ليس موعد زيارة. رأيتك قاعدا على سرير مربوط الرأس بشاش أبيض وتضحك.. حمدت الله. قعدت بجوارك. تمنيت أن أمسك أذنك وأشدها بسبب شقاوتك وإهمالك. لكن أذنك كانت مختفية تحت رباط الشاش، تضحك.

إضحك يا طاهر.

واكفنا يا رب شر المصائب التى تجئ على غفلة.

بعد شهر.

قلت لأبى: ملعونة زنوبه وملعون عيالها حتى لو كانوا اخواتى.

قال: إخص عليكى.. بتقولى كده فى وشى. واستكمل.. لو كانت تعرف تتصرف فى المستشفى وترافق الولد فى الداخلى كان.

قلت: عندها عيال وعندى عيال. هو مش ابنها اللى اتوعك؟.

قال أبى: وأخوك.

قلت مضطرة: علشان مجيتك بس.

عمل الطبيب غسيل معده للصغير مصطفى، وشتمنى معتقدا أنى أمه. قال أنه أخرج من بطنه كمية قشدة وطعاما يكفى رجلا كبيرا، وكان ابن عام واحد.

قلت: والنبى يا دكتور أمه هبلة وده أخويا.

أعطى يا زنوبه بعض القشدة للطاهر كى يأكل رغيفا من خبز أبيه.. صورة الطاهر ساعتها لم تفارقنى. فوق عربة الأنابيب يتكتك من البرد والشرود والحياة.

لن أحضر زواجك يا طاهر. تترك أباك بين يدى الموت يطلب رؤيتك. وتذهب لابن الجمل خائفا أن يفسد عرسك بعد دعوة الناس. حتى لو تركته وتركت ابنته، الأب لا يعوض. أنت صغير وستبكى كثيرا ـ فيما بعد ـ على فراق أبيك.

ربما سقيته يا أبى قسوتك، فتحجر القلب.. صدقت لن يحضر من أولاد فتحيه أحد موتك. أنا بجانبك وكل أولادك وأول خلفتك.. لا تحزن.. تبول فى القصرية ـ أمامى ـ لا تنكسف. كلنا فى المرض كالأطفال كما تريد.. سأخرج.

لا أحب أن أرى دمعتك.

تذكر يا أبى أيام جئت حاملا البطيخ من طحلة إلى طاروط.. وطلب منك ناجى ابنى ماعزا.. فعدت بعد يومين بماعز صغير.. سلبتك زنوبه حنيتك.

لا تغضب من الطاهر. لكن عرفه ليس عنده حق... نحن فى العيد على الأقل يعيّد على إخوته وعلىّ ويراك. خمسة عشر يوما يا عرفه.. أنت قلبك حديد سرطان فى المثانة؟؟!!!.

: للأسف.

: متأكد يا دكتور.

قال: واضح أنه قديم وكان يتسحب ببطء وأبوك يعافر.

وددت لو أمسك برقبة زنوبه وأشبعها ضربا. انهارت كل أفعالك التى عملتها مرغما. أنت جمل يا أبى.

فى الصباح أخبرتنى أم عبد الخالق جارتنا أن زنوبه تركت عندهم كيلتين أرز وقالت: زنوبه عايزة فلوس.

نفضتَ (الحِرام) يا أبى من فوق وجهك.. بعدما سمعت ما قيل. قلت لك: جايز عايزة تجيب لك علاج. أدرت وجهك للحائط. شفتُ دمعة فى عينيك. رجوتك الهدوء.. ملعون كل شئ.

عند عودة زنوبه للدار لا أعرف كيف نهضت واقفا، ناديت عليها، فجاءت. أتملى وقفتك وقوتك المفاجئة. أكانت صحوة الموت؟. رفعت يدك لتضربها فأمسكت بيدك، شتمتها بعدما دفعتك قائلة: انت لسه فيك صحة يا راجل.

كنت تضربها يا أبى زمان، والزمان تبدل. من الآن سأضربها أنا.

        ومت يا أبى رابع أيام العيد. عيد الأضحى. ضحى برؤيتك الطاهر وشارك عرفه ومحمد فى تغسيلك. مت يا أبى.. والله.. الدنيا هذه جزمة لا تساوى شيئا. عدت يا أبى ممسكا بخصيتيك، تكتم صراخك فيفلت رغما عنك. أدعو الله أن يريحك. تنظر أنت للسماء وتقول: هون يا رب. تفر دمعتى وأنا أسند سقوطك.

زنوبه تملأ الدنيا زعيقا مع عيالها بلا اهتمام.

خرجت لها ليلة موتك ضاغطة حزنى: يا بنت الكلب.. الراجل بيموت.. اتلمى شوية.

تبتسم: طب وانا اعمل إيه، مش العيال؟.

لا إحساس بأن عمود بيتها يسقط. والبيت سينهار فوق رأسها. فرحة بلا شك. لا تقدر وجودى. تجمع الفاكهة من حواليه وتقذف بها للعيال.

أقول: معلهش يا أبى.

تنزل دموعه: معلهش يا بنتى. طول عمرى باتحمّل.

زارك فتحى منذ يومين. وفى الصباح سلم عليك الشيخ عبده وخرج باكيا، فبكيت وأنت تقول: فيه إيه يا ولاد؟. أنا حلو أهه.

 

زنوبه
مرآتى الآن. تنم عن بقايا امرأة.
بيدى أتحسس عريى. تمر أصابعى بحشائش نابتة. على ضفتى بحر كان فوارا. ربما أكون وقحة، كثيرون غاصوا فى مياهى وفار النبع، تضاربت أمواجه. لكن لم يفجر نبعى حقا غير البيت جاويش على. زوجى الأول.. أول من تسلق الجسد وحط. كان خفيفا فى البدء. هذه حياة غامضة من يبتهج فيها يتجلى، من يفك إطار خجلى، يولج فى الحياة. أنا بكارة لم تمسنى سوى أياد مر تجفة فى ظلام المساء بين حوار مظلمة. قليلون هشوا يمامات صدرى، ارتعشتُ، تخدرت قليلا وانسربت خائفة على سرى الغامض، على عودى الأخضر. كان احتكاكهم بمؤخرتى يوقظ بعض النشوى بأعضائى وأفر منهم إلى أن جاء البيت جاويش على ليرفع ساقى إلى عرش الأودة، يهتز سريرنا الحديدى من هول ما رأى.. أتأوه وأقول أنت ملاكى وشيطانى.. أنت أول من فجر نبعى حين اندققت فى قيعانى فانهارت أمامك كل سدودى ومقاومتى المصطنعة. تفجر الدم والماء والنشوى واللهيب. صرخت الحياة حين صرختَ لكنها ماتت.. ماتت فجأة مع موت طفلنا الصغير. آه يا على. حين نزعت القايش وضربت فى رغبتى المجنونة سحقت عريى بقايشك. ارتخيت لكن عيونك جلدتنى، آلمتنى على الصغير الغارق فى حوض الطلمبة، إنه راح يا بيت جاويش، هو كل من أحببت وانكببت عليه ليلا بطوله أبكى براءته. خطوه الأول.. حروف تلعثم بها لسانه وهم أن ينطق.. ابتلعه الماء بغتة وأنت شققت فى جسدى مسارب للدماء بعدما تعريت لك. تشهيت أن تمنحنى الحياة. ما أحلى الوجع. والدم المنساب. والرغبة المهدرة. ما أحلاك يا على وأقسى دموعك. ما أبشع ارتخاؤك وبكاؤك وحدك.. أتبكى صغيرنا، أم انهيارك أمام قادتك، أم تبكى قادتك وانهيارك أمامي. أنت هدمتنى يا على حين تعلقت بك ألا تنطقها لكنك قلتها. أطلقتنى إلى العيون الجارحة والرغبة المستباحة، لحواري مظلمة تجتذبنى فيها خراطيم متقدة، تحاول الوصول إلى لذة. أية لذة ولو بالاحتكاك، أبدا لم توقظ غفوتى، لم تدفئ برودتى.. تفرغ ماءها العكر فلا يتفجر من طلمبتي الماء. يزيق العود وسط مجراى. ينقبض النبع ولا أرتوى بل أزداد تعطشا ورغبة أن ينز مائى حول الجسد.

علانى الصدأ يا مرزوق وأنت مهما آلمتنى بعصاتك وأسنانك وجنونك لم تكن أكثر من سحابة كاذبة.

وقد عبرت.

وتوزعت.

وتبعثرت.

فما لملم بقاياك أحد. لم تكن بقايا ولم يكن فى الأصل شئ ـ أرضك ـ أخذتها صدفة وتوزعت عنوة وماتت بقاياها فى أفواه تنسى أن تقرئك الفاتحة.

 

عرفه
عيون الناس لا ترحم.. يا بهيه أنا لا أشترى أرضا فى مصر إلا من أجل عيالى. يرون النور. كل يوم ألف بطبق الترمس من مطلع النهار إلى المساء.. تعلمين أن الشركة أصبحت خاصة. لم يرضوا بعملى المخفف، الآن أنتظر لجنة طبية. الغاز يكتم صدرى. أكح. أكح فى الليل ولا تفيد الأدوية. يا بهيه نوال تبيع القصب أمام البيت. البنت فتحيه ابنتى صارت فى الثانوى العام. تحتاج للدروس، لم أرغب فى كسر خاطرها. تقول بهيه: كان إيه لزمته حمل نوال تانى؟. عندك السيد.

: أستغفر الله يا بهيه.. هندخّل فى أمر ربنا.

: نوال قالت إنه أمرك.

: أستغفر الله.. نسيت الناس ربها. نحن نسير يا بهيه فقط فى أرضه، نسعى وراء الرزق.. تسحبنا خطواتنا إلى قدرنا المكتوب، ثم مالك أنت إذا كنت أرغب فى ولد ثان أو بنت، من حقى أن أرجو ولا يخيب الله رجاء العبد.مادامت النية صافية.

تقولين دائما للناس من ورائى وأمامى.. أنت غويط.. أنا غويط وخبيث أيضا.

أبى ومات، والأرض أرض أبى أشتريها أنا بدلا من الغريب.. بيعى يا نوال حقك فى ميراثك، وتعالى نجمع حلمنا ونكبره بقراريط، بجوار القراريط ميراثى.. وكله للعيال.

"محدش بياخد معاه حاجة".

 

مرزوق
عدت لأرتاح.
كان من الضرورى أن أوقن بالفشل وبأن للزقازيق ناسها كما لطحلة ناسها. للزقازيق أن تدير ظهرها للقادمين من القرى والعزب والكفور، تشير بأصابعها الطويلة وأظافرها الحادة. عودوا يا فلاحين. لماذا تزاحموننا على الأفران، تأكلون خبزنا وتسكنون بيوتنا، وتضايقوننا فى شوارعنا.

لكم البراح هناك.. لكم بيوت الطين وأفران الخبيز والأرض تزرعونها بالغلال والجرجير والخيار والخضروات. تتاجرون علينا فى الأسواق. تبيعوننا سمنكم وجبنكم وبرسيمكم وألبانكم وأعراضكم.. نعم نحن هنا نشترى وأنتم تجيئون فرادى إلينا، فبيعوا إذن، كل شئ هنا يباع ويشترى ومن معه القرش يصيد من ليس معه، وأنا الذى طمعت أن تكون الزقازيق مرفأى الأخير.

لا تتعجب يا عرفه.. نعم رجعت. أم كنت تظن أنى مت ولن أعود، تطلع إلى زنوبه ولا تسأل. لا إجابات عندى. ربما تجيئك أثناء غيابى، مهما أكلت من لحمها لن تتوب، ربما لم أرو ظمأك يا زنوبه لكنى رويت ظمأ امرأة اسمها فتحيه، حيية خجولة، لا تحب الهزر ولا مط اللبان، لم أضربها ولم تتطلع إلا لدفئى. كانت تناشدنى البقاء فى الأرض أقول لها الظلام حل يا فتحيه. تنظر إلى الفدانين اللذين يهفهف زرعهما وتقول.. الله. وتدعوا للريس الذى جعلنا نحتكم على أرض، ثم تقول رحمك الله يا أبى.

ما بينك وبين زنوبه أصابنى داء الخصية. عانيت وأنا صغير من البلهارسيا، مازالت آلامى تدفعنى إلى الدوران حول موطن الألم / زنوبه.. أعلم أنك ستفرغين أمعائى بعدما يشيعنى المشيعون تبيعين ورود فتحيه الجميلة إلى العشاق فى ظلام الليل كل من يحب.. وردة.. وردة.. ورودنا بين يديك صارت من البلاستيك، صورة لأشياء قديمة. تتبدل مع كل زمان، مثلك أنت حين تهلك الفتنة فى أعضائك، تحت عجلات الزمن، ويبيض شعرك، ستقودين العشاق إلى أرضى تفترشين اخضرار الأرض بمجالسهم المائعة ورقصهم الخليع، يدقون آخر الليل أعمدتهم فى قلبى، تصرخ بهيه وهى حبيسة فى علبتها الخرسانية، ولا أحد يسمع … ساعتها اقرأى يا بهيه لنا الفاتحة، قلبك أبيض وروحك كبراءتى وأنا صغير. ستنسين إهمالى لحقوقك. أنت أعلم الناس بزنوبه، عشت معها أكثر من خمسة عشرة عاما ولم أعرف لها ملة.. قدماى هما اللتان ذهبتا إلى عزبتهم.. قال من أشار على بها ( أهلها غلابة، أجراء فى أرض الست ) والست كانت تنظر للصوامع حتى تمتلئ وتتكوم الفلوس، ثم تنشغل بدولاب فساتينها، تقتلها الوحدة فتستأجر من يمتعها. أهلك يا زنوبه لم يعرفوا غير التعامل مع كلابها الشرسة التى لا تفرق بين أجير للأرض وأجير ينام تحتهم؛ كلهم كلاب يندفعون وراء رغباتهم فى الأجراء. قلت أرفعك من حياة العزب لكنك كمن تفتحت عيناه ـ فجأة ـ بعد طول ظلام، على نور ساطع، فارتعت تقهقرت فى الدار تنتظرين أن يحمل لك مرزوق الضوء والنهار والاتساع حيث أنت.. أعلم.. لم أمتعك يا زنوبه وأنت انتقمت.. حقا.. حين منحت أعضائى جرعات علاج متلاحقة من سم بطئ؛ الآن.. فاض وامتلأت به الروح. أنظر إلى الناس بعيون شاردة، أذهب للبعيد شاعرا أنى أعود للوراء.. حيث تجتذبنى يد زنوبه وأهلها الأجراء.. كانت الهانم تضحك سائلا عمن هرب من محيط محبتها القاسية.. وقسوة بقسوة، كان لابد أن تنسحق سرايتها.. لماذا أنظر الآن فأرى الست عائدة فى صورة ابنتها التى تجمع الحوائط وتسد الشقوق، تنادى الكلاب وتطعمهم كى يعتادوا اللحم. لحمنا يا زنوبه أمسى طريا لا يحتاج إلى أسنان صناعية كأسنان الست هانم زمان.. تلك التى تركت اسمها واكتفت ـ الآن ـ بالهانم.. يرحم الله عليا، كان يجلدك بالقايش، أنت قلت فى نوبات التجلى ـ القلائل ـ تحتى عند توهجى ما أحلاك يا على. كنت علياً لفتحيه وعلياً حين استلمت شهادة التقدير المذهبة.. ماذا أنا فاعل الآن وقد حاصرنى الألم؟ أتململ منتظرا أن يهون الله.. بحق صومى أشهرا متواصلة.. بحق غفلتى هون قليلا.. وأمت أولاد الكلب الذين يعلنون موتى منذ زمن. إدفنهم فى البحر القديم.. تحت ترابه، واتركنى فى البحر الجديد الذى ساهمت فى حفره بالأجرة.. كانت بهيه كبيرة وفتحيه خافت أن يرانى أهلها.. البحر الجديد صار قديما. أظن أنى سأدفن فيه ساحبا معى أحلام حمايا فوق برودة مياهه التى أبطأت مفعول السم، فجعلت ميتته طبيعية.. أحس الآن بتمزق أمعائه.. لم يثأروا فتمكنت حماتى من نيل حقه فى الأرض الجديدة وراء البحر القديم وأنا ردمت القديم.. أصبح الجديد ـ منذ أربعين عاما ـ الآن ـ قديما. من سيموت وراءه يا فتحيه، بالسم أو بالخصية أو بالجنون.. الكل سيموت.. سيموت.. تعددت ألوان موتنا بنفس الألم؛ ألن يحضر الطاهر كى أبارك له؟ لماذا تأخر عرفه؟! لا تقلقى يا بهيه. أنت أول فرحتى وآخر من أرى. لست متألما.. أنا حلو.. فقط أسندى عودى.. الحوائط تهتز تحت يدى، وفتحيه تمد يدها.. تتعجل مقدمى.

 

فتحى
البنت التى تلبس البالطو الأبيض تلف رأسها بإشارب أبيض، بعناية. نظرت لى بطرف عينها واستمرت فى تسجيل الروشتات. حاولت التساؤل. ملت الروح الانتظار.. دربت نفسى على احتمال أية أخبار. صور من أحبهم تنادينى، أطفئ سيجارتى فى منفضة تلتهم الغبار وأعقاب السجائر بشراهة. البنت تكتب وتقول انتظر.. الدكتور على وشك الحضور. قلت بهدوء كاذب إذا كنت تعرفين شيئاً أخبرينى لأنصرف. همت بالكلام ثم توقفت مرة أخرى، انشغلت بأوراقها قائلة لا أعرف. الدكتور قادم.

جاء الدكتور.. سألنى أنت فتحى؟.. أخرج ورقة التحليل من أجندة سمراء؛ سطور سوداء يقابلها أرقام حمراء.. لون الدم النازف. قال: هل تشتكى من … أو من … قلت: لا أشتكى إلا من دق المسامير فى ليالٍ مظلمة. ضحك.. بانت أسنانه لامعة. عدَّل من وضع نظارته وسألنى: كم عمرك؟ قلت: واحد وثلاثون عاماً. قال بتأنٍ: إذن أنت من مواليد النكسة. قلت: أرحنى يا دكتور.. التحليل إيجابى. قال مبتسماً ولو كان إيجابياً هل نتوقف عن الحياة؟!. لم أقل له أن قلبى يرغب فى التوقف بعد تعب على حافة الهاوية، وأن الولد الذى يرافقنى يحاول أن يجتذبنى إلى شوارع الزقازيق ليلاً كى أصفر بلا معنى. أنفث الدخان. رغم أن صدرى يبغى طراوة النسيم. أوقف الدكتور شرودى قائلاً: نعم.. إيجابى.

 

الطاهر
ليلة عرسى اشتريت علبة سجائر كليوباترا من محل بقالة قريب من بيت عمى عبد المولى الذى سأتزوج فيه. بعدما نزلت متعباً، وكانت مبتهجة، قميصها الأخضر القصير كان منحسراً عن فخذين ممتلئين ركنت برأسها على صدرى، تبعثر شعرها مهوشاً. قامت إلى المرآة. أخرجت من علبة الماكياج إصبع الروج. لونت شفتيها، وبالمشط انساب شعرها طويلاً.. كنت أرقبها بينما فتحت يدى درج الكومودينو، تلافت سيجارة وأشعلت عود ثقاب؛ انتفضت – فجأة – كقطة متنمرة اختطفت من بين شفتى السيجارة وأطفأتها بعصبية ثم رمتنى بنظرة لائمة، قالت: انت بتشرب سجاير من إمتى؟؟ قلت: الليلادى بس قالت بشكل قاطع قهرنى: لا الليلادى ولا غيرها. تبددت كل رغبتى فيها. آلمتنى بنظرتها وعصبيتها وابتعادها عنى واضعة يدها أسفل ذقنها مستندة على حافة السرير. تمليت ملامحها المقطبة، ولأنى لم أعتد شراء السجائر ولا تدخينها فقد تذكرت الفلوس التى دفعتها، ووضعها البقال فى الدرج. واستكنت

وضعت نجلاء بعد طفلنا الأول – حمادة – فى الفجر، بعد تعب وصراخ، توأم. ولد وبنت بعد سبعة أشهر من حملها، كانت بطنها قنبلة وانفجرت.

فى الطريق مال الطبق المحمل بالطعمية والجبن القريش والبيض المسلوق من فوق كرسى العجلة الخلفى، كاد يسقط فنزلت وعدَّلت من وضعه، أحكمت عليه غطاء البلاستيك وربطته جيداً، ثم اندفعت بلا هوادة.

صباح اليوم التالى كنت أحمل التوأم فى قماش أبيض واضعاً إياهما فى شنطة من البلاستيك، قاصداً المدافن. قال اللحاد بعدما أعطيته خمس جنيهات: عمرهم قد إيه؟ قلت: يومين بس. كانا بلا أسماء فأعطيتهما أسماءهما قبل إيداعهما حفرة مظلمة.

 

عرفه
تغير كل شئ.
منذ انتقلت إلى مسطرد فى أوائل الثمانينات. فتحيه ابنتى التى كانت تزحف هنا صارت الآن فى الثانوى العام. برزت ملامح أنوثتها والخجل طل من وجهها. تحتاج أودة بمفردها. من يبنى أرضى الجديدة فى مصر؟! قلت لنفسى: يبنيها من هدم بطحله بيوت الطين وأقام بيوت الحجر. وهدم واجهة داره كى يفترشها بالكراسى والمعسل وأكواب الشاى أو السوبر ماركت وأفران البلدى والفينو.. حتى أنت !! ( تاجر جملة وقطاعى من فرج الله للحوم والمواد الغذائية.. غداً من السودان وعبد الرحيم عمرو.. إلخ.. إلخ ) توقف الحلاق عن دورانه الآن على البيوت كى يقص الشعر ويزين الذقون، وينتظر حتى تطيب الزرعة فيدور على الأجران.. أقام الآن صالوناً للحلاقة.. وللأحذية.. وعلب الماكياج. الفلوس ضارة بهؤلاء الناس لم لم يشغلوا فلوسهم التى تغربوا وذاقوا الذل فى جمعها بما يرضى الله.. يضيعونها على الحشيش والمخدرات والسهر على المقاهى حتى الفجر، وإذا ذهبوا للأرض ركبوا الدراجة أو الموتوسيكل، نسوا الحمير أولاد الحمير. عقول أقفلت على جهلها ولن تنفتح.

 

فتحى
ربما دلت التحاليل على ارتفاع نسبة الألم يوماً بعد يوم برغم أنى منتشى بلا معنى. أنظر إلى وجهى الأصفر فى المرآة وأبتسم. أقول.. فيما بعد.. تجف الشفتان، يتساقط اللحم بفعل الديدان الشرهة. هل تعيد – ساعتها - المرآة ابتسامتى؟! هل تعيد الشوارع وقع خطواتى على السائرين فى مساءات لهوهم.. أتذكرون أنى كنت أمر مثلكم هنا.. تدب القدم مكان القدم.. ثم ينتشى الدود. قلت لنفسى وهل أذكر أنا خطوات الراحلين.. مئات السنين والوجوه تتبدل مخلفة ابتسامات باهتة فى شوارع تشهد صخبهم، وأشجار ظللت عليهم وقت نزواتهم الليلية، حين كان وهج الرغبة يلفح الأجساد. اعتدلت فى وقفتى، هندمت ملابسى، أطلقت صفيراً متقطعاً أثناء نزولى على السلم. لم ألتفت لشقة أبى. خفت أن تستوقفنى هيئته فى الصالة، دخان سجائره مازال يدور فى المكان.: طالع برة؟: عايز حاجة يابا؟

: ربنا يسهلك يا ابنى.

آه لو كنت تضربنى يا أبى وتمزق لحمى حتى أكرهك ولا تطالعنى هكذا كل آن … لو.

 

الطاهر
بعد زواجى بخمس سنوات تزوج فتحى.
رزقه الله بندى.. ندى تبعث بشغبها الحياة. يضحك فتحى ليجهز الجوزة. يرص المعسل، نتبادل الأنفاس.. يخرج الدخان مع هزرنا اللذيذ، نتذكر ما مضى، يطير الدخان وتبقى حلاوة الأيام الفائتة. أنظر إلى سوالفه التى غزاها المشيب.

أقول: كبرت يا فتحى.

يقول: بقيت عجوز.

أضحك: بس انا أصغر منك.

يعلق ساخراً: الشباب شباب القلب

 

فتحى
ندى والقادم فى بطن زوجتى بلا اسم سيحتاجون كل مليم.. أود لو يذكرونى.. بضع مئات من الجنيهات لا تكفى.

يجب أن أعمل.. أعمل.

يجب أن أكتب.

ويجب أن أرى الدنيا.

من يتزوجك من بعدى ومعك طفلين؟

قلت: طــظ.

دست بقدمى على بدال الدراجة فاندفعت. صعدت إلى الطابق الخامس ألهث. بششت فى وجه التلميذ. كان قلمى الأحمر يخط.. صح، على كل المسائل بدون تصحيح.. أنظر إلى الامتداد البعيد خارج الشباك حيث سحابات بيضاء تتباعد تاركة سماء صافية بلا معنى.

 

عرفه
تلك الفوضى التى بلا معنى لا بد لها من منظم.
صحن الترمس على رأسى منذ العصر والناس لا تشترى فقط تتبادل النسوة شتائم قبيحة ويتثائب الرجال.. لماذا لا يهب واحد من هذه الشنبات ويلطمهن بقوة العارف ببواطن المور وعدم جدوى دلق الماء الوسخ على غسيل الأخريات.. يا ناس الوساخة ستظل تندلق وسيظل الغسيل وسخاً، إذا ظللتم …

شوارع مزدحمة بالزبالة وعيال عرايا تتقاذف بالحجارة.

يا الله كم أنت لطيف مع كل هذه الفجاجة.

ملعون بيع الترمس، وقد غاصت قدمى فى بالوعة الصرف. شتمت كل الشنبات والحى وعياله ونسائه ولم يرد أحد.

 

الطاهر
قلت اليوم يا فتحى دعك من كلامك الغامض، طالما تعرف الكتابة اكتب حكايتى.

لماذا ترفض يا فتحى؟ وتقول أنك تعد قصة أخرى بطريقة ما تعبر عن النهاية المتوقعة.

أنا لا أفهمك. ماذا تقصد بالملامح.. الذات.. الألم.. الصور الغاربة.

أنا حاضر أمامك. تمل وجهى جيداً.

ألا تعرفنى؟!!

 

فتحى
فكرت كثيراً أن أعدل من إهداء كتابى الأول قبل صدوره وأكتب.
«إليك.

لعل ابتسامتك،

لا تخبو من القلب أبداً.

لعلك الآن تضحك فى قبوك المظلم،

يا أبى.»

إهدائى القديم أثناء حياته كان تقليدياً إلى أمى وأبى..

إلى …

وإلى …

كلمات بلا حياة تتوجه للحياة.

رافقتك فى رحلتك الأخيرة، وأنت تسلم الجسد إلى سرير تبعث فيه دفئك.

عند عودتك، تركتك متمدداً على السرير وصراخ إخوتى المكتوم يفجر المكان. كنت أتملاك.. رفعت شلتة الكنبة التى اعتدتَ الجلوس عليها، أخرجتُ أمواس حلاقتك وعصياً صغيرة من الغاب كنت تنظف بها أسنانك ومسبحتك دسستهم فى جيوبى ولم أبك.

حاولت أن أكتب قصة تعادل أنفاسك، سر رقدتك وسيجارتين تخبئهما فى علبتك من أجلى.. حاولت فى الندوة الأدبية، قراءة صورك النابضة. لم يعزنى فيك أحد. بل أثنوا على أوراق بيضاء لا توازى ابتسامتك الأخيرة يا أبى.

 

الطاهر
تلك الأيام يحاصرنى دق المسامير فى رأسى.
حزن غامض يطفح من القلب.
لا أحب أن أرى أحداً.
أغلق كل الأبواب وأحتمى بالظلام.

 

فتحى
لكأنى بالحياة أتقى الحياة. بالمشقة أتقى الموت.
أدوس على بدال دراجتى فتلفظنى للشوارع الممتدة.. الناس صفر الاوجوه، غائصوا الخطوات. دبِى بخطوك اللذيذ يا ندى على مضخة القلب.. دع الدماء تتسرب لشقوق الجسد.. اضحكِ.. تجلى بطفولتك وصخبك.. حضورك يؤجل غيابى.. غيابى ليس مرتبطاً يا زوجتى بمزيد الخان، ليس مرتبطاً بسهرى على المقهى. أنا ألعب الدومينو.. أغازل البنات وأضحك. أبتعث الحكايات مسلية للأصدقاء. أنفخ فى طين حياتى لعله يتشكل فى أعماقهم وينحفر.

ليت الكراسى على المقهى.. المقاعد فى أركان الميادين تحتفظ بارتمائى المفاجئ عليها.

ليت الوجوه التى أعرفها تذكرنى – فيما بعد – وتسأل الدروب والمقاعد عنى.. هل يذكرنى الأصدقاء؟! ربما يتذاكرون صور الطفولة والدراسة الباهتة.

صار حضورى المطروح للآخرين زائفاً. لم يتسائلوا عن نوبات المرح المفاجئ.. لم يطالبوننى بالمزيد من تفاهاتى المسلية.. واضح أنهم مهمومون.. يتثاءبون.. نتسحب مع بقايا ضحكنا الأجوف على المقهى بعدما أطفأت أنوارها لمبة.. لمبة، إلى الشوارع الخالية.. يسقطون فى قعر حياتهم، فأسقط مرغماً تداعبنى نسمات ربيعية متخللة قميصى الخفيف.. تبعث قشعريرة مفاجئة.. أنت يا صديقى الشاعر إبراهيم.. زاد اتكاؤك على ساقك المصابة بشلل الأطفال ومال جسدك مرغماً. هل تتفكر فى البنت خطيبتك.. فى انتظارها – وسط برودة شباكها – عودتك؟ أم تحسب حسبة عم مأمون كامل

( عندى ستة من العيال

…………………………

والمرتب زى بيضة ستنا

تيجى نحسب الحسبة اللى

……………………….…)

تحسب المكافأة والجمعية واقتراضك من زملائك وتقول هل تتجمع بذلك بقايا حجرة النوم، وأجر النجار.. تضحك وحدك.. لا أسألك. خلص الكلام على المقهى، وسيخلصنى سهرى الليلة من الأرق. أهرب من كل شئ إلى النوم.

الحقن غالية. لو نمت فى قعر المستشفى تقتلنى البرودة وأنا محتاج أكثر للسجائر. أود أن أنفث دخانى فى وجه العالم.

منذ أسبوع راودتنى الرغبة فى الاعتراف لزوجتى وأخى الأكبر وجيه.. أحسست أنى قاسٍ.. أسرق هناءهم، انشغالهم بديمومة مطالبهم؛ ربما أسلبهم بذلك أمنهم وضحكهم. رأيتنى أحمل كفنى بين يدى واضعاً إياه دفعة واحدة أمام سلوى زوجتى وندى.. فتسألنى ندى: إيه دا يا بابا؟؟‍‍‍‍ !!

وتنسحق رغبتى على أعتابك يا ندى.

فلأدخن بشراهة.

أسهر.. أهرب من وجوه الراحلين.. بالذات أنت يا أبى.

( فى الصالة كما كنت جالساً.. دخلت مندفعاً ولم ألحظ وجودك.. كان الظلام مخيماً لكن جلبابك الأبيض وابتسامتك يضيئان مجلسك.

قلت: ازيك يا ابا.

رددت فى أسى، مشيحاً برأسك عنى ولم تكن عادتك: محدش بيقوللى ازيك )

قلت لأخوتى فى المساء التالى، ما قلته لى.. قالوا سنزوره فى مقره الدائم، ونقرأ، ونتصدق.. قالوا فى تأسٍ.. قد انشغلنا … ولم يفعلوا ولم أفعل.

أشار التحليل – اليوم – إلى توقع ارتفاع الألم. فالكبد اصبح فى حالة تليف …

الحقن ضرورية لتخفيف الـ…. ودخول المستشفى …

ولم أرد.

أرجوك يا جدى اغفر لى حماقتى مع زنوبه.

كنت ابن سبعة عشر عاماً

- قبل وفاتك بأربع سنوات –

أحضرت أقراص المنوم لزنوبه ولم تنم، فصعدت إلى المقاعد بحجة النوم وناديتها.. بعد قلق جاءتنى. أسندت رأسها على الحائط وقالت: مش عارفة دماغى بتلف ليه.

تحوطت وقفتها بذراعى ربما خوفاً أن تهرب منى.

نظرت إلى شقاوة تتلاعب فى عينى.

كانت الرغبة تحرقنى.

قالت بلا مبالاة: معاك فلوس؟

أفرغت جيبى من جنيه واحد وبريزة.

اكتفت بالجنيه وتركت البريزة لى، كى أعود بها.

ضغطت ثديها ولامست يدى الأخرى المرتجفة ردفها.

كان الشبق والغموض يجرجرانى.

حين نضت ملابسها.. صارت عارية، رأيت اكتنازها، اتسعت عيناى. كانت دافئة، وكنت فراشة تحوِّم حول تلالها ولا تصل.

اغفر لى صبيانيتى.

ولتعلم أن السبب فى ذلك هو الطاهر.

هو من أشعل بحكاياته التى سمعها – أيام كنتم فى الزقازيق – رغبتى الوليدة.

(لون الملاءات أبيض.. أقراص الحبوب.. ملابس الممرضات …)

السرير بارد، كانت الوجوه تتطلع لى. رأيت (أمل دنقل) فى الممشى البارد على البلاط حافياً، يشير بيده، فرددت التحية.

تحاملت، فأسندنى وجيه أخى إلى دورة المياه.. فتح الباب.. رأيتك يا أبى جالساً على قاعدة المرحاض الإفرنجى.. وددت لو أقول لوجيه.. هيا نكمل اغتسال أبيك الأخير، هل أنت منتشى برذاذ الماء البارد فى حر الصيف. رغم أنك لم تستحم إلا بالماء دافئاً صيفاً وشتاءً، قال وجيه: مالك.. نرجع.. ساعتها خلعنا عنك ملابسك، وأشرتَ فأغلقنا الباب.. وانتشيت بالرذاذ. أقترب منك وتقترب.. كان وجيه ساهماً. وأنت تضحك يا أبى، تنثر الماء على جسدى.

خذ يا طاهر تلك الأوراق. وجه مرزوق يؤلمنى وزنوبه وفتحيه وجدك صابر.. ألم يمزق أحشائى، ويسحب منى الحياة.. حاول أنت كعادتك أن تضحك،

أتذكر يوم طوحت بحذائك على الشجرة وصدتنى بالطوب تقافزت أنا كعصفور جريح.. ها أنا ذا بدأت أخف.. أصعد.. ولن تنالنى قذائفك. أخف تلك الأوراق وأضف ارتحالى إليهم..

أرجوك.

ربما لم أوفق فى تشكيل فصل محكم عن النهاية المتوقعة، فأضف وريقاتى لتلك الوجوه.

 

هامش جانبى
الطاهر
خطك سيئ يا فتحى. كلمات منمنمة وأخرى مفلطحة.. أوراق بيضاء وغيرها مسودة. توجد بعض أسهم ربما للتقديم أو التأخير. كيف أرتب كل هذا؟!!

تلك مهمة صعبة.. لكن كيف أتراجع؟! وهؤلاء الناس هم أهلى، أنا بعض منهم. وكلهم بعض من دق المسامير.

سأحاول بقدر الامكان المحافظة على ترتيب الأوراق، وإن كنت أختلف معك.

•الحجرة التى تكتب فيها ذات السرير الحديدى مازالت تحمل الطفاية الزجاجية وقد امتلأت عن آخرها بأعقاب السجائر، تتوسط الكوميدينو اللبنى بزهوره الباهتة. ربما هذا قلمك الذى تكتب به وذلك سريرك الذى تتمدد عليه بعد عناء الكتابة وربما كان الألم يفترسك وحدك فلا تتأوه. لا تصرخ حتى لا يعرف أحد.. بعد يوم طويل، لم أفتح فيه شباكا.. ولم أرغب فى ضوء النهار. زغلل النور الأصفر عينى.. شربت أكوابا من الشاى.. جهزت الجوزة ورصصت حجارة المعسل ـ كانت ندى وأمها عندك فى المستشفى، صارت الشقة خالية ـ شددت الأنفاس مدققا النظر فى الحائط الجيرى. فجأة برز خاطرٌ كان بعيدا. ربما قد نسيته أو تناسيته.. اختفاء زنوبه.

جاءنى محمد ابنها الأكبر ذات يوم وقت الظهيرة وكنت قد تزوجت وعندى حماده، كان شاردا تسيطر على وجهه علامات ضيق وقلق.

قال أن أمه اختفت.

قلت: ازاى؟؟

قال: مش عارف.

ثم هب واقفا؛ تعال ندور عليها.

قمت غيرفاهم. كيف وأين ومتى اختفت؟؟؟

لم يرافقنا عرفه وقال: راحت فىداهية.

لم أكن قلقا عليها، يمكنها أن تعيش مع قوم لوط، لكن حنينا قديما منذ الصغر كان يسحبنى إلى البحث عنها. سرنا وسط المزارع حتى وصلنا عزبة العرب. عرفت إنه يظن أن خاله خيرى يعلم.

هاج الخال خيرى لدى سماعه خبر اختفائها. انفجر صوته صارخا فى بلادة محمد ابنها حتى سمع أبوه العجوز الخبر، دمعت عيناه ولم ينطق فقد ثقل لسانه ـ منذ سنوات ـ إصر حادث تعرض له الخال خيرى الذى كاد أن يموت تحت عربة يحاول إصلاحها. صبى الورشة لعب فى الكريك الرافع للعربة دون أن يعلم بأن معلمه تحتها، فانكسرت ساق المعلم بالإضافة لكون العجوز تجاوز الثمانين وصار خيرى يتركه فى الورشة كخيال المآتة ـ عند غيابه ـ أو ليشغله بأى شئ. بالرغم أن هذا ليس موضوعنا.. ظلت دموع العجوز أباها نازلة.. ينظر لنا ويتسمع كلامنا.. هدأ صوت الخال خوفا أن يسمعنا صبية الورشة.

قال محمد: تبيع الأرض ونجوز ابراهيم مش مهم !.. تصرف الباقى على الشبسى والكراتيه ماتكلمناش !.. لكن تروح كل يوم المزرعة بحجة الغدا لإبراهيم أخى لغاية أو لحد ما شافهم هيه وصاحب المزرعة بـ ……..

إحمر وجه خيرى وارتفعت أذناه ثم صرخ.. إخرس يا حمار.. ما تقولش كده على امك.؟

: أقسم لك.

: انت شوفتها؟؟!!

: لأ.

تدخلت فى الجدل عديم الفائدة وقلت: لمحمد قل لى يا أخى انت عملت إيه معاها؟؟. يعنى طفشت ليه؟.

قال: مسكت لها السكينة وهى شايلة الغدا وماشية للمزرعة. وأقسمت بالعظيم تلاتة وبالطلاق تلاتة من مراتى لو راحت للمزرعة لاكون دابحها.

علق خيرى: لأ يا ولد.. دكر.

أكد محمد على موقفه: كله إلا كده.

هز الخال خيرى رأسه: روح يا ابنى دور عليها.

انفرجت شفتاى عن ابتسامة ساخرة.

ونحن فى الطريق قلت له: ما كنتش كده يا محمد.

قال: أنا كده ومخى صرمة قديمة.

قلت: قاعدتك مع الجماعة الحشاشين.. ولاّ مشيك مع عرفه.. اللى غيرك؟!

قال: أنا بصلى وعارف ربنا.

رددت: أنت كلب.. وساعدت الحرامية على دخول طحلة وسرقتها وتقول عارف ربنا.

: ربنا يسهل لهم.

تركته وعدت إلى الشقة. نمت على السرير وبدأ دق المسامير فى رأسى.. ووجوه شائهة تهاجمنى. كأن عيونهم غارقة فى محاجرها. أتملى الحوائط والسقف ولا يتوقف الدق لا تتوقف الوجوه المرعبة.

       أنت يا فتحى غير عائش. دفنت رأسك فى الكتب والناس لا تقرأ. تسترخى بعهد عناء يومها أمام التليفزيون حتى يغطيبها النعاس وأنت صرت مدرسا تعلم الأطفال أصول الحياة وبداية الأشياء. تضربهم عند الخطأ وما تعلمت أن الحياة طاحونة كبيرة ونحن فيها غيلان.

       لماذا لم تتقص أخبار عرفه.. أنا أيضا لا أعرفه جيدا رغم اعتقادى أنه لم يزل مع الجماعة ذوى اللحى رغم أنه حلق لحيته، ألا ترى كيف اشترى أرضا فى مصر وأرضا فى طحلة. ويصرف على عياله الأربعة. صارت فتحيه فى الجامعة وينفق على بيته ولا يعالج الربو الذى يزحم صدره.

       إنه لا يدور بالترمس مثل زمان. يلف ساعتين كل يوم فقط. وقد رفت من وظيفته واتفق معى أن أقول لبهيه أنه ينتظر لجنة طبية تعيده للعمل أو تخرجه للمعاش المبكر؛ رغم ذلك لنترك عرفه لأنه لن يستمر. الربو فى صدره أصبح ثقيلا، ولا يفيد معه علاج. يتولاه الله.

       * ما يشغلنى الآن هو محمد فقد أفسده عرفه، شوه زنوبه فى عينيه ـ بسبب الأرض التى لم تبعها له ـ أنا رأيت الولد يضربها بالشبشب وأخيرا يرفع السكينة لها. هل رآها بعينه، حتى لو كانت وقحة ونجسة وبنت كلب فهى أمه.

بحق أمك بهيه، وبحق الحنان الذى تشربته من صدرها أليس عندى حق؟؟

       ثم أنك أهملت بالذكر أبناء زنوبه ابراهيم ومصطفى وعزيزة.. ما علينا من محمد، فهو ضحية الحشاشين وعرفه وضيق الأرض لكن ابراهيم أنقى أبناء زنوبه الذى زوجته بنصيبه من قراريط أبيه وصار عنده زوجة وطفلا.. أين يزرع؟.

… أنت يا عزيزة بهيه أخرى. تذهبين إلى المدرسة تتشربين براءة الأشياء وتغفرين.. تحكين لى عند عودتى ما كان.. فى حزن شفاف، فآخذك فى حضنى وآخذ مصطفى الذى أصابه داء نفسى.. صار لا يعمل رغم أنه نجار مسلح.. يقعد على المقهى ويأتى لى عندما تفرغ جيوبه يأكل وينام. لا ينظر للأمام أو الوراء.

باعت زنوبه نصيبه بحجة علاجه وزواجه. لم تزوجه ولم تعد حتى الآن يا فتحى.. رغم يقينى أنه تأكل الشيبسى والكراتيه وتمط اللبان ـ الآن ـ أتوقع أن أراها يوما فوق نجيلة ميدان المطرية أو رمسيس … فى أى أتوبيس أو قطار واقفة بإغراء يحتك بجسدها المترجرج كل عابر.

 

الزقازيق 1999م

 

صدر للمؤلف:
عزَّاف النار ( قصص) ابداعات 1998
أربع نخلات ( قصص) نشر اقيلمى 2000
 باتجاه مصادفة ما (قصص ) خيول أدبية 2010
لأنهم يموتون فى الربيع ( رواية ) نشرت بجريدة الجمهورية على حلقات صيف 2000
ثم نشرت ورقيا عن الأجيال المصرية عام 2009
خليج الطبالة ( رواية ) سلسلة خيول أدبية عام 2007
مجموعة قراءات نقدية فى القصة القصيرة والرواية والشعر نشرت بمجلة الثقافة الجديدة مطلع التسعينات وقُدمت كأوراق بحثية فى مؤتمرات (الشرقية الأدبى، ودمياط، وكلية الآداب، ومؤتمر اتحاد الكتاب )

 

E mail: beheery2001@gmail.com