القاص الفلسطيني يكتب عن سؤال الحفيدة لجدها: من أين جاءت فكرة بابا نويل؟ سؤال مفاجئ دفع الجد إلى الارتحال في ذاكراته واستعادة براءة طفولة مفتقدة بحكاياتها على وقع سؤال شاعرنا «عيد بأية حال عدت يا عيد»ـ

حكاية لجيل ما بعد الطفولة

الجد الطيِّب بابا نويل

إبراهيم مالك

فاجأتني حفيدتي لينا،فوْرَ رَنَّ جرس الهاتف وبلغني صوتها الوافد من بعيد،فاجأتني إذ بادرت إلى سؤالي وكنت سارح الذهن بما سأله أبو الطيب عشية عيد:

" عيد بأية حال عدت يا عيد...."

سألت ْبصوت طفلة لما تبلغ الخامسة:

يا جدي!

أتعرف من أين جاءت فكرة الجد الطيب،جدِّ الأطفال الحقيقي، بابا نويل، الذي استبدل جراب صيده بجراب حلوى وراح يحمله على كتفيه،مُحَمَّلا ًبالهدايا، يطوف العالم الواسع لِيُشيع السعادة َفي عيون أطفاله؟

أجبتُ على عجل وبلا تردد:

كلا يا حفيدتي الجميلة،

حقيقة ًلا أعرف!

قالتْ:

ألا يعيبك أنَّك لا تعرف!

قلتُ:

ما قلته هو الحقيقة،

وهي لا تعيبني،

فليس العيب في كوني لا أعرف،

العيب إن رضيتُ العيش لا أعرف!

ووعدتها أن أسألَ مَنْ وَما هُوَ أخبرُ مني وأكثرُ مَعْرِفة ًوعِلما ًبما كان!

ليلتها لم تعْرف ِالنوْمَ عُيوني،

بقيتُ ساهرا ًأنبش ذاكرتي،

أعصرها بحثا عما قرأتُ ذاتَ زَمَن ٍارتحَلَ إلى بعيدٍ ولنْ يَعود،تذكَّرْتُ بُعَيَْدَ طول ِ تذكُّر ٍما قرأته في بطون ِكُتبٍ مصفرة الورق عمَا حكتهُ امْرَأة ٌعَجوز،عاشت طويلا فعرفت سِرَّ فرح الناس ِوترَحِهِم،مبعث َغمِّهِم وحُلمِهِم.

يوْمَها قرَأت ُ:

كانَ الجدُّ بابا نويل الحقيقي طيب القلب والنوايا،إنسانا ساذجا وبسيطا مثلَ أكثرِ الناسِ

في زمنٍ مضى أو زمن ٍسيأتي،يعيش في بيت هو وزوجتاه وأولادهما العشرة في بيت ٍغرَفهُ قليلة وضيِّقة،يقع وسط غابة ٍتقع بين نهر ٍوبَحْر، بين مُرْتفعات ٍجبلية ٍعاليةٍ شديدة ِخضرة الشجر وصحراء لاهبة تضيع في رمالها مياه الوِدْيان ِالموسمية.

وكان يحب صيد سمك البحر وغزلان البر.

تقول الحكاية إنه رأى غزالة، فراح يركض ُوَراءَها، حتى أجهدته عبثا وكاد يُجْهِدُها، وما إن حان وقت مغيب،اختفت الغزالة كأنها استحالت واحدة من شجر الغابة أو ابتلعتها.نظر قريبا ونظر بعيدا،نظر شمالا ونظر جنوبا،شرقا وغربا، شعر وكأنها فصُّ مِلْح ٍوذاب،فقفل عائدا،خاوي الجراب إلى بيته.

وما إن فتح باب البيت رأى أفعى زرقاء،يكسو زرقة جلدها خيوط بيضاء، ألَمَّ به خوف شديد، خوف مما رأت عيناه وتوجس عقله.

أغلق الباب ولم يدخل كعادته وراح يجلس تحت شجرة،يفرك يديه وقد عقد الخوف لسانه.

وبينما هو جالس،غارقا في خوفه،ظهرت الغزالة فجأة ً،كأنها ساحرة أو مسحورة أو طلعت مِنْ وَراء ِحُجُب ٍغير ِمَرْئِيَّة،ذُهِلَ الجد بابا نويل، لكنه لم يفق غلى نفسه ليسألها من أين وكبف جاءت؟ وأصابه ذُهول أشدُّ حين سمعها تحكي:

يا جدنا الطيب بابا نويل !

خذ حذرك !

هذي أفعىً شِرّيرة خرجت من فم ساحرة رقطاء، تسكن في أعماق ِجُحْر ٍ يقع في الشمال المعتم البعيد، أتت ذات يوم ولم أحذرها فسحرتني غزالة ونطقت باللعنة عليَّ،ومن يومها أعيش في فرح حياة وخوف  موت، خوف أن  يصيبني سهم طائش ٌيطلقه نحوي واحد من إخوتك الصيادين،فيخلو ميدان الغابة لحميدان الساحرة الرقطاء وابنتها الأفعى الشريرة.

إبقَ مكانك،

حيثُ وُلِدْتَ فلا تتركه،

بيتك مسحور وتسكنه أفعى،تعيش زوجتاك وأولادك العشرة أحياء في بطنها، ابتلعتهم وحسبتهم لقمة سائغة،لكن أصابها عسر هضم وسرعان ما ارتخت عضلاتها وفقدت كل حركة وباتت مثل دلك الواوي الذي ابتلع منجلا،فلم يعد فادرا على بلعه أو التخلص منه !

وما إن انتهت من الكلام عادت واختفت من جديد،لكنها سرعان ما عادت وظهرت، تحمل بيدها ابريق شاي، مِلْعَقة ً فِضِّية وكوبا خزفيا.

فوجيء الجد الطيب بابا نويل إذ رأى، أو هذا ما شبه له وقتها، أنها باتت منتصبة القامة، نصفها العلوي جسد امرأة غاية في الجمال يلفه زيق من عشب أخضر،أما نصفها السفلي فحوض غزالة وقدماها.

ناولته ُعَلى عَجَل ٍكوب َالشاي ِوَمِلعقة ًفِضَّيَة ًوراحت تقربه بلا وجل ٍولا حذر ٍ كانا بعض ما اعتادته. وطلبت منه أن يحسو الشاي على مهل ٍ،يرتشفه بلذَّة مُسْمَعَة،وبعد كل رشفة ٍيقرع الكوب بالمعلقة، قرعا مُنغَّما ًويغلق عينيه فلا يرى ما حوله.

وفِعْلا ًكان هذا ما قام بفعله الجد الطيب بابا نويل، سمِعَ النصيحة،قول الغزالة، وراح يغلق عينيه، شعَرَ مَعَها أنَّ فرحا ًلم يعهده بات يغمره،كلما رشف رشفة وقرع بالملعقة حوافي الكوب، وحين أنجز النصيحة فوجيء بابا نويل مما رأى:

الغزالة عادت إلى ما كانته ُامْرَأة ًفاتنة، بهية الطلعة وَبادِيَة ُالطِّيبَة،

انفتح الباب فجأة ً وخرج منه الزوجتان وقد أمسك الصغار بثوبيهما،

راحت أشجار الغابة تكتسي ثلجا مُشِعّا ًتلهو سناجب بين أغصانها

وامتلأ جراب الصيد أكياس حّلوى.

يومها بدا كل ما في الغابة ضاحكا حتى شجر الصفصاف الحزين والحاني فوق ماء الوديان استعاد بسمة أغصانه، شديدة الخضرة، وعمت الفرحة بيت الجد الطيب بابا نويل فطلبت زوجتاه من المرأة الغزالة، بادية الطيبة والجمال، أن تبقى لتأكل معهم كعك العيد،لكن المرأة الغزالة شكرتهم جميعا،فركت أصابعها فجأة وكأن خاتم "شُبّيك لُبّيك" كان في يدها فحملها بومضة برق ورفة عين وطار.

أسف الجميع لأنها عادت إلى ما حَنّت إليه، لكن فرحة لمِّ الشمل وعودة الحياة إلى العيون كانت غامرة وضاجَّة.

ناموا ليلتها ليلة هنية، نام الجد الطيب بابا نويل وقد ضم بحنان فائق زوجتيه وأبقى في سريره الضيق متسعا لِصِغاره، ليطيبَ لهم نومٌ قربَهُ، حَوْلهُ وبين يديه ورجليه.

وحين أفاق،صبيحة ثاني أيام العيد،راح يصغي لصوت الحساسين جذلة ًتُغرِّد، رأى جراب الصيد ملآنا أكياس حلوى وظهر له الإبريق الخزفي وقد طفح شايا ًوقربه يستريح كوبٌ وملعقة.

نهض من نومه وأبقى كل السرير لزوجتيه النؤومتين وصغار أولاده لينعموا بالنومة الصباحية،تحسَّسَ الجراب، ألقى نظرة خاطفة ًإلى الإبريق الخزفي،الكوب والملعقة ولم يعد إلى نفسه إلاّ وراح يُقسِمُ أنه لن يعود إلى صيد بحر أو صيد بر فسيكتفي بما تجود الغابة عليه و على أهله من عشب بر وثمر شجر.

ولم تمض ِإلاّ لحظات قليلة من عمر الزمن أفاقت الزوجتان واستفاق الأولاد،غسلوا وجوههم،فركوا أسنانهم، لبسوا ملا بسهم النهارية والتفوا حول مائدة العيد.

ما أن انتهوا من إفطارهم،نهض الجد الطيب بابا نويل على قدميه،تناول الجراب، شعر أنه كان خفيفا، ألقاه على كتفيه وكان لبس قبعة حمراء، انتعل حذاء ًدافئا ً،لبس معطفه القديم،سار وخرج قاصدا أول مدبنة في طريقه الطويل. وصلها وراح يطوف البيوت سرّا ً،يبقي عند كل باب كيس حلوى ويعود إلى بيته،لتصبح هذه عادته في كل عام ٍليلة عيد.

كان في مساء تلك الليلة يحضر إبريق الشاي، الكوب الخزفي والملعقة، يكرِّرُ ما أوصته تلك المرأة الغزالة، بادية الطيبة والجمال وفي صبيحة اليوم التالي يأكل كعكة العيد وعائلته، ثم ينهض على قدميه ويسير قاصِدا ً أول مدينة ليطوف بيوتها سِرّا، كما في كل عيد، يبقي أكياس الحَلْوى لأجمل من فيه، صغار البيت.

لحظة انتهيت من التذكر،

شعرت بسعادة غامرة،

إذ أسعفتني الذاكرة،

أعادتْ لي كلَّ ما قرأت في الكتب مُصْفرَّة الأوراق والحواشي.

لحظتها رحت في غفوة شفيفة وناعسة، رأيت نفسي وقد رحت أسرد لحفيدتي لينا كلَّ ما قرأت.

وفيما أنا في غفوتي الحالمة سمعت صوتا ً أشبه بصوت طفل يحدث ببراءة كم كانت فينا حين كنا صغارا ً،

قال الصوت:

لكن أحسبك يا جدي نسيت ما كان وصار بعد موته وموت صغاره، تقول تتمة الحكاية وهو ما لم تروه كتب:

اختفوا، الجد، الزوجتان والأولاد حين كبروا، اختفوْا من زمن بعيد في بطن الغابة. يومها امتلأت الغابة تجارا جشعين،طلعوا كالفطر بعد كل مطر، وراحوا يلبسون قبعة تشبه قبعته،معطفا زاهيا لا يشبه معطفه، حذاء أبعد ما يكون عن بساطة حذائه وخفته، يطيلون لحاهم ويرشونها بلون أبيض لنحسبه وقار شيخوخة، وراحوا يفرغون جيوب الأهل والصغار ليملأوها بقليل ما توفر في خزائنهم.

هتف الصوت،

وكان صوت طفل عرفت فيه صوت لينا وقد جاءني من بعيد ليملأني سلوى،

هتف سائلا ً:

يا جدي !

كم تتوق نفسي إلى طلة عيد سعيد،

يزورنا فيه سرا الجد القديم، الجد الحقيقي، الجد الطيب بابا نويل فيُبقي لي ولكل الأولاد أكياس حَلْوى زاهية اللون وطيبة المذاق.

سمعتها كمن راح يهمس:

كل عام ونحن بخير !

لكِنْ سَرْعانَ ما بَعُدَ الهَمْسُ،فعُدْتُ إلى خلوَتي أرَدِّدُ ما هتف َبه ِأبو الطيِّب ِسائِلا بحُزن ٍشفيف ٍذاتَ زَمَن.