ما زالت السفارة في العمارة

جواد بولس

تناقلت وسائل الإعلام، في الأسبوع الفائت، خبرًا أباحه مصدر مقرّب من بيت الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيرس، يزف للعالم وصول رسالة جوابية حرّرها السيد محمد مرسي، رئيس جمهورية مصر العربية، وفيها يشكر الرئيس المصري زميلَه الإسرائيلي على تهنئته بالفوز الرئاسي ويتمنى المصري لشعوب المنطقة، بما فيها الشعب في إسرائيل، العيش برغد وسلام. أحرِجَ المصري فكذّب ونفى. أما الإسرائيلي فأكد صحة النبأ ونشر صورة عن الرسالة.

انتهت القصة كما تنتهي قصص العرب. فقاعة من غاز بدون لون ولا طعم ولا رائحة، بلا صوت ولا صدى كبكاء مليحة في بئر الحرمان.

أين الحقيقة في هذه الرواية ومَن مِن بين الاثنين صادق؟ أكثرية العرب والمسلمين وحلفائهم سيميلون طبعًا لمرسي، فهو إن قال صدق، أمّا شيمعون فمهما قال كذب، وله ولقومه في النشر مآرب وغايات. القصة أن القضية ليست في رسالة يا أخا العرب، بل قصة "أكبر من كمشة وطن"، وتاريخ من حكايات نصر وموت وكفن.

أين الحقيقة؟ والأميون يجتاحون أوطان العرب ويفاخرون بأن على "حد الظبات تموت نفوسنا"! أين الحقيقة؟ في الكتب، ربما، عند من أصاخ السمع لرذاذ الدم المنثور على قمة قاسيون.

أين الحقيقة؟ وما نفع السؤال ونحن أمة تمتهن الترح "المُفرَّح" وتصنّع للدمع أكياسًا من ورق. وأعداؤنا يتواطأون: افرحوا يا عرب  بأوهامكم. وانتشوا "كالمستحلمين" على ليالي بغداد السحيقة، فرحم الله من قال "أحمق من نعامة مَن افتخر بالزعامة".

ها هي الكتب تروي عن هنري كيسنجر بعضًا من حكمة الفردوس العربي الضائع وقصة التيه الذي كنّا، نحن الشعوب، وبإراداتنا، ما زلنا أبطاله.

تبدأ الرواية بعد حرب العرب مع إسرائيل. البعض أسماها نكسة، آخرون وصفوها بعدد أيام الوجع والدم فوجدوها ستةً. وقلّة تصلّي أن تمحى من الذاكرة والذكرى، فهي خلاصة الكذبات الكبرى، ما كان منها وما بقي حطامًا يسعى البعض، بمعاول من زجاج، أن  يرمّمها وقد فات زمن الأنبياء.

اجتمع العرب، المقصود حكام ورؤساء جميع الدول العربية، أرغوا وأزبدوا، هاجوا وماجوا، قرروا أن لا يسكتوا وأن لا يقبلوا وقرروا أن ينتدبوا عنهم جميعًا مندوبًا يطير إلى أمريكا ويريها ما معنى إذا غضبنا غضبةً عربيةً... فلقد حمحم الباطل وهمهم الحق. وقعت القرعة على مندوب إمارة الكويت. وعليه أن يؤكد أن العرب لن تستكين لنكسة وأنّها تحذّر وتشجب وتستنكر وتنذر  وتتوعد وتتأهب للثأر بحرب ستكون أمامها حرب "البسوس" لعبة وتسالي.

الإدارة الأمريكية شعرت بالحرج والضيق. كانت إدارة جديدة لم يمض على استلامها مقاليد الحكم بضعة أشهر. خوف حقيقي تملّكها. الرئيس يأمر جميع المستشارين والوزراء بالاستعداد وتجهيز ملفّاتهم بكل شاردة وواردة. على أمريكا أن تحسن التصرّف وتجيد البلاغة، عليها أن تنجح بإقناع العرب بصحة خياراتها ومسبّبات مواقفها في تلك الحرب وأن تقنعهم، كذلك، بأن العبرة في المستقبل ولذا على الزعماء والحكّام العرب أن يحسنوا خياراتهم.

وكان يوم الحسم. العالم ينتظر زبد اللقاء المرتقب. دردبت الطبول العربية وفاح عطر الغضب و"رسول الحاكم" في طريقه لتبليغ الكتاب ولإسماع قعقعة الخيل واصطكاك السيوف فإمّا الكرامة وإما الفداء.

دخل سموّه. كانت الإدارة الأمريكية كمن لبست البرتقالي، تنتظر جرّها إلى حبل مشنقة. كُلّف هنري كيسنجر بمحاورة مندوب حكّام العرب. بعد بعض المقدّمات التي يفرضها البروتوكول، حتى بين قوي وضعيف، بدأ العربي بالكلام. اعتذر من الحضور، فهو مطالَب من أميره أن يسأل أوّلًا، الإدارة الأمريكية الجديدة عن موقفها فيما إذا قرر العراق مهاجمة الكويت والاعتداء عليها. فماذا سيكون موقف الأمريكان وكيف ستأتي ردة فعلهم؟!

ويحدّثنا هنري، كما جاء بالكتب، أنّ أفراد الطاقم بدأوا بالنظر كل إلى رفيقه، لم يستوعبوا "الضربة" من أول وهلة. لكنّه، هنري، شعر وكأنه دخل تحت "دوش" للمياه الباردة. التقط أنفاسه، عدّل جلسته، أعاد رئتيه إلى مكانهما واستعاد ريق فمه. وبدأ بالإجابة على السؤال. تحدّث وتحدّث ولم يكن واعيًا لما يقوله، لكنّه توقّف عندما لاحظ أول بسمة تملأ وجه رسول "قيصر".

انتهى الاجتماع. على إثره أصدر حكّام العرب بيانًا ساخنًا، وصف الأجواء العكرة التي سادت وأكّد أن الرسول نقل للأمريكان وطالبهم لينقلوا لحكام إسرائيل (التي كانت في عرف معظمهم مزعومةً) تحذيرًا بأنّها ستدفع ما لم تحلم به من أثمان ولا حتى تلك التي وصفها أنبياؤهم.

بكى من بكى وضحك من ضحك ونحن نضيع.

أين الحقيقة؟ هل أرسل مرسي ردًا على تهنئة بيرس له؟ وهل حقًا  هذا هو السؤال؟ فهل يتذكر الشعب ما كان يقوله مرسي قبل الانتخابات؟ هل يتذكر الشعب ما كانت تقوله جماعة مرسي عن إسرائيل وعن اتفاقيات كامب ديفيد؟ وهل سيتذكر الشعب أن أول ما فعله مرسي الرئيس هو طمأنة الأمريكان وإسرائيل وإعلان احترامه لكامب ديفيد إيّاها! هل سيتذكر الشعب أن القضية ليست برسالة، بل حكايا نصر وموت وكفن! فمتى كان النصر ولمن؟ ومتى كان الموت ولمن الكفن؟، هل سيذكر الشعب ما قالته جماعة مرسي عن وجود السفارة في العمارة؟ وهل سيتذكر الشعب ما قالته جماعة مرسي عن وعن وعن...

فالرسالة، ليست قضيتنا، نحن في فلسطين، فعندنا الرسالة قد وصلت من قبل ميلاد ونكبة، قادتنا ومناضلونا عرفوا ما لم يعرفه السيد محمد مرسي بأن من اعتاد المضاجع ليس كمن ارتاد المناجع، ومن لم يصدّق فليسأل اليوم الرئيس مرسي.

 

jawaddb@yahoo.com