يقدم الباحث المسرحي الأردني هنا استقصاءاته التنظيرية حول أنطولوجيا الظاهرة المسرحية العربية، ويموضع تلك الاستقصاءات على الوتر المشدود، في واقع ما بعد الكولونيالية، بين خصوصية الهوية وأهمية تجذير المسرح في التراث، وبين حالة الاستلاب للغرب الذي لا يأبه بالآخر المختلف.

المسرح «النص/العرض» والوسائط

منصور عمايرة

النص المسرحي :
لا شك أن هناك تغيرات كثيرة ولجت المسرح بكل عناصره من بداياته حتى الآن، ولم تفتأ هذه التغيرات تغوي الكثيرين بشتى الذرائع، حتى أمست الذرائعية مطلبا في المسرح المعاصر، ومابعد الدراما، وظلت هناك آراء ما بين شد وجذب، كل يعبر عن وجهة نظره لتكون حاضرة، واستمر حضور النص المسرحي منذ البدايات الأولى، وبشكل دائم في العرض المسرحي حتى الآن- مع التنادي بإعداد مسرحي للعرض المسرحي على خشبة المسرح من قبل المخرج، وهذا يشكل سابقة تصيب المسرح وتحد من حضوره المتجدد من خلال النص المسرحي- كما يؤرخ له في المسرح الأغريقي بمسرحية"الضارعات"1 وتلك الأناشيد، والتي كان ينشدها الأغريق في المسرح من خلال الشاعر الحاضر، إلى ظهور كتاب مسرحيين عند الأغريق مثل اسخيلوس، سوفوكليس، اوربيديس، فصاغوا نظرية مسرحية فرجوية من خلال النص الذي كان تعبيرا صادقا آنذاك، كرؤية وجودية لحياة الإنسان الإغريقي المرتبطة بالآلهة، والعرض الذي كان يواكب النص ويتبع خطاه.

ومهما طرأ على المسرح من تغيير، في نصه وعرضه الحي على مستوى التمثيل والأداء والديكور، وما يتبعه من حضور سينوغرافي متطور في المرحلة المتأخرة من العصر الحديث، وحضور الدراماتورج، وفي المفهوم الحاضر الذي أصبح يخطط لكل شيء في المسرح، بما في ذلك النص المسرحي؛ ولهذا إن ما نشهده اليوم من ولوج المسرح عناصر أخرى تبدو طارئة، ولكنها ليست ديكورا، وليست سينوغرافيا، كما يحلو للبعض أن يجعل هذه الوسائط تدخل في إطار الديكور، وهذا جائز فيما لو وجدت بطريقة ديكورية كعلامة ما، أو ذات دلالة موحية تساهم في بنية العرض وبنائه، ولكنها تعتبر ضبابية عندما تلح بالحضور ببنية أساسية في العرض المسرحي ألا وهو النص، إن التباكي في الوطن العربي على أزمة النص لا يخلو من دهشة "الحقيقة هي أن الممارسة المسرحيّة في الوطن العربي متفاعلة بشكل أو بآخر مع تحولات صناعة الفرجة المسرحيّة على المستوى الكوني"2. ويبدو عند البعض أن هذا بسبب"عزوف المخرجين الجدد عن كل ما يعتقد أنه غير مكتمل، أو غير ناضج دراميا... وانجرار المخرجين العرب الذين درسوا في أوروبا للتأثر بكل ما هو أوروبي"3

إن ظهور النصوص المتعددة في المسرح، ما يؤكد مقولة ارتباط المسرح العربي بالمسرح الغربي، وهذا ما أدى لظهور نصوص متعددة في العرض المسرحي في الوطن العربي، حتى ونحن نقيم علاقات وشائجية مع التراث مسرحا، يبقى الارتباط على مستوى العرض والنقد بصلة وثيقة مع التنظير والتطبيق الغربي، وصلنا أخيرا إلى ما أعلن عنه في تيارات الحداثة في الأدب- الشكلانية البنيوية السيميائية التفكيكية - إلى موت النص الأدبي."أي حداثة نعني؟ حداثة الشك الشامل وغياب المركز المرجعي، واللعب الحر للعلامة،  ولا نهائية الدلالة، ولا شيء ثابت ولا شيء مقدس"4 

ليظهر جليا وواضحا في الوقت الراهن من يدعو إلى موت النص المسرحي، ليس من منظور ما يقوله النص أو ما لا يقوله، ولكن من منظور التشاركية في ثنائية عرض مسرحي جماعي، أعلن صراحة عن موت النص وعدميته، في ظل وجودية وسائطية، أصبحت تمثل السطوة على بنيات المسرح الأساسية والتي تمثلت بالنص، ثم بالعرض المسرحي، والذي يقوم على بنيات متعددة، وركائز أساسية، وربما يكون أعلاها تموضعا على خشبة المسرح"الممثل"أو المؤدي، الذي سيكون في لحظة ما فاغرا فمه يتفرج بدوره على عرض مسرحي، لا يندرج تحت ما يسمى المسرح داخل المسرح، لأن تلك المقولة تفترض أن يكون الممثل فاعلا بالعملية المسرحيّة مع ممثلين آخرين، ومع المتلقي، والأشياء الأخرى على خشبة المسرح، ولكنها تندرج في تهميش الممثل وربما تغييبه، حيث سنجد أنفسنا أمام رؤية وسائطية، وليست فرجة وسائطية، لأن الفرجة أقل ما تستحق أن توصف به، حضور جمهور تفاعلي يتواصل مع الممثل بشكل رئيس، أو يملك رؤى تأويلية حاضرة أو مرجأة إلى ما بعد العرض المسرحي الحي.

إذا ما كانت مشكلة العصر من وجهة نظر بارت- وهو يتحدث عن أزمة اللغة الأدبية وارتباطها بأزمة إنسان العصر الحديث- هي تحرير الكتابة من كل الموضوعات التي فرضها الأدب على نفسه في كل العصور؛ لأن هذه الموضوعات جميعها لم تعد صالحة للتعبير عن عالم ممزق.5 إذن تمزق العالم، والذي تشيأ كثيرا في العصر الحديث جعل اللغة الأدبية تحتضر، ونادى النقد في هذا العصر بالتحرر من لغة أدبية، لولوج لغة تعبر عن حالة الإنسان المعاصر، وهو الممزق، وهذا ما يجعلنا نردد، هل وصلنا الآن بحضور وسائطية الفرجة أن نعلن بأن النص المسرحي يجب تحريره من كل مقولاته السابقة؟ ومهما كانت تلك المقولات تعبر عن الفكر الإنساني والثقافة الإنسانية، في إطار كان ذات يوم يمثل لغة حضور ووجود ومقاومة في فترات زمنية مختلفة ما قبل الكولونيالية، كالتعبير عن الشعور الفردي والجمعي للإنسان، وما بعد الكولونيالية كتعبير جمعي وفردي عن الإنسان، ولتكون الوسائط ذات حضور فعال يبدو أنها ستزيح البنى النصية والعرضية للمسرح الحي إلى زاوية منفرجة جدا، ونحن نرى عرضا مسرحيا إلكترونيا.

إن النزعة الإنسانية في الفكر هي هي منذ الأزل، ولكن بمقولات مختلفة عبر الزمن، وبقي الإنسان الحي هو الفاعل. الآن يبدو أن الآلة السينمائية هي الفاعل، والوسيط الإلكتروني هو الذي يقرر، ليكون مكان شخص آخر منذ وجوده على الكرة الأرضية، كلف أن يقوم بإعمارها وليس بتدميرها، وربما يقودني هذا القول الأخير إلى أن المسرح كفرجة حية بات قاب قوسين أو أدنى يهرول إلى التلاشي. إن طبيعة المسرح تصوير الواقع الإنساني، ولكن ليست على مقولة أن كل الدنيا مسرح بمنظور شكسبير، إلا من خلال قدرتنا على جر القضايا الإنسانية الكبرى والصغرى إلى خشبة المسرح، ما يبدو الآن غياب ذاك الشعور والإحساس الذي يجعلنا نتهافت على المسرح؛ لمشاهدة عرض مسرحي حي من دون طرح أسئلة مسبقة خارج إطار الفرجة، ونحن نطرح سؤالا واحدا بأننا سنشاهد فرجة مسرحية، والفرجة تتمثل بالمتعة المتعددة، وهي ذات بنى فكرية لن تكون أقل من ذلك. وإما أن يكون الحل بالعودة إلى درجة الصفر على رأي بارت لا تكون هناك علامة مميزة.6 إذن قد نسمع وربما نسمع من ينادي بحرق كل أدبيات المسرح السابقة من زمن "الضارعات"، بل قبل ذلك، لكننا أين سنجد هذه الوجودية من خلال الآخر بغياب الممثل عن خشبة المسرح، فاللغة متعة أريد ممارستها ولا ينوب عني آخر بهذه المتعة، وللعرض المسرحي متعة ولا أريد آخر يقوم بالنيابة عني بهذه المتعة، ولكنها تصبح متعة جماعية أيضا من خلال الحضور الجماعي الحميمي، وهم يتشاركون رؤية مشهدية واحدة، وللفرجة متعة، وصرخة يطلقها الممثل وهو يقول، لا أريد أن يمثل عني آخر؛ ليسرق متعتي، لأدرك وجديتي بهذه المتعة، والمتلقي بدوره يبحث عن متعة من خلال فرجة مسرحية يشاركه فيها آخر، ليس جمهور المتلقين فحسب، بل فضاء الفرجة كله، الممثلون أيضا والأشياء الأخرى الموجودة على خشبة المسرح والمتبعثرة أحيانا هنا وهناك، مهما كانت درجة عبثيتها، فهي ستكون حتما ضمن اللعبة المسرحيّة الفرجوية، والتي تمثل الحميمية والوجودية.

إن دعوة هيدجر لحرق المكتبات من أجل العودة إلى المنابع الأولى للغة، لأنها تعتبر الكاشف عن الكينونة والحضور،7 وها نحن نسمع من يدعو إلى حرق كل أدبيات المسرح، وربما نسيانها، وإعادة تفكيك العرض المسرحي برمته من خلال الحضور والغياب، حضور الوسائطيّة وغياب النص والأداء الحي "الممثل"، وكأن العرض المسرحي الحي ببنياته لم يكن متماسكا ومفهموما، فجاءت الوسائط تصنع تماسكه، وتبين عن مفهوم واضح ورؤيا للإنسان. إذن ستبرز في الوقت الراهن ظاهرة الحديث عن العلامة، وأن المسرح هو عبارة عن علامات تمثلها دوال ومدلولات، وخير ما يبرهن هذا الحديث الظهور الوسائطي للعرض المسرحي الحي الآن.

إن القبض على المعنى أصبح يسبح في فضاءات عائمة من دون المقدرة على الإمساك بها، وبالتالي فالغاية من العرض المسرحي العدمية، عندئذ تتلاشى ماهية المسرحيّة، وهي تتحدث عن غايتها الرئيسة في العرض المسرحي "المتلقي"، والمتلقي الذي سيقف برؤاه مع متلق آخر للاتفاق على معنى، مهما كان صغيرا، وعدمية الاتفاق يعني غياب المقاومة التي تعني الوجود والوجود الجمعي، لأن الإنسان كما قيل حيوان اجتماعي، وهو بالتالي حيوان مسرحي، فوجود الوسائطيّة في العرض الحي، وخاصة شاشات السينما والفيديو والكمبيوتر، تنفي المقولة الأخيرة التي تتعلق بسوسيولوجيا المسرح،  كما يقول الفرنسي جاك بيرك "إن العرض المسرحي يشمل الجوانب الاجتماعية كافة".8

***

إن إبسن يعبر عن حياة الإنسان العادي، "يصور مكنونات الإنسان"في مسرحياته يعبر بصراحة قاسية عن المجتمع، وجعل من المسرحيّة مرآة العصر تنفذ إلى صميم المشكلات الاجتماعية، واستطاع أن ينسج مأساة الفرد الروحية وصراعه مع القوى الجبارة الاجتماعية"9 فهي صرخة في ظل ظلامية طغت عليه، وقررت أن الفرد في ظل مجتمع الجبابرة ليس من حقه الفهم، وهذا الفهم هو الوجود. وربما الحديث عن المسرح الفقير هو ما يتلاءم تماما مع دعوة إبسن السابقة التي مثلت الفرد في ظلية مجتمعية تعبر عنه، ومرة أخرى إن مسرح غروتوفسكي يعبر عن التمسرح في ظل الإمكانيات البسيطة جدا، والتي تمثل وجودية الحياة الأساسية والضرورية، هو حتما سيكون مسرحا ضد الغنى، ومن ثم مسرح الوسائط. وقد كان غروتفسكي "يرفض الاستعانة بالابتكارات الحديثة في الإضاءة أو الموسيقى الإلكترونية، أو الفن التجريدي  أو الماكياج البهلواني وغيرها لأن هذه الأشياء أفسدت المسرح الحديث، ولهذا نراه يرفض فكرة جعل المسرح عصريا"10

وفي هذا الإطار فإن مسرح اللامعقول يندرج في هذه المقولة، وهو يعبر عن دراما الإنسان الحديث "التشيؤ" في الحياة الإنسانية بعد الحروب التي جعلت الإنسان يفكر كثيرا في ماهية الحياة والوجود والفكر، ليكون التشيؤ حالة مقاومة تعبر عن رفض كل المقولات التي تجعل من الإنسان في لحظة ما مجرد آلة يعطي من دون أن يسمع صوته الداخلي، لأنه مهمش "القانون المهيمن العام في المسرح العبثي هو غياب القدر، أو جودو أو المطلق ذلك الغياب الذي أصبح اسمه العبث11. ويبدو أن بنتر جسد الحالات النفسية والشعورية للشخصية، وكشف عزلتها ومعاناتها وإحساسها بالإحباط.12 ويبدو الإنسان في مسرح بيكت بانتظاره القدر مستسلما لكن هذا الاستلام يعبر عن رفضه للسائد، ليبدو الاستسلام مقاومة. والصورة ستبدو مختلفة تماما في مسرح برخت الملحمي حيث "جعل من مسرحه شكلا ومضمونا دعوة إلى الفعل والتغيير."13 ولهذا سنرى أن المسرحيّة البرختية، تدعو المتفرج إلى اليقظة، لأنها تطالبه بالمشاركة إيجابا في العرض المسرحي من أجل تغيير الإيديولوجيا السائدة "برخت خلق نظرية فنية فكرية متكاملة تغطي جميع أوجه العرض المسرحي، سواء من ناحية النص أو التمثيل أو الديكور أو الأغاني والموسيقى، وتشرح طبيعة التجربة المسرحيّة، ووظيفتها وعلاقتها بالنشاطات الإنسانية الأخرى14، وهذا الرفض عند برخت هو مقاومة لما هو سائد.

إن مسرح ما بعد الكولونيالية في الوطن العربي مثّل نوستالجيا، وهذه النوستالجيا لم تكن بريئة تماما من الكولونيالية، فالتراث الذي مثل ومهما كان متقدما بوجودية الإنسان العربي في كل الوطن العربي الكبير، لم يستطع أن يخرجه على مستوى الشكل المسرحي من دائرة اللعبة الغربية والعلبة الإيطالية، وهذا لا يبدو تناسج ثقافات إذا ما بحثنا عن تقعيد للمسرح العربي،  وإذا ما بدا كذلك، لا يمنع تناسج الثقافات، من بناء مسرح عربي خالص، في ظل الصرخات التي تؤكد بأنه لم يكن ذات يوم مسرح للعرب، هناك تجارب مسرحية كما يقول صلاح القصب وآخرون، بالاعتماد على المسرح الغربي ويضعف التجربة المسرحيّة العربية بشكل عام. إن الاحتفالية العربية التي تداعت لها أقلام الكتاب والنقاد، تشبه إلى حد كبير مقولة تداعي الأكلة إلى قصعتها مع اختلاف جوهري، الأكلة أتوا على كل القصعة إلى حد الإشباع، والذين تداعوا إلى الاحتفالية أصابتهم غصة فوجدوا التناسج مع المسرح الغربي هو المنقذ من هذه الغصة، لنطرح السؤال ماذا قدم المسرح الاحتفالي في الوطن العربي من رؤى مسرحية تقعيدية على مستوى الوطن العربي؟ "إن البحث عن صورة الذات لا يتجلى في طرح المشكلات والمسائل الاجتماعية في شرقنا، بل يتجلى أيضا في كيفية التعبير، أي امتلاك الأدوار الخاصة بالتعبير التي تميزه عن أدوات مسرح آخر"15، فيحلو للبعض أن يحمّل ابن رشد وغيره من المترجمين ظلم مسؤولية فشل نقل المسرح إلى العرب، ويحمّله مسؤولية خطأ الترجمة بنقل المصطلحات مثل التراجيديا، والكوميديا.

***

النص الأول وتأصيل المسرح العربي
التراث ومهما كان شفويا فهو النص الأول، إن تأخر ظهور المسرح في الوطن العربي يلقى بامتياز على عاتق المترجمين من خلال نظرة الدين، ثم يأتي الحديث مرة أخرى عن مقولة الأصل ووجودية المسرح، فينبري الغرب ليؤكد حقيقته "لقد أضحت شرعنة التقاليد الفرجوية والدرامية الغربية ممكنة داخل المستعمرات، بواسطة نعت التقاليد الأخرى الفرجوية بأنها لا مسرح، أي أنها أشكال فلكلور وصيغ شفهية، أو على أفضل تقدير ظواهر ما قبل مسرحية"16. إن هذه الشفاهية تمثل النص الأول للمسرح، وهذا النص بقي محفوظا في الذهن واللسان، وما العودة إلى تأصيل المسرح العربي إلا الرجوع إلى النص لتأصيله، وتأصيل المسرح العربي ما هو إلا عرض النص العربي التراثي وتمكين وجوديته، وبدأ مارون النقاش القرن التاسع عشر بمسرحة مسرحية "البخيل" لموليير، في العام 1847م- بعيدا عن البحث الأصيل للمسرح العربي- والذي يعتبر هذا التاريخ ميلاد المسرح العربي الحديث المستوحى من الغرب.

وينبري العربي في العصر الحديث وما بعد الكولونيالية؛ ليؤكد أن نسخة الأصل موجودة لديهم كمسرح خيال الظل المشرقي"وسواء أكان العرب هم من اجتلبوا فن خيال الظل الى حاضرة العباسيين أم أنه انتقل إليهم، فلا شك أن هذا الفن هو أرقى الملاهي ... إنه مسرح في الشكل والمضمون، لا يفصله عن المسرح المعروف إلا أن التمثيل فيه كان يتم بالوساطة، عن طريق الصور يحركها اللاعبون ويتكلمون ويقفون ويرقصون ويحاورون ويتعاركون ويتصالحون نيابة عنها جميعا"17، وهم يشيرون إلى ابن دانيال "مسرح خيال الظل كان قد قطع شوطا طويلا من النضج، حتى انتهى إلى محمد جمال الدين بن دانيال الذي ترك العراق الى مصر أيام المماليك ... وهو يقول عن مسرح خيال الظل: صنفت من باب المجون .. ما إذا رسمت شخوصه، وبوبت فصوصه، وخلوت بالجمع، وجلوت الستارة بالشمع، رايته بديع المثال يفوق بالحقيقة ذاك الخيال".18

والآن بدأت النوستالجيا بدرجة مشبعة جدا بالحديث عن الاحتفالية العربية التي افتخرت بوجود شكل مسرحي عربي، وكل ما كان هو حالة تمثيل مندمغة في العرض المسرحي الغربي. إن الطيب الصديقي أخرج أعماله المسرحيّة مثل ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، هذان مثلان يمثلان استمداد التراث العربي، وعبد الكريم برشيد الذي كتب مسرحيات قراقوش، وعرس الأطلس وغيرها، وكذلك ما ألفه عزالدين المدني من مسرحيات مثل: ثورة صاحب الحمار، رحلة الحلاج، ديوان الزنج وغيرها، ونشير إلى كاكي ولد عبد الرحمن وعبدالقادر علولة بالمسرح الشعبي الجزائري.19 يقول عز الدين المدني عن المسرح العربي "لقد كان خليقا بالعرب المعاصرين الا يتبنوا من الفن المسرحي الا النوع وحسب، لأنهم بتقليدهم الفنيات الغربية، ومجاراتهم الأشكال الفرنسية، جعلوا من الفن المسرحي فنا مقصورا على الحضارة الاوروبية".20

إذن على غارب من سيلقى اللوم؟ ونحن نتحدث عن الفشل بوجود عرضية "مسرحية" عربية احتفالية؟ وكأننا ما زلنا نعود إلى أسئلة البدايات عن تأخر ظهور المسرح العربي، لنبحث عن مشجب نعلق عليه كل القصور الذي بدأ ويبدو أنه ما زال قائما، ونحن نبحث عن مسرح عربي خالص. إن الاحتفالية العربية طقوس ذات أبعاد دينية واجتماعية ورؤى. يقول الفرنسي جاك بيرك: إن شطحات الصوفية كتلك الدوسة هي بمنزلة مسرحية حقيقية بمقدمتها وعقدتها وحلها، وأكثر منها شبها بالمسرحيّة الزار. وهو من الطقوس الجماعية لطرد الأرواح وتكمن روح المسرح أكثر مما تكمن في اسكتشات تعكس واقع الحياة،21 وكانت هذه الطقوس تمثل بمكان مسرحي لا يوجد له وجود في المسرح الغربي وخاصة الإيطالي كأن تكون في الفضاء الحر، وربما يصلح أن يطلق عليه مسمى الارتجال، ولا يوجد ارتجال عفوي في عمل قصدي، والمسرحيّة عملية قصدية واعية بامتياز "فالارتجال مهارة استغلال كل العناصر المتاحة للتعبير الإنساني كالجسد والمساحة وغيرها في سبيل التوصل إلى تعبير إبداعي مادي ملموس عن فكرة أو موقف أو حتى شخصية أو نص ما، على أن يتم ذلك بتلقائية كرد فعل مباشر لمؤثر ما، نابع من البيئة المحيطة بالشخص في تلك اللحظة، فيبدو المرتجل وكأنه فوجئ تماما بما يحدث".22

وبالإشارة إلى مفهوم الدراما فهي تبدو "محاولة تمثيل، تمثل الإنسان والجماعة حركيا لتجربة تقوم على مبدأ الصراع سواء كانت واقعية أو ميتافيزيقية"23 وهذا ما ينطبق على ما قاله أرسطو في كتاب الشعر عن وظيفة الدراما، والتي تحاكي الواقع بغرض استخلاص وترسيخ القوانين الثابتة خلف الظواهر النسبية العارضة24، وتبدو الحركة هي التي تمثل المسرح، والحركة يقوم بها الممثل بجسده"والمسرح هو الجسد، ولهذا لا نستطيع احتقار الجسد"25. إن مقولة الاحتفالية مهما كانت مستغرقة في المشهدية الغربية كعرض مسرحي، لا تخلو من إشارات ذات قيمة وجودية وحضارية للإنسان العربي كنص أول يحمل فرجة ورؤى وفكر، وكانت تمثل حالة حضورية ذات طبيعة تأثيرية وتأثرية في الإنسان العربي كفرد وجماعة. إن الشخص الذي يصيح بالناس وهو يحثهم مثلا على المقاومة والدفاع عن الوطن والحمى- كما كان يحدث في الماضي ومازال يحدث- عملية تجييش لا تكتفي بالوسائل الإعلامية الوسائطيّة الحديثة، بل تلجأ إلى المباشرة بالبلاغ، مثل دعوة تجييش الناس للتأييد والمؤازرة أو المقاومة، فلا يكتفى بالإعلان التلفزيوني أو الإذاعي، بل تستخدم مكبرات الصوت التي ينادى بها للعبادة مثلا، كوسيلة تبليغ، لتستعمل كوسيلة تجييش في لحظة ما، وربما يستعاض عن مكبرات الصوت، بالصوت الطبيعي للإنسان كوسيلة تبليغ ذات حميمية أكبر.

إن هذا المثال البسيط يؤكد أن الوسائطيّة غير قادرة على إلغاء الأصل – ربما قادرة على تهميشه وتشتيته – النسخة الأصلية لعملية المسرحة مهما تداعى المتداعون إلى ذاك الأمر "والعرض المسرحي يتلاشى خارج رحم الزمن، ولو حاولنا أن نحتفظ به شريطا مسجلا لكنه رغم ذلك يتبخر محتفظا بالظل؛ لأنه يفقد أنفاسه الحاره وحضوره الطازج".26 نستشف فارقا كبيرا وواضحا ما بين العرض الحي والمسجل، حتى لو كان مسرحيا، فالأهمية تبرز من خلال العرض الحي، لأنه يحدث الآن. "وفي معظم النظم السياسية، وحتى عندما تكون الكلمة حرة تبقى خشبة المسرح آخر وسيط يحظى بحريه، فبغريزتها تعرف الحكومات ما للحدث الحي من كهربة خطيرة"27 لنقل مرة أخرى وبشكل واضح إن الوسائطيّة التي تطغى على كل العرض المسرحي، أو جزء منه ما هي إلا لحظة تنظيرية تندرج في إطار التجريب للمشاعر والرؤى الإنسانية، ولكن هل هي قادرة على إلغاء الإنسان الذي يمثل المشاعر؟

عندما تحدثنا المناهج الحديثة عن اللغة بكل فجاجة أحيانا، فهي لم تستطع أن تلغي اللغة، وهي وحدة الأصل. هل الوسائطيّة ستلغي حالة العرض المسرحي الحي والمبني على النص المجسد؟ "إن التجسيد وحده هو حقيقة العمل المسرحي، وإن جمال المسرح يتركز في العرض أمام الناس".28 ويورد علي الراعي مقولة للفنانة المسرحيّة جوون ليتلوود "إن المسرح في الشارع وليس في الكتب ودور العرض الغالية، فحين يلتقي الناس بالناس ينشأ المسرح"29 وأيضا ما قاله أرتو، المسرح فن يتخلق على المسرح ولا يخلق خارجه، يتخلق من الدفع والجذب بين عناصر العرض المسرحي المختلفة، والكلمة تشترك مع عناصر الحركة من لون وموسيقى وحركة وصوت وصمت ... لتكوّن فيما بينها العرض المسرحي المتحرك الذي لا يتجمد أبدا، بل يتجدد أبدا؛ لأنه يحمل معه عنصري التلقائية والمفاجأة30، وما قاله البريطاني بيتر بروك، بالعودة إلى الطقوس القديمة كمصدر وإلهام لعروض مسرحية جديدة31. إن الدراما كما يقول إيسلن "هي أصلب شكل يمكن للفن أن يعيد بواسطته خلق الوضع الإنساني والعلاقات الإنسانية ... وصلابة الدراما تتحقق بصيغة الحاضر ... هنا والآن في حين أن أي شكل سردي للاتصال سيروي أحداثا وقعت في الماضي"32 

***

العرض الحي والوسائطيّة :
لا نبالغ إذا ما قلنا إن الوسائطيّة أثناء العرض، تشتت في متابعة الرؤية المسرحيّة، وتشتت في الفرجوية بسبب إقحام العرض السينمائي، أو الصورة السينمائية في العرض المسرحي، والتشتت في متابعة العرض الحي، يفقد المتلقي التركيز. وهي بالتالي ستؤدي لانقطاع التمثيل والأداء، وتوقف الفرجة الحية، لينوب عنها العرض المرئي السينمائي أو التلفزيوني أو أجهزة العرض. "والتجربة تشير إلى أن مؤديا حيا، وأشياء أخرى معادلة تميل إلى السيادة على الفيلم أو الصور المعروضة ...  وتبدو مشكلة الممثل والصورة وهما يتنافسان على جذب الانتباه"33. وبما يخص التشاركية في العرض الحي، فالمتلقي في العرض الحي مشارك ليس في الصورة الذهنية، بل بالحضور التفاعلي بينه وبين الممثل، وما يدور على خشبة المسرح، وبحضور السينما يتلاشى الحضور والتفاعل.

ثم مسألة الحضور والغياب في العرض المسرحي، لا يوجد في العرض المسرحي الحي شيء يسمى الغياب، فالعرض المسرحي الحي يمثل الحضور دائما، وشاشة العرض السينمائي تمثل جزئية في العرض المسرحي، لكنها ظلت تمثل الغياب "الماضي" والمسرح يتعامل مع الحاضر الذي يولد إحساسات وعواطف مع الممثل والجمهور "العلاقات الإنسانية يمكن  التعبير  عنها  بالحركات  والإيماءات  والاتجاهات والأوضاع أكثر من الكلمات"34 ويمكننا الاستغناء عن شاشة العرض السينمائي، فهي ليست جزئية رئيسة عندما نتحدث عن الماضي كتاريخ، فيمكن أن نعود إلى الماضي من خلال التراث مثل الأزياء، حتما سنقود المتفرج إلى جوهر العمل بعد تفسيره، لنتلقى ردة الفعل الآنية أو المؤجلة "فالصندوق الإلكتروني ليس به قناة اتصال لبث ردود أفعال المتفرجين إلى الممثلين مباشرة وبصورة إيجابية تؤثر في مسار العرض كما يحدث في المسرح"35

ولهذا "لا أتصور أن الدراما التلفزيونية ستغنينا عن المسرح، فسوف يظل التلفزيون رغم التطورات وسيطا يعتمد بالدرجة الأولى على إعادة المسجلة التي  لا تدع مجالا لمشاركة الجمهور أثناء عملية الأداء والتمثيل"36 وبما أن الممثل أول ما يشاهد في المسرح بجسده فيكون "المرسل الرئيس الذي يعول عليه المتلقي"37 وعليه تصبح الحركة بديلا عن اللغة وهي تولد انفعالات ودلالات وتأويلا، حيث "أصبح جسد الممثل مساهما في العملية الإبداعية بعدما تحول إلى بلاغة أو حالة فضائية يدور حولها الفعل المسرحي"38 والحالة هذه تقود "إلى تحرر الجمهور لأنه لم يعد  مشتركا بل يدرك الإيديولوجية الجمالية للعرض المسرحي"39 من هنا ندرك أن "المؤلف والمنفذين لا يشكلون إلا نصف العملية كلها، النصف الآخر هو النظارة  وردة فعلهم، فبدون  نظارة  لا دراما، والمسرحيّة  التي لا تنفذ هي مجرد أدب"40

ولا ننسى خيال المتلقي"هناك الخيال المتولد من فعل العرض المسرحي الحي، فالذي يقف أمامنا مثلا هو الممثل هاملت وليس هاملت الحقيقي ذاك الأمير، وسيتم التفاعل مع الممثل الذي يؤدي الدور".41 وبما أننا نولي الممثل أهمية كبيرة في المسرح الحديث ألا يوقف العرض السينمائي دور الممثل؟ يحد من طاقته الإبداعية ويحد من خياله ؟ "فالممثل هو الذي يجعل الحياة تدب في المسرح ... وعليه أن ينقل هذا الخيال إلى الجمهور أيضا"42 إن الممثل في المسرح هو الذي "يحمل الخطاب المسرحي لجمهور جاء إلى المسرح ليرى ممثلا إنسانا حيا، وليرى جسد إنسان حامل للخطاب المسرحي"43 وعلى ذلك سيكون للرد الإيجابي من المشاهدين، أثرة القوي على الممثلين وكذلك الرد السلبي44، وفي المسرح نرى أن الجسد هو الحاضر في العرض المسرحي بشكل دائم، وبدون هذا الجسد حتما ستكون خشبة المسرح جوفاء، وبهذا الخواء عندئذ لن نجد هناك جمهورا للمسرح.

وبما أن المسرح يمثل تمسرحا حول ما يدور الآن في العرض المسرحي، وهو ما يحدث كتمثيل للخارج في هذا العالم الواقعي، لا يمكن أن يمثله عالم افتراضي، ليجعل الواقعي خارج العرض "لا نستطيع شرعيا الخروج عن النص في اتجاه أي شيء آخر، في  اتجاه  مرجع  أومدلول خارج النص... ثم لا يوجد شيء خارج النص"45 قد تبدو مقولة ديريدا تختلف تماما عن مقولة العرض المسرحي، الذي يؤكد أن ما يجري الآن يؤكد أن هناك شيئا يحدث خارج العرض المسرحي .. في حالة العرض الافتراضي الذي تمثله التكنولوجيا الحديثة، الانترنت والوسائط التسجيلية الأخرى، فإنها تلغي ما يحدث خارجا، إن في الخارج رؤى وأفكارا وحالات إنسانية نمسرحها الآن، وليس مجرد لعبة كرة قدم، وهي لعبة جماهيرية بامتياز، ولكن لن نقول عنها بأنها مسرح، فالمسرح هو تلك الأفكار والرؤى، وأحاسيس ومشاعر تعبر عن حالة اجتماعية تتمثل بالإنسان، هذه الرؤى والأفكار والمشاعر، هي التي تغير حركية العالم ككائن لا تعنية الصورة الإلكترونية، أو حتى الصورة الذهنية، إذا لم يكن لها وجود على أرض الواقع، وبهذا المعنى دار حديث طويل ذات يوم بين النقاد العرب عن اللفظ والمعنى، ومقولة الجاحظ 250 هـ واضحة بذلك "المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها الأعجمي والعربي والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتحبير اللفظ وسهولته وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير."46 إن انتصار الجاحظ للفظ على المعنى هو بمثابة مثال تقريبي لانتصار العرض المسرحي الحي على الوسائطيّة، ويؤكد مارتن إيسلن "أسبقية الوسائل اللفظية أي المنطوقة على ما سواها في النص الدرامي، لأن الدراما في الأساس فعل محاكاتي تمثيلي"47. والنص الدرامي فيه إشارات مسرحية وهي التي تمثل النص المساعد، وهي جزء مهم من البنية الأدبية للمسرحية48.

في العرض المسرحي الحي نتحدث عن علاقات عدة:
1-علاقة بين الممثل والجمهور وهي عبارة عن الأحاسيس والشعور وتوالد التأويل.
2-علاقة الممثل بخشبة المسرح، بالديكور والأشياء، وهي علاقة توليدية، فهي تولد الحركة والصورة.
3- علاقة الممثل بالممثلين الآخرين، وهي أيضا علاقة توليدية.
4- علاقة الممثل بالسينما أو وسائط الفيديو والكمبيوتر، كشاشة عرض ديكورية أو سينوغرافية مثل الأشياء الأخرى. في حالة وجود الشاشة الفاعلة في العرض المسرحي الحي، ستبدو كنقلة نوعية، حيث يقوم الجمهور الذي يقيم علاقة مع الممثل الإنسان، كوجود حي، إلى شاشة سينما، أداة جامدة، فأصبح الممثل في حالة غياب، بتعامله مع آلة جامدة وماضية.

والعرض المسرحي الحي يمكن عرضه كل مرة وكأنه عرض جديد يبدأ دائما فهو "ينهض على التفاعل بين الممثلين والجمهور، فلا يتكرر تماما من يوم إلى آخر، بل يمثل في كل مرة حدثا منفردا، أما العرض السينمائي، فيمكن تكرارة تماما كما هو بصورة لا نهائية"49، فالمسرح الحي ينقل صورة حاضرة. ولو اعتبرنا السينما كمؤثر خارجي في العرض المسرحي، يمكن الاستغناء عنه مثلا، كما يدعو جروتوفسكي بالقول "إن فضاء المسرح الحقيقي هو فضاء فقير."50، وهو يشير بهذا إلى التخلي عن المؤثرات مثل الماكياج والبطن المنتفخ أو الأنوف الحمراء الكاذبة، وعلى هذا تعتبر السينما هي مؤثر خارجي، يمكن أن يستغنى عنها في العرض الحي، بالاعتماد على براعة الممثل الجسدية، التي تمثل جميع الانفعالات والعواطف الإنسانية. فيخلق الممثل تعبيرا ثابتا على الوجه باستعمال عضلاته ودوافعه الباطنية، وما القناع الذي هو نفاق والماكياج إلا خدعة لا غير51، وعليه يمكن اعتبار المسرح الذي يعتمد على المؤثرات الخارجية والسينمائية ما هو إلا مسرح غني والذي يبدو بدون قيمة عند جروتوفسكي.

"والعرض المسرحي يوظف التلقائية والعفوية والارتجال كمصادر للابداع اللحظي والتجددي الدائم، أما العرض السينمائي فيثبت على حاله بعد انتهاء المونتاج"52، وتبرز هنا أهمية العرض المسرحي وتلك العلاقة التبادلية ما بين الممثل والمتلقي "إن أنماط الحديث المباشر إلى الجمهور تزيد من وعي الجمهور بالتفاصيل ومن انتباهه لها، ويخلق لديه إحساسا بوجود علاقة خاصة  بينه وبين المتحدث"53. من خلال العرض الحي ندرك أهمية ودور الممثل، بل إن الممثل هو الركيزة الأساسية في العرض المسرحي الذي يبرز الحدث المسرحي من خلال تجسيده، فالممثل هو "المسؤول عن إنشاء الحدث المسرحي، بينما يتولى الجمهور  مهمة  تقييمه، وصحة  المعاني، والفرضيات التي يراها في ظل الثقافة ككل"54، وتقع مسؤولية كبيرة على الممثل، وسيظهر هذا الأثر على المتلقي.

"الممثل حين ينجح في أداء مهمته، يحول الجمهور من مشاهد سلبي إلى مشارك، وكأنه في قلب الأحداث المعروضة أمامه، ويدفعه إلى الاشتباك الجدلي مع العرض وجوديا ومعرفيا، وبهذا ينهار الحاجز الفاصل بين خشبة المسرح، وبين الصالة، وبين الممثل والمتفرج"55، وهذا يؤكد الدور الاجتماعي للمسرح الحي"المسرح عملية اجتماعية"56 وسنتعرف أهمية العرض من خلال الممثل الحي الذي نستطيع محاورته ولمسه أحيانا، وهذا يفصح عن الحميمية والقدرة التواصلية ما بين الممثل والمتلقي، وهذا تواصل اجتماعي راق"المسرح هو ساحة اجتماعية، وهو الذي يجعل خبرة الأداء المسرحي الحي مختلف عن مشاهدة الأفلام في السينما أو مشاهدة التليفزيون، هو ذاك الشعور بأننا  جزء من  مناسبة  اجتماعية  ما أو  من واقعة  ما تحدث الآن أمامنا"57.

ومن جهة ثانية إن الممثل الذي يقف أمامنا على خشبة المسرح، هو مكون من أحاسيس ومشاعر ورؤى فكرية وثقافية، ولهذا يتلقى رد المتلقي بشكل فوري ليترك لديه الانطباع العام عن مدى حضور الجمهور في العرض المسرحي، وهذا ما يحدث المتعة من خلال مشاهدة العرض الحي " فالعلامات الدالة على التعاطف والاستمتاع أو التذوق لدى الجمهور يعاد نقلها إلى المؤدين، ومن ثم تحدث عمليات التدعيم والتشجيع لهؤلاء المؤدين بطرائق عدة، لينمي التعزيز لديه ... فالجمهور يعبر عن تذوقه؛  فيكتسب المؤدون ثقة متزايدة، ليحسنوا أداءهم، فيزداد استمتاع الجمهور بهذا الأداء"58. إن المسافة ما بين الجمهور والممثل يفترض أن تكون قريبة جدا، وأحيانا قد تتلاشى لنعرف مدى انسجام الجمهور مع العرض المسرحي الحي، وبحضور شاشة العرض، ستكون هناك مسافات جديدة أثناء العرض السينمائي، على خشبة المسرح تتلاشى المسافات ما بين الممثل والجمهور أثناء العرض، وبالعرض السينمائي تنشأ المسافة، وهي تعبر عن البعد في حين تلاشيها يعني القرب، والقرب ولد علاقات تواشج ما بين الممثل والجمهور والأشياء الأخرى على خشبة المسرح، والبعد أبرز تباعدا ما بين الممثل وشاشة العرض، وما بين الجمهور وشاشة العرض لتتلاشى الحميمية، فالعلاقات "المكانية التي تمثل الحيز المكاني بين الممثلين والممثلين والجمهور هي بالتالي أجساد الممثلين"59

إن مايرخولد وجروتوفسكي يعليان من قيمة الممثل وجسد الممثل، فالمسرح لا يكون إلا بوجود ممثل وهناك جمهور، وبهما ومن خلالهما يتحقق المسرح.60 ويصرح جروتوفسكي وهو يعلي من أهمية الممثل "إذا كان في حوزته سحر يجذب المتفرج فإن مثل هذا السحر هو الذي يقوي فيه الإيمان بأنه هو المسرح"61 وهذا يقودنا إلى القول بأن للجسد قيمة فنية وله وظيفة خاصة ترتبط بإحساس داخلي، لكن الممثل الذي يكرس جسده من أجل المال يكون فنه أقرب إلى العهر.62 ولهذا، لا نبالغ إذا ما قلنا بأن السينما في العرض المسرحي الحي، تصل إلى مستوى ما من الابتذال، تشبيها بالجسد الذي يكرس من أجل المال.

إن مقولة تناسج الثقافات قد تؤكد حضور الكولونيالة بصورة أخرى لا تبدو دموية، بل تبدو كأنها فقدان هوية وتهميش، وخاصة في حالة العرب الذين لا يملكون رؤى تؤثر على الآخر، من هنا نقول ما مدى صحة تناسج الثقافات- التي ينافح عنها الغرب في ظل رؤية فرانسيس فوكاياما في نهاية التاريخ "إن نهاية تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولى وانتهى دون رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية"63 ومن منظور متشابه تماما يؤكد هنتنجتون "إن الغرب يطالب بسيطرة فريدة على العالم، والمبرر لذلك أنه يمثل القوة العالمية القائمة على أساسين هما: تفوق التكنولوجيا الأمريكية، وتفوق الأيديولوجية العالمية القائمة على الليبرالية وحقوق الإنسان. وتنظر الحضارات الأخرى إلى الغرب على أنه يمتلك قوة عسكرية واقتصادية خطيرة، ولكنه منهار من الناحية الاجتماعية. ويتمثل هذا الانهيار الاجتماعى فى التفكك الأسرى، وعدم التمسك بالمعتقدات الدينية، وانتشار الجريمة، والمخدرات، وارتفاع نسبة المسنين، وانتشار البطالة. أما الغرب فإنه ينظر إلى نفسه على أنه نموذج لحضارة القرن الحادى والعشرين، وتنظر إليه الحضارات الأخرى على أنه نموذج سيء يحسن تجنبه وليس محاكاته."64 لذا فإننا سنرى تناسج الثقافات بصورة أو بأخرى ضمن إطار تفكير فوكوياما وهنتجنتنون، والتي تؤكد استسلامية الآخر.

إن هناك قصورا واضحا لدى المسرحي العربي بشكل عام، يتوضح هذا القصور بالعزوف عن قراءة النص الدرامي العربي كقراءة نصية، وقراءة عرضية، وهذا لا يمنع مثلا أن يقرأ الناقد العربي النص الدرامي قبل عرضه، بشرط أن لا تكون هذه القراءة انتقائية، يعني أن نقرأ لفلان ولا نقرأ لآخر. إن مرحلة الستينيات حتى الثمانينيات، كانت مرحلة ذهبية بالنسبة للكاتب العربي، حيث كانت النصوص المسرحيّة تحظى بقراءة أولى قبل العرض، وتقرأ مرة ثانية أثناء العرض المسرحي وبعده. وهناك إشارة أخرى وهي أن قراءة النص من قبل المخرج باتت مفقودة أو ضعيفة جدا، لأن المخرج لجأ إلى– الاستسهال- بإعداد النص الذي سيعرض على خشبة المسرح، وإعداد المسرحيّة حتما هي حالة موات وانتهاء، وعلى العكس تماما فالنص الموجود هو وجودية دائمة، يمكن الرجوع إليه، لتكون هناك نظرة إخراجية جديدة اعتمادا على النص، ولكن الإعداد كان لمرة واحدة، وهو ليس وجودية نصية، ولهذا سنجد أن نصوص شكسبير مثلت مئات المرات؛ لأنها موجودة وتتمثل دائما بقراءة جديدة في إطار التجريب، فالعودة كانت دائما إلى النص، وليست بالضرورة إلى العرض المسرحي.

بكلمة أخيرة إن المسرح الاحتفالي، والاحتفالية في الوطن العربي، قد تكون الأمل الذي يجعلنا نؤمن بقدرتنا على تصور مسرح عربي مختلف تماما عن المسرح الغربي في الشكل والمضمون. وأؤكد على مقولة النص والعرض المسرحي الحي كأصل، والعرض الافتراضي والوسائطي كنسخة، بمقولة السؤال كيف من رأى النار يصطلي بها؟*

 

كاتب وباحث مسرحي أردني

Buqasem_21@yahoo.com

 

الهوامش:
1-عمر الدسوقي، المسرحيّة نشأتها وتاريخها وأوصولها، دار الفكر العربي، مصر، القاهرة، "آمن الأغريق بالآلهة وأن هناك قوى خفية وراء مظاهر الطبية التي كانت متعددة كما رآوها، وتذكر المصادر أن هم آلهة تدعى"ديونيسوسس أو باخوس وهي للنما والخصب وبشكل خاص للعنب والخمر، وكانوا يقيمون حفلين لهذه الآلة، الأول في الشتاء بعد حني محصول العنب وعصر الخمر، فتغلب عليه الفرح فينشدوا الأناشيد الدينية، ويتحلقون للرقص والغناء ومن هذا الغناء ةوالفرح والرقص نشأت الملهاة"الكوميديا". وهناك حفل آخر كان يتسم بالحزن بعد جفاف الكروم فغلب عليه سمت الحزن لتنشأ المأساة"التراجيديا"وبهذه الفترة كان تمثيلهم الجماعي يتم بالغناء تعبيرتا عن البهجة ودعوة الآلة أن تعود إليهم ، حتى جاء شحص يمثل"ديونيسوس" لتظهر الجوقة"كانت  الفرقة تشير إلى ديونيسوس وهو على مسرح مرتفع، ليكون فيما بعد الحوار بينه وبين الجوقة، ومثل آخرون، وبدا الممثلون يظهرون وسط الناس على هيئة بشر في النص اظلعلى وهيئة ماعز في النص الأسفل، ومن هنا جاءت"تراجيدي"المأساة لتدل على أنها مركبة من كلمة أغنية، وكلمة الجدي، إلى أن جاء"أسخيلوس"525-456 ق.م ليضع أول مسرحية شعرية"الضارعات"490 ق.م، مثل فيها ممثلان إلى جانب الفرقة، حتى جاء الشاعر"سوفوكليس"495-416 ق.م، ليضيف الممثل الثالث، ليقوي التمثيل على الغناء، ليكون هناك تقدم سريع في الحوار بدلا من ترانيم الجوقة، وبدا تباين أكثر بين الشخصيات، وحوادث متنوعة، لتبدأ العناية بالمسرح"
2- خالد أمين،
المنعطف الفرجوي في المسرح العربي وأسئلة ما بعد الدراما، الملتقى الفكري، المسرح العربي بين عقدين، الإمارات، الشارقة دائرة الثقافة والاعلام، ط1، 2011،
3- نديم المعلا، أزمة الكتابة المسرحيّة العربية، مجلة عالم الفكر مجلد25، ع1 الكويت، 1997،
4- عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة، الكويت، 1998،
5- عبد العزيز حمودة، المرجع نفسه،
6- عبد العزيز حمودة، المرجع نفسه،
7- عبد العزيز حمودة، المرجع نفسه،
8- علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، ط2، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1999،
9- عمر الدسوقي، مرجع سابق،
10- سعد أردش، المخرج، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1979،
11- نهاد صليحة، المسرح بين الفكر والفن، دار الشؤون العراقية، العراق بغداد، 1985،
12- نهاد صليحة، المرجع نفسه،
13- نهاد صليحة، المرجع نفسه،
14- نهاد صليحة، المرجع نفسه،
15- مشهور مصطفى، المسرح العربي والبحث عن صورة الذات، مجلة عالم الفكر مجلد 25 عدد1، الكويت، 1996،
16- خالد أمين، الفن المسرحي وأسطورة الاصل، ط1، 2002،
17- علي الراعي
، مرجع سابق،
18 - علي الراعي، المرجع نفسه،
19- علي الراعي، المرجع نفسه،
20- علي الراعي، المرجع نفسه،
 21  - علي الراعي، المرجع نفسه،
 22- صالح سعد، ازدواجية الانا والاخر، مجلة عالم الفكر مجلد 25 عدد1 الكويت 1996
 23 - نهاد صليحة
، مرجع سابق،
 24- نهاد صليحة، المرجع نفسه،
25- بنتلي الحياة في الدراما ترجمة جبرا ابراهيم جبرا المؤسسة العربي للدراسات والنشر،  لبنان، بيروت 1982،
26 - المعلا
، مرجع سابق،
27- صالح سعد
، مرجع سابق،
28- علي الراعي
، مرجع سابق،
29- علي الراعي، المرجع نفسه،
30 - علي الراعي، المرجع نفسه،
31- علي الراعي، المرجع نفسه،
32 - مارتن إيسلن، تشريح الدراما، دار الشروق ط1، الأردن، عمان 1987،
33 - أحمد زكي، اتجاهات المسرح المعاصر، الهيئة المصرية للكتاب، مصر القاهرة، 2005 
34- نديم معلا، الجسد والمسرح، مجلة عالم الفكر، مجلد 37 ابريل يونيو4 ، الكويت، 2009
35 - جوليان هلتون، نظرية العرض المسرحي، ترجمة نهاد صليحة، مكتبة المسرح مركز الشارقة للابداع الفكري.
36 - جوليان هلتون، مرجع سابق،
37  -نديم المعلا، الجسد والمسرح، مرجع سابق،
38 -حسن المنيعي، المسرح والكشف عن هويته العربية، مجلة الأقلام، ع3 1990
39- حسن المنيعي، المرجع نفسه،
40- إيسلن، مرجع سابق،
41 شاكر عبد الحميد، الخيال تأليف عالم المعرفة، عدد360، الكويت، 2009،
 42- شاكر عبد الحميد، مرجع سابق،
43 - نديم المعلا، الجسد والمسرح، مرجع سابق،
44- إيسلن، مرجع سابق،

45- حمودة
، مرجع سابق،
46 - الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الحيوان، الجزء الثالث،
الناشر: المطبعة الكاثوليكية، لبنان، بيروت، ط3، 1975،
47 - عبد الحميد ابراهيم شيحة، الاتجاه السيميوطيقي في قراءة النص المسرحي، مجلة علامات في النقد، السعودية، جدة ، 1999،
48- شيحة، المرجع نفسه،

49 – جوليان هلتون، مرجع سابق،
50 -نديم المعلا، الجسد والمسرح، مرجع سابق،
51 -جروتوفسكي، نحو مسرح فقير ، دار الشؤون الثقافية العراق، بغداد،
52-  جوليان هلتون، مرجع سابق
53 - جوليان هلتون
، المرجع نفسه،
54- جوليان هلتون
، المرجع نفسه،
55- حوليان هلتون
، المرجع نفسه،
56- جلين ويلسون، سيكولوجية فنون الأداء تأليف ترجمة شاكر عبد الحميد، عالم المعرفة العدد 258، الكويت، 2000،

57-
جلين ويلسون، المرجع نفسه،
58- جلين ويلسون
، المرجع نفسه،
59- نديم المعلا، الجسد والمسرح، مرجع سابق،
60 - نديم المعلا
، المرجع نفسه،
61- جروتوفسكي، نحو مسرح فقير ، دار الشؤون الثقافية العراق، بغداد
62- جروتوفسكي
، المرجع نفسه،
63- 
فرانسيس فوكوياما , نهاية التاريخ، ترجمة حسين الشيخ، دار العلوم العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان ،1993
64- صمويل هانتيجتون، صدام الحضارات، ترجمة طلعت الشايب، ط2 القاهرة، 1999
* يقال أن فتاة ذات حسن وذكاء، تهافت عليها الخاطبون، وكان شرط والدها لمن يريد الاقتران بها أن يغيب مدة شهر من دون نار على أن يكون هذا الوقت في فصل الشتاء، تقدم شاب وله، ومندفع بحماس الثقة بالنفس، وبدا راغبا بالفتاة وراغبا بالتحدي، وكان فقيرا، وقبل الشرط بعدما فشل الكثير غيره، انطلق الشاب بعدما حدد له المكان الذي سيمكث فيه، ووضع الأب العسس؛ ليراقبه، وذات يوم في الأيام الأخيرة من المدة المقررة، وقد نجح الشاب بالتحدي، يقوم أحد العسس بإشعال نار في مكان بعيد، وتبدو من البعيد بصيص ضوء، وعندما عاد الشاب بعد انتهاء المدة، يطلب يد الفتاة، طلب إليه والدها أن يصدقه بتحديه، فأخبرة بأنه رأى نارا من بعيد، عندئذ رفض الأب طلب الشاب، وكانت الفتاة تسمع ما يدور من حديث، في اليوم التالي جاء ضيف إلى والد الفتاة، فطلب إليها أن تعد الطعام للضيف، قامت الفتاة بتعليق قدر كبيرة في سقف حجرة، ووضعت النار على الأرض بعيدة عن قدر الطعام، وكلما استعجلها والدها بالطهي، أجابت بأن الطعام لم ينضج، ولما تذمر من تأخير ابنته، دخل عليها إلى المكان الذي تعد فيه الطعام، وقف مندهشا عندما رأى القدر البعيدة عن النار، فقال: كيف ينضج الطعام وهذه القدر بعيدة عن النار ولا تصل إليها؟ عندئذ قالت الفتاة: وكيف من رأى النار يصطلي بها؟

***