ينسج الروائي المصري عالمه مستلهماً التاريخ المصري في حقبة المماليك ليخلق لنا قرية يوتيبية، تابع بناءها بعد أن دفنها طمى الفيضان من خلال تفاصيل حياة عائلة وأجيالها التي قاومت الطبيعة والأوبئة والظلم فعادت ملجأ للهاربين من الجور، ثم لتقود مقاومة المحتل الفرنسي بصورة تشير إلى الحاضر.

أول النهار (رواية)

سعد القرش

إلى أمي
عليها سلام الله
وإلى ملك .. ابنتي الصغيرة
لولا عنادك لكانت هذه الرواية أفضل
سعد

 

مقطع من سيرة بلاد تخرج إلى النهار

 

عمران

(1)
في يوم خريفي من شهر توت، وقف الحاج عمران يتأمل النهر الثائر، محتميًا بصخرة.
استعاد نبوءةً عمرُها خمسون عامًا، لاعنًا أشباحًا، وقاذفًا السماء بحجر، غير منتبه إلى تحيات المارة في المدينة الصغيرة. أحدهم لم يعرفه من أول وهلة، وظنّ به مسًّا من جنون، وهو يردد "كُفْر.. والله العظيم كُفْر.. آمنت بالله". تأمل الرجل شعرًا أبيض تسلل بجرأة، بعد يوم واحد، إلى فوديْ الحاج، بما لا تستطيع إخفاءه طاقية منحته، هو العايق عاشق النساء، كثيرًا من الوقار، ولسان الحال يسأل: هل هذا ابن عزّ في الخمسين؟

بدأ الشتاء بطاعونٍ أرعبه، لحلول خمسين عامًا، على موعد نبوءة ملعونة، ولكن الوباء كان رحيمًا بالعائلة، واختار ضحايا آخرين، ولم يَطْمئِن الحاج عمران إلا "يوم النقطة"، بعد أن أرسل الله، في يوم حار من شهر بؤونة، رئيس الملائكة ميخائيل، لإسقاط نقطة ماء في النيل، خميرة للفيضان، واكتفاء بمن انتقاهم الطاعون من أضحيات.

أوفى عمران بنذر، أوجبه على نفسه، بإطعام فقراء القرية، إذا نجا ابنه مبروك من مصيدة وعيد العرافة.

وامتدت الأسمطة بطول سور الدار، وفي الوسعاية، احتفالا بالنجاة.. نجاة العائلة من نبوءة غجرية. وأشرف الحاج وابنه مبروك، على الأكل والآكلين. وكان هوجاسيان العبد يدعو الجميع إلى الطعام، يستدعي البعض من دورهم ، وينتظر آخرين على السّكة، ويربط بهائمهم إلى الأوتاد، إلى أن يفرغ أصحابها العائدون من الغيطان، من عشاء لا يجدون مثله في دورهم. تجمعوا في حلقات، كل منها تضم المعارف من أصحاب الصنائع، من البنائين، والفتّالين، والصابونجية، والقهوجية، وأرباب العكاكيز المتصوفين، والعميان قارئي القرآن.

انشغلوا بما أمامهم من خيرات الله، عن سؤال قافز إلى الشفاه، عن سبب العزومة. كانوا مشغولين بازدراد مزيد من شرائح لحم الغنم، وقطع من بط وفراخ، لا يقربونها إلا في عيد الأضحى، ويدسّون بعضها في سيّالات الجلابيب للزوجات، أما عيالهم فمحشورون بين المعازيم، يأكلون بنَهَم، ويسرقون ما استطاعوا لأمهاتهم، في مساهاة حليمة، المشغولة بتوزيع كيزان الماء البارد على الموائد، وإحصاء طواجن اللحم، وحلل الـخُبّيزة والبسلة، وصواني البطاطس على الكوانين، ثم تنتقل إلى الفرن، في آخر الدوار، لتشرف على شطارة البنات، في إعداد الأرز المعَمَّر، وتتوعد صبيانًا رأتهم يخفون آنية في أكوام الدِّريس، ليسرقوها بعد العشاء.

السرقة يا عيال شُغْل البطالين، كل واحد له دِقِّيّة بطاطس وربع فرخة، وعملت لكم هريسة، حلَوَان السلامة!

حليمة عذراء ترمّلت على عمران، وهي دون العاشرة.

 

(2)
قبل خمسين عامًا، ولد عمران، وحليمة تكاد تتخطى باب الصبا، وتحرص على حمله، وتتفاءل به في المشاوير، تتعهده وتلعب به، في حواري أوزير، من دون أن تعرف أنها ابنة خادم في الدار، وأن عمران سيدها القادم، وهي المكلفة بمهمة إنقاذه قبل أن يتم عامه الأول
.

انجذبت حليمة في لهوها بعمران، إلى قافلة لغجر راحلين إلى سَمَنُّود. حلّ الليل فبكت، والصغير لاهٍ عنها، بالاستجابة لمداعبة بنات الغجر، وفي الصبح جاء خبر موت أهل الدار جميعا، بمن فيهم أبوها الخادم. قالت لها غجرية، وهي تقرأ طالع الولد:

ـ أنت أهله يا حليمة.

لم تفهم البنت، ولم تَردّ، كما لم تستوعب خبر هلاك العائلة. هزّت العرافة رأسها:

ـ لولاك لهلكتما مع أهل الدار، حافظي عليه.

وضعته المرأة في حجرها، ومنحته صدرها فاستجاب للرضاعة، وظلت تهزّه برفق، وتداعبه بكلمات لم تفهمها البنت، إلى أن أغمض عينيه في سلام. وقالت لحليمة، كأنها تكلم نفسها، إن هذا الولد من عائلة مشؤومة، تحل بها كارثة كل خمسين عامًا. أحست حليمة في تلك الليلة أنها كبرت، وصارت أمًّا لعمران. وبعد أن شبّ، حكت له عن مصادفة التيه مع الغجر، ولكن فتوّة الشباب دفعته للاستهانة بكلام الغجرية، وإن ظل التذكّر في أعماقه، جرحًا عميقًا، يتجدد كلما حصد الطاعون أرواحًا. وكانت نجاة أفراد عائلته، تدفعه عامًا بعد الآخر، إلى الخوف من تحقق ما وصفه يومًا بأنه تخاريف، كلما اقترب الموعد.

 

(3)
منذ صغره، وهو يرى حليمة، ابنة الخادم الهالك مع العائلة، أمّه وأهله. أحيانًا يسأل نفسه "كيف تصالحتْ مع الزمن الذي وَهَبها قسمات لا تتغير، ولا يضيف إليها عمرًا جديدًا؟". ويضحك معها مؤكدًا أنها ولدت في سن الخمسين، ولن تتجاوزها، كما لم تكن يومًا صبية، بل جاءت إلى الدنيا، كما هي الآن محملة بخبرة الخمسين وملامحها. وتضحك حليمة:

 ـ والنبي تسكت يا عمران.

هي الوحيدة التي لها الحق في أن تناديه باسمه مجردًا أمام أهل الدار. ولا أحد يجرؤ على نطق اسمه، إلا مسبوقًا بلقب الحاج، أو "سِي الحاج"، حتى زوجاته اللاتي يغرن ممن تعتبر نفسها سيدة الدار، وتُعامل سيد البيت بقسوة أمومية.

لحليمة وحدها حق السؤال والاعتراض، بل تعتبر نفسها مسؤولة عن الحاج شخصيًّا، وعن شؤون ولده مبروك وأختيه غير الشقيقتين، وعن الداخل والخارج، وعن العبد هوجاسيان وابنته هند.

 

(4)
في زمان فتوّته، كان عمران دائم الغضب، لأن زوجته الأولى أنجبت بنتين، وتزوج الثانية، فمنحته الولد، وفشلت الحِيَل في أن تؤاخي مبروك. وآمن عمران، على مضض، بأن الله يهب لمن يشاء ذكورًا، ويجعل من يشاء عقيمًا. ورضي بالنصيب، واستراحت الزوجتان وقلّ اهتمامهما بمزاجه، فأضاف إليهما جارية شقراء، لا يجيد نطق اسمها الصحيح، ولا يريد منها ذرية.

شاهدها الحاج في إحدى وكائل الرقيق في طندتا، في نهاية زيارة للسيد البدوي. هاوده التاجر في ثمنها، ردًّا لديْن قديم في رقبته للحاج، معززًا الهدية بأنها أعجمية، ليس لها أخت في بر مصر، وقال إنه تم اقتناصها من بلد بعيد، بين بلاد الفرنسيس وبلاد الموسكو. وكانت بين نساء الحاج الأكثر قربًا إلى قلب حليمة.

وكلما رأته حليمة مفتونًا، أسرت إليه بما لا يعرفه أحد سواها، إذ قالت لها الغجرية إن هذا الولد، وأشارت إلى عمران، سيكبر وحيدًا، ولن يعيش له ولدان معًا. وتذكّر عمران أن العائلة رغم ثرائها، محرومة من وفْرة الظل، وعزوة العيال، كشجرة تشق السماء بخفة عصفور، ولا يثقل أغصانها إلا ولد واحد.

لم يحاول عمران الاستفسار عن هواجس أخرى تطارده، وتضيف إليه عبئًا آخر، بتفسير الكلام عن الولد الواحد .. هل يكون مبروك ابنه، أو يهلك مبروك مع إحدى أختيه، وتبقى بنت واحدة. وطمأن نفسه بأن الولد باقٍ، مع أي عدد من البنات.

كان ما يجمعه بحليمة أكبر من نبوءة ظلت سرًّا، كأنه موعد مع موت قريب. ولم تفهم الزوجتان سر جرأة حليمة عليه، واستئسادها في الدار، مثل زوجة أولى. ولم تجرؤ إحداهما على سؤاله، أو إغضابها.

قال لها مداعبًا:

 ـ لو كنت أم ابني يا حليمة؟

كانت مهمومة به، وخائفة على مبروك، وردّت من دون أن تلتفت:

 ـ تقوم القيامة لما الواحدة تخلّف من ابنها.. تخلّف حفيدها مرة واحدة..ربنا يا رجل قال في القرآن...

اندهشت الزوجتان من قهقهاته التي قطعت كلام حليمة، وأكلتهما الغيرة، من ضحكة صافية من القلب، لا تحظى بها غرفة إحداهما ولاسريرها. لم يبال بهما وقال:

ـ يخرب بيت شيطانك يا حليمة، فاكرة إن القرآن قال أي شيء عنك!

أحس بخبرته مع الزوجات، بأن هناك من ينصت، وصعد إلى حظيرة الدجاج، وفاجأ المرأتين بدفع الباب بقدمه، مزهوًا وغاضبًا، تحتفظ شفتاه ببقية ضحكة، وجبينه بتقطيبة قرف. تبادلوا النظرات، وخرجت حليمة إلى الشارع، لا تعي شيئًا. وقال عمران:

 ـ سبحان من جمع عدوّتين في عشّة الديوك والفراخ!

انتظرت كلتاهما أن تبادر الأخرى إلى الرد، وأنقذهما:

 ـ حليمة أمي يا بقر!

بعد تلك الواقعة، عاملتها الزوجتان باحترام كأنها حماة، مدفوعتين بإحساس بذنب. وظنّت حليمة في البداية أنهما علمتا بالنبوءة، وكادت تُطمْئنهما، لولا أن الحاج حذرها، بعد استفتائه إمام الجامع. ولكنه ظل قلقًا، كلما لاحظ الأسى في عينيها، وهي تراقب مبروك، وتمسح دموعًا تفضح ضعفها، أمام حفيدٍ لم تنجب أباه.

في الأشهر الأخيرة، عاشت تحت وطأة الشعور باقتراب الأوان.. أوان كارثة، وإن تظاهرت بغير ذلك. حتى وهما معًا كانا يفتعلان كلامًا عن أي شيء، ويتفاديان سيرة الغجر، أو الطاعون الذي انتهى موسمه، في بؤونة، بهبوط رئيس الملائكة.

والملاك الذي يواصل إعفاءهم من البلاء، رَشّ على آخرين موتًا موسميًّا بدأ بافتراس الجلود، وزرع الدمامل والقيح، وخراريج تحت الآباط، وأسفل البطون، وانتهى بطلوع الأرواح.

هذا الملاك نفسه أسقط في النهر نقطة كبرى، اختمرت وفاض الماء، وأغرق البلد.

(5)
انصرف الآكلون متكاسلين، ناسين عمرًا من البهدلة، وحياة لم يشبعوا فيها مرة واحدة من اللحم. وجهز محسوب القهوجي للحاج ولحليمة قهوة خاصة، وذهب بها إليهما تحت تعريشة العنب، ثم حمل ما استطاع من طعام وسُكّر، وأمرًا بأن تكون طلبات الناس من القهوة والدخان الخالي من الحشيش، على حساب الحاج. وامتنانًا من الرجال، أرسلوا زوجاتهم للمساعدة في رفع المواعين، وإراحة سيدات الدار، بعد تعب يوم لم تغفُ فيه عيونهن، منذ أذان الفجر.

ولكن لسان حليمة لم يتعب، كانت ترشف القهوة، مستندة إلى حشية من الصوف والكتان، وتفرد ساقيها في استرخاء. وأشارت إلى المتأهبين للانصراف، قائلة لعمران إن آباء هؤلاء المساكين لو علموا بهذه الليلة ، التي تمتع فيها أبناؤهم بخيرات الله، ما ماتوا في أول مجاعة شهدتها. كانت في نحو الخامسة أو السادسة، قبل أن يولد عمران بثلاث سنين، إذ عاد الحجاج من الحجاز، في الأيام الأولى من شهر توت، وقد انكسر الحر بنسمات الخريف، وغرق الزرع، وخلت الخزائن من الغلال، ولزم الناس دورهم، فلا يقوون على الشغل، ولا عندهم مال يشترون به القمح الذي نهب من الأسواق، ومن مخازن المتولي.

وهي تحكي مدّت شفتيها في أسى، ثم كادت تضحك لولا أن تذكّرت الميتين، وقالت إن المتولي تعرض للضرب، وهرب مذعورًا، ولم يمهلوه ليرتدي لباسه.

قهقه الحاج من منظر المتولي العريان، وكانت مسترسلة في الحكاية، عن جوع لم تعرف مثله، طال البهائم، حتى أكلها الناس جيفة، ليؤجلوا موتًا حصد الخلق بلا رحمة. ولم يجد كثيرون ثمن الأكفان، فدفنوا الموتى في هدومهم المتّسخة، وكانت صلاة الجنازة تقام في المقابر، جماعةً على الموتى.

سألها الحاج عن المتولي الجديد، بعد انتهاء المجاعة، وقالت إن الباشا لم يرسل أحدًا، وبعد شهور حضر الملتزم يعقوب اليهودي، وطلب تحصيل ما لا طاقة لأحد به. قالوا له إن البلاء منعهم من إكرام وفادته، كما تعودوا مع غيره، حتى إن المتولي فرّ وخزائنه خاوية. وأعرض اليهودي عنهم وتوعد، فتجرأ أحدهم وقتله بضربة نبوت واحدة، وتطوع اثنان بدفنه في قبر مجهول، خارج القرية، بعد حلول الظلام.

 

(6)
قذف عمران السماء بحجارة أخرى، وشق هدومه ناظرًا إلى أعلى، وتساءل في غضب عن حكمة السماء في إهلاك عائلته. وهبطت على كتفه يدٌ، فهدأ.

 قالت حليمة بإيجاز وحزم:

ـ يالّلا .

وبعد صمت، رفعت كفيها إلى السماء، وذكّرته:

 ـ أنت حاج، موحِّد الله.

هدأ واستدار، وحاولت أن تزيد هدوءه، فاهتاج:

 ـ لا البحر يرجّع الغريق، ولا عزرائيل يرجّع بني آدم.

نظر إلى السماء في غيظ:

 ـ ما بقي لي إلا مبروك.

ونظر إلى حليمة بقسوة:

ـ عارفة مكان الغجرية؟، فاكرة دارها؟

ـ دار؟.. بِتْنا، أنا وأنت في خيمة لهم عند سوق الأربعاء.

ـ افتكري اسمها، أهلي ماتوا يا حليمة.

صمتت معزية ولائمة، وهو منذ طفولته يخشى صمتها الحكيم:

ـ وأنا يا عمران؟!

فكر في حكمة ملاك أنجاهم، قبل شهور، من الطاعون، ثم بنقطة واحدة أسقطها في النيل أهلكهم، متفاديًا خمسة ضلوا عن طريقه: حليمة وعمران وابنه مبروك والعبد هوجاسيان وابنته هند.

كان الخمسة قد غادروا أوزير فجرًا، فرحين بقرب زواج الابنة الكبرى للحاج، واقترحت حليمة أن الذهاب إلى سَمَنّود مفيد، للاتفاق على شوار العروس، مع النحاسين والنجارين، ومتعهد غوازي سنباط الذي يأتي إلى المدينة كل أربعاء، لتحديد مواعيد أفراح الأسبوع، في مكان لا يتغير، بقهوة قريبة من مدخل السوق.

في الصباح، لاحظت حليمة بدء انحسار المياه، وقالت إن فيضان النيل بقي له يومان أو ثلاثة، وقدرت أن يوم السبت مناسب، للتعطير للبنت، على أن تحمل المراكب الشوار، من سَمَنّود إلى أوزير.

استعدوا للرجوع. وفي حين كانوا يلتهمون كيزان ذرة مشوية غير ناضجة، يكافئون بها أنفسهم، بعد إنهاك يوم بطوله، سمعوا من يهلّلون ويكبرون، ويستغفرون الله، راجين النجاة والمغفرة. وسرت همسات عن بلاد دفنها موج طيني، بلغ ارتفاعه طول نخلة.

انقبض الحاج، وبقفزة واحدة كان فوق حصان، وطلب منهم امتطاء الجمل والبغلين، استعدادًا للرجوع إلى القرية. وانشغلت الدواب بقوالح الذرة المحتفظة بدفء نار الشّيّ، وتحركت أقدام الراكبين إلى بطونها، تنخسها وتستحثها على السرعة.

وفي أقصى المدينة، قابلهم من لا يعرفهم، ودعاهم إلى الهروب، من وجه الفيضان، مؤكدًا أن قرى بأكملها غرقت تمامًا، آخرها أوزير.

وقع عليهم الخبر، فعجزوا عن الكلام.. عن سؤال رجل اعترض طريقهم فجأة، واختفى في لمح البصر، واستدارت الدواب الأربع وراء دابة النذير، من غير أن يدعوها أحد إلى الإسراع أو الإبطاء أو تحديد الوِجهة، ثم أفاقوا في المدينة على من ينادي في الناس، طالبًا الفرار، من وجه البحر الثائر، إلى المحلّة الكبرى، حيث الأرض أعلى.

 

(7)
من المحلّة الكبرى، تابعوا بقية الأخبار الحزينة، ووجدت حليمة فرصة لعزاء عمران، قائلة إنه محظوظ بنجاته هو وابنه، وإن الله يحبها لوجود ابن لها وحفيد، وطلبت الترحم على الموتى، والاستعاذة بالله من موتٍ أنضج مبروك قبل الأوان. أما هند فانزوت، تفكر في العروس، وليلة الحنّة، وصبايا كانت تستعد لأن تحكي لهن، عما شاهدت في رحلتها الأخيرة إلى المدينة، وعن مداعبة متعهد الغوازي لضفيرتها السارحة من تحت منديل الرأس، وإعجابه بعينيها الخضراوين، وعن عدم معرفتها بلون عينيها
.

ربط هوجاسيان الدواب إلى مزاود، في حوش منزل صغير استأجره الحاج، انتظارًا للعودة إلى أوزير، بعد زيارة السيد البدوي.

كانت النهارات تمضي ببطء، وتنشغل حليمة في إعداد الطعام، بمساعدة هوجاسيان، بعد عودته من سرحاته في الغيطان، باحثًا عن الرِّجْلة والسَّلْق والجلاوين واللِّفْت، أما هند فتذهب إلى ترعة كبيرة اكتشفتها وحدها على حدود العمران. وكان الأب يخلو كثيرًا إلى ابنه، في حوار هامس، يعلو فيه صوته أحيانًا، على مصطبة أمام المنزل. وحين ضاق صدره، بسبب عدم استيعاب الولد، صرخ في هوجاسيان:

 ـ هوجة.. أنت يا هوجة.

ـ نعم يا سيدي.

ـ جهّزت القهوة؟

نظر هوجاسيان إلى مبروك، يريد أن يقول إن الحاج لم يأمر بقهوة، ولكن الصوت الغاضب زلزله:

ـ اعمل لك همّة، وبطّل حنجلة.

هل بدأ الحاج ينسى؟. كاد السؤال يطرح نفسه بين الثلاثة، لولا خشية المبادرة.

في الأمسيات، كان الحاج يصفو، رائق الوجه من أي غضب. وعلى نور سرجة واحدة، معلقة في السقف، يقضون أول الليل، وتداعبه حليمة:

ـ اقرأ الفاتحة على روح محسوب القهوجي.

ـ الفاتحة لأمواتنا جميعًا.

انتهى من القراءة، ومسح بكفيْه وببعض الأدعية وجهه. ودعته إلى قراءة الفاتحة مرة أخرى للقهوجي وحده:

ـ له دين في ذمّتك، من ليلة العزومة.

ـ دين؟. حسابه وصله مقدمًا. اسألي مبروك.

ـ أعطيته يا رجل حَقّ القهوة والدخان، والناس عمّروا الجوزة بالحشيش.

أحست بالراحة والإنجاز، وضحك الحاج:

ـ والله رجل خلبوص، كنت فاكره وشّ كسوف، لمّا أنكر ليلتها منّي الحشيش، وجاد به على المقاطيع.

نظر إلى هوجاسيان:

ـ عندك فكرة يا هوجة؟

ـ آ... يا سيدي.

ـ أعطاك نصيبك؟

ـ نَفَسين والله يا سيدي!

تصنع عمران الجدية، وقال لهوجاسيان إنه مدين بهذين النَّفَسين لرجل ميت، ولن يسامحه المتوفى إلا إذا ردّ الدين، نَفَسًا بنَفَس، ولو كان مسلمًا، لكَفَته قراءة الفاتحة على روح محسوب، كفارة له.

خاف هوجاسيان، وسأل عن كيفية ردّ الدين، فأجابه:

ـ رجّع النَّفَسين.

نهض هوجاسيان خارجًا، وكانت هند ساهمة، تنظر وكأنها لا ترى.

ثم رجع، وأعد الجوزة للحاج، وعمرها بالحشيش، وانشغلت حليمة في حديث جانبي مع هند. صفا وجه الحاج، وهو مستمتع بأنفاس هادئة، يتخللها ثناء على العبد الوفي. ونادى ابنه مبروك وحليمة وهند، واتخذ موقع الخطيب:

ـ من حكمته، سبحانه، أن جاء بهوجة من بلاد الأعاجم.

علق هوجاسيان موضحًا أن بلده ليس اسمها "الأعاجم"، وقال كلامًا غير مفهوم، بعضه بالعربية، ومعظمه بلغة قومه.

واصل عمران كأنه لا يسمع:

ـ لأن له ولابنته لقمة عيش في أوزير، بلدنا.

وقهقه:

ـ لقمة عيش ونَفَسين من حشيش، لا يجده في بلاده.

قال هوجاسيان إن أجود أنواع الحشيش موجود في بلده، ومن يذقه هناك، لا يقربه هنا، إلا مضطرًا، أو مجاملا. وقال عمران:

ـ وعلى يديه كتب لنا تدخين نَفَسين هنا، في المحلّة.. آمنت بالله!

هوجاسيان، الذي لازم الحاج في ترحاله من سَمَنّود، إلى المنصورة، إلى طندتا في موسم التجارة أو مولد السيد البدوي، إلى مصر المحروسة، لم يجد ما يقول. وهمس الحاج، وهو ينظر إلى التهاب جمرات الجوزة، بفعل عمق أنفاسه:

ـ بحقّ نار كلمها ربها، أنت حرّ لوجه الكريم.

ثم تمدد على المصطبة، وجاءت حليمة بمسند، ورفعت رأسه قليلا، وأراحته، ليغرق في النوم.

 

(8)
قبل الشروق، كانوا لايزالون نيامًا، وانشغلت حليمة، وهي تصلي الصبح، بقلق هند التي لم تنم طوال الليل. واستدعتها إلى حيث تجلس على سجادة الصلاة، وتناولت رأسها بيديها وقبلتها، ثم أمالت رأسها فوق فخذها، ونزعت المنديل، وبدأت تفلّيها.

شعرت هند بالسكينة، وقالت إن رأسها خال من القمل، ودعكت ربْلتيها أكثر من مرة، كأن بهما تقلصات، تدعوها لفركهما، وسرحت يدها إلى ما بين فخذيها، وأحست بَلَلا، ولم تخجل مما ظنته تبولاً لا إراديًّا، بل اندهشت وسألت نفسها: كيف حدث وهي يقظى؟. وبحركة خاطفة بدت عفوية، مرت سبابة حليمة على إحدى حلمتى الصبية، فلاحظت أنها منتصبة.

عادت حليمة للعبث في شعر البنت، وبحركة مماثلة، رأت تصلب الأخرى. وفرحت في نفسها، وخافت من مجهول. ثم احتضنتها بقوة وحنوّ:

ـ كبرت يا هند!

وأحس عمران بالبرد، وهو نائم على المصطبة، ونادي بصوت يخلو من المودة:

ـ غطا يا عبد يا كسلان.

خرجت حليمة بغطاء ثقيل من الصوف، ودعته أولاً إلى النوم في الداخل، وقال إن جسده مهدود، لا يقوى على النهوض، فألقت إليه بالغطاء، وعاتبته:

ـ ما عاد عندنا عبيد.

ـ هوجة يا ولية.. هوجة.

ـ أنت أعتقته باليل.

قال بلهجة الواعظ الواثق الساخر:

ـ ليس على المسطول حرج.

ردت باللهجة نفسها:

ـ لم نسمع بهذا في القرآن.

 سألها بحسم:

ـ يشتري منّي حريته بنَفَس حشيش.. آمنت بالله!

ـ نَفَس واحد يا ابن والدي ؟

ـ ولو.

ـ هوجة ما طلب حريته، أنت أعتقته.

ـ وبنته تحررت معه؟

 تذكرت حليمة حال هند، وقالت بلهفة، وهي تستدير عائدة إليها:

ـ هند مسكينة، ربنا يستر.

أسرّت إليها بأنها أصبحت عروسًا، وعليها أن تتصرف كصبية نضجت، وأن تتخلى عن صويحباتها الصغيرات، وتصحب سيدات يعلمنها فنون الحياة. وتذكّرت حليمة أن أوزير لم يعد بها صويحبات لهند، ولا صاحبات لها، ولا أحد. كلهم هلكوا. توقفت عن الكلام، وأخفت دمعة، واستفسرت هند عن سبب هذا الحزن، وصمتت حليمة، فسألتها:

ـ وهل أموت أنا الأخرى؟

ـ أنت تصبحين عروسًا.

أفهمتها أن زائرًا سيأتيها كل شهر، أثناء صحوها، أو نومها، كأنه حلم، يصيبها بتعب خفيف، ويترك أثرًا يستمر أيامًا، وبعد نهايته عليها أن تتطهر منه. ولم تستوعب البنت شيئًا، فمنذ دخلت البلد مع أبيها، وهي تمضي كأنها ولد. ولولا عيناها الخضراوان، وضفيرة تكتسب لونًا بنّيًّا فاتحًا في الشمس، لظنّها الناس طفلاً. وكان هوجاسيان منصرفًا عنها، ملازمًا الحاج في كل مكان، كما كانت الزوجتان مشغولتين عنها، في حياد واضح، لا عناية ولا عداء. أما الجارية الأعجمية للحاج فهي الأكثر تعاطفًا معها، ولكنها لم تستطع أن تهتم بها، كما كانت تود، خوفًا من وصول الحاج في أية لحظة، وهو يريدها جاهزة دائمًا، بعد زهده في زوجتين يفتقدان مواهبها السريرية.

وذات مرة، شاهدتها هند عارية، تتأهب للاستحمام في حجرتها، أمامها قدر تتصاعد منه أبخرة، وكوز نحاسي يستقر على كرسي من الخشب. ضحكت هند، ورسمت لنفسها ثديين وهميين، بحجم ما رأت للجارية التي ضحكت، وقالت لها هند:

ـ شعرك حلو، أصفر وطويل.

ضحكت الجارية، وقالت كأنها تكلّم نفسها:

ـ هند الحلوة لها شعر جميل.

وعدت بأن تحممها، وتمشط لها شعرها، بعد انتهائها من الاستحمام. ولكن رجوع الحاج حرم الجارية متعة أن تصبح أمًّا بديلة، لصبية مثلها، غريبة في الدار. ولم تشعر البنت بافتقاد أي شيء، ولا خطر ببالها أن تفكر في تمشيط شعرها بنفسها، وكان ذلك يحدث مصادفة، على فترات، كلما تذكرت حليمة.

ناولتها حليمة قطعة قماش بيضاء نظيفة، وأرشدتها إلى كيفية وضعها، بعد أن تستحم. وفي حجرة صغيرة، ظلت دائمًا مخزنًا لكراكيب مهملة، أوسعت حليمة مكانًا لطشت غسيل، وجهزت الماء الدافيء والصابون، وأشارت إليها بالدخول. وخلعت هند ملابسها، ولم يرشدها أحد إلى أن تأخذ معها مئزرًا لتجفيف جسدها، ولا ملابس نظيفة، لارتدائها بعد الاستحمام. ثم خرجت من باب الحجرة، إلى وسط المنزل، غير مبالية بمبروك الذي سبقه صوته، من الحجرة إلى الباحة.

كانت عارية، تبحث في صندوق خشبي، عن ملابس ترتديها. وابتسم مبروك وصاح:

ـ هند !

لم تنزعج، أو تخجل، أو تضع كفها على حرّها، ولا هو نظر إليها. بل ردّت بعفوية، كأنه يناديها في الغيط، أو يريد منها إنجاز عمل ما:

ـ نعم يا مبروك .

اعتادت أن تناديه باسمه مجردًا، ولا تدرك أن أباها عبد، ويناديه "سيدي مبروك"، ويجعل مقامه من مقام سيّده عمران، ولا تعي كيف تتصرف إذا اقتحم عليها الدار رجل، وهي عارية. ولم ينتبه مبروك إلى أنها كبرت. كل ما فعله أنه أشار إلى خيوط ماء تنساب من شعرٍ بدا أطول مما تصور، وأجمل.

ومد أصابعه يتحسس حبيبات ماء على كتفيها:

ـ قبل الطلوع من الحمام ننشّف جسمنا يا عبيطة.

ترك هند في لخمتها، وخرج مناديًا حليمة، وكانت على عتبة المنزل، ولمحت هند عارية، تبحث في حيرة عن شيء ما. وسألت مبروك:

ـ شفت هند يا ولد؟

ـ آ.. شفتها، مالها؟

ـ مالها!. هند كبرت.

ضاق صدره بما اعتبره لغوًا، وحثّها على سرعة الانتهاء من إعداد الإفطار. وصحا الحاج عمران، مع مداعبة أول شعاع لعينيه على المصطبة. كان مغتمًّا، لأنه وهب العبد حريته، في لحظة سُكْر، وهو يعرف أن مثل هذا الوعد لا يمكن التراجع عنه. ومن دون أن يطلبه الحاج، أتى هوجاسيان منكسرًا، سائلاً الحاج إن كان يريد شيئًا. اطمأن الرجل إليه، ولم يخذله هوجاسيان أبدًا، وظل طوال حياته يتصرف كعبد، ويضحك لأنه أصبح حرًّا بالمصادفة، وبلا مقابل، ولو كان يعرف الثمن، لأخفى في جيوبه قطعًا من حشيش بلا ثمن، منذ اقتنصوه من بلاده المنذورة للكيف والعبودية.

 

(9)

في الضحى، قال الحاج إنهم سيغادرون غدًا، ليبدأ المشوار الطويل لزيارة السيد البدوي في طندتا. وترك أحد الأكياس لحليمة، لشراء دقيق الخبيز، والأرز والجبن والزيت والعسل والفول والعدس والدّشيش. والتقط كيسًا، وتبعه هوجاسيان إلى سوق الأربعاء في سَمَنّود، لشراء بقرة وجدْي، فداء لأرواح الناجين من الفيضان.

جاءت زوجة صاحب المنزل، وأخبرها مبروك أنهم سيغادرون غدًا الخميس، وأن بقية الأجرة مع حليمة، وأشار إلى الفرن حيث تشرف على نسوة، جذبتهن إليها، في أيام قلائل، صُحبتها الحلوة، وجئن لمساعدتها في الخبيز.

فكر مبروك، ابن العشرين، في سر تورّد خدودهن، بالذات من تجلس أمام عين الفرن، تستقبل من زميلاتها العجين مفرودًا على المطارح الخشبية، ثم تعيده إليهن منتفخًا ساخنًا، في لون الخدود. وتابع الأيدي المدربة وهي تقرص العجين، وتقطعه كتلاً صغيرة في راحة اليد.

وكوّر يديه على فراغ، وتمنى لو يملأهما ثديا إحداهن. وسمع حليمة تطلب إلى هند إحضار الفول في زلعة، لتجهيز المدمّس، بدسّه في الرماد الساخن، أسفل مقدمة عرصة الفرن، ليستوي على مهل.

اضطرب مبروك وتلاحقت أنفاسه كلما اقتربت هند من عتبة المنزل. وكانت مثلهن، قد اكتسبت خدين بكّت فيهما الدماء، وترتدي جلبابًا على اللحم. رأى من تحته نهدين صغيرين، في حجم ليمونتين، تبرز منهما حلمتان، كحبتي بسلة. سبقها إلى الداخل، ثم قابلها في مصادفة مفتعلة ومحكمة. وقف في مواجهتها، واضعًا يديه على كتفيها:

ـ من أول نوبة خبيز، غرّقك الفرن في عرقك!

ضحكت، مكسوفة من أنها ليست كبيرة بالقدر الكافي، لتتأهل للجلوس أمام الفرن، مثل بقية النساء:

ـ عرَقي مَرَقي، وبقيت في ربع هدومي وسط النسوان.

هبطت يداه قليلاً، وتناول ثدييها بضغطة خفيفة، وسألها بإيحاء لم تلتقط مغزاه:

ـ وعرفتِ تقريص العجين؟

أجابت، وهي تشكو ألمًا، من أثر ضغطة عصبية، كادت تكور ثدييها، في دائرة كقرص العجين:

ـ حاولت، وطلعت واحدة أكبر من واحدة، وشبعت من تقليس وتريقة الحيزبونات.

بلغ حلمتيها، ولمسهما برفق، بإصبعيه الإبهام والوسطى. كانتا في نعومة حبتي بسلّة مغسولتين بندى الفجر، صلبتين وليّنتين، والبنت لا تلين، بل تنظر إليه بقلق الخائفة من استعجال حليمة. قلق يخلو من شبهة الشعور بالعيب أو الخجل. لم ترشدها أمّ إلى عيب أو خجل، وظلت تلزم أباها في الغيط، كأنها طفل. ولم تفرغ لها إحدى ابنتي الحاج، لإرشادها إلى أمور البنات، ولولا انتباه حليمة لقلقها، لأفشت سرّ الزائر الشهري لأي أحد، أو صرخت بين العيال، من نزيف بلا جرح، هدّ حيلها من الإرهاق، ولم تنجح قطعة القماش التي امتصت الدم في إيقاف الألم.

هزت رأسها في ابتسامة دهشة، وأصابع مبروك تتجاوز صدرها، إلى موضع النزيف، وأحس بَلَلاً، فسحب يده، وعليها آثار دم. أوضحت ببساطة أن حليمة نصحتها بوضع هذه الخرقة البيضاء، حتى لا يسيل إلى قدميها، وهز كتفيه، غير مصدق أنها دماء الحيض، فرفعت الجلباب بهدوء، وقوست ساقيها بثني الركبتين، وانفرج فخذاها قليلاً:

ـ آ.. والله، حتى بُصّ.

فكر في احتضانها، أو تركها في سذاجتها، أو الابتعاد، أو الصراخ. كان مشوشًا لدرجة أنه تسمّر في الأرض، غير قادر على التفكير، أو عمل شيء محدد. وانسلّت هند من أمامه، عائدة إلى الفرن، منجذبة إلى استعجال حليمة، ونسيت أن تضع ماء، في زلعة الفول الفخارية. نهرتها حليمة، وضحكت السيدات، فازداد وجهها احمرارًا، وعادت إلى المنزل، وبمجرد أن خطت العتبة، حملها مبروك كعصفورة، ورفعها إلى أعلى، وفي الهبوط حمل الهواء جلبابها، فطار وغطى ذراعيها ورأسها، وأعادها مبروك إلى الأرض، مثل كرنبة مورقة.

ضحكت من اللعبة، وأعاد مبروك رفع الجلباب والذراعين، وبدت مثل زهرة لوتس، لا نتوء بجسدها إلا ثديان في وضع توثّب. وانجذبت مرة أخرى إلى نداء حليمة، وقالت له:

 ـ لازم الفول يستوي، وإلا تأكل خبيزة ورِجْلة، من هنا للسيد البدوي.

بلغت الفرن قفزًا، وسقط نصف ماء الكوز على الجلباب الذي التصق بصدرها وبطنها. وقامت إحداهن وتحسستها، بلمسات سريعة مجربة، وهند تضحك مما اعتبرته دغدغة:

ـ همّ ينخسك يا بنت الملسوعة، بلغتِ وجسمك ناشف، حطبة!

ونظرت إلى حليمة:

ـ ما نظنكم بخلاء، أكّلوها تبقى لحيمة، وتملأ عين عريس.

ـ ما عندنا مفاتيح لأي باب، تأكل ما بدا لها.

تذكرت حليمة أنهم تركوا وراءهم دارًا، لن يستدلوا على مكانها، بعد أن جاءتهم أخبار، في المحلّة الكبرى، بعد أيام من الفيضان، أن القرية صارت كتلاً من الطمي. وقدرت المسافة بين هذا المنزل، حيث تجلس أمام الفرن، والقرية الهالكة، بأنها لا تزيد على ربع نهار للراجل، وأقل من ذلك بكثير بالركائب، فلماذا التهم الفيضان قرية كاملة، ووقف عند حدود المحلّة؟. فكرت أن القدر كالمرض، يستعفي على الفقراء وأهل القرى. ثم استغفرت الله، واستعاذت من الشيطان.

وقالت لها حليمة إن الوقت يمضي، وعليها أن تستحم من العرق والرّدّة، وتلبس جلبابًا آخر، قبل التحرك في الغد. وخافت هند أن تستحم في المنزل، فيراها مبروك ويعطلها، برفعها في الهواء، ومداعبتها، والضحك عليها. وفكرت في الاستحمام في الترعة التي رأتها على حدود العمران. وحملت صُرّة الهدوم النظيفة تحت إبطها، ثم وضعتها تحت جذع شجرة جميز، ووجدت الترعة أكثر اتساعًا من المرة السابقة، كأنها فرع لبحر النيل الذي أغرق البلد. ونزعت الجلباب المتسخ، وفرح الماء بجسدها الرشيق.

ثم لمحها رجل أوقف حصانه، إلى جوار الجميزة، وناداها طالبًا الخروج. وتجاهلته منتشية بالماء الجاري، ولكنه أمرها بصرامة:

ـ يالّلا يا شاطرة، تعالي وارجعي استحمي.

كانت السكة خالية، بعد صلاة الظهر. لم تخف هند، ولا شعرت بوحشة، بل سألته، وهي تواجهه عارية، يصل الماء إلى ما فوق ركبتيها بقليل، عن سبب رجوعها إلى الماء، بعد الخروج منه. وحار الرجل:

ـ الْبسي هدومك واطْلعي.

قالت بتلقائية:

ـ ألبسها قبل الطلوع؟

ـ لا ، اطلعي الأول.

خافت من قيامه بحماقة أن يسرق الملابس، ويهرب:

ـ أطلع وألبس هدومي وأخلعها؟.. غُلب والله!

ـ غُطس واحد، وألاقيكِ على السكة.

ـ عاوزة أستحم براحتي.

تأكد للرجل أنها غشيمة، وغير مبالية، ولا تعرف ماذا تقول، وهددها بأخذ الهدوم، لتعود إلى المنزل عارية. وتركته يهذي، وغطست تحت الماء، ثم نفضته عن رأسها، وسألته:

ـ عاوز هدومي لبنتك؟. خليك للمغرب، وتعال للحاج عمران، وهو يكرمك.

ـ لا أنا عاوز هدومك، ولا عندي بنت.

ـ أنت من المنسر؟

ـ يا بنت البرطوشة، أنا مملوك، اطلعي مرة واحدة بسرعة، وأنا أعطيك حاجة للحاج، والدك.

ـ الحاج عمران هو الحاج، والدي هوجاسيان.

أُخذ الرجل، وظن أنها تداعب أعصابه، ليخاف ويترك المكان، ولكن ثباتها في الكلام، دعاه لسؤالها بصوت عال:

ـ هوجاسيان.. مملوك؟

ـ صاحب الحاج، ومبروك ابن الحاج.

غاصت، بموازاة السكة، وعادت إلى المكان المواجه للمملوك، حيث يمتد منه صف من الزلط الخشن، في نتوءات صخرية. ولمحت المملوك يخلع ملابسه، ويرتبها بعناية فوق حصانه. كان عاريًا، على نحو أثار ضحكها من هذا المخلوق العجيب. وهمّت بالسباحة إلى الضفة الأخرى، والالتفاف لارتداء جلبابها، لكن المملوك اختفى عن عينيها، فاطمأنّت، وتكاسلت عن الخروج من الماء الذي واصلت مداعبته.. سباحة وقفزًا وغوصًا.

كان المملوك قد تسلق الجميزة، في صمت، بهدف بث الطمأنينة في قلب البنت، ليفاجئها بالهبوط، أمامها مباشرة، من فرع الشجرة الممتد في الماء.

هند لم تعِ شيئًا، كل ما حاولت أن تتذكره، وهي عائدة إلى المنزل، أن شيئًا سقط في الماء، وأثار فقاقيع، ثم خيوط دم تذوب بسرعة مع التيار. ثم قبّ رجل عارٍ، وهو يستغيث وينزف، وقبل أن تفيق من الدهشة، كان التيار يجرّه، وكان أبوها يقف على السكة، صارخًا فيها بالخروج، ولفّ جسدها بالهدوم، وحملها إلى المنزل، وهي طوال السكة تحاول الفلفصة من يديه القويتين القابضتين بإحكام الخائف، على جسدها الدقيق، تريد ارتداء جلبابها النظيف، وهو يهرع قبل أن يراه أحد، أو يعلم بوجود ابنته في الماء، عندما سقط المملوك غارقًا في الدم والطين ومياه الترعة.

طلبت حليمة أن يسقوها أولاً دقيقًا بالسُّكّر، حتى تفرغ من إعداد طاسة الخضة. وقال هوجاسيان:

ـ طاسة الخضّة؟! ، لبنت كلب لا تخاف ولا تختشي، وأنا واقع من طولي.

ـ عيّلة يا هوجة عيّلة.

ـ عيّلة ؟، أنت عارفة وأنا عارف، ما عادت عيّلة.

ـ يتيمة يا هوجة، موت الأم يتم للبنت.

ونظر الحاج راجيًا:

ـ لازم نمشي على طول، الحصان زمانه رجع بهدوم المملوك، وحالاً يبدأ الديدبانات في التفتيش عنه، وبالليل ربنا يكفينا شر العسس والبصاصين.

سأله الحاج:

ـ خلّينا لبعد صلاة المغرب.

توسل برهبة:

ـ قبل الغروب، ربما يغلقون مداخل البلد.

 

(10)
قدّر الحاج قلق هوجة، وبإشارة نهضوا، وتأهبوا للرحيل، في قافلة صغيرة من الحمائل والركائب، متوقعين أن يفتشهم مماليك على حدود المحلّة الكبرى. وكان عمران جاهزًا ببعض الدنانير، لتسهيل المرور، وتعمد أن يكون في المقدمة، على أحد البغلين، تتبعه حليمة على البغل الآخر، ثم البقرة والجدي، وفي المؤخرة هوجة وهند فوق الجمل. قبيل الوصول إليهم ببضع خطوات، بادر الحاج إلى وضع يمناه في جيب الصديري، ودسّ دنانير في يد ممدودة، سأل صاحبها عن الوجهة، ولم ينتظر ردًا، وأجاب عن سؤال نفسه
:

ـ طندتا طبعًا، وصيّتكم الفاتحة.

لم يرد الحاج، بل اكتفى بهزّ رأسه مرة واحدة. ثم واصلوا السير، يلفّهم صمت تام، لايقطعه إلا عواء ذئاب، أو نقيق ضفادع، أو نعيق غربان، أو طيور لا يعرفونها تسبح ربها: "الملك لك لك لك". صمت هشّ وقاسٍ، ينتظر كلمة واحدة لينهار، ويعرف الجميع ماذا حدث، وكيف استطاعت البنت أن تقتل مملوكًا، ولولا وصول أبيها مصادفة، لصرخت ولمّت الناس وذهبوا بهما إلى الملتزم، ويسمع حكايته، ويأخذه عبدًا له، ويحتفظ لنفسه بهند، جارية لم يمسسها أحد، أو يرسله إلى المحاكمة في مصر المحروسة، وهناك يقتلونه فوق خازوق، أو يعذبونه بدق مسامير في رأسه بعدد سنوات ابنته.

من ساعة المغرب، إلى أن سمعوا أذان الفجر، والموكب في حركة رتيبة، لا تزيد سرعتها ولا تنقص. وكانت هند قد استسلمت للنوم، فحملها أبوها على إحدى كتفيه بالتناوب. ومبروك غير مبالٍ بالمملوك، بل يود أن يسأل هند عن دوافع القتل. أما حليمة فيسكنها فضول أثار ما حاولت أن تتناساه، منذ أخبرتها حَلَبيّة في سوق الأربعاء بسَمَنّود، عندما أمسكت بيد هند، من غير أن يدعوها إلى ذلك أحد، ونظرت في عينيها، وقالت لحليمة:

ـ لا يمكن تكون بنتك.

انزعجت حليمة مما ظنته اتهامًا لها بالسرقة:

ـ هو أنا حَلَبيّة تسرق العيال، سِيبي البنت.

اعتذرت الحَلَبيّة، وقالت لحليمة إن البنت منحوسة، لا يعيش من يراها عارية. حتى أمها ماتت بعد ولادتها بقليل، ويومها اكتفى هوجة بالقول إن زوجته ماتت حرة، قبل الهجوم على داره، واختطافه هو وابنته.

كان الحاج عمران مشغولاً بالتفكير في سر هذا الصمت، تمنعه كبرياؤه استجداء الكلام، يريد أن يتكلم أحد، حتى للسؤال عن السكة، أو لطلب جرعة ماء، أو للهبوط لقضاء الحاجة.

بشروق الشمس، هدّهم التعب، وانشغلوا عن الكلام بالنوم، مؤجلين الأسئلة، إلى ساعة سمر اقترحها الحاج لراحة الركائب. واستراحوا على حدود قرية قريبة من المدينة. وانجذب مبروك إلى مصابيحها، حيث يقام حفل على دقات طبول، واتكأ الحاج على خُرج مملوء بخيرات الله، فاردًا ساقيه، مثل حليمة. وقعد هوجة على باب الخيمة الصغيرة، يجهز عشاء خفيفًا، وغابت عن أنظارهم هند، إلى أن لمحها عمران، في النور الشحيح، عبر فتحة ضيقة بالخيمة، كأنها تناوش البقرة. فرك عينيه، والشبح يتحرك من رقبة البقرة، باتجاه الظهر. ثم تناولت خطم البهيمة بين فخذيها، في حركة سريعة متصاعدة، لفوق وتحت، أثارت ضجر البقرة، فأمرها الحاج بأن تترك البهائم لتستريح.

كانت دقات الطبول تسري، وانتبه عمران إلى أن البنت تمتطي شيئًا لا يتحرك، ثم تلتف ذراعاها حول بردعة أحد البغلين، غير عابئة بخشونة الخيش، مهتزّة مع نقرات الدفوف، ويتقوّس ظهرها، وهي تتقدم، ثم يستقيم في الرجوع.

صرخ في حليمة، وكانت تجلس إلى جواره، ولا تجد داعيًا لثورته:

ـ خير يا حاج.

ـ خير! ، طاهرْتُم البنت في البلد؟

 ـ والله ما أنا فاكرة.

ـ طاهروها في المولد، بنت الكلب جلابة الفضايح.

ضحكت من اهتمام الرجل بشأن يخص النساء، ومتى؟، في أنصاف الليالي، وهم على بعد بلد، أو بلدين من السيد البدوي. وفي سكوته الغاضب، تأكدت له جديّة الأمر:

ـ مولد؟.. لا لا ، طاهروها الصبح، في أقرب بلد.

استمهلته، إلى أن يصلوا إلى المولد، ووافق على مضض، وهو يهمس في أذنها:

ـ بنت العبد عاوزة تفضحنا.

 نظرت إليه معاتبة:

ـ عبد؟، ما خلاص يا حاج، أنت نسيت!

قطع حوارهما مبروك. كان منتشيًا يردد ما سمع من أغانٍ، في الفرح. ودعته حليمة إلى العشاء، فقال إن أهل العريس كرام، قدموا له ولكل الحاضرين عشاء، والتفت فجأة إلى أبيه، وطلب راجيًا أن يزوجه هند.

بهت الرجل. لو أن الولد رغبها بغير زواج!، آخر ما توقعه عمران، أن يرتبط اسمه بجارية لا يعرف لها أصلاً، ويكون له منها أحفاد. لعن اليوم الذي ذهب فيه إلى المنصورة، بعد موسم الكتان، لبيع البذور، ولا يدري لماذا عاد من هناك، بهوجاسيان وابنته. وكان قد استسلم، على مصطبة قهوة قريبة من الوكائل، لتعب المشوار، ولم يفلح فنجان قهوة في تنبيهه من إغفاءة، تكفل له الرحيل عن المنصورة كلها، قبل وصول تاجر صديق له، قادم من وكالة الرقيق، بصحبة جارية لم ير أجمل منها، وعلى بعد خطوات منهما، يجرّ رجل نحيل قدميه، ويحمل طفلة ممصوصة ذابلة الوجه. قال التاجر الصديق إنه اشترى الجارية بثمن البيعة كلها، حتى لم يتبق معه ما يشتري به لأهله عسلاً وسمكًا. ومنحه صاحب الوكالة هاتين المصيبتين، وأشار إلى الرجل والطفلة. قال إنه لم ينتبه إلا بعد ساعة، بسبب ولعه بالجارية، إلى أن الرجل سيكون عبئًا عليه، وتساءل بسخرية عن قيمة طفلة على وشك الموت.

وابتسم لعمران على سبيل المداعبة:

ـ هدية لك مني يا عمران، يأكل ويشرب ويشتغل.

ثم ضحك متخابثًا:

ـ والبنت بكرة تكبر، وتنفعك لو فيك رمق!

وبعد أن أنس إلى الحاج عمران، قال هوجاسيان إنه من بلاد بعيدة، فهم الرجل أنها أبعد بكثير من بلاد تعبد النار، وبلاد الترك، والديار الرومية كلها، وأنه لم يكن عبدًا، بل تعرضت له قناصة من أهل لسانه، ينهبون القرى، ويخطفون النساء، لبيعهن لتجار من بلاد أخرى. وكانت له زوجة ظلت سنوات عاجزة عن الإنجاب، وكان يحبها لجمالها، وعنها ورثت هند جمال العينين. وليلة اختطفها اللصوص، جرى هوجاسيان وراءهم، يريد اللحاق بزوجته، وضحكوا من سذاجته، قائلين إنه أول من يطلب العبودية مختارًا. وفي الليلة نفسها، بحث عنها وسط النساء، وكانت ذات قدرة على معرفة الناس من رائحة العرق، وعندما اقترب منها، وهو متنكر، أشارت إليه، وأخْلت له مكانًا، وتحابّا.

كان هوجاسيان، في المرات القليلة التي استعاد فيها تلك الذكرى أمام الحاج، يضحك بصوت عالٍ، ثم يجهش بالبكاء، مؤكدًا أنهما انعزلا عن العالم.. عن النساء واللصوص، في لحظة لم يبال بعدها بالقتل، أو أي مصير آخر. وكلما ذكّره الحاج بالنساء، أكد أنه استغني، بليلة الحب تلك، عن الاتصال بأية امرأة.

بعد ليلتهما تلك، لم تتح لهما فرصة أخرى، إذ مرضت الزوجة، وكانا قد عبرا مع قافلة الجواري، إلى بلاد أخرى. وفي الشام زاد عليها المرض، ولما يئس منها التاجر، زهد فيها وفيه، وتركهما في العراء. وظل هوجاسيان يدور صامتًا في الأسواق، عسى أن يسمع أحدًا يتكلم بلسانه، ليسأله عن طريق للعودة، متفاديًا التفوّه بكلمة واحدة، حتى لا يصطاده هذه المرة تاجر هاوٍ. ولكن المحظور وقع، عندما شكّ فيه حَلَبي حسبه لصًّا، وباعه الحَلَبي لجلاب رقيق، أتى به إلى مصر. وعلى حدودها وضعت الزوجة ابنته هند، ثم ماتت خلال أيام، وتعهدت بالمولودة جارية أرضعتها. وانتقل هوجاسيان وهند من يد جلاب إلى آخر، ثم انتهى به المطاف في المنصورة، وزهد فيه تاجر غلال، أراد أن يعود خفيفًا، بجارية استهوته، فأهداه الحاج عمران الذي لم يُجْد نطق اسمه، واكتفى بمناداته بهوجة، كما منح هند اسمها، ولم يكن والدها، في انتقاله من مدينة لأخرى، قد أسماها. ولم يتردد هوجاسيان في أن يناديها باسمها "هند"، كما لم يجد صعوبة في نطق الاسم، وهو يتعلم العربية، إلا أنه لم يتنازل عن اسمه "هوجاسيان"، كلما سأله عنه أحد.

لم ينكر عمران تعاطفه مع هوجاسيان وابنته. كان يشفق عليهما، ويحبهما حبًّا لا يرقى إلى أن يضع يده في يده، ويناسبه، وتصبح ابنة من لايزال يعتبره عبدًا، زوجة لابنه الوحيد، أو ما تبقى له من العائلة. لم يصدق ما سمعه من مبروك الذي كرر طلبه، وأدرك عمران أن الولد جادٌ. وزلزله الرد:

ـ هند يا ابن الكلب؟!

لم يدر الولد أي خطأ ارتكب. فهل يلومه أبوه لأنه تركهم بلا استئذان، ذاهبًا إلى بلد لا يعرفونه، للفرجة على لحم الغوازي. أم يسبّه لأنه يريد الزواج، والبلد لم يعد بلدًا، بل ابتلع الفيضان أهله، بمن فيهم أمه نفسها. أم لأنه يطلب هند بالذات.

وبلا قصد، أراحه الأب، وهو ينادي:

ـ الحقي يا حليمة.

ـ خير يا حاج.

ـ الجحش عاوز بنت العبد!

ـ مبروك!

ـ آ.. يا ستي مبروك، الله يجحمه.

ـ أنا أهنئي وأبارك يا حاج، مبروك علينا.

ـ من جارية؟

علقت بسخرية:

ـ مَن شابه أباه.

ـ أجرمت؟

ـ تزوجتَ جارية.

ـ لنفسي، لمزاجي، بعد تأمين الذرية من بنات الناس.

ـ أَكَلهم النيل، ما فرّق بين حرة وجارية.

ـ آمنت بالله.

دار الحوار الخاطف، مثل كرة مطاطية، يتقاذفها ضاربان ماهران بعنف وسرعة، وعينا الولد حائرتان بين الطرفين. وسحبته حليمة إلى خارج الخيمة، وقرصته من أذنه:

ـ وأنت ياسخام الحلّة، تغيب ساعة وترجع بزعابيب أمشير.

لمس مبروك في قلبها طيبة عميقة، لا تخفيها قسوة مؤقتة، وتناول يديها مقبّلاً، وطلب أن ترجو أباه. ولم تكن حليمة مقتنعة تمامًا:

ـ تعجبك هند؟

ـ نفسي.

ـ الله يسدّ نفسك، يعجبك الجمّيز العَجْر!

ـ العَجْر يستوي على مهله .

ـ بالَك طويل، تربّي وتفهّم؟

كانت تستدرجه لمنطقةٍ هو ماهر بها، وأصر على الانتصار، مفكرًا في أن التردد سيدفعها إلى الفتور:

 ـ نختن الجمّيز، فيطيب بعد يومين!

ـ ما كل ما نفخت طبخت.

كان مقتنعًا، ومصرًّا لدرجة دفعتها للصمت. وهنأته، ثم صحبت هند، إلى أن بلغوا المدينة. وفي المسافة القصيرة إلى المولد، لازم هوجاسيانَ تأنيبُ ضمير، وخوف من مجهول، بعد أن تسببت ابنته، وهي لا تدري، في غضب الرجل على ابنه.

 

(11)
في المدينة، اختصه أبوه بالدور الأعلى، في منزل حلّوا به، قريب من خيام مريدي السيد البدوي، ويبعد عن الجامع مسافة تمتد من بدء الأذان، إلى إقامة الصلاة.

وأقبل رواد المولد يهنئون الحاج على زواج مبروك، وهو مكتفٍ بابتسامة، لا تخفي شرودًا، ويتحسر على حلمه القديم بليلة مبروك. كان ينوي أن تظل ليلة الفرح حديث القرى، وبها يحلف الجميع، من الشحاذين إلى غوازي سنباط. وعانده الزمن، وكان الفيضان أسبق، وانتهى به الأمر إلى تزويج الولد في مولد، حيث لم تعد القرية قرية، ليصير الفرح حدثًا لا يلفت الانتباه، وسط زحام يتنافس فيه وجهاء وأكابر، وشيوخ منسر، ومرابون يكفّرون عن خطايا عام كامل، بتقديم ذبائح، وإطعام مساكين ومحتاجين ومحتالين.

نظر الحاج عمران إلى المنزل الصغير متحسرًا، على أن يكون هذا المكان الضيق سكنى لعريس. واجتهدت حليمة في تجميله من الخارج، وأبعدت صخورًا حادة عن الجدار، وجعلت منها حاجزًا بارزًا، على بعد خطوات من الحائط المواجه للشارع، لتمنع عربات رواد المولد من الاقتراب.

صعد مبروك مع عروسه إلى الدور الأعلى، وانشغلت هند بالتعرف إلى المكان. بدأت بتحسس الفراش، واندهشت من طراوة ملمسه، ورفعت أغطية آنية الطعام، وأعجبتها الروائح، وتذوقتها على مهل، من طرف إصبعها، إلى طرف لسانها:

ـ الله الله على أكل عمتي حليمة، لا يُعلى عليه.

تنهد مبروك، ولعن في سره التي لا تفهم، ولا تعي أنها الليلة عروس.. عروسه.

ثم انتقلت هند إلى صندوق خشبي، طبقت فيه حليمة مناديل الرأس المزينة بورد الجناين، والجلابيب الجديدة، وقمصان نوم ناعمة. وفرَدَتها هند على كتفيها، ثم وضعتها على وجه مبروك، واحدًا بعد الآخر، ليتحسسها بخديه:

ـ ناعمة ولا الحرير، آ.. والله يا مبروك.

زفر في سره، ولعن حليمة التي شغلتها بالجلابيب والقمصان، ولم تدلّها إلى ما يجب عمله، في مثل هذه الليلة. وفكر في مناغشتها:

 ـ فاكرة يوم الخبيز؟

ضحكت، وهي تواصل تحسّس القمصان بخديها:

ـ آ.. والله، عطّلْتني يومها، وضحّكت عليّ النسوان.

رفع هدومها إلى الذراعين، في وضع اللوتس، فأفسحت بين فخذيها، ظانّة أنه يطمئن على الخرقة البيضاء، وقالت:

ـ عمتي حليمة طلبت رفعها، قبل ما أستحم، وأحضرت ماشطة بهدلتني، وأنا أضحك وأتألم.

أصابه كلامها بخيبة أمل، ولعن حليمة بصوت عال، لأنها لم تعلّم هذه الغبية شيئًا. واستسلمت هند للنوم، ثم حاول إيقاظها، وتسللت أصابعه إلى صدرها، ففاجأته بضربة مداعبة على يده:

ـ وجعت لي صدري يوم الخبيز!

ولاحظت ارتفاع جلبابه ببطء، وتذكّرت المخلوق الغريب للمملوك، قبل أن يختفي، ثم يقفز إلى الماء، أو تنزلق قدمه. وابتسمت هامسة:

ـ مبروك.. ابعد، ابعده.

وحوّلت وِجهته بظهر يدها، وأدارت وجهها ونامت.

 

(12)
هبط مبروك خارجًا، ينوي الذهاب إلى سيدة في حارة قريبة، ألَمّ بها في العام الماضي.

وعلى ناصية قريبة من الدار، زعقت امرأة برجل، وأمسكت بخناقه، أمام رواد القهوة. كانت تشكو بحرقة من آكل أموال اليتامى، وظنه الناس لصًّا، وهي قالت إنه واقعها ثلاث مرات، وكان الاتفاق على اثنتين، والرجل من الخجل يقول بصوت واطيء:

 ـ يا وليّة عيب، مرتين حسب الاتفاق.

 ـ والله ما أقبل الحرام على عيالي أبدًا، فاكرني أغالطك في واحد، وأنا أربي يتامى.

 أمسك الرجل نفسه، خوفًا من الانفعال. وقالت:

 ـ بعد الاتفاق، وافقتك على طلبك.

 ـ يعني وافقتِ يا وليّة؟

 ـ قلتُ إن الكسوف حرام.

 خرجت السيدة من الدار، يتقدمها رجل، وتتبعها بنات. كانت ذات مهابة، كما عرفها مبروك قبل عام. أمرت الرجل بإعطاء المرأة، ففعل بلا كلام، ومدّت يدها وتناولت المال، ودسّته في صدرها، ومنحت شيئًا للمرأة، التي تلقت لوم السيدة بإحساس المذنبة:

 ـ اشتغلتِ لحسابك، وصدقتِ نفسك يا ناقصة؟

 لمحته السيدة، وأحس مبروك بالفخر والاطمئنان، لأنها لاتزال تتذكره، وهو لا يعي أنها تعامل حتى من تراه لأول مرة، كأنه عشرة عمْر، وتختصه وحده بصداقة لا يحظى بها غيره. وأخذته من يده، وتبعها راضيًا، حتى لو أنفق كل ما معه من مال. وفي الدخول، أعطى مبروك أحد تابعيها مقدم المتعة.

 قال إنه يعيش على ذكرى العام الماضي، حين أهدته امرأة نقلته من حال العذرية، إلى حال لا يعرف كيف يصفها. وبذكاء المجربة، تأكد لها صدقه، وخمّنت أن وراء مجيئه، الخالي من البهجة، أمرًا آخر. ولم يتردد في الاعتراف بأن في المنزل عروسًا، انتظرها وهي لا تنتظر ولا تعي. وقالت السيدة إن علاجه ليس في بيتها، بل في بيته، ونصحته بالرجوع، وألا يقرب الليلة زوجته، على أن يتجمل لها الليلة القادمة. وأهدته زجاجة عطر، وبدوره أفرغ كثيرًا مما في جيبه. ثم عاد ليمضي النهار نائمًا في السرير.

 قامت هند في الصباح، وملأت المنزل نشاطًا. وحار عمران مفكرًا في هذه الداهية، فإما أنها ساحرة أجهدت الولد، ثم نهضت لتمارس دورها كسيدة للدار، وإما أنها لا تعرف شيئًا عن أي شيء. وحين صحا مبروك، لمح أبوه في عينيه انكسارًا، وفهم السبب. وبعد صلاة المغرب، دعا حليمة وهوجة للذهاب إلى المولد. وقامت حليمة، بعد خروجها من الباب، بتسوية سور جدار الصخور، مطْمَئِنة إلى أن العربات لا يمكن أن تتجاوزه.

 انتهى مبروك من حمّامه الدافيء، ونادى حليمة، وهو يعلم بخروجها. وأجابته هند، وتشممت رائحته، وأثنت عليها، وبدأت تداعبه مثل قطة أليفة، تدس أنفها ووجهها في صدره. وقعد على حافة السرير، ثم استلقى على ظهره، ووجهه خالٍ من أسى أمس، وسألته عن تأخره بالليل، قال إنه شعر بتعب في بطنه، لايزال يؤلمه. وتحسست بطنه الدافيء، منصتة إلى قلبه، بأذنها الملتصقة به، وهو يداعب شعرها، ويلقي منديل رأسها بعيدًا، ويحل ضفيرة صنعتها لنفسها في الصباح، ويساوي شعرًا فوجيء بأنه طويل وجميل، ويرشدها إلى مكان الألم في الأسفل، ويده تهبط، مع شعرها، إلى ردفيها وما بينهما.

 لم تندهش هند من المخلوق الصاعد ببطء، هو الذي فاجأه نخيرها، بعد أن أفسحت له حرًّا، جاهزًا لطعنه العنيف، غير عابئة بشيء، كأنها مهرة بلا عقال، في خلاء لا يسع نشوته.

 ثم علت ضحكتها، غير مصدقة ما جرى، وفهمت لماذا انصرف الجميع، عندما قام مبروك من النوم، وقال إن أباه حزين، وكان يود أن يؤجل الفرح، إلى ما بعد العودة. وتذكرت أمها، أو من يجب أن تكون لها أمًّا، ولأول مرة لا تتصالح مع طبيعتها، إذ عاشت كنبتة شيطانية، أو كائن بري، في خلاء باتساع القرية، بدون الحاجة إلى أم. في هذه الليلة أدركت كيف تكون وحدة اليُتْم، واحتواها في صدره، وقال إنها أهله، وهو أهلها. واكتشف من جديد أنها أكثر رشاقة من يوم الخبيز، ومن ليلة أمس.

 كانا لايزالان عاريين. هي في حجره، تستند برأسها إلى ذراعه اليسرى، وهو متربع يهزها كأنها رضيع في المهد، ويعبث بشعرها، يفرده ويعقصه. وأحست مرة أخرى، بنقرات مخلوقه في جنبها الأيمن، وقالت إنها الليلة حزينة، حزنًا لم تعرفه ولم تجربه من قبل؛ فلأول مرة يغمرها اليُتْم بمرارته. وتذكر أمه وشقيقتيه، وتوقفت يمناه عن تسوية شعرها، وسادت لحظة سكون. ثم قال إن الأكثر يُتمًا مَنْ تموت أمه وهو كبير، فيظل عاجزًا عن إيجاد ما يملأ به فراغًا يبتلع حياته نفسها. استكثر على نفسه الفرحة، وصغر في عيني نفسه، وهو يطالب بحقه في الزواج، والسعادة، بعد أيام من هلاك العائلة والقرية كلها، وأوجعه أنه لم يفكر في موتهم، وحدث نفسه بأن أمه لن تسامحه طوال حياته، ستلومه يومًا، ولن ترحب بمداعبة أبنائه، ستواجههم دائمًا بذنب أبيهم في حقها، وكانت تتوقع أن يحزن عليها، كما يجب على ابن بارّ، ولكنه انشغل بعروس هي ابنة عبد، عن أم ليس لها غيره، وأختين إحداهما كانت في طريقها إلى عريس.

 نظر إلى السماء، وتساءل عن معنى الموت. عن ضياع بلد بكامله، في لحظات غضب لفيضان أحمق، يلتهم العابد والعاصي. عن غياب عروس في الطمي، قبل أيام من تحقق حلمها بالزواج. عن انطفاء فرح أمها بزفافها، بل عن عدم تمكن هذه الأم من الحزن، على عروس ماتت بلا عزاء. ولعن حياة تأتي في لحظة نشوة، وتذهب عبثًا. يأتون من عدم، ويذهبون إلى عدم، فلماذا لا يُعفون من هذا العناء؟

 تخيل مبروك نفسه لم يذهب، يوم الهلاك، إلى سَمَنّود، وانشغل عن السفر بأي شيء. هل كان يدري، وهو ميت، بما حدث لأمه وأختيه وأصحابه، وهم جميعًا في رحاب الله. وكيف كان لأبيه أن يتصرف. في تلك اللحظة، تمنى أن يعيش أبدًا، ليحكي لأبنائه وأحفاده، عن كوارث راح ضحيتها كثيرون، لأنهم لم يفكروا في تحدي الموت، وطواعية قدموا أنفسهم له قربانًا. ونوى أن يبني قريته، أوزير الجديدة، بتصميم يقاوم الكارثة.

 في تفكيره العميق، كانت عضلات وجهه تستجيب لانفعالاته، ومن جديد ساد صمت، خلا من نقرات كانت تنغز جنب هند الأيمن. كانت تبتسم في براءة، وهو ينتقم لكل شيء، لأمّ ماتت بعد ولادة ابنتها، ولم ترها هند، وأمّ راحت في فيضان ابتلع قرية، ولحياة لا يدري لماذا يحرم منها أحبّة، ومن موت يرفض فكرة أن يمسّه.

 كانت هند منتشية بطعنات، تجاوز بها مبروك درجة اللذة، مثل من عاش عمره محرومًا من الطعام، وهو يدرك أنه مقبل على مجاعة، ويثق بأنه يأكل آخر زاد له.

 ثم تمددا من الإجهاد، وارتمت في حضنه، وهو يمرر أصابعه برفق فوق بطنها، فرحًا بأنه يوشك أن يكون أبًا، ويتساءل كيف لهذا البطن الصغير أن يحمل ولدًا.

 وترك الفراش، للبحث عن طعام. وحملت هند قطعًا من اللحم، ودِقِّيّة أرز تركتها لهما حليمة. وصعدا إلى السطح، وكان القمر بدرًا، وبامتداد السكة تصطف خيام ومصابيح وزحام وقهقهات ومشاجرات.

 لمحت هند عشًّا صغيرًا لدواجن، تركها أصحاب المنزل، إلى أن يعودوا إليه، بعد انتهاء المولد. ولم تبال بقأقاة الفراخ، وحملت بضع بيضات، في يدين ممدودتين، أمام ثديين عاريين، وكانت إحدى البيضات لاتزال دافئة.

 وسألته:

 ـ بيضة فرخة؟

 ـ أو بيضة بطة.

 وابتسمت في تخابث، بعد أن أنضجتها الساعة الفائتة:

 ـ أنت أدرى يا عريس!

 ضحكت وذكّرته بأنه كان في بعض الأحيان، يأكل البيض نيئًا، ويقول لحليمة إنه لا يليق بالشباب أكل البيض مسلوقًا. وكسرت له واحدة، وأمالتها إلى وجهه، ومدّ طرف لسانه، واستقبل به الزلال. وصبّت البيضة على وجهه مرة واحدة، واندفعت إليه، تلحس وجهه وصدره، وتدعك جسده بالسائل اللزج الذي اختلط فيه صفار بيض كثير بالبياض. وتناولت بيضة، وكسرتها على جبهته، ثم أسالتها على أحد ثدييها، وبالطريقة نفسها أسالت بيضة أخرى، على الثدي الآخر، وفهم الدعوة المقتحمة، فحمّمها بكل ما عثر عليه من بيض.

أعجبتهما اللعبة، وفتشا عن مزيد من البيض في الأركان، وتقاذفا به، حتى اكتسى الجسدان، في ضوء القمر، لونًا يميل إلى الصفرة، كما شبكتهما اللزوجة معًا، فلا تفصلهما إلا لحظات قصيرة، يتخلص فيها جسده من جاذبية صنعها البيض، ليعودا غير مباليين بكلمات صاعدة من الشارع، إلى السطح، تدعوه إلى الرحمة، وألا يستكثر عافيته. وبعد أن فرغ، بدأ يضيق بكلام الذين يسمعونهما ولا يرونهما.

كانت هند لاتزال تتشبث به، وأسرع في قفزات غير محددة الاتجاه، بحثًا عن مصادر أصوات الفضوليين، وهند تتلاحق أنفاسها، تراقبه في اقترابه من حافة السطح، بجسده العاري الممتد إلى السماء، يفرد ذراعيه، بلا وقْع لقدميه، كأنه يطير، حتى لا يوقظها من غفوة خاطفة، انتهت برعشة خفيفة، لتفيق مما ظنته حلمًا، على ارتطام مصحوب بصرخة استغاثة، ثم نواح.

 وكانت لاتزال ترى شبحه على الحافة. قدماه ترتفعان عن السطح بقليل، ولا ترى نهاية لقامته، كأنه يدس رأسه في السحب، غائبًا عن صخب يرتفع، ونواح صاعد من الشارع، ومن سلم المنزل، ولا تدري مَن صفعها فغيّبها عن الوعي.

 حين أفاقت هند فوجئت بنفسها على العتبة، ملفوفة بعباءة سوداء من عباءات رجال يتحلقون حول جثة. كانت صامتة، وخلت ملامحها من شعور بذنب، أو لوعة فقْد، إلى أن لمحها الحاج عمران، فصرخ فيها، آمرًا الناس بإبعادها، متهمًا إياها بقتل ابنه.

 في تلك اللحظة، لم تتردد هند في القفز بجسدها الضئيل، غير عابئة بالعباءة التي انسلَتَت، رغم بقايا لزُوجة البيض وعرق اللذة. وتطوع رجال بسترها بالعباءة مرة أخرى.

 كانت تشق طريقًا إلى المسجى بعباءات، وتنزعها عن جسده بحركة واحدة، وتصرخ في مبروك.

 وبكى الحاج عمران، وتملص من الأيدي التي حاولت إبعاده:

 ـ ابعدي عن ابني يا فاجرة.

 لم تبال بأحد، ورفعت رأس مبروك قليلاً، وتناولته بين كفيها، وبان جسدها من العباءة المفتوحة. كانت على وشك إدراك الموت، حين جذبتها حليمة بغيظ، إلى خارج الدائرة. وسمع الحاج صوت ابنه بصعوبة، يهمس إليه بكلمات قليلة، أنه عاش ساعة هي الحياة، وأوصاه بهند. وقبل أن يفرح الأب بعودة الحياة إلى الابن، كان قد عجز عن الكلام والحياة، محتفظًا بوجه صاف.

 أيقن الرجل أنها النهاية، واستجاب الناس إلى التحلي بالصبر على قضاء الله، وردد وهو يضرب كفًّا بأخرى:

 ـ آمنت بالله.. آمنت بالله!

 

(13)
 كما بدأت الرحلة، من المحلّة الكبرى إلى المولد، في صمت تواطأ عليه الخمسة، خوفًا من نبش حكاية مصرع المملوك على يدي صبية، أو بين يديها، عاد الخمسة صامتين، أحدهم محمول على عربة يجرها أحد بغلين، أعطاهما للحاج أحد أصدقائه في طندتا.

 كان غاضبًا ثائرًا، وأقسم بالله ألا يدخل له مسجدًا، وألا يركع له أبدًا، مؤكدًا أنه لم يرتكب ذنبًا يستحق عليه هذا العقاب كله، بعد أن احتمل موت أهله جميعًا، قبل بضعة أشهر، من أجل ولده هذا. وقال له صديقه:

 ـ يا أخي اتّقِ ربنا، تحلف به ألا تصلي له!

 ـ كُفْر، والله يا شيخ كُفْر. ابني الوحيد؟

 ـ وحِّد الله، ربك استعاد وديعته.

 ردّ على مضض:

 ـ آمنت بالله.

 كان جسد الابن لايزال يحتفظ بدفء الوصال، حين أدخلوه المنزل، استعدادًا للغسل والتطييب والصلاة عليه. ولما حملوه في كفنه، ليكون جاهزا للدفن في الصباح، سألهم عمران باستنكار عن المكان، فقال له الصديق:

 ـ هنا يا أخي.

 لم يفهم الحاج تمامًا، وأشار الصديق بيده إلى نفسه:

 ـ في مدافن أخيك، إخوته وإخوتك يا عمران.

 كأنه يسرق منه آخر ما يملك، وينتزعه في وضح النهار، على سبيل القنص:

 ـ تسرقوا ابني ؟!

 عجب الصديق، لأن الخطوات السابقة على الدفن، جرت أمام سمع الأب وبصره، ولم يعترض:

 ـ إكرام الميت دفنه.. أنت تعلم ما قاله الرسول.

 ـ إكرامه دفنه في بلده، بين أهله، تأنس إليهم روحه.

 أجهش ببكاء متصل، أبكى الذين ظنوا أنه قادر على التماسك، بدليل أنه يقاوم منذ الوفاة، واستصغر نفسه، واقعًا تحت وطأة الشعور بأنه ضئيل، وعبء على ناس يريدون استضافة جسد ابنه، في مقابرهم، فتظل روحه مغتربة إلى الأبد، لا تستدل على أرواح أختيه وأهله. وزاد بكاؤه، حسرة على الذين لا يعرف لهم قبرًا، ولم يصلِّ عليهم أحد، حين خطفت أرواح الجميع خلسة. وقدر أن دفن الابن غريبًا في مدينة بعيدة، سيحول دون التفكير في العودة إلى القرية، وستصير أوزير وسيرتها عقدة تكبر مع الوقت، وربما يتجنب الحديث عنها، إذا ما ذكّره بها أحد. وقرر أن يكون الابن خميرة لقرية جديدة، ونقطة لم يهبط بها رئيس الملائكة في شهر بؤونة، وأصر على أن يتحدى قدرًا، سلبه حتى الحلم بذرية من الابن الوحيد، المنذور إلى الموت، ليلة زواجه.

 ألح الصديق مرة أخرى على الرجل، وهو في لحظة انهيار، بهدف انتزاع موافقة على دفن ابنه في طندتا، بدلاً من مشقة السفر إلى أوزير، على مسافة سحابة نهار. ونقله الطلب من الحزن إلى الغضب، مؤكدًا أن دفن الجسد هنا عذاب لروح الولد، وغربة لا يحتملها.

 ـ تزوره في الأعياد و...

 ـ لو رجعت من غيره فلن نجتمع في بلدنا أبدًا، ونعيش غرباء بلا مسقط رأس نحنّ إليه.

 تأكد لهم أنه يريد عظامًا تحت تراب بلده، ليحلف بها على عظائم الأمور، وينشد يقينًا يطمئن إليه، ولا يقين في الحياة إلا الموت، والميت ابنه، فليكن له دليلاً إلى بلد ابتلعه فيضان، ويريد ابتعاثه بجثة الابن الوحيد.

 ساروا باتجاه أوزير، تتقدمهم العربة، يقودها عمران بنفسه، متماسكًا غير مستوعب موت الولد، وإلى جواره حليمة، تحاول إخفاء دموعها، مشفقة على أب يمشي اليُتْم في ركابه، وزوجة لم تهنأ بالزواج، ولم يمنحها القدر وقتًا كافيًا للتعلق بالزوج، والبكاء عليه.

 من مؤخرة العربة، امتد حبل إلى بقرة، لم يمهلهم الموت كي يذبحوها في المولد، ثم الجمل، والبغل وفوقه هوجاسيان وهند الصامتة غير الفاهمة للزواج ولا للموت. ذهبت إلى طندتا صبية بلا خبرة، وعادت منها أرملة، وبين الحالين زواج تعلمت فيه أشياء، وطارت إلى سماواتٍ عُلا، وظنت أن الزوج، مثلها، كان يجرب الطيران، إلى ذرى من النشوة بلغتها، ولكنه لم يعد إلا جثة. هي لم تعرف ما الموت، وتذكرت كلامه على السرير، عن الآخرة، وكلامًا غريبًا عن البعث والحكمة والعدل والفراق. كان قريبًا منها، لدرجة دفعتها لنوبة بكاء، ووقعت على الأرض، تاركة أباها فوق البغل، ثم قفزت إلى العربة، واحتضنت مبروك بقسوة الخائفة، التي صدقت أنه مفارق.

 لم يعلق عمران، بل لم ينظر إليها، مصرًّا على اتهامه لها بالقتل، ومرددًا بينه وبين نفسه: "الفاجرة وشّ الخراب، تقتل ابني وتبكي عليه". وضمتها حليمة إلى حضنها، وبكت معها. وانتبهت إلى دماء بكّت من قدميها، مختلطة بتراب وطين، في جريها على الحصى، من مؤخرة الركب إلى العربة. كانت تريد كلمة مواساة، من الأب الرافض للزواج، والكاره لها ولأبيها، نادمًا على أنه أعتقه، بنَفَسين من الحشيش، لتردّ ابنته الجميل، بدفع ابنه إلى الهاوية.

 

(14)
بلغوا أوزير، أو ما تصوروا أنها القرية. كانت فضاء يمتد في الأفق، كأنه كتلة متصلة، تعبرها العين بنظرة. منخفضات وقنوات بها بقايا مياه راكدة، ونتوءات من الطمي، ولا أثر لدار واحدة. هناك أفرع وجذور من بقايا شجر السنط والصفصاف والجازورينا والجميز.

 لم تكن للمكان حدود ليصبح قرية. كان قبرًا باتساع الفراغ.

 كل ما شغل الأب، أن يعرف مكان المقابر، قبل حلول الليل، حتى لا يذهب الولد إلى آخرته غريبًا. ولا يدري من أين خرج هؤلاء الرجال. ورغم دهشته بهم، فقد انشغل بإحصاء عددهم. كانوا اثني عشر من رجال القرية، وظنوا أنهم وحدهم الناجون من الموت.

 سألهم أين كانوا، فقال كبيرهم إن هذا ليس وقت السؤال، والأهم هو سرعة دفن الميت قبل المغرب، حتى يتعرف إلى أهله هناك، وأصدقائه وجيرانه، فلا يرضيهم أن يظل وحيدًا بين الموتى إلى يوم القيامة، إذا دفن بالليل.

 علقت حليمة:

 ـ ادفنوه بالنهار، يردّ على أهله هناك، لو سألوه عن حالنا.

 انتبه إليها الرجال، وكانوا يظنون الحاج الذي نجا وحده، كما رأوا هوجة متكومًا إلى العربة، على غير عادته، وهند فاقدة حيويتها ونداوة الصبا المعروفة عنها.

 قال أحدهم:

 ـ البلد قبر، ندفنه في أي مكان في الناحية القبلية.

 أجّلت الحيرة حزن الرجل على ولده، وافترسه يُتْم وهو يودعه، مع عدد قليل من الرجال، ولو حدث ذلك قبل الفيضان، لقامت أوزير كلها تبكيه وتشيعه.

 بعد انتهاء الدفن، تذكر الرجال أنهم لم يشبعوا منذ تعشوا في دار الحاج، قبل شهور، على شرف نجاة مبروك من طاعون بؤونة، واتفقوا على دعوة الحاج إلى عشاء. وكانوا قد نصبوا في الصباح عشة من فروع الشجر، واقترحوا أن تبيت فيها حليمة وهند، على أن ينام الرجال خارجها، ولكن حليمة دعت الحاج للنوم فيها وحده، مؤكدة أنه متعب، وبحاجة إلى الراحة، بعد يوم بليله من السفر، وقال لها إنه استراح، لما رأى وجوه الرجال، وآثرها بالعشة على نفسه:

 ـ وإن كان علينا، حصيرة الصيف واسعة.

 في الليل، كان الحاج يقعد في منتصف دائرة، مستندًا إلى جدار العشة، مثل قائد هزمه الزمن، ولم يتفرق من حوله الرجال. سألوه عن البقرة، وهو لا يتاجر في البقر، ولا يهوى تربيتها، قال إن القدر حرمه من التضحية بها في طندتا، في مولد السيد البدوي، وقرر أن يذبحها فورًا. صمت الرجال، وقال بعضهم إن عددهم قليل، ويكفيهم جدْي. وتذكروا عائلاتهم تحت الطمي، أو في قاع النيل. واسترد الحاج هيبته، ووجد من واجبه أن يواسيهم، متجاوزًا حسرته على ولده:

 ـ نخلّي البقرة لآخر بابه، بعد شهر تكون لكم عائلات، وتعمروا الأرض.

 وأتبع مبتسمًا، لأول مرة منذ مصرع مبروك:

 ـ ونلاقي أكالين للبقرة!

 منحوه الإحساس بالحاجة إلى سند، هو الكبير الذي ينتظر من يخدش قشرة الحزن ليزيلها، ويستعيد ثقته بنفسه. قال إن من الحكمة ألا تشمت بهم قرى أخرى، ولا يصح أن يظل رجال أوزير ناقصي دين، وعليهم أن يتموا نصف دينهم، وتذبح البقرة في عرس جماعي، لم تشهد مثله البلاد.

 في الفجر، ركب الحاج عربته، وخلفه الرجال، يحدد لكل منهم موضعًا لدار، اختار لها مكانًا مرتفعًا، فوق مستوى الفيضان، وبعيدًا عن شاطيء النيل، على أن يتم كل منهم بناء داره، في بضعة أيام، بمساعدة أصدقائه الذين كان بينهم، عندما فاجأ الفيضان أهله.

 صنع خليل الطوبجي عددًا من القوالب الخشبية. وجهزوا معجنة الطين، من الطمي الغزير، بعد خلطه بأوراق شجر في منحنيات واطئة، بدلاً من التِّبْن. وامتدت قوالب الطوب الطينية، في صفوف تسد عين شمس تجففها. وكان البناؤون جاهزين، لرفع الجدران. ونشطت حليمة في إعداد الطعام، تساعدها هند، التي لم يجرب عمران النظر إلى وجهها. وظلت حليمة تواسيها، وأحست أنها كبرت، ولم تعد البنت الغشيمة، التي كانت قبل رحلة السيد البدوي:

 ـ فاكرني سبب موت ابنه؟

 ـ أبدًا، عمرنا ما شُفنا عروسة قتلت عريسها.

 ـ أول مرة فهّمني كل شيء، وبعدها نام على رجلي، وتكلم عن حاجات غريبة، فيها موت وأموات.

 ـ فاهمة يا حبيبتي، الله يرحمه.

 واصلت هند، كأنها لا تسمعها، وهي ترنو إلى شيء لا يراه غيرها:

 ـ ومسحت دموعه، ولعب في شعري، وطرحني، ولقيته...

 ابتسمت حليمة كاتمة ضحكة، ووضعت يدها على شفتي هند، تريد إسكاتها:

 ـ خلاص يا مفضوحة!

 كانت حليمة ترغب في سماع المزيد، وسحبت يدها، ولم تدرك هند أين تكمن الفضيحة، ولا تعيها:

 ـ وعلى السطح، كسر بيض الفراخ، ودهن به صدري، وحممني وأنا أضحك، وهو يضحك. وقال: "ياللا ؟"، قلت: "ياللا".. كنت ميتة من الفرحة، وسمعنا في الشارع:

 "ارحم يا جدع ارحم!"، و...

 ضحكت حليمة، وتخابثت، وسألتها:

 ـ يرحم من ؟

 ردّت ببراءة:

 ـ والله ما أعرف يا عمتي.

 ثم ضحكت:

 ـ كنت مفرهدة على الآخر، و...

 هذه المرة، أسكتتها حليمة بصدق، وغمرها إحساس بذنب تجاه ميت أدركت أن له حرمة، وقدرت أن هذه المسكينة لم تشعر بالفرح، إلا ليلة واحدة، ومنذ ولدت وفي حلقها طعم اليُتْم والغربة. وجذبتها إلى صدرها، وحزنت عليها أكثر، حين وجدتها ضئيلة الجسد كطفلة. وكانت قسوة عمران عليها تزداد كلما اقتربت ليلة عرس الرجال.

 

(15)
في ساعة عصاري، نادى عمران طالبًا حليمة، فأطلت هند من فوق السطح، وكادت تسقط، لعدم وجود سور:

 ـ حاضر يا سيدي.

 ودّ لو وقعت، وتنكسر رقبتها، ليستريح من تذكيرها له بولده الغالي، ولم يرد، أو يعيد السؤال، واستنتج أن حليمة خرجت لقضاء شأن يخص ليلة العرس، وسبّ في سره "القاتلة الصغيرة"، وفوجيء بها أمامه، تدعوه إلى المصطبة. وأحضرت الماء الدافيء بالملح، وخلعت البلغة من قدميه، ونظفتهما بعيدًا عن طشت الماء، ثم دعكتهما، وهو لا يطيق النظر في وجهها:

 ـ عمتي قالت إنها راجعة قبل المغرب.

 استكثر عليها أن تقول إن حليمة عمتها، ولكنه بخل عليها حتى باللوم، واستخسر فيها الرد، أو التعليق. كان مرهقًا، ويريد أن يمسك عليها خطأ، أو تقصيرًا في أداء واجب، ليفجر فيها غيظه:

 ـ سقيتِ البقرة ؟

 ـ سقيتها يا سيدي، شربت شربة واحد، حاسّة بقرب الفرح، ونهاية أجلها.

 زفر ضائق الصدر:

 ـ لما أسألك ردّي بكلمة واحدة.

 في رجوعها، راقبت حليمة من أول الحارة، فظاظة عمران، وأجّلت معاتبته، إلى ما بعد انصراف هند، وقالت إن البنت لا تحتمل هذا الظلم، وإنها الأكثر تضررًا بغياب ضناه:

 ـ يا أخي فكّها.

 ـ بنت مشؤومة، ما جلبت أي خير لمخلوق.

 فكرت حليمة أن أم هند ماتت بعد ولادتها، وتشرد أبوها، من بلد إلى بلد. وللحظة قدرت أن كل من رأى البنت عارية أصابته اللعنة، ومات.. أمها والمملوك ومبروك. ولكنها ظلت تحنوعليها، وتخفف عنها قسوة عمران، وتقول إنه أعتق أباها، وهند لا تفهم معنى العِتْق ولا الرق، ولا الموت، وتعيش حياتها يومًا بيوم، ولا يبقى في ذاكرتها، ساعة النوم، أي إحساس بالضغينة لأحد، حتى عمران.

 اعتادت هند، كلما صحت من نومها ليلاً، أن تقترب من غرفته، وتوارب الباب قليلاً، بما يسمح بمرور جسدها النحيل، وتغطِّيه إذا كان كان مكشوفًا، وتقرِّب المبصقة إلى موضع رأسه، لتكون في متناول يده. وكان عمران يشعر بها، أو يراها أحيانًا، ويتابع ما تفعل، ويغمض عينيه، كيْ لا تراه، ظنًا منه أنها تضغط على ضميره، طالبة السماح والعفو.

 وسألته حليمة عن إمكان أن يزيد عدد العرسان واحدًا، وهز رأسه، في إشارة إلى عدم الفهم، وأوضحت له أن عدد الرجال اثنا عشر، ولن تقوم القيامة إذا أصبحوا ثلاثة عشر، وسألها:

 ـ العبد هوجة ؟

 ـ عبد ؟ ، أنت أعتقته.

 ـ بنَفَسين من الحشيش، أرجّع له عشرة ويشتري لي خمسة عبيد؟

 كانت قد فاض بها:

 ـ الرجل لا يرجع في كلامه، تضحك على ربنا!

 ـ أعتقه، وأزوّجه؟

 ـ لا. لا.. تتزوج أنت.

 سحب نفسًا عميقًا. تنفّس أهله جميعًا، كـانت أرواحهم تحوم حوله، ويمتليء بهم صدره:

 ـ ما عدت أنفع.

 ـ في الخمسين ولا تنفع! ، غيرك عملها في السبعين، وأنت عارف.

 قال لنفسه إنه شاخ، وكبر خمسين عامًا. وفي تنهيدة أسى، طرد من صدره أهله، وأحاطت به أرواحهم.

 ـ يا وليّة خلِّيك عاقلة، أسامح نفسي وأفرح، وبنتي العروسة ما أعرف لها طريق قبر، وابني العريس...

 دمعت عيناه، وشعرت حليمة بأن جرمه ينهار، وينفرط على المصطبة، غير قادر على الجلوس، يميل إلى اليمين والشمال، لا يقوى على التماسك.

 نادت هند، وحملتاه إلى الداخل، وتمدد على السرير، ودموعه خطان يسيلان بلا انقطاع، إلى أن أسلم نفسه للنوم.

 ومن النافذة، كانت الشمس تنسحب، ويذبل نورها. وخرجت حليمة من الغرفة، وتبعتها هند. ثم سمعتا صوتًا كأنه هو، فعادتا. وداعبته حليمة:

 ـ تعمل فُرتينة قبل الفرح؟، والله عيب!

 ـ يصعب علي أن يفسد بسببي فرح أولادي.. فرح البلد.. كل رجال أوزير!

 وسمعت من ينادي فخرجت، للإشراف على خطوات إعداد الوليمة، بعد وصول جزار جاهز بساطوره وسكينه، وأُجراء جيء بهم من القرى الأخرى لمساعدته، وأجيرات لتجهيز الطبيخ. وظلت هند تتابع الحاج عمران، بوعي دفعها لإخفاء خبر مرضه عن أي أحد.

 ثم جذبها، بعد قليل، ما تخيلته ارتطامًا، وكان الحاج قد حاول النهوض، فسقط على الأرض. وأسندت هند رأسه إلى كتفها، ولم تر وجهه المحايد، الخالي من أي شعور محدد، فلا هو ناقم وضائق بوجودها، ولا هو مرحب بمساعدتها له. سألها عن وجود أحد بالدار، ولم تفهم سبب السؤال. وكان يخشى أن يبدو أمام الناس ضعيفًا، غير قادر على القيام بعبء الرجل الكبير، ويريد أن يبقى مرضه سرًّا بين حليمة وهند، وهي ظنت أنه يقلل من قدرتها على إسناده، ورفعه إلى السرير. وقالت إنها وحدها في الدار، وتستطيع تلبية طلباته.

 كاد يلوم نفسه، على إساءته إليها، ثم نظر إلى وجهها المشحون باللهفة عليه، وتذكّر ابنه، واستغفر الله. لم يصبه التعرّي من عافيته أمامها بالحرج، واعترف بعجزه عن بلوغ الحمّام. وحاولت أن تحمله، وفشلت. وأتت إليه بطاجن، وقالت إنها ستدفنه بعيدًا، بعد أن يقضي فيه حاجته. وأمالت سيدها قليلاً، وهو تأخر بعض الوقت، وحين تخلّص من بقايا خجله، انفجرت مياهه في الطاجن، كطلقة مقلاع، ثم استراح وجهه قليلاً، وأتت بطشت نحاسي، وكرسي خشبي، وأجلسته. نزعت ملابسه، واستسلم للمفاجأة. كان يريد قضاء حاجته ولا أكثر، ولم يطلب الاستحمام، ولكنه لم يرفض، أو يقاوم دفء ماء يقرب جسده لأول مرة، منذ دخلوا المدينة، قبل زفاف مبروك.

 لم يكن الماء باردًا، ولكنها أغلقت النافذة، خوفًا من إصابته بالبرد، بعد الحمّام الدافيء. أحكمت الغطاء حوله، وأشعلت فتيل الزيت، ثم حملت ماء الاستحمام، وسألها وهي على عتبة الغرفة، إذا ما كانت حليمة قد كلفتها بهذه المهمة، وردّت بلا اكتراث، غير شاعرة بأنها تحمّلت مشقة:

 ـ من ساعتها وهي مشغولة مع الأنفار. لا شُفْتها ولا دخلت الدار، ولا دخل بطنها زاد.

 وخرجت بالماء، وضحك، وكست الابتسامة وجهه حتى سرقه النوم.

 في صباح اليوم التالي، كان كل شيء جاهزًا لعرس رجال القرية، وأكثرهم سعادة خليل الطوبجي. قال إنه صانع كل طوبة، أصبحت حجرًا في جدار، في أي دار. وقالوا له إنه صنع القوالب الخشبية، وهم ضربوا الطوب، وبنوا، وصنعوا الأسقف، وأعدوا لليلة العرس.

 جاء كل عريس بعروس من قرية أو مدينة، تصادف وجوده بها ساعة الفيضان. ولم يتكلفوا شيئًا: الحاج ضحّى بالبقرة، والبنات كن هدايا النجاة من الموت.

 

(16)
في الأسابيع التالية، تعرضت هند لنوبات إغماء، أثناء الشغل في الدار أو الغيط، وهي لا تبالي. وفي الغيط، استدرجتها امرأة في الكلام.

 كانت هند حريصة، كما علّمتها حليمة، على ألا تبوح بليلة مبروك لأحد؛ فهذا عيب، لا يصح. ولكن المرأة عرفت منها أشياء عن انقطاع الحيض، وتحسست بطن هند، وقالت لها كلامًا، لم تفهم منه إلا أنها حبلى.

 كل ما فكرت فيه أنها يومًا، ستجد بطنها قد تكوّر أمامها، ويصير لها ولد.

 لم تسأل هند نفسها كيف، ولا متى؟، ولا حكت لحليمة، فكلتاهما مشغولة. وفي زحام الشغل، نسيت إن كان الحاج قد سامحها، ورضي عنها، أم لايزال يلاقيها بوجه قرفان، كلما رآها.

 كل ما تتذكره أن برد طوبة، أصابها يومًا بدوار، منعها مصاحبة حليمة في الغيط، وظلت بالدار، تصحو وتنام. ثم عاد الحاج من الغيط، بعد أن زرع الفول والقمح، ظانًّا أن هوجة سبقه إلى الدار، وناداه ليحمل المحراث عن البغل، وخرجت إليه هند، تربط رأسها بمنديل معقود من الخلف:

 ـ حاضر يا سيدي.

 وأخبرته بأن أباها لم يعد من زرع البصل، وسيمر على غيط الكتان. وبادرت إلى حمل المحراث، فوقعت سنّه على قدمها اليمنى، ولم تبال بورمها السريع. قال لها عمران، بحياد، إنه لم يأمرها بحمل المحراث، وانصرف عنها، جالسًا على النورج، انتظارًا لعودة حليمة وهوجة. ثم شعر بالبرد، وتذكر العدس الدافيء، في مثل هذه الأيام من شهر طوبة، وسال لعابه، وتنازل قليلاً بسؤال هند عن نوع الطعام الموجود، واكتفت بالقول:

 ـ حاضر يا سيدي.

 وعلى الفور، خرجت إليه بصحن عدس، كانت قد أدفأته له، بمجرد سماعها نحنحته، وهو على بعد خطوات من الدار. وأشعلت له نارًا في طاجن، وقرّبته منه. واغتاظ الرجل أكثر، لأنها بحسن نية لا تترك له فرصة واحدة، لينفجر فيها، أو يطردها مع أبيها خارج البلد، أو يبيعهما بأي ثمن، وفكر في أن يضرب صدرها أو رأسها ببوز البلغة، وهي تنحني لإسناد طاجن النار بطوبة، ولكنها سبقته إلى البلغة، وخلعتها من قدميه. وقالت إنها ستأتي إليه بماء وضعته على الكانون، ودمعت عيناها، وهي تستدير، عاجزة عن النهوض، وظن دموعها ناتجة عن دخان وقود الكانون المبتل بالمطر، ومن باب الواجب قال، وهو يتجنب النظر إليها:

 ـ مالك؟

 ـ دوخة.

 ـ كل يوم ؟

 ـ قالوا لي إني حبلى.

 ارتبك الرجل، ولم يعثر على تعليق مناسب. كانت المفاجأة أكبر من قدرته على التوقع، وأحس بالشبع، فوضع صحن العدس جانبًا. علم أن زوجة خليل الطوبجي هي مَن أسرّت إليها بذلك. وسألها عن بدء التعب، وأنّب نفسه كثيرًا على إساءة معاملته لها. وقام وأجلسها مكانه، وأتى بماء يغلي فوق الكانون، وصبّ عليه ماء باردًا، ووضع قدمها التي ورمت بسبب المحراث، في الماء الدافيء، ودعكها برفق، وهند تبكي من الفرح، والكسوف من كرمه وسماحته، وهو سعيد بأن ابنه لم يمت. ودبّت الحيوية في دمائه.

 هبّ عمران ليأتيها بصحن عدس، حين دخلت حليمة، فقال وهو يكاد يرقص:

 ـ هند حبلى يا حليمة.. حبلى!

 كانت ملامح هند الذابلة، تحمل مزيجًا من التعب والطمأنينة والفخر والبراءة. وسَرَتْ غيرة في نفس حليمة، ظنت أن دورها، كأم بديلة لهند، قد انتهى برضا سيدها عنها، كما أنه سينشغل عنها بهند، وبولد ابنه منها.

 نفض الخبر عن عمران أمراض الدنيا كلها، وعادت إليه إشراقة الوجه، والضحكة الصافية المجلجلة. وتفاءل لأن الحفيد القادم سيكون أول مولود بالقرية بعد تعميرها، وسيصير موضع تدليل الجميع وحبّهم.

 وعادت إلى الرجل حيوية الشباب، يصحو في الفجر، ويطْمَئِن على هند، بالوقوف صامتًا أمام باب غرفتها، فإذا سمع همهمة، ناداها بصوت خفيض، ثم يطرق الباب، ويسألها إن كانت تريد شيئًا، قبل أن يجهز له هوجاسيان الركوبة، ليبدأ يومًا من الإشراف على شؤون البلد.

 وافق الاثنا عشر رجلاً على أن يكون زمام البلد، من الأراضي، على هيئة نصف دائرة كبيرة، يستقر قطرها على النهر، وأمامه تمتد الغيطان، ترمح فيها الخيل نصف يوم، ولا تبلغ لها نهاية.

 

(17)
كان الرجال قد بدأوا، من اليوم الثالث للعرس، يغادرون دورهم الصغيرة المؤقتة، إلى الأرض الجديدة. وفي الأسبوع الثاني، تبعتهم الزوجات مشرقات الوجوه، تكفي ابتساماتهن لدفع الأنفار، إلى مزيد من الشغل، بضمير لا ينقصهم. وجيء بعمال من معظم القرى والمدن المحيطة، آملين رزقًا أوسع في أرض بكر، يملكها عدد قليل من الرجال، تزوجوا في ليلة واحدة، وكبيرهم الحاج عمران، قال إن شهر بابه يكفي لبناء اثنتي عشرة دارًا، قواعدها من الحجارة المجلوبة على المراكب النيلية. وفوق الأساس ترتفع الجدران، على أن تمتد هذه الدور، ذات الهيئة الواحدة، في دائرة تتوسط نطاق القرية، وتفضي إليها ثلاث بوابات.

 حدّد الحاج مكان البوابة الأولى إلى الشمال، باتجاه سَمَنّود والمنصورة، والثانية إلى الجنوب، تستقبل القادمين من سنباط. وعلى مدخل كلتيهما قهوة، لراحة الناس، وتنظيم الشغالين. أما البوابة الثالثة فتطل على الغرب، حيث امتداد نطاق أوزير من الغيطان.

 وأشار خليل الطوبجي، إلى أن تصمم البوابات بما يبث الهيبة في نفس الرائي، كأنها بوابة قصر سقفه السماء، من غير أن يعلم الغريب أنها تفضي إلى شارع، حتى يسهل إغلاقه، إذا اقترب منهم خطر.

 وفي أقل من شهر كانت كل قهوة تشغي بعدد لا تحيط به عين. كانوا يعرضون عافيتهم، وقدراتهم على قيادة المراكب في النهر، ورفع الحجارة الثقيلة، أو مهاراتهم في صناعة العربات، وصيانتها بتوفير ما يلزمها من مسامير وزيوت للعجلات.

 ونشط الجلابة في عرض ما يملكون من رقيق، يبيعونهم على الأجل، ويحصلون على التزام

كتابي من المالك الجديد، بدفع الثمن بعد جني الشعير أو القمح أو الكتان. وازدهر شغل السماسرة، بين التاجر والشاري، يثمّنون العبد، ويقدرون سنّه وكفاءته، ويكشفون عليه، في إحدى زوايا القهوة، إذ يباع العبد الخصي بثمن أكبر بكثير من السليم.

 سألت حليمة ساخرة:

 ـ وجامع ربنا له مكان، في زحمة خلق من كل لون وملّة؟

 قال عمران:

 ـ بعد التعمير، يرجع الغجر والحَلَب لبلادهم، ويبقى أهل البلد والعبيد، وساعتها نبني الجامع.

 ـ بيت الرب أولى وأهم من بيت العبد.

 لم يجد ردًّا مقنعًا، وأنقذه خليل الطوبجي:

 ـ يرضيك يا خالة حليمة، بناء جامع، ويعشش فيه، من بكرة، الحَلَب والمنسر؟

 هزّ الحاج رأسه راضيًا:

 ـ حتى الحَلَب والمنسر ممكن طردهم، لو هددوا الناس.

 وبعد لحظة صمت:

 ـ الأدهى هو عجزنا عن طرد شيخ المنسر الكبير.

 تبادل الحاضرون نظرات استفهام، وكان الرجل يهدف إلى إثارة اهتمامهم، وإرباك حليمة، حتى تكف عما اعتبره هذيانًا:

 ـ كل البلاد فيها جامع كبير اسمه المتولي، وكان في بلدنا واحد، وحرام عليكم بناء جامع بمال تحتاجه بيوتكم، والأحرم أن يستولي المتولي على بيت ربنا، ويكتب اسمه عليه.

 تذكروا أن أحدًا من رجال الباشا لم يمر بهم، أو يسأل عنهم، لا الانكشارية، ولا مساعدو الصنجق، ولا الملتزم، ولا الكلافون.

 وعلق الحاج:

 ـ سيأتون يومًا، ويكفينا مصلّى.

 كان يتكلم بحماس، مستخدمًا مهاراته في اجتذاب الناس، بحركات يديه:

 ـ ليَبْنِ المتولي من ماله، إن شاء، أكبر جامع.

 وقال خليل إنه سمع بثلاثة من الأغراب، يحومون حول البلد، في زمام الغيطان. وعلى الفور، أصدر الحاج أوامر بالبحث عنهم، والإتيان بهم، أمواتًا أو أحياء. وانطلق أتباع لرجال البلد الاثني عشر، في كل مكان. ثم عثروا على الثلاثة، الذين أتوا طواعية.

 شابان وامرأة في مثل عود هند، ولها لون عينيها، وإن كان شعرها قصيرًا، وناعمًا، يميل إلى الصفرة. كانوا يحملون أوراقًا، دوّنوا بها خطوطًا وحروفًا، وعلى أكتافهم حقائب جلدية، بها بذور، وسنانير، وقناتين في مقدمة كل منهما ماسورة معدنية ضيقة، والمؤخرة من الخشب العريض، يضغطون على إصبع فيها، فينطلق مقذوف لا تراه عين، وتصير جلبة، تؤلم الأذن، وتدير الرأس.

 وتحدثوا العربية بصعوبة، وبعد ساعة من الحوار مع الرجال، جيء ببعض الحَلَب، عرفوا أنهم من الجانب الآخر من البحر الكبير، من مدينة اسمها البندقية. كبيرهم اسمه كارلو، والآخران زوجان.. جوليا وجوليانو.

 قالوا إنهم جاءوا، مع فريق من بلادهم، لزراعة بذور، واصطياد أسماك من النيل بعد الفيضان، ودراسة مدى صلاحية التربة المصرية، لزراعة أنواع جديدة من الفواكه.

 خشي الحاج مما ظنه مراوغات، ليفلتوا من العقاب، متشككًا في أنهم عيون الباشا، الذي نكص عن إعمار البلد، ولم يكلف نفسه أن يرسل نائبًا عنه، ليقدم العزاء، أو ليهنيء قرية يتزوج كل ما تبقى فيها من رجال، في ليلة واحدة. وامتدت يد خليل الطوبجي، إلى ما تحت جلبابه، وهو يفترس جوليا بنظرات اشتهاء، وضايق ذلك جوليانو، ونطق بكلمات غاضبة مكتومة، لم يفهمها أحد، واعتبرها خليل شتائم، وقال للحاج:

 ـ نبقيهم هنا أجراء، عبيدًا مع الفواعلية، وإن استغنيت عن جوليا، أشتريها منك.

 انفجر الرجل ضاحكًا، ولم يشأ أن يعلق، طمعًا في أن يسمع مزيدًا من آراء رجال، ظنّوه يستملح رأي خليل. وفهم جوليانو ما يعنيه هذا الكلام، بإشارات من بعض الحَلَب، فأخرج من جيبه صفحة، بها خطوط ورموز وحروف، لم يفهم العارفون بالقراءة، ولا قارئو القرآن، ماذا تعني. ثم قال بهدوء، كأنه يلقي خطبة الجمعة، في نَفَس واحد، لا يقطعه إلا عجز لسانه، عن نطق حرفي العين والحاء:

 ـ "بسم الله الرحمن الرحيم

 وإنْ أحد من المشركين استجارك فأَجِرْهُ حتى يسمع كلام الله ثم أَبْلِغْهُ مأمنه".

 بهت الناس، وانشغل عنهم جوليانو بحوار، كثرت فيه لغة الأيدي مع حَلَبي. وتبادلت جوليا وكارلو كلمات قصيرة، ثم رسم جوليانو علامة الصليب. وقال الحلبي للحاج إن هؤلاء ليسوا كفّارًا، ولكنهم مسيحيون، خرجوا من الكنيسة في سَمَنّود، وتاهوا عن زملاء لهم.

 وغلبهم الندم، وقال الحاج:

 ـ غلبونا البنادقية، وأعتقوا أنفسهم منا بكتاب ربنا.. آمنت بالله.

 وأشار للحلبي:

 ـ هم ضيوفنا، ليبقوا يومين معنا، أو يفارقونا متى شاءوا.

 ردًّا للجميل، قدموا القناتيْن، هدية للحاج عمران، وانزعج منهما، غير مستطيع الضغط على الإصبع الحديدية. وانحنت جوليا، والتقطت إحداهما، ووجّهتها إلى أعلى، وأطلقت رصاصة، فطارت أسراب حمام وعصافير، وهاج دجاج، واستصغر الرجال أنفسهم، لخوفهم من عفريت يقفز في لمح البصر، من الماسورة إلى السماء. أخرجوا من الحقائب لفافات من الرصاص. وقدّر الحاج أن اثنين من هذا السلاح يصعب توزيعهما، على اثني عشر رجلاً، وطلب إلى البنادقية الثلاثة، أن يدلّوه على طريقة صنعه، وهو يقلبه، قائلاً:

 ـ خشب وحديد وعفاريت زرق في عزّ النهار؟.. آمنت بالله.

 وأتت حليمة في أبهة تليق بسيدة قرية، تتبعها صبايا يحملن حلل الطبيخ، والأرز المعمّر، وقبل تناول الأكل، تابعت مع الحاج وعدد قليل من الرجال، شرح البنادقية لعمل السلاح وصناعته. واستدعى الرجل إلى الجلسة بعض الغجر والحدادين، من نافخي الكير، صناع الشقارف والشراشر والبلط والفؤوس، ليعرفوا كيف تصنع البندقية، مهددًا بقطع رقابهم، إذا أفشوا السرّ لأحد.

 في الليل، سهر البنادقية الثلاثة مع الحاج، في وجود حليمة وهند وهوجاسيان، وبعض رجال البلد، وحَلَبي واحد أتقن ترجمة الحوار. وسأل جوليانو إن كان هوجاسيان مصريًّا، فأطرق برأسه، وقال الحاج إن أولاد الحرام اقتنصوه من بلده، وارتحل من بلد إلى بلد، وكانت له هنا قسمة ونصيب. وقال جوليانو ما فهمه الحَلَبي إن هوجاسيان أرمني، بلاده أبعد من بلاد الترك. وأعجب البنادقيةَ إصرارُ هؤلاء الناس على العودة، إلى قرية كانت قبل شهر مطمورة. وأضافوا تعديلات على تصميم البوابات، على أن يزداد اتساعها، عما قدّر لها، وتقسّم شطرين ثابتين متساويين، يلتقيان في المنتصف تمامًا، ويفتحان، عند الضرورة، بحركات عكسية، بالدخول إلى تجويف في الجسم الصخري للبوابة، وتترك بأحد القسمين فتحة، تسع عربة بحصان، أو جملاً محملاً بالحطب. وفوق كل بوابة، برج صغير للمراقبة، يوضع أعلاه مصباح، لإرشاد التائهين بالليل.

 قال كارلو إن بلاده تتعرض لفيضانات وسيول، ويشقّون قنوات عميقة، تسحب المياه الزائدة، بما يكفي حاجة الزرع، طوال أشهر العام، وتبعد الخطر عن البيوت.

وتهلل وجه الحاج:

 ـ آمنت بالله!

 ونظر إلى خليل بقرف:

 ـ تحلف بالله يا طوبجي إنهم فواعلية وعبيد ؟

 خجل خليل من نفسه، ومن نظرات اشتهاء، لامرأة حرة، وفكر أن المخرج الوحيد، هو مداعبة الحاج:

 ـ ليس على الأعمى حرج!

 ـ عمى العين، لا عمى القلب.

 ـ سماح يا سي الحاج.

 وكان يخشى أن تعرف بالأمر حليمة، وهي تعرف تقريبًا، أو هكذا فهم من تعليقها الحاد:

 ـ عيب عليك يا سخام الحلّة.. أنت عريس جديد.

 رنا الحاج عمران ببصره، كـأنه لا يرى أحدًا، ولا ينتبه إلى حوارات ثنائية بين القاعدين، مفكرًا في براعة هؤلاء الأعاجم، بين ناس لا يعرفونهم، إذ ساعدهم ذكاؤهم على التمكن من انتزاع حياتهم، وشراء أنفسهم، قبل الوقوع في أسر عبودية سمعوا بها، بدليل أنهم جهّزوا ورقة، كتبوا فيها آية من القرآن، استبقوا بها إلى حريتهم حماقة رجل، مثل خليل، لا يعرف القراءة، ولم ينظر يومًا في كتاب الله.

 وقال الحاج لنفسه إن العلم منجاة من الهلاك، وأي هلاك أكبر من أن يصبح رجل مثل هوجاسيان عبدًا، وكان يمكن أن يصير عُمدة بين أهله، ولكنه لايزال حتى بعد عتقه، أقرب إلى السائمة. وهو مصير كان بانتظار هؤلاء الثلاثة، لولا أنهم فهموا كيف يخاطبون الغرباء، منطلقين من الإسلام.. الدين الذي لا يؤمنون به.

 ونخس جنب خليل:

 ـ فِزّ يا بهيم، ومن الفجر تبني الكتّاب من جديد.

 شرعوا في الصباح، في بناء كتّاب، ليحفظ فيه الأولاد، الذين خلت منهم القرية، كتاب الله، ويتعلموا القراءة والكتابة.

 وحملت العربة البنادقية الثلاثة إلى سَمَنّود، وظل الناس يتندرون على جرأة جوليا، ومَيْلها إلى الحاج عمران لحظة الوداع، لتقبله على خديه، ولكي يتخلص من شعوره بالحرج، ويدرأ عن نفسه شبهة الغلط، قال إن هؤلاء هدية من السماء، ولو أنهم مسلمون لأصبحوا أولياء لله.

 واستشار الناس في تنفيذ خطط البنادقية، الخاصة بحفر القنوات، على أعماق تزيد على قامة أطولهم. وحملت الحمير والبغال، ناتج الحفر، إلى شاطيء النيل، بطوله المحاذي للقرية، حيث تمت تعليته بالحجارة والصخور، من جهة الشرق، وارتفع جبل التراب والطين، متحديًا أية ثورة متوقعة لنهر غادر.

 ونشط البناؤون والعتّالون والنجارون وصناع السواقي، وازدحمت مصاطب كل قهوة، بخلق من البلاد المجاورة.

 لم تعد هند تبرح الدار بسبب الحمل، وكان الحاج يُطلعها على تفاصيل كل شيء، في جلستين. الأولى في راحة القيلولة بعد الغداء، والثانية بعد عودته من السهر أول الليل. كان يحكي بفرح عن إنجاز الرجال، حتى إنه أحب الحكي لذاته، متشجعًا بأن لهند روحًا رشيقة، لم تطلها بلادة ولا صدأ، معجبًا باستجاباتها للحكايات، بلمعة عينين، وشغف بالمعرفة، وتعقيب بأسئلة تثير دهشته. كما لاحظ الحاج زيادة وعيها ببعض الأمور الصغيرة، كتقديرها لتوقفه عن الكلام، كلما سمع وقع قدمي حليمة، أو إعراضه عن الحكي، إذا دخل الدار، في وجود حليمة، متعللاً بحاجته إلى النوم.

 

(18)
عادت العربة من سَمَنّود بعد الظهر، محملة بمقاطف صغيرة، مصفوفة ومغطاة، لا يعرف ما بها على الله القهوجي، الذي أصر على أن يكون في صحبة البنادقية، حتى يصلوا إلى الكنيسة بسَمَنّود. كان يوقن أن بها سمكًا، وكلما امتدت يده، لرفع أغطيتها من ورق الشجر والحشائش الطازجة، لام نفسه، لأنه أعطاهم وعدًا، بألا يفتح المقاطف إلا أمام الحاج. وبدافع الفضول، ظل يلسع ظهر البغل بالفرقلة، وشتمه الحاج، على جلافته وعنفه مع البهيم الأخرس
:

 ـ أنت قهوجي، مالك والبغل والعربة؟

 قال هامسًا:

 ـ أنا عربجي لمشوار واحد يا سي الحاج، بحق نعمة ربنا الطريّة الطالعة من البحر، من ساعة واحدة.

 وأشار إلى السمك، الموصوف في القرآن بأنه لحم طري. وعلت ضحكة الحاج:

 ـ بحق نعمة ربنا يا كذاب؟

 ـ طبعًا يا سي الحاج.

 ـ وشَعْر جوليا وعيونها!

 نظر القهوجي إلى الأرض، ولم يشأ الرجل إحراجه:

 ـ افهم يا عبيط: كل النسوان ملّة واحدة، تختلف الألوان والنكد واحد. آه لو سألت جوليانو!

 ورفع الحاج أغطية المقاطف، وتهلل وجهه، شاكرًا لكرم النصارى، الذين أرسلوا من خيرات النيل أسماك البلطي والرعاش والبساريا. ونادى حليمة، لتدعو النساء لتجهيز الغداء. ودعا على الله إلى ترك العربة، والرجوع إلى القهوة، فبعد الغداء، يحتاج العمال راحة، وضبط أدمغتهم بالمشاريب. وكاد يسأله عن بنادق أخرى، طلب الضيوف توصيلها إليه، ولم يشك في أن على الله أخفاها، فليس لمثله أعداء، كما أنه لا يجرؤ على سرقة سلاح، فضلاً عن خوفه منه. والتفت إلى الحاج، كأنه تذكّر شيئًا، في الوقت الذي أمره فيه بإرسال عوض المكاري، ليذهب إلى البنادقية في سَمَنّود، ليسألهم كيف يصنعون السلاح، ويبلغهم فشل الحدادين والغجر، منذ الصباح، في صنع ماسورة واحدة.

 وقال القهوجي:

 ـ الرجل جوليانو قال إنك طيب، وفاكر إن الحدادين يمكنهم صنع البنادق.

 فهم الحاج سر صمتهم، ونظرات تبادلوها، عندما استدعى الحدادين وطلب صنع السلاح. ورغم شعوره بالخديعة، قال إن سلاحين يكفيان. وأصابه إحباط لأنه كان ينوي استخدام حدادين وغجر، يعملون لحسابه، ويعيد إلى القرية مجدها، ببيع السلاح وإنفاق العائد في تخضير الأرض، وإنشاء مصانع للزيوت الصابون والسواقي والعربات الخشبية، ولوازم العرائس من النحاس.

 أسر بذلك إلى حليمة، وقالت إن ذلك لو تحقق، فسوف يثير ضده رجال الباشا، ولم تستبعد وصول الأغوات وأتابك العسكر، على رأس انكشارية يسدّون عين الشمس، من صباح ربنا، لجمع السلاح، واصطياد صانعيه، واستخدامهم لحساب الأوجاقات، ويمنع تملّك الفلاحين له.

 وأمسكت بالبندقية، وقالت إن الأصوب أن يوجد، من هذا العفريت، عدد معقول، في متناول أيدي رجال القرية الاثني عشر، لحمايتها من الكشوفية ورجال الباشا. وصمتت، ثم عقبت:

 ـ وربنا يكفينا شرّ "سجل الشاهد".

 ونظرت إلى على الله القهوجي:

 ـ وأنت يا هباب، واقف من الصبح تتفرج علينا، اعمل لك همّة، وهات لي قهوة.

 ضحك القهوجي، وهمس بالقرب من الحاج، قائلاً إن الخالة حليمة لم تطلب قهوة. وجاملها عمران بتهديد على الله:

 ـ قهوة خالتك بسرعة، وإلا أهبدك بالبندقية.

 أوضح له على الله أن البندقية ليست للهبد، وأنه رأى منها عددًا وفيرًا، مع عدد آخر من البنادقية، عندما أوصل الثلاثة إلى سَمَنّود، وأنهم أثاروا بها الذعر، وأطلقوا منها، على سبيل التسلية، أعيرة أخلت شوارع المدينة من زحمة الخلق. وفاض بحليمة:

 ـ عاوز نقفل لك القهوة يا سخام الحلّة؟

 لم يجد عمران داعيًا لثورتها عليه، وكان يود الاستماع إلى المزيد، عن البنادق والبنادقية. وداعب حليمة:

 ـ الدنيا كلها قهوة، ناس على المصطبة، وناس على الأرض، وناس تخدم، وناس تسْكر.

 ورأى أنها جادة أكثر مما عهدها، وضم أصابع يده اليمنى طالبًا بعض الهدوء، والتخلي عن الكلام الملَهْوج. وتضايقت حليمة، ليس من إشارته، بل مما تصورته ضيقًا بكل ما أصبحت تمثله، بعد أن استحوذت عليه هند، منذ علم بحملها، واقتراب موعد ولادة حفيد له:

 ـ كلامي الدّبش كان يعجبك زمان يا عمران، لما كنت أحنِّن قلبك على بنت العبد.

 ـ يا شيخة اعقلي، جدّ ابن مبروك ما عاد من العبيد.

 

(19)
لأول مرة، منذ وعى عمران، يشعر بأن شمس الأيام الأولى من شهر بؤونة حانية، لا تنوي إيذاء أحد، تعويضًا عن قسوة ملاك العام الماضي، الذي فتح طريقًا إلى طاعون لا يرحم.

 ومنذ عاد بمبروك، جسدًا فوق عربة، من طندتا، لم يمت في القرية أحد، لا من أهلها، ولا من العمال، الذين عاشوا على هامش البلد، ولا الغجر أو الحَلَب، الذين نصبوا خيامهم، على مقربة من البوابات الثلاث.

 كان قد عاد من الإشراف على أجران القمح، بامتداد الغيطان، وأراد أن يجامل حليمة، بأي كلام، فقال لها إن الموت ابن المرض، والمرض يعرف طريقه إلى مَن ينتظره، أو يدّعيه، أما غير المبالين بالمرض أو الموت، والمشغولون بالزرع والبناء، فعافيتهم تهزم المرض، وتسدّ أبواب الموت.

 وعلت ضحكته:

 ـ شوفي النسوان حبالى من أول ليلة!

 وابتسمت اللئيمة:

 ـ يا رجل يا بصباص.

 ـ يا وليّة اختشي. بناتي ونسوان عيالي.

 وتذكّر هند، وتجنب السؤال عنها، تحسبًا لحساسية زادت في الأشهر الأخيرة، في نفس حليمة. وجاءهما مَن ينعى كبير جماعة الغجر، وتشاءما بسوء الطالع، وجمع عمران الرجال، بهدف تقديم عزاء إلى الوافدين، ومساعدتهم في نقل ميتهم، إلى أي مكان يختارون.

 كان الغجر قد أرسلوا وفدًا، للاستئذان في دفن الميت، على حدود مقابر أوزير. ورفض الحاج بشدة، وانقسمت آراء الرجال، واتهم عمران الموافقين بالتواطؤ، والتهاون في حقوق القرية:

 ـ لو دفنوه هنا، فلن يتركوا أوزير العمر كله.

 وعلّق خليل:

 ـ بعد شهر أو سنة، يناديهم رزق في بلد آخر.

 أوضح الحاج أنه تركهم، منذ بدء الإعمار، يعيشون في البلد، ويبنون دورًا صغيرة وخيامًا، ويشعلون النار لصنع المناجل والفؤوس والمحاريث، ولا خطورة في ممارستهم الحياة، وأن الكارثة في الموت.

 عجب الرجال، حتى المؤيدون منهم لرأي الحاج، الرافض دفن الميت الغجري في أوزير.

 قال الحاج إن الحياة حين تضيق بهم هنا، سيلتمسونها في مكان آخر، وإن الإبقاء عليهم دافعه الحاجة إليهم، إذا اعتدى حَلَبي أو منسر على أحد من أهل البلد، أو سرق ماله أو بهيمته، في سوق الأربعاء بسَمَنّود، أو سوق الثلاثاء بالمحلّة. وأكد أنهم باللصوص كفلاء؛ إذ يعرف الغجر والحَلَب بعضهم بعضًا، ويراعون الحرمات بينهم.

 كانوا ينصتون إلى كلامٍ، رأوه مقنعًا، والحاج يؤكد أن بإمكان البلد طردهم، في أي يوم، إلا أن لعظام الترب قداسة، تجعل لهم حقًّا في بلد لن يغادرهم، حتى لو هجروه بعض الوقت.

 ـ يموت لأحدنا ولد، فيعوضه بآخر. ولكن الأب لا يعوّض.

 وقرأ الرجل، بعين خبيرة، نظرات استفهام في عيونهم، فأتبع:

 ـ لو أن الميت ولد صغير، لأمكنهم نسيانه، في زحمة العيال، والرحيل عن البلد بلا أسى. ولكنه الرجل الكبير.

 وجاءه من الخلف، مَن دعاه إلى أمر مهم في الدار، فنسي نفسه، والميت والغجر والرجال. كانت هند على وشك الولادة. وانصرف الرجال حيارى، وأدركه خليل، وكان يوسع لنفسه طريقًا للخروج، وأجاب بلا تفكير، عن سؤال متوقع:

 ـ ادفنوه.

 صحا في نفس حليمة رعبها القديم، مما ظنته نحسًا يطارد كل من رأى هند عارية. وظلت حيرى، ترفض الاقتراب، وتخشى أن ترفض طلب الحاج، توليد هند.

 كانت حليمة على يقين بأنها تنتحر، إذا غامرت بالاقتراب من هند، وولّدتها. وكادت تعترف له برعبها، من مهمةٍ هي اللعنة نفسها، ولكنها قدرت عواقب ثورة الرجل، فتمتمت بما تحفظ من قصار السور، ثم قرأت آية الكرسي. وتوضأت وصلت ركعتين، ليستا خالصتين لوجه الله. كأنها تودع الدنيا.

 ثم خرجت من غرفة هند، إلى باب الدار، حيث يقف الرجل منتظرًا. كان يبكي ابنه الفقيد، حزنًا متجددًا، وقلقًا على الأرملة الصغيرة، راجيًا الله أن تهديه حفيدًا. وقالت:

 ـ لا يوم الزعل يا عمران، ولا يوم الدموع.

 رفع رأسه قليلاً، ولم يسأل، فلو كانت عندها بشرى ما تأخرت، في إراحته بها، بدلاً من هذا اللوم.

 وألقت إليه ببشارة، من كلمتين، سمعهما بجوارحه كلها:

 ـ بيتك عامر.

 وأسندته في حضنها، وهو يكاد يسقط، غير مصدق. وردد الاسم، في استعذاب:

 ـ عامر.. نسميه عامر.

 تركته، مستجيبة لعياط هند، ثم خرجت مجهدة، والفرح لايزال يكسو وجهه:

 ـ عامر رزقه واسع يا حاج، ربنا أراد ألا يوحده.

 انتفض الرجل متسائلاً:

 ـ أخ؟ ، توءمه سالم يا حليمة؟

 ونظر إلى أعلى، كان في حالة تصالح مع السماء، وشعر بأن الله قريب منه:

 ـ الحمد لله.. عامر وسالم.

 أمسكها من كتفيها، وهزّها بعنف، حتى خشيت أن يكون به مسّ من الشيطان:

 ـ عاهديني يا حليمة، على أن نعيش حتى يتزوج عامر وسالم.

 مرة أخرى، هاجمها شبح النبوءة القديمة، واستسلمت للعنة أودت بالأم والزوج والمملوك.

 ورأته مبتهجًا، وسرّها ذلك ، وهي راضية بدنوّ الأجل:

 ـ يا.....ه ، ربنا يحيينا يا عمران.

 ـ قبل عشرين سنة، نعمل أكبر فرح، لأولاد مبروك.

 ـ عيال الغالي.

 ـ وهديّتك للعيال رقصة في الفرح، تتحسّر عليها غوازي سنباط!

 دمعت عيناها، وهي تستدير:

 ـ ليلة الهنا يا ابن والدي.

***

 

حليمة وهند

 

(20)
سأل الحاج عمران حفيديْه عامر وسالم، عما يريدان من سَمَنُّود، فقال سالم: "عجوة وهريسة"، وطلب عامر أن يأخذ راحة، من الذهاب إلى الكتّاب، وسبَّ الشيخ في سرّه، متمنيًا أن يموت، ليستريح من حفظ الوِرْد اليومي، وتهديده هو والبُلداء، المتكاسلين عن الكتابة على اللوح الخشبي. وقال له جدّه إن ابن مبروك يجب أن يكون الأول، ولا يصح أن يتفوق عليهما أحد أبناء الغجر، أو ابن خليل الطوبجي مثلاً.

 كان عمران يتأهب للسفر، إلى سَمَنّود، ولم تطلب إليه حليمة، كما كانت تفعل قبل ولادة الحفيدين، سرعة العودة، بل لم تعد تبالي بأحد، وتمكّن منها شعور عميق بأنها عبء، على عائلة ليست عائلتها، ولكنها لا تجرؤ على التصريح بذلك للحاج، خوفًا من ثورته. وفكّرت، ذات مرة، في ترك أوزير كلها، والرحيل إلى مكان لا يعرفها فيه أحد، وحدثتها نفسها بأن الرجل لن يهدأ له بال، حتى يعيدها، ولو كانت في حضن جنيَّة، في قاع البحر. وقال لها شيطانها إن هند انشغلت بولديها، وعمران انشغل مع هند بابني مبروك، ولم يعد يسأل عنها مخلوق، وانتظرت الندّاهة أيامًا، لتذهب بها إلى طريق بلا نهاية، ولكن الندّاهة لم تأت. كما منعتها كبرياؤها أن تلقي إلى النيل بنفسها، في الفيضان الأخير. وقررت أن تخلق لنفسها دورًا، مع الولدين، ولكن الحاج كان يحبط خططها، من دون أن يدري، بتدليلهما الزائد على الحد.

 كانت المسافة، بينها وبين عمران، تزداد اتساعًا، يومًا بعد الآخر. هي لاتزال محكومة بحدود الدار، والغيط، وهند، وعامر وسالم. وتغار كلما حدّثها الحاج عن رغبته في الزواج، أو شراء جارية، قائلة إنه جدّ، وعليه أن يخجل من شيبته. وفي نفسها، لم تكن تريد ضرّة أخرى، مع هند، تنافسها على الرجل الوحيد في الدار. ولهذا أخفى الرجل عن الجميع سرّ اكتراء منزل في سمنود. وذات مرة ألمحوا لحليمة، ولم تبدِ اهتمامًا، حرصًا على كرامتها، ثم قالت إن مئة عشيقة خير من لزِيقة، في إشارة إلى زوجة أو جارية في المدينة.

 لم يعد عمران يشغل نفسه بأمور الدار، وأكثرَ من شراء جلابيب وعباءات كشمير، بدا فيها مهيبًا، كأنه باشا أو ملتزم برّ الغربية كله. وظل يلح على الغجر، بأن يصنعوا له بنادق. ونجحوا في صنع بعض المواسير الحديدية المستقيمة، وعدد من الكعوب الخشبية، ولكنهم عجزوا عن تركيب بندقية واحدة. وظل يترحم على البنادقية الثلاثة، ومنَّى نفسه بعودتهم يومًا.

 وصار خليل الطوبجي في بضع سنوات أكرش، حتى لا يعرف له طول من عرض، ويمشي كأنه يتدحرج. ونعمت يداه، بعد أن هجر مضارب الطوب، وصارت أقرب إلى أيدي النساء، في ملمس الصابون. وأبقى على كره منه، على امرأة أنجبت له مروان وصفوان، وبنى دارًا أخرى لجارية، لا يتردد في التغني بمفاتنها.

 لم يغضب خليل حين أخبره ابنه مروان، بأنه لن يذهب إلى الكتّاب. بل هدّد الولدُ ببطح شيخ الكتّاب، أو نقر رأسه، في زحام الخروج، بحجر مدبب، في حين كان أبوه اللَّحِيم يهتز من الضحك.

 وسأله الحاج:

 ـ وعدتَ ببيع الدار والجارية، وسداد ما انكسر عليك لشيخ سمنود؟

 نزع يده من يد ابنه، وأشار بسبابته للحاج:

 ـ إن احتاج شيخ البلد ماله، رهنت عنده الجارية.

 ـ تشتري جارية، وأنت مدين للكبير والصغير!

 ثم ضحك الحاج، وغمز بعينه، في دلالة لم تخف على خليل:

 ـ أشك فيك، والله يا طوبجي. تكسفنا مع الجارية، وأنت غرقان في الديون.

 فأطلق ضحكة واثقة:

 ـ آ..ه لو جرّبت يا سي الحاج جارية رومية!

 وهمَّ الحاج بالتحرك بالعربة، إلى سمنود، وجرى مروان بن الطوبجي وراءه، بمحاذاة الفرس.

 وقال خليل:

 ـ تعاتبني يا سي الحاج، تستكثر عليّ يومين للراحة، تحرّم عليّ حلال ربنا؟

 وكاد يقول للحاج إنه أحلّ ويحلّ لنفسه ما يحرمه على الآخرين. وفهم الرجل إيماءات خليل، وقدّر له بقية احترام تجاهه، كسيد للقرية. ولم يملك، رغم ذلك، إلا أن يبصق على الأرض، والفرس تعدو، والولد يجري حافيًا، وراء العربة، ولا يمنعه أبوه. ثم لمحه الحاج، ولم يبال به. وبعد أن تجاوز البوابة، كان مروان لايزال يجري، محاولاً اللحاق بالحاج، ومدّ إليه يده، كما بسط إليه قدمه، فاستند إليها الصبي، وبقفزة واحدة صعد إلى جواره. ثم فكّر الحاج بعد مسافة، أن يعرف هذا الصغير طريق منزله السرّي في المدينة، وهو يتجنب منذ اكتراه، ومنحه الجارية، أن يذهب إلى سمنود يوم سوق الأربعاء، وحدّد للمتعة يومًا آخر، حتى لا يراه أحد، في الدخول أو الخروج.

 في مدخل سمنود، دعاه بعض الكلافين إلى سراية شيخ البلد، وظن أن الأمر يخص الجارية، ولكن الرجل قابله مقابلة كريمة، تضيف إلى هيبته، وإن أبدى غضبًا من سلوك خليل الطوبجي:

 ـ سداد الدين أولى من شراء جارية بلوازمها.

 اهتز عمران، كأن الشيخ يعرّيه، وينزع جلده، حين كشف له سرّ أحد رجاله، وكان يظن أن ما يدور في أوزير، لا يتجاوز بواباتها، ولا يعلم به أحد. وقال لنفسه إن هذا الذي يبث عيونه في أوزير، لابد عارف بحكاية الجارية، ولعنه هو وحليمة التي تفرض وصايتها عليه. ووعده بإقناع خليل بسداد الدين، وأكد أكثر من مرة، أنه كبير أوزير بحكم السن، وليس وصيًا على أحد، ولا يعمل مساعدًا للصنجق، ولا ملتزمًا، في بلد أكله الفيضان، ولم يهتم بأهله أحد من رجال الباشا، في مصر المحروسة أو طندتا.

 وقال الشيخ بحياد:

 ـ الدين له سبع سنين، قبل الغرق بزمان.

 ثم أضاف بحزم:

 ـ اسأل خليل عن غوازي سنباط.

 كان الحاج يعلم أن الطوبجي أنفق أمواله على الغوازي، منذ كان يعمل لصالح رجال شيخ البلد في سمنود، ويأخذ أكثر من حقه، على الأجل، ثم انكسر عليه مال كثير. كما ظل الرجل ضائقًا بخليل، ومستاء من سلوكه الطفولي، ويؤكد أن أمثاله، من الرجال الصغار، يدعون النساء إلى رفع أعينهن في أعين الرجال. ولم يشكّ في أن شيخ البلد جادّ في وعيده، بأنه قادر على أن ينتزع الطوبجي، عاريًا من سرير جاريته، ويضربه رجاله علقة، لا يصبح بعدها صالحًا، لزوجة ولا لجارية:

 ـ أمنع رجالي يا حاج والله، احترامًا لك.

 شرد الحاج، لائمًا نفسه على تنبيهه الشيخ، إلى خلوّ أوزير من ممثلين للباشا. وتوقّع أن يأتي في القريب رجال الباشا: شيخ بلد، وملتزم، وصراف، وشاهد، ومشدّ، وكلافون، يدنّسون بلدًا ظل بعيدًا عن الأعين، منذ انتهى اثنا عشر رجلاً من تعميره.

 وأفاق الحاج على تهديد الشيخ بأنه يمنع رجاله، عن الإتيان بخليل الذي تبلد إحساسه، ليسيل شحمه في الوسيّة، وينحل عوده كما كان.

 انتبه أحد الرجال إلى الولد، وسأل الحاج:

 ـ ابن مبروك ؟

 فقال الولد إنه ابن خليل، وخرج الحاج عن صمته، مغتاظًا من طول لسان مروان:

 ـ مسحوب من لسانك يا ابن الكلب؟

 ثم عاد عمران، بعد أن أمضى النهار في منزل الجارية، من دون الولد. ولم يهتم أبوه بأنه مرهون عند شيخ البلد، في سمنود. وجاءت زوجته تشتكي إلى الحاج:

 ـ يشتري جارية، ويبيع ابنه ؟

 ـ رهْن يا أم مروان، رهْن.

 ـ أقطع ذراعي إن رجّعه.

 وخرجت إليهم حليمة، ومنعت يد خليل أن تهبط على وجه زوجته:

 ـ اليد الناعمة لا تضرب الوشوش ولا الطوب، سامع يا سُخام الحلّة؟

 وقال لزوجته:

 ـ بعد ضمّ الغلّة والشعير، أرجّع الولد، وأخلِّي لك التِّبْن.

 حرنت المرأة، ولم تتمالك نفسها:

 ـ التِّبْن ينفع كل بهيم يفرط في ابنه.

 ارتبك خليل؛ فلأول مرة تخاطبه زوجته بهذه الحدة، ويشتد عنادها:

 ـ ابني؟! ، من يضمن أني أبوه ؟

 وأتبع قبل أن يفيقوا، أو يردوا على كلامه:

 ـ الله أعلم.

 بصقت حليمة تجاهه. وردّت زوجته:

 ـ ما يرمي الناس بالمعايب غير كل عايب.

 ولم يجد أمامه إلا أن يرمي عليها يمين الطلاق، وطرده الحاج من الدار، وقال إن الديوث من يتهم زوجته، من غير وجه حق. وتعهد بحمايتها منه، وأن تبقى في دارها مكرمة، مع ابنها صفوان.

 من النافذة، تابعت هند ما جرى، ومنعت عامر وسالم أن يشهدا شجارًا انتهى بالطلاق. وبكت على مبروك، متذكرة ليلتها معه، وطيبة قلبه، ومداعبته لها يوم الخبيز، وهو يرفعها في الهواء. وقالت للحاج إن ملائكة السماء اختارت مبروك، لأنه مثلهم، لو وقف إلى جوار شيطان مثل خليل.

 ومن بين يدي هند أفلت الولدان، خارجيْن إلى الحارة، ورفضا العودة، رغم توسلها إليهما. ومن جديد بكت أباهما:

 ـ أشتكي لربنا صاحب الدار.

 وظنت بها حليمة مسًّا من جنون، وسألتها عن حكاية صاحب الدار، فقالت:

 ـ رصَّ الحجارة تحت الجدار، وسقط عليها المسكين، في ليلة زفافه.

 انقبض صدر حليمة، وتمنت، للحظة، لو ماتت في الفيضان، ودهمها يقين بأنها قاتلة، قتلت مبروك، بحرصها الزائد على رصِّ الحجارة، وتثبيت قواعدها الملساء على الأرض، ورفْع أسنّتها المدببة إلى أعلى. لمنع وصول الناس والدواب إلى باب المنزل.

 لم تلاحظ هند شيئًا، ولا نظرت إليها، وأكملت:

 ـ سنّ الزلطة دشدشت رأس مبروك يا عمتي.

 واحتضنتها حليمة، وفي أعماقها كانت تحتضن نفسها، وترسل العزاء وتتلقاه. وأسمع بكاؤهما مَن بالحارة، حتى إن الولديْن جاءا، ومن غير أن يسألا أو يفهما، شاركا في النشيج.

 

(21)
لسنوات تالية، عانت حليمة عذاب ضمير، انطلق كرصاصة، بكلمة واحدة من هند. وكادت تنتحر، لولا تعهدها لعمران، بأن يعيشا حتى يتزوج عامر وسالم. ونمت في نفسها رغبة في التخلص من ثقل جريمة، ارتكبتها في حق صبيّة ترمّلت ليلة زواجها، وصار ولداها أطول منها وأقوى. وحدثتها نفسها بأنها قتلت مبروك، من غير قصد. وتمنت الموت، ليزيح عنها عبئًا لم تعد قادرة على تحمله. وودّت لو تعترف لعمران، أو لهند، بأنها لم تكن تعرف أن الحجارة المرصوصة، لمنع العربات والحمير وأصحابها عن إزعاج العروسين، ستقتل الابن الوحيد. لو أنها فعلت لأراحت ضميرها، أيًّا كانت العقوبة، التي تتوقع قسوتها من عمران وهند، وشابين لم يريا أباهما. هي عقوبة مهما يطُل أمدها، فسوف تنتهي، وتهدأ نفسها، وتغتسل روحها من دماء، لاتزال تحتفظ بدفء اللذة
.

 ولما اقترب موعد زفاف سالم، استعدت حليمة لأن يكون اعترافها بالقتل، أمام الناس، كبيرهم وصغيرهم، أهل البلد والغجر والحلب، ورجال الباشا الذين زاد عددهم، وجعلوا أوزير مراتع لبغالهم وأفراسهم، منذ سمح لهم الحاج عمران بتجاوز البوابات الثلاث. وكانوا يعبرونها، إلى جامع المتولي أو دار الحاج، مثل ضيوف.

 

(22)
مثل غيرها من القرى، صارت أوزير نهبًا لأشداء لا يرحمون. كانوا يعملون لصالح الملتزم الجديد ورجاله الذين يجهلون تاريخ هذا الطمي، وكيف جعل منه المؤسسون بلدًا أشبه بعروس على الضفة الغربية للنهر.

 ولم يغفر الحاج عمران لخليل الطوبجي. وظل يراه مسؤولاً عن عودتهم.

 وتجنب الطوبجي المرور بدار الحاج، مكتفيًا بإرسال التزاماته، من ضرائب وبرّاني، في نهاية الموسم، إلى رجال الباشا. إلى أن أعيته الحال، وتوقف عن الوفاء، واستدعاه الشاهد لمقابلة الملتزم، فلجأ إلى الحاج، ولم ينس أن يخبره بأن الجارية، التي استغني بها عن الزوجة والولدين، حرمت نفسها وحرمته، لأكثر من شهرين، من أن تذبح ولو بطة واحدة، واحتفظت بكل الدواجن، مع كثير من الحبوب والعسل والسمن، ولكن الكلاف، أراد رأسين من الغنم على الأقل، كي يرضى الملتزم ورجاله.

 لم يكن الحاج يطيق النظر في وجه خليل الذي أحرجه باللجوء إليه، هو الذي لم يلقِ إليه السلام، منذ سنوات، حينما فرط في ابنه مروان، ورهنه لدى شيخ سَمَنّود، وطلق زوجته، في اليوم نفسه.

 استمع إليه، ووجهه خال من التعاطف أو التحامل. ضميره مستريح إلى أن الطوبجي عدو نفسه، وكبرياؤه، ككبير لأوزير، فرضت عليه أن يفعل شيئًا أو يقول، فقال في حياد إن الصدام، مع رجال الباشا لا يفيد، وعليه أن يخرج من الورطة، ببيع بضعة قراريط، لسداد البرّاني.

 وأصيب الطوبجي بالإحباط مما ظنه تخاذلاً من الحاج واستسلامًا:

 ـ أرضي مرهونة يا سي الحاج، انكسر عليّ قدّ ثمنها وزيادة.

 خرجت حليمة من الدار، وقالت ساخرة:

 ـ أرضك مرهونة، وابنك مرهون، والجارية ما عادت تصلح للبيع.

 ـ أرهن نفسي، أو أرهن ابني صفوان؟

 علق الحاج:

 ـ صفوان؟، ابنك كبر يا طوبجي، أطول منك!

 كاد عمران يلومه، وقدّر أن الضرب في الميت حرام. وأحس خليل بالذنب، وهزَّ رأسه آسفًا:

 ـ والله ما شُفته من سنين.

 ـ ولا هو يلزمه.

 وبجسده القصير الشحيم، انحنى خليل بصعوبة ليقبل يد الحاج، راجيًا أن يستغل مودة قديمة، تجمعه بشيخ البلد بسَمَنّود، ليتدخل لدى ملتزم أوزير، ويؤجل البرّاني، أو يكتفي بالدجاج والجبن والعسل، ويتنازل هذه السنة عن الأغنام. وقال الحاج إنه لم يقابل الرجل، أو يريه وجهه، منذ ترك لديه مروان.

 على سبيل النصيحة قال:

 ـ اذهب بنفسك.

 لم يفهم تمامًا مراد الحاج، ولكنه رغم عدم الفهم، أو بسبب ذلك، انزعج:

 ـ أسلِّم له نفسي؟

 ـ زُر ابنك على الأقل.

 ـ ونسيت يا سي الحاج تهديده لك، بأن يرجعني للوسية؟

 كاد الحاج يضحك من الأسى، أو يلوم الواقف أمامه، على قوة ذاكرته إذا اختص الأمر بالتهديد، وضعفها إذا تعلقت المسألة بحقوق ابنه صفوان وأمه.

 ـ فات عشر سنين وزيادة يا مُغَفّل.. هو اكتفى بمروان، وربما نسي دَينك له.

 على مضض، وافق الحاج على الذهاب إلى شيخ سمنود، ليشفع لخليل الطوبجي.

 هناك أتعبه المشوار، من أول الغيط إلى البيت الكبير. لأول مرة يشعر بالشيخوخة، وأحزنه ذلك، وتمنى لو أعفوه من التعب، ولم يكن مسموحًا للزائرين بامتطاء ركائب.

 كان الرجل مريضًا، لا تسمح له صحته بالخروج إلى المضيفة، وعزّ عليه أن يرفض أو يؤجل طلب الحاج لقاءه. ودخل عمران، لأول مرة، بيتًا تحيطه الأشجار من ثلاث جهات، ويطل من الشرق على النيل.

 وفي انتظار خروج الرجل، لاحظ الحاج أن السقف خالٍ من عروق الخشب البارزة. كتلة واحدة مسطحة، تبرز منها نقوش صفراء، كأنها طليت في الحال بالذهب المحلول، وللأبواب ألوان مفرحة، ودّ لو سأل عنها شيخ سمنود، لولا أن علاقتهما لا تسمح.

 ثم قال له إنه كان ينوي الذهاب إلى الحجاز، لحج بيت الله؛ فلم يعد العمر يمنحه الأمل، ولا الصحة، ولكنه يخشى أن ينهب عربان السكة، كعادتهم، قوافل الحجاج، أو يهاجم الحَلَب والمَنْسر أوزير، في غيابه، متحالفين مع المفسدين من أتباع الوالي. وأكد أن زمانه هذا قاسٍ، كأن القيامة على الأبواب، ولوح بيده مثل خطيب الجمعة، قائلاً إن من علامات قيام الساعة أن يُخرج الخلق أسوأ ما فيهم، وينهبوا حجاج البيت الحرام، ويقتلوا الشيوخ والأطفال، ولو كانت في قلوبهم رحمة لاكتفوا بفرض المغارم والفِرَد.

 سأله الرجل عن المطلوبات، من العوائد التي يحصلها رجال الباشا، من أهالي أوزير، لدفعها للعربان، اتقاء شرهم. فقال إن الناس في أوزير ضاقوا بالضرائب، ولا يرحمهم شاهد رذل، يخلط فيما يسجل في دفتره، الحق بالباطل، ويأتي الصراف لتحصيل الجباية، حسب ما دوِّن في سجل الشاهد، فلا يجد عند الخلق شيئًا.

 صمت الرجل، وظن الحاج أنه غضب عليه من الصراحة، فأتبع:

 ـ يا جناب المكرم، ليتهم يتعلمون من كرمك وسماحتك.

 أشار إلى عمران بالجلوس، وقال:

 ـ فاكرك يا عمران جئت للسؤال عن مروان.

 ـ الطوبجي حاله تصعب على الكافر، ما استطاع أن يفك رهن أرضه، ولا عنده ما يكفي البرّاني.

 ـ فلاح خائب، وأنت قراري وكبير البلد.

 ـ نطلب شفاعتك.

 وعده بدفع ضريبة الطوبجي، وقيمة البرّاني، على أن ينتقل إليه رهن الأرض. ونسي الحاج السؤال عن مروان، وتطوع الرجل بالقول إنه عدّى إلى الشاطيء الآخر للبحر، إلى برّ المنصورة، وسط عدد من الأنفار والمماليك.

 وعلى المدقّ، لم يعرفه الحاج.

 كان الموكب مهيبًا يسدّ عين الشمس. وارتكن عمران إلى ساق شجرة كافور، حتى يمر من ظنهم مماليك شيخ سمنّود، أو وجهاء زائرين يسمح لهم بامتطاء ركائب. إلا أن أحدهم تأمله من فوق الفرس، وظل يدور حوله مستعرضًا، ورفع الحاج بصره إليه، من دون أن يبدي تعليقًا، إلى أن فاجأه الشاب المختال:

 ـ أنا أرفض الرجوع يا حاج.

 ظن أنه غير مقصود بكلام شاب لايزال فوق فرسه، وواصل السير لا مباليًا، بجوار المدقّ، ولاحقه الفتى، وسدّ عليه الطريق. ومسحه الرجل بنظرة سريعة، وسأل نفسه عن أسباب تحرش هذا المملوك به. وأمر الشاب أحد أتباعه بأن يأتي به، فوق عربة بحصان، إلى منزل في وسط الغيط.

 على جانب بوابة كبيرة، استشرف الحاج لوحة رخامية. وقبل أن ينبهه خادم إلى اللقاء، تمكن من قراءة أول سطر، مكتوب بالخط الفارسي:

 لا تسكن الأرياف إن رُمت العُلا

 إن المذلة في القرى ميراث

 لم يمهله الخادم ليقرأ البيت الثاني، ولم يجبه حين سأل عنه، كما لم يفده عن السيد الذي استدعاه. ولما عرف الحاج أن الواقف بين يديه مروان بن خليل الطوبجي، نهض بشوق لاحتضانه، ولكن الصحة لم تسعفه، كما لم يسارع الشاب إلى ذلك. كان محايدًا وجافًّا، في رفض العودة إلى أبويه، قبل أن يقترحها عليه الحاج. وحسب الفرصة مواتية، لتذكيره بحاجتهما إليه.

 ـ الزمن تغير، وأرض والدك مرهونة.

 ـ خلّيه يبعها ويفك الرهن.

 ثم صمت في حياد تحول إلى سخرية، وقال:

 ـ كما باعني.

 أحس الحاج بحرج، كأن الولد يلومه، على اشتراكه، ولو عن غير قصد، في ابتعاده عن أبويه، وقال بصوت خفيض:

 ـ ما باعك أبوك يا ولدي، أنت تكلمت يومها، أمامي، فارتهنوك.

 ـ ما فكر في فك رهني أنا.

 فكر الرجل في كلمة "أنا" التي يرددها الولد بلا مناسبة. وكاد يلومه، وأرجأ الأمر إلى أن يختلي به، بعيدًا عن تابعيه:

 ـ ارجع معي لو أردت.

 قهقه مروان، وقام من مكانه، فاكتشف الحاج أن قامته تليق بوجيه أو حسيب، واستشعر رفضه العودة، وتساءل في نفسه: أين ذهبت قامة الصبي الذي عدا، خلف العربة، والتقطه وأتى به إلى هنا.

 وتطاوس الشاب:

 ـ لي هنا أتباع، ومماليك.

 وبلا تفكير ردّ:

 ـ هذا من فضل ربي، ودعاء والدتك.

 تعمد الحاج أن يلقي في أذنيه بأي كلام، عن أمه قليلة الحيلة، وانتظر ردّه. ولم يبدِ حنينًا إليها، ولا أسفًا على افتقاد أهل، ليسوا بالضرورة قساة القلوب كأبيه، هناك في القرية أخ وأم. وأمر للحاج بطعام، واستكثر كبير أوزير أن يستعرض عليه صبيٌّ، ظل حافي القدمين، إلى أن أتى به إلى المدينة، أول مرة. واعتذر بلطف، ولم يلح عليه أحد، وأشار مروان، إلى من لا يراهم الحاج، فأتوا برأسين من الغنم، وبقرة وجاموسة، وحمولة كبيرة، من البطيخ والشمام والصابون والعسل والحبوب، يحملها حماران في خُرْجين.

 وقال له:

 ـ لي شهور وأنا بعيد عن سمنود، وربما لا أكون هنا لشهور.

 فهم الرجل الرسالة، وكاد يقول لمروان إن أباه أو أمه أو أخاه لن يفكروا يومًا، في المجيء إليه، مادام لا يريد. ولم يصارحه بأن أمه طُلِّقت بسببه يوم غادر أوزير، وودّ لو ألمح إليه بأن "الواجب" يفرض عليه أن يبادر إلى زيارتهم، وقدر عاقبة أن يأمر شابًا له أوسية، ومماليك، وألاضيش، وجلابون للرقيق. ولكن ما أحزنه كثيرًا، أن مروان لم يسأل عن حفيديه عامر وسالم.

 أمر مروان ثلاثة عبيد باصطحاب الحاج، على ألا يتحركوا من سمنود إلا بعد العصر، ليصلوا أوزير بعد المغرب. وأحس الرجل بالإهانة، لأن الولد لم يقبل عليه باللهفة المتوقعة، أو يشكره على أنه كان سببًا في هذا العزّ والنعيم، ولم يوله الاحترام اللائق، بأن يناديه، مرة واحدة، ولو على سبيل السهو أو المجاملة، قائلاً: "يا سي الحاج"، أو يقبِّل يده، وكان ينوي الإسراع إلى نزعها، ولكنه أراد بعض التوقير. وأوعزت إليه نفسه بأن له حقًّا في هذا الكرم، الذي هو دين في عنق فتى جحد فضله عليه، حين أدخله على شيخ سمنود. وقرر الحصول على الجاموسة، وحمار بحمولته، وأن يعطي البقرة لصفوان وأمه، ويحصل الطوبجي على رأسي الغنم، والحمار الثاني بنصف ما فوقه، والنصف الآخر إلى ابنه وأمه.

 ولما اقتربوا من أوزير، لامته نفسه على التفكير في الاستئثار بشيء، من منحة مروان لأهله، فلن تضيف جاموسة واحدة إلى دوّار يزدحم بالمواشي. وسبَّ هذا الولد ناكر الجميل، ونوى قسمة المواشي والحبوب بين الطوبجي وابنه صفوان.

 بكى الطوبجي، وأحس بالحرج والصغار، وقبّل يدي الحاج. وجاء صفوان وأمه يشكرانه على تعبه من أجلهما، وبكت الأم، وأعلنت استغناءها عن كل شيء، مقابل أن ترى ابنها. ووعدها الحاج بترتيب زيارته يومًا ما.

 واعترضت حليمة على تقسيم هدية الابن بين والديه. وقالت بحزم كأنها تأمر:

 ـ رجّع امرأتك يا خليل.

 وبدون تفكير ردّ:

 ـ أمرك يا خالة.

 غضبت أم مروان، وعاتبت حليمة:

 ـ اشترى يا خالتي خاطر جارية، وباعني أنا وابنه، بعدما رهن ابنه الكبير، وما سأل عنه.

 أصابت الدهشة حليمة:

 ـ ويريدك اليوم يا خائبة!

 ـ بعد عشر سنين وزيادة يا خالتي؟

 ـ ولو بعد عشرين.

 نظرت حليمة إلى الطوبجي، وأشارت إليه بإصبعها فوقف:

 ـ ولد يا خليل، ادفع لها مهر عروسة من جديد!

 ضحكوا وأسعدهم اقتراحٌ، لم تخطط له حليمة، وقبله خليل عن طيب نفس. ولكن المرأة أصرت على الرفض، وظل صفوان حائرًا، ونظرت إليه أمه، وقالت:

 ـ بالمهر يشتري جارية، لو يريد.

 ـ خليل شاريكِ يا عبيطة.

 ـ شاريني بالأمر؟.. بأمرك يا خالتي.

 كادت تقول إنها انتظرت، حتى صباح اليوم، إشارة منه بإعادتها إلى عصمته. وردّ خليل وحليمة معًا، ومن دون اتفاق:

 ـ بالرضا يا أم مروان.

 ـ من سنين ما لها عدد ما سأل عنا، ولا كان يعرف ابنه صفوان لو قابله في السكة!

 وأقسمت بالله ألا يجمعهما سقف دار، وأبدت استعدادها للتخلي عن نصيبها من هدية مروان، وعن صفوان ابنها نفسه، لو أراد العيش مع أبيه. ولكي تحرض صفوان عليه، سألت كيف يأمن ابن لأب فرط في أخيه الكبير وأمه. وشكرت حليمة، وقبّلت يد الحاج، مؤكدة أن لها أمنية وحيدة:

 ـ أشوف ابني مروان قبل الموت.

 واغتاظ خليل، وعلق ساخرًا:

 ـ موتك أنت أم موته !

 رمقته بنظرة احتقار ولم ترد، وسحبت ابنها وهمّت بالذهاب. وأحس خليل بالخزي، ولم يشعر بفرحة انفراج الهمّ، بوصول رأسي الغنم، بقية البرّاني، والتخفف من أعباء مطالب رجال الباشا. وجثا أمام المرأة التي لا ترحم ضعفه، وكان وجهها خاليًا من الشفقة، فعاد إلى داره مهزومًا، ولزم الفراش أسبوعًا، استراح في آخره من المرض بالموت.

 كان الحاج عمران وحده القادر على إقناع مروان بالسير في جنازة أبيه، وتلقِّي العزاء. وخشي أن يرفض الشاب طلبه، ويحرجه أمام شيخ سمنود، أو المماليك، فتحايل على رجال أوزير، قائلاً إن وجوده مهم، لمقابلة شيخ البلد والملتزم والشاهد والصراف، وبقية رجال الباشا، فلا يصح ألا يكون في استقبالهم، وهم يقدمون واجب العزاء، في أول من يموت من المؤسسين الاثني عشر لأوزير الجديدة. وكلف أحدهم بالذهاب. ثم عاد محبطًا، بعد فشله في مقابلة مروان، وقال إن لقاء شيخ سمنود أسهل، وإن الرجل سلم عليه من فوق العربة، وأبلغه بأن مروان أقسم بالله، بعد زيارة الحاج عمران له قبل أيام، إنه لن يعتِّب بوابة أوزير، وأكد أن خليل زهد ابنه حيًّا، ولم يرغب في استعادته يومًا، فكيف يحن مروان إليه ميتًا؟

 وإلى منزل الجارية، انتقل صفوان وأمه.

 لم يتبادلا معها كلامًا، بل ربت هو على كتفها، ولم ينطق، وكانت مستعدة للارتماء في حضن أمه التي لم تنظر إليها، واتجهت إلى غرفة أشارت إليها الجارية، قبل أن يسألها أحد. ومن الخلف جاء من يحملون الجثة إلى دار صفوان، لتخرج منها الجنازة.

 وظلت متماسكة، في حين علا نواح الجارية، في أبعد مكان تحتله النساء في الحارة، ونشجت هند، متأثرة بالجارية، ولامت نفسها، لأنها لم تحزن على مبروك كما يجب، إذ أسرعوا إلى دفنه، ولم يمكنوها من رؤية وجهه. وارتفع عويلها، ونادت مبروك، كأنه أمامها، وتأثرت النسوة بنحيبها، وبكين مبروك وهند. قامت حليمة، وأخذتها في حضنها، وهي تمرق بجسدها النحيل، مرتمية على الأرض. وقالت حليمة إنها السبب، وهند لا تسمع ولا تعي، بل رددت أنها قاتلته.

 حملها سالم إلى الدار، وظن أنها تبكي خليل، مجاملة للزوجة أو الجارية، وتذكّر جده العزيز هوجاسيان، الذي كان يحبه كثيرًا. وظل يكلمها طوال الطريق، عن مروان الذي أخطأ بغيابه، في حق أبيه المتوفي وأمه الأرملة، وعن جده هوجاسيان، ولو كان حيًّا لذهب لاستدعاء مروان، نيابة عن جده الحاج، ثم فوجيء بها قد استسلمت للنوم.

 وامتدت عدوى البكاء إلى حليمة. ندبت مبروك، وتخففت من عبء الإحساس بأنها قتلته، حين اعترفت لهند التي لم تسمع شيئًا؛ فقررت الذهاب إلى مبروك نفسه، للاعتراف وطلب العفو. لم تخش وحشة الليل، وهي تعي أن جنيّة البحر تسكن المقابر، كلما أضيف إلى الموتى أحد، في ليلته الأولى. وقالت إنها لن تلقي السلام على الميتين، أو الجنيّة، لتمنحها الحق في الاستئساد عليها، بقتلها أو إصابتها بعاهة، تشل ذراعها أو لسانها، كما فعلت الجنيّة يومًا مع سمعان الغجري، حين اقتحم المقابر، ولم يستأذن حراسها، ليلة دفن أحد الموتى، بإلقاء السلام. كان يبحث عن غنم اختبأت هناك، واعترضت طريقه امرأة، وسألته عما يفعل، ولم يرد. قالت له "سلِّم على أهل الدار تسْلَم"، وكان في لهفته، غير عابيء بأحد، يريد سرعة الرجوع إلى عشش الغجر، وجذبته من ذراعه، بضغطة واحدة، كما كان يشير إلى كل من يسأله، بعد عجزه أيضًا عن الكلام.

 ولكن عامر اعترض طريقها، قبل أن تصل:

 ـ يصحّ يا جدتي تبقى المحزنة من غير ولا واحدة في مقامك، بين النسوان؟

 أفاقت وشعرت بالحرج من أن تعترف له بأنها ذاهبة، بقدميها، إلى موت تستحقه، لتكفِّر عن قتل أبيه.

 وفي عودتها مع عامر، عزّت عليها نفسها. وقرأ عامر بعض ما ظل يحفظ من القرآن، منتقيًا كلمات من آيات الموت والنعيم، من بينها "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية"، و"كل نفس ذائقة الموت"، و"أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج..". وقال إن الله يحب جده هوجاسيان، إذ جاء موته سهلاً، بلا مرض، لم يغرق في البحر، أو يسقط من فوق سطح الدار.

 انقبض قلب حليمة، وهمّت بسؤال عامر، عما إذا كان يتعمد إتلاف أعصابها، بمصارحتها بأنها أسهمت في مصرع أبيه من فوق السطح. ولم تطمئن إلا حين داعبها برغبته في الزواج.

 أصابتها رعشة، كأنها تسمع أباه مبروك، حين فاجأهم بطلب الزواج، قبل الوصول إلى طندتا. شرد ذهنها، ودمعت في صمت. ثم أعاد عليها السؤال، فقالت من دون تفكير:

 ـ لوحدك ؟

 ـ آ.. يا جدتي لوحدي!

 وسألها بدهشة:

 ـ غريبة ؟

 ـ وأخوك يا سخام ؟

 ضحك وقال إنه يتمنى أن يتزوجا في ليلة واحدة، وتذكرت أن الدار الجديدة هي الوحيدة، من بين دور مؤسسي أوزير، التي لم تشهد فرحًا، ولامت نفسها على شراستها الجاهزة، في الاعتراض الصامت أو المعلن، على زواج عمران. وسألت عامر:

 ـ من منكم الكبير يا ولد ؟

 ـ أمي قالت إنها ولدت سالم بعدي، بمقدار ما شرب جدي القهوة.

 

(23)
قالت حليمة لعمران إن الولدين تجاوزا العشرين، والعمر يمضي، ودارهم الوحيدة الخالية من زغاريد الفرح، ولم ترقص أمامها غوازي سنباط. تذكّر عمران ذلك، وحزن بعمق، على ولده الفقيد، الذي صار ابناه أطول منه، وفرح بالاقتراح، وأسر إليها بخوفه من أن تنكد عليهم هند، وتجعل ليلة التسريرة محزنة. وطمأنته بأنها تتمنى لولديها راحة البال، ولو طلبا نجوم السماء
.

 وسأل الحاج عن رجل، كأنه من الأغراب، حضر عزاء خليل الطوبجي. وقيل له إن اسمه رينيه دوما، من بلاد الفرنسيس، اشترى مساحة من الأرض، على حدود أوزير، ويقيم حولها سورًا، من شجيرات لم يروها من قبل، وينوي زراعة جنينة كبيرة، كما يبني إلى جوار منازل رجال الباشا، منزلاً صغيرًا لزوجته وابنته.

 تذكّر الحاج عمران من اعتبرهم أصدقاءه: جوليا وجوليانو وكارلو، وأسف لأنهم لم يمدّوه إلا ببندقيتين، وفكر أن حفيديه عامر وسالم قد نضجا، بقدر يسمح بأن يسلم كلاً منهما بندقية.

 ورأى عامر ابنة الفرنساوي دوما وأمها تتجولان في سوق القرية، صباح الجمعة، وكيف سحرتا الناس، وأدارتا إليهما رؤوس النساء قبل الرجال، حتى تمنوا أن تبقيا أطول فترة، ولو كلفتهم بهجة الرؤية الاستغناء عن بيع أو شراء، حتى صلاة الجمعة نفسها.

 قال عامر لنفسه إن الذي يقتني مثل هذه البنت، سيضعها أمامه، وينشغل عن الدنيا بتأمّل عينيها وشعرها، وقد يلمس جبينها أو يقبّله، ثم يبتعد. لم يتصور أنها كانت أصغر من ذلك يومًا، أو ستصير أكبر.

 في الأيام التالية، ظل يطوف بالفرس أو بالعربة، على حدود غيطان البلد، أو حول منازل الوجهاء، لعله يراها، ثم رآها كثيرًا. كانت ملامحها هادئة، يكسوها كثير من الدهشة والبراءة، وغضب عامر مما ظنه تجاهلاً، وتساءل عن سر عدم اهتمامها به، أو لهفة لا يجدها في صفاء عينيها، كلما غاب عنها، ثم عاد لمقابلتها في الغيط. كانا يتبادلان حوارًا بالإشارات، حيث لا تسعف لغة أحدهما الآخر.

 وحين أسرّ لجده برغبته في الزواج منها، أحزنه أنه لم يفرح بالقدر الكافي، بل طلب إرجاء الأمر، إلى أن يقابل أباها. ولم يكن الولد متعجلاً، وراجع فكرة الزواج، وأصابته رعدة، خرج منها بالاكتفاء مؤقتًا برؤيتها كل يوم. ونسي مغامراته العارضة، مع بنات الغجر، في نواحي سمنود كل أربعاء، أو على حدود غيطان أوزير، مفكرًا فيمن آمن بأنها ملاك، يجب أن يبني من أجلها دارًا، حتى لا يراها أحد، ولن يمسها هو، وإنما يتكلم، ويسمع، ويملأ بملامحها النورانية عينيه. وكثيرًا ما ضحك، وهو يضبط نفسه يقول بصوت مسموع، ولا أحد:

 ـ "أتملاها وخلاص".

 ثم تهمس إليه نفسه سائلة: "وخلاص؟". ويجيبها بيقين قائلاً: "أتملاها قاعدة، وواقفة، ونائمة".

 كانت هند تعجب، كلما اشتكى إليها أحد، وتقول سبحان مَن أخرج، من بطن واحد، الصالح والطالح، في إشارة إلى وداعة سالم، وشراسة عامر الذي لا تردد أمامه هذا الكلام، تجنبًا لنظراته وفجاجته. منذ سمعها يومًا تطيّب خاطر امرأة. وبعد انصراف المرأة، رفع أمه إلى أعلى، حيث كانت أمام الكانون. حملها بكرسي خشبي صغير، كانت تقعد عليه، وظل يدور بها، ويداعبها بغلظة، وهي تخشى السقوط فتدك عنقها، قائلاً:

 ـ يا هند يا هنداوية.. أنتِ قصيرة وغلباوية.

 ولم يتركها إلا حين رأى أنها ستسقط بالفعل. ولم تكن هند تميل إلى الشكوى إلى جدّه، لعلمها بتعلُّقه بالولدين أكثر من اللازم، وحبه لعامر ربما أكثر من سالم الذي يراه مسالمًا أكثر مما ينبغي، ولهذا يفضل صحبة عامر، كلما سافر إلى المنصورة أو طندتا، منذ مات جدّه هوجاسيان. الأعجب أن فائدته لجدّه كانت قليلة، لكنه كان خفيف الظل، في حكاياته التي تذكِّر الرجل بشبابه، وتُطَمْئنه بأن الحياة لاتزال بخير. كان يسعده كثيرًا أن تتعلق بعامر عيون النساء. وعرف الشاب، في السفر الكثير، كيف يفخر الجد بفحولته، كما اكتشف مرحه، حين ألمح إليه صديق في المنصورة، أنه صار "بركة" قليل النفع، في غيط أو بيت. وفهم الجد مقصد الرجل، وقال ضاحكًا:

 ـ ربنا يجعل نومتي قبل نومته.

 وفي رحلتهما الأخيرة، لبيع بذور الكتّان والشعير، لمحه صديق لجدّه، وصاح:

 ـ ابن مبروك ؟

 ولم يكن عمران قد انتبه إلى الشبه بينهما، فأتبع الرجل:

 ـ افتكرته، والله يا حاج، مبروك نفسه، وقلت إني في حلم.

 وأقسم أن يشتري له هدية، وضحك الحاج عمران، وقال:

 ـ الولد معجباني لا يطلب أقل من جارية رومية!

 ـ والله ما يغلى شيء على ابن الغالي.

 خطفت عينيه واحدة، فساهى جدّه، ودسَّ في يد صاحبها أكثر مما يطلب، واختلى بها ساعة، في غرفة نائية بوكالة الرقيق. وبعد رجوعه، خجل من مصارحة جدّه، برغبته في العودة بها واقتنائها، خوفًا من رفض حليمة، التي يضيق صدرها بنزواته، وتصلح بالمال، وبلسانها الحلو بعض أخطائه، وآخرها قبل أيام من موت خليل الطوبجي.

 

(24)
كان عامر قد زهد في كل من تتساهل معه، في منحه نفسها. ورغب بنتًا حَلَبية رفضت غوايته. رآها أول مرة، تحضر الغداء لأبيها، الذي هجر تاريخه وعاش بذراعه. وراقبها أيامًا، وحاول استمالتها وهي لا تستجيب. لم يكن يريدها تمامًا، وإنما غاظه أن تستعصي عليه. هي لم ترفضه صراحة، ولكنها لم ترحب به كما يتوقع مثله من مثلها. وأحس بالإهانة، هو القادر على طردها مع أبيها وأمها من أوزير كلها، وقرر أن يسجل انتصاره، وارتدى جلبابًا على اللحم، وأمر أباها أن يجهز له النورج، ليدرس القمح. ثم استرخى فوق النورج، وطلب إلى أبيها أن يركب الحمار، ويأتي بالمذراة من الدار. كان هواء العصر لطيفًا، وخشي الأب ألا يكفي الوقت، فاستأذن في ركوب الفرس، فنهره عامر، وهو يهدف إلى كسر أنف ابنته. ثم دعاها لتقريب القصعة من البهيمة التي توقفت، لتفرغ الرّوث، وحين استدارت بالقصعة الصاعد منها ما يشبه البخار، أمسك ذراعها بقبضة يده، وكادت القصعة تسقط، بما فيها من روث، على الغلّة، فقالت البنت بلهفة:

 ـ الجِلَّة يا سيدي عامر.

 وأجلسها إلى جواره، وحذرها أن تبدي مقاومة، بالحركة أو الكلام، ولكنها ظلت تقاوم، وهو يكتم صوتها، وينزع جلبابها، ورأى قميصها البالي ممزقًا ومبللاً بعرق ساخن، فوق عرق قديم أفقد القميص طراوته، وتحسس ربلتيها، وشعر بالرثاء نحوها ونحو أبيها. وكانت قد أغمضت عينيها مستسلمة لقوته، وهزّ رأسه بأسى:

 ـ روحي حالاً، قولي لوالدك يؤجّل بقية الشغل لبكرة.

 لا يدري عامر ما حدث له، منذ رأى ابنة دوما، ولا كيف غيرت حاله. لم يتصور أن يجمعهما فراش، ولم يشغل نفسه، منذ تعلق بها، باحتياجات جسد فائر، تستجيب له كل من يعملن عنده، أو يتمنينه. وقال لنفسه إن هذه البنت ملاك، وخسارة في أن تمنح للسرير، ولن تتردد في أن تختار له بنفسها، من تقاسمه الفراش كلما رغب.

 ولكن أباها أدهشه الطلب، ولم يفهم مقصد الحاج موضحًا أن ابنته صغيرة، لا تعرف شيئًا. وبحث عنها، وقيل له إنها في الحوض القبلي. وكانت قد بدأت تألف الولد، وتتعلم منه كلمات، تنطقها بحروف ممطوطة، مصحوبة في الغالب برفع كتفيها وحاجبيها.

 وبإشارة الكتفين والحاجبين، أفهمته عدم ارتياحها لطعم الماء، في قُلّة فخارية، كانت موضوعة في تجويف صفصافة. وقفز عامر إلى الأرض، وحفر بعصا بَرَاها بعناية، لزوم نخس البغل إذا اضطر لركوبه. وشاهدت البنت في يديه أوراقًا خضرًا، تبدو ناعمة، يتدلى منها من ناحية الجذر، عنقود من الطين المتماسك، كل حبة منه في حجم بيضة العصفورة. ونطقت بكلمات فهم أنها سؤال، فامتدت يده إلى القُلّة، وصبّ قطرات من الماء على العنقود، وأزال عنه الطين، وظل موصولاً بالورقات، عبر خيوط مرنة، ينتهي كل منها بدَرنة تميل إلى الحمرة.

 تناول عامر إحداها، وقَرَشها بلذّة، ومنحها واحدة، وفعلت مثله، واستطعمتها.

 قال إنها "سِعْدة" تؤكل، وتوضع أيضًا في القلّة من أعلى، أو تُدعك بها حواف حلقها، ليضيع طعم الفخار. وأخذت "سِعْدة" أخرى، وبدا له أنها لم تفهم كلامه، فوجدها فرصة ليلمس أصابعها. كانت ناعمة ونحيلة وأطول مما تخيل، وقال في نفسه إن هذه "أصابع الست"، كما يطلقون في أوزير، على النوع الطويل الناعم من البامية. أراها كيف تحكّها في فم القلّة، في موضع شفاه الشارب. وشربت وضحكت من سحر الدَّرَنة الصغيرة، لذيذة الطعم أكلاً وشربًا.

 بعد الشرب، مسحت شفتيها بقطعة قماش صغيرة، وأعادتها إلى جيبها. وقطّبت جبينها انزعاجًا من عامر، وهو يتجشّأ بعد الشرب. وكررت دهشتها، مع كلمات سريعة متداخلة الحروف، وهو يبصق في الترعة بقوة.

 ثم عاد إلى الدار منتشيًا. وكان جده وجدته وأمه حائرين، في طريقة إبلاغه رفض رينيه دوما.

 همس الحاج إلى السيدتين الغاضبتين:

 ـ الرجل رينيه عنده حق، بنته صغيرة.

 قالت حليمة:

 ـ يكسر نفس الولد، وتقول صغيرة يا عمران.

 علقت هند:

 ـ شُفْتها يا سيدي في سوق الجمعة، هي أكبر مني يوم دُخلتي.

 ـ وأنا شُفْتها يا أم عامر، صبية ممصوصة، و...

 قاطعته حليمة:

 ـ ويا ترى هي مسلمة ؟

 ابتسم الحاج:

 ـ أبوها نصراني يا حليمة.

 قالت بيقين، لإنهاء النقاش:

 ـ نصارى وأغراب.

 سَهَمت هند، وترحمت على أبيها. وعجبت لحليمة التي لم تعترض على زواجها بمبروك، لا بسبب دين أبيها، ولا عدم ولادته في أوزير، والآن تنتقص من عروس اختارها ابنها، لأن أباها غريب، وغير مسلم، في حين كان الحاج أكثر رحمةً، عندما دفن هوجاسيان في مقابر العائلة، بلا تردد.

 وسألت هند عن معنى نصارى، وشملهم صمت، قطعته حليمة قائلة:

 ـ غير مسلمين والسلام.

 وضحك الحاج، وأشار بسبابته إلى السماء:

 ـ رينيه مثل كارلو وجوليا وجوليانو، يؤمن بربنا وبسيدنا عيسى.

 وصل عامر، حين كان جده ينطق "سيدنا عيسى"، فقال:

 ـ عليه السلام.

 ـ تعرفه يا عامر ؟

 رد بفخر من يعرف ما يجهلون:

 ـ الشيخ حكى لنا قصته في الكُتّاب، وشرح سورة سِتِّنا مريم.

 قاطعهم سالم، بهبوطه الاستعراضي، من فوق بغل تركه للشغالين ليربطوه في الزريبة. كان وجهه يكتسي فرحة وخجلاً، وخشيت أمه عليه، فقامت ومسحت جلبابه. وردّدت في لهوجة: "قل أعوذ برب الفلق.. قل أعوذ برب الفلق". وقالت إن وجهه أكثر إشراقًا من القمر.

 كان مترددًا، وشجعته خفة دمه على أن ينطق أخيرًا:

 ـ لو سورة مريم تأتي لدار عمران ؟!

 انفجرت حليمة ضاحكة، وكشفت مراده:

 ـ عمران؟، عمران عليه السلام!، تقصد مريم لآل عمران.. لسالم.

 

(25)
فرح عمران وحليمة وعامر بالاختيار. ولم تبد هند حماسًا، لزواج ابنها بمريم بنت حسن الزيات، أقل المؤسسين لأوزير الجديدة شأنًا. لم تستهوه الفلاحة كثيرًا، وفضل عليها تجارة الزيت وصنعه، وترك شؤون أرضه لأجراء، وابنته مريم لا تحسن الزراعة، وليس لها جلد الشغل في الغيط:

 وتساءلت هند في استنكار:

 ـ بنت الزيات لابن مبروك بن عمران!

 وسألها عامر:

 ـ مالها بنت الزيات يا أمي ؟

 ردّت من غير تفكير:

 ـ أنت تبص للسماء، وأخوك يبص للأرض!

 أخفت حليمة في نفسها غيظًا، وندمت لأنها كانت سببًا في استرضاء الحاج، ولولا شفاعتها، وما ظنته بركات شيخ العرب، سيدي أحمد البدوي، لظلت هند مجرد ابنة للعبد هوجاسيان، لا زوجة لابن كبير البلد. وشعرت بالاختناق من هند، وقامت لتشم هواء في الحارة. وتبعها عمران، وأجلسها إلى جواره، على المصطبة، ولم تتحكم في لسان، انطلق بما لم تستطع قوله في الدار، أمام هند:

 ـ على رأي المثل يا بنت هوجاسيان: "اشترى بدرهم بلح صار له في الحي نخل"!

 نصحها عمران بالهدوء، وقبل جبينها، فهدأت، وسارعت إلى دخول الدار، ليس شراء لخاطر هند، وإنما خوفًا من أن ينسحب لسانها، وتبوح لعامر بأن رينيه دوما رفضه زوجًا لابنته.

 وسألتها هند:

 ـ موافقة يا عمتي على مريم؟

 لم تنظر إليها، وابتسمت لسالم، كأنها تسخر من أمه:

 ـ "الفايدة في الخرا ولا الخسارة في المسك".

 في سخونة النقاش حول مريم، بين القبول والرفض، نسي عامر أن يسأل جده عن رد رينيه. وفي أحد الأيام التالية، شاهد عامر، على البعد، ابنة رينيه تتلوى وتتوجع، وتحول الألم إلى صراخ. اقترب منها مستفسرًا، بالإشارة، عن السبب. كان يريد أن يقدم أية مساعدة، وهي عاجزة عن الشرح، ونبتت حبيبات عرَق على جبينها، فالتصق به شعرها الذي كان يطيره النسيم. وأشارت إليه بالابتعاد، واختفت في الزرع.

 ثم خرجت بوجه خالٍ من الألم، ولكنه مثقل بالتعب، ولمحت أباها على السكة، وحال الإعياء دون قدرتها على الإسراع إليه، وذهبا.

 تتبع عامر طريقها وسط الزرع، من حيث أمرته بالرجوع، إلى أن اختفت آثار قدميها، ولم يصدّق ما رأى.

 كان يظنها ملاكًا، تسري ولا تسير، ولا تشعر بجوع. وكذّب عينيه مرة أخرى، ثم فركهما، فتناثرت الصورة التي لا يريد الاحتفاظ بها، ولكنه تحقق من الكتلة الصفراء، ذات الرائحة غير المحتملة. وغرس فيها طرف العصا، وخنقته رائحة الغائط. أمسك بطنه، واستدار، غير قادر على التصديق أو الحركة، وتقيأ حتى خارت قواه، وبعد إفراغ ما في جوفه، خلع جلبابًا متسخًا، ورماه في الترعة مع العصا، وبصعوبة امتطى الفرس، وتركه بدون توجيه.

 حتى ذلك اليوم، لم يكن عامر يعرف اسمها، ولم يفكر في احتياجه إلى ذلك. وصدمته حين عرف أنها مثل كل الناس تأكل وتفعل ما يفعلون، فزهد في معرفة اسمها، وإن أصبح "أبو دومة" لقبًا لأبيها.

 لاحظوا أن عامر لا يلح على معرفة ردّ رينيه، وانشغل بمتابعة شغل الأنفار في الغيط، ومراحل تجهيز عرس أخيه سالم. وكانت حليمة الأكثر فرحًا بحسن الزيات، الذي لم يحلم يومًا بمصاهرة أكبر رأس في أوزير. وكان يصحبهم، في الأيام السابقة للفرح، إلى سمنود، لتجهيز الشوار. وشاركت هند، بلا حماس، في بعض مشاوير التعطير لعروس ابنها. ومرّت حليمة بمدخل سوق الأربعاء بسمنود، وتأملت ما ظنته موضع خيمة لغجر، مروا بأوزير، ذات نهار، قبل أكثر من سبعين عامًا، وحطُّوا رحالهم، مع غروب الشمس، في هذا المكان، واكتشفوا أن الركب أضيفت إليه صبية، هي حليمة، ومعها طفل في سنواته الأولى، هو عمران. وقالت لها غجرية، بعد أن قرأت طالع الولد، إنه مبتلى بالوحدة، سيكبر وحيدًا، ولن يعيش له إلا ولد واحد، وكانت حليمة تحمد الله، عقب كل صلاة، على أنها لا تتذكر أكثر من ذلك.

 ومن العربة الأخرى، لمحها عمران، فابتعد من دون أن تشعر به، أو بأنه رآها. وانقلب فرحه إلى حزن غامض، من اقتراب موعد كارثة جديدة. وخطر بباله أنه بعد غرق عائلته، ثم مصرع ابنه مبروك، ليلة زفافه، يهون أي شيء. وأحزنه العزوف المفاجيء لحفيده، عن الزواج، بعد رفض رينيه دوما، واكتشف أن أحدًا لم يبلغ عامر هذا الرفض. وطارده وسواس الموت، ظانًّا أن الملاك لاحق الشاب، وأطفأ مصابيح أيامه الآتية. وألقى نظرة إلى الماء الجاري، وتذكر يوم وقف هنا، في يوم خريفي من شهر توت، قبل نحو ربع قرن، حين ابتلع الفيضان أسرته وقريته، وقذف السماء بحجر، وردد "آمنت بالله". ثم تساءل هل يريد الله أن يخفف عنه، بأن يضمّ إلى الموتى حفيده عامر وحده، بدلاً من تضاعُف الحسرة عليه، بموته وهو عريس له ذرية.

 ولكن هند فاجأت سيدها عمران وعمتها حليمة باستدعاء موسيقيين مروا مصادفة، يحملون رقًّا وطبلة وربابة، ومعهم امرأة ظنت أنها من غوازي سنباط، وأحدثوا جلبة في الشارع، بإيقاع مفاجيء، رقصت عليه الغازية، وتحلق حولهم الناس، وشعر الأهل الآتون للتعطير للعروس بأنهم أصحاب الفرح، وانشغل عمران وحليمة عن هواجس شغلتهما، ولم يبح بها أحدهما للآخر، وأسدلت غلالة شفيفة، على حزنهما الدفين، وهما يريان السرور القافز من أعين أهل البلد، القادمين معهم مجاملة أوهروبًا مؤقتًا، من كابوس أعباء فرضها عليهم رجال الباشا.

 

(26)
كان الناس قد ضاقوا بالالتزامات، ورهن كثيرون أجزاء من أراضيهم للملتزم وغيره من رجال الباشا، وصار الأجراء أفضل حالاً من الفلاحين، فلا يملك الأجير إلا عافية يوزعها على الأيام، مقابل قوت عياله، أما الفلاح المدين فيعمل، بلا مقابل، في أرض كان يملكها، انتظارًا لفك رهن يطول أمده. وعجز الحاج عمران كبير البلد عن الشفاعة، إلى أن فاجأه ناس وصفوا له أنفسهم بأنهم صاروا عبيدًا. كانوا فلاحين ضاقوا بالخدمة المجانية، وأجراء لا تكفيهم أجورهم، وبعضهم عبيد، قالوا إنهم اشتروا حرياتهم، بأموال ابتلعها سادة نكثوا العهود، وأبقوهم في قيود العبودية.

 بدأ الأمر بهروب ثلاثة فواعلية، من غيط اتسعت له ذمة الشاهد.

 لجأوا إلى دار الحاج، ورفعوا جلابيبهم الممزقة، عن أخاديد دامية متقاطعة، في الجلود. وقالوا لحليمة إن عصا الخولي لا ترحم، ولا يريدون الرجوع إلى الشغل. وبدون انتظار ردّ أصحاب الدار، بدأوا يعدون لأنفسهم منامات من القش، في إحدى زوايا الفناء المفضي إلى الدوار.

 لم يمض إلا يومان، حتى علم الناس بهروب الفلاحين والفواعلية، وعزّ على الشاهد أن يتمرد أُجراؤه، ولكن الحاج، بعد أن أحسن ضيافته في داره، رفض تسليمه الأجراء. وكانوا يسمعون حوار السيدين، وقوفًا على أطراف أصابع الأقدام، متكوّمين في ذعر، في أقرب زاوية إلى المضيفة.

 وعده الحاج بالبحث عن حل آخر، وتعلل باحتياجه إليهم، عمالاً في أرضه، إلى أن ينفض فرح سالم، وقال إن الخولي يستطيع اكتراء آخرين، من أي بلد في برّ الغربية، وإذا لم يجد، فيمكنه أن يعدي إلى البر الغربي للنيل.

 ما لم يتوقعه الرجلان، أن يشجع نجاح الهاربين الخائفين، فواعلية آخرين، على اللجوء إلى دار الحاج عمران. وفي الأيام التالية، تبعهم عبيد أنفقوا سنوات من أعمارهم، في أشغال شاقة، خارج أوسية أسيادهم، لجمع أموال يشترون بها حرياتهم، ولم يعتقوهم.

 وعلَّى ثلاثة بنائين أسوار دوار الحاج، فتحولت الدار إلى حصن للهاربين المتمردين، قبل أيام من زفاف سالم، وسرت شائعة عن جلاب للرقيق ومشدّ، في بلد مجاور، تعقبا ثلاثة هاربين من أحد السادة، إلى أن عثرا عليهم في برّ المنصورة. وفي العودة قررا إذلالهم، بجرِّهم في ماء النيل. أوثقا أيديهم بأطراف حبال، رُبطت أطرافها الأخرى في مركب استوليا عليه، من صاحبه قليل الحيلة. وقبل الوصول إلى الشاطيء، تعلّق الثلاثة بأحد المجدافين، وأغرقوا الجلاب، فاضطر المشدّ إلى مهادنتهم، بفك وثاقهم، ورفضوا تذلّله، وتمكن أحدهم من خلخلة القيد، وصعد إلى المركب، وهبط على رأسه بالمجداف، فسقط في النيل، وأعادوا إلى المراكبي مركبه، وواصلوا هروبهم.

 لم تحُل أسوار الدار دون عبور الشائعة إلى متمردين، زادُهم إعادة روايتها، باتساع خيال كل راوٍ، لترتد إلى الخلق، في الحواري والغيطان.

 كان الحاج عمران قد شعر بالوهن، منذ أصبحت أوزير مستباحة، بعد انتباه متولي برّ الغربية إليها، ووصول رجال الباشا، وقد بنوا "جامع المتولي"، استمالة للفقراء. إلا أنه رأى، في لوذ المستضعفين به، ما يصلب طوله مرة أخرى. وزاره رجال الباشا، طالبين عبيدهم، وأمام إصراره على تأجيل الأمر، إلى ما بعد زواج حفيده سالم، قرروا رشوته.

 المقربون من الحاج أخبروهم أن المال لا يغريه، فسارعوا إلى استبدال كل عبد بذكر بط، ثم اقترحوا أن يمنحه كل سيد فرسًا، أو جاموسة، أو رأسي غنم. كان ثمن العبد، في نظرهم، لا يساوي دجاجة، ولكنهم استكثروا على من رأوهم مجرد سوائم، أن يكون لهم قرار، بالبقاء أو الهروب، وأرادوا قطع هذا الطريق على من يفكر في الهروب مستقبلاً، وربما نوى بعضهم أن يستعيد عبيده، ليقتل أحدهم، فيعتبر الآخرون.

 وضحك الرجل، وأكد أنه لا ينتفع بهم في بيت أو غيط، فلا يزرعون عنده ولا يقلعون، ولكنه لا يحب أن يخيب فيه أملهم. وقال إنهم يكلفونه، كل طلعة شمس، نصف إردب من القمح، ونحو ذلك من الأرز.

 وقهقه ساخرًا:

 ـ في الفرح يلزمهم خروف.

 قال أحدهم بحزم اليائس:

 ـ لن ينفعك العبيد.

 واصل الحاج كلامه الممتزج بضحكته الصافية، كأنه لا يسمع:

 ـ خروف بليّته!

 لم يحتمل أحدهم ما اعتبره استخفافًا، وسأله:

 ـ خروف بليّته يا حاج؟

 ردّ الرجل، وقد اكتسب ثقة، واطمأن إلى أن صوته لايزال بخير:

 ـ إي والله يا جماعة.. بليّته!

 وكلما اقترب موعد الزفاف، شعر السادة باستقواء حتى الذين لم ينضموا، من العبيد والفلاحين، إلى دار الحاج عمران. وأنه يتعمد تزويج الحفيد، في هذا الوقت بالذات، تحديًا لهم. وأيقنوا أن الفرح استفتاء على جدارة عمران باستعادة قيادة البلد، وأنه ربما يقود مظاهرة للفلاحين والغجر والحلب والفواعلية والعواطلية، ليثبت للباشا أن رجاله غير جديرين بثقة أوزير.

 نصحهم الناقمون على الحاج بضرب المربوط، ليخاف السائب، ولكنهم استهانوا بفكرة أن يقتلوا أحد عبيدهم، ويدّعوا أنه كان يحاول الفرار.

 وسمع على الله القهوجي كلامًا بين المشدّ والكلاف، أثار قلق الحاج على سالم نفسه.

 كانت القهوة تخلو تلقائيًّا، من الفواعلية والحلب والمنسر، كلما نوى الكلاف أو المشدّ تناول مشروب من على الله. في هذه المرة، لم يحزن القهوجي على مجانية المشروبين، وأسرّ للحاج بأن مصيبة في الطريق، يدبرها رجال الباشا، ولم يجرؤ على التصريح بأن سالم مستهدف. وتظاهر الرجل بعدم الاهتمام، وسأله عما سمع بالضبط، فقال إنهما تحدثا عن ريش لابد أن يُنتَف.

 وضحك الرجل:

 ـ عمرك يا أهبل شُفت أي ديك رومي منتوف الريش؟

 وبدا له أن على الله لا يفهم، وشرح له بهدوء:

 ـ ريش الفراخ ممكن نتفه، وريش العصافير لإذلالها.

 ظن القهوجي أنه فهم، وقام استعدادًا للمغادرة، خوفًا من تريقة الحاج. ثم قال وهو يتلفت حوله:

 ـ والله يا سي الحاج، سمعت المشدّ يتكلم عن ديك رومي.

 ارتاع الحاج، وتحكم في انفعاله، وحمد الله أن الولد نطق بهذا الكلام، وهو يهم بالانصراف. وأدرك أن التحذير واقع، وقدّر أن السهم نافذ لا محالة، فلا يرضى السادة أن ينكسروا، أمام الرعاع. وحتى ينفذ السهم، فلابد أن يكون دقيق التصويب ليقتل، باستهداف أحد المؤسسين الاثني عشر لأوزير، على أن يكون بعيدًا عن عائلة الحاج عمران، تجنبًا لتحوّل التمرد، إلى ثورة تغضب عليهم الباشا نفسه، وتطيح رؤوسهم.

 وقع اختيار شيخ البلد على صفوان، عصر الثلاثاء، قبيل ساعات من حِنّة العروس.

 كان صفوان قد ترجّل، كعادة كل الفلاحين، عند المرور بدار شيخ البلد، حتى لو لم يكن بها أحد، وناداه الرجل، فسحب الحمار، وتوقف أمامه مباشرة. وهزّ الحمار رأسه، دافسًا خطمه في حجر شيخ البلد. وضحك السادة الجالسون معه، وظنهم يسخرون منه، فضرب رأس الحمار بسوط، فنفخ من منخريه ما ازدرد من برسيم، ومال جلباب الرجل إلى الاخضرار، وهبط بالسوط على صفوان، وأشار إلى من لم يرهم الشاب، فأطلقوا الكلاب تنهش ساقيه، وتمزق جلبابه، وهرب الحمار والدماء تسيل من بطنه وفخذيه. وظل الرجل يهبط بالسوط على رأس الشاب، إلى أن فقد القدرة على المقاومة، أو الصراخ. ثم أمر عبيده بحمله إلى دار أمه.

 خافت لما وصل الحمار وحده، وقفزت من مكانها. لم تربطه أو تلبس الطرحة على رأسها، وبحثت عن ابنها، من حارة إلى حارة، إلى أن لحق بها صبي، وقال لها إن عبدًا لشيخ البلد ألقاه على عتبة الدار.

 في تلك اللحظة، شعرت بقلة الحيلة، وأنها وحيدة، تحتاج ظل رجل، أي رجل، وأجهشت بالبكاء.. بكت زوجها خليل الطوبجي، وظنت أنها السبب في موته، بعنادها ورفضها العودة إليه، رغم إلحاحه، هو والخالة حليمة، وقالت إن وجوده، حتى وهو بعيد عنها، كان سيمنع كثيرًا من البلايا.

 وحين بلغت دار الحاج عمران، كان عقلها قد صار فارغًا، وارتفع صوتها بالصراخ، متهمة إياه ببيع مروان وقتل صفوان. ولو كان للبلد كبير، ما جرؤ الكلاب على نهش لحم اليتيم. وهددت عمران بأنها ستثأر بنفسها لابنها، فلم يعد لديها ما تخشى عليه، ولن يُرهبها أحد. وكادت المرأة توجّه سبابًا صريحًا إلى الحاج، فهبطت على وجهها كف حليمة، وبالأخرى جذبتها من ضفيرتيها، وتلقَّتْها قبل أن تسقط على الأرض، ودفنت رأسها في حجرها، وبكت بحرقة.

 وجهّز عامر مطيّة لجدّه، وعلى عتبة الدار، رأيا صفوان يتنفس بصعوبة، موشكًا على الموت، ونهبت الفرس السكة إلى سمنود. واستمع مروان إلى عامر، غير مبال في أول الأمر، وطوال الوقت، كان عامر يكظم غيظه، متذكرًا نصيحة جده، بتجنب تذكير مروان بنفسه، أو بأنهما، في الصبا، كانا يلعبان معًا. وسأله بحياد عن أمه وشقيقه صفوان، فقال عامر إن الذين أطلقوا الكلاب على صفوان، قادرون على إطلاقها على والدته، إذا اقتربت من دار شيخ البلد، وهي تصر على الثأر.

 وبسرعة، جُهِّزت عربتان بفرسين إلى أوزير، إحداهما للإتيان بصفوان وأمه، والأخرى لتأمين خروجهما من أوزير، وحراستهما طوال الطريق. ولكن روح صفوان انطفأت مع نور شمس الثلاثاء، قبل دُخْلة سالم بيومين اثنين. وأخفى الحاج الأمر عن الجميع، بمن فيهم أم مروان، التي علمت بموته، بعد وصول رسل ابنها، وعادوا بها وحدها، من دون أن يدري بخروجها إلا عامر وجده.

 وارتمت في حضن ابنها، أو ما طالته قامتها من حضنه.

 ولاحظ أن جسدها انكمش كثيرًا، وحاولت التعلق بعنقه وتقبيله، فانحنى جاثيًا على ركبتيه، وأغرقته بقبلاتها المبتلة بدموعٍ، لا يدري أين ادخرتها، منذ غادرت أوزير. كانت تنوي أن تعنفه، أو تضربه حتى، على جحوده ورفضه المشاركة في عزاء أبيه، ولكنها فوجئت بمروان آخر. كان عملاقًا، لا تستطيع احتواءه في حضنها، ولم تستوعب، من أول مرة، أن الولد الذي عدا وراء عربة الحاج عمران يومًا، ولم يعد، قد صار ملء هدومه، ذا هيبة ومنعة، ولا يقل عن الذين قتلوا ابنها صفوان. ووعدها بالفُرْجة على جثثهم جميعًا.. القتلة والشهود.

 وأرسل رسالة إلى الحاج عمران، يوصيه بالإبقاء على جثة شقيقه، وإتمام الفرح، على أن يدعو كل رجال الباشا وأتباعهم، ويكرمهم بنصيب أوفر في الوليمة والحشيش. وأمر الحاج فجهزت لهم خيمة بمدخل الحارة، معزولة عن أهل البلد المصطفِّين على الجانبين، حيث امتدت أسمطة، بها كل خيرات الله. ودبَّت العافية في أوصال حليمة، لتسرق منها أكثر من ربع قرن. وذكّرها من بقي من شهود العزومة السابقة، احتفالاً بنجاة العائلة من الفيضان، بكرمها المعهود، فضاعفت نصيبهم من اللحم، ومنحت أولادهم كثيرًا من قطع البط، ولم تحذرهم، هذه المرة، أن يدسّوا الجِزَل في سيّالات الهدوم، للعودة بها للأمهات اللاتي استعددن للوليمة، وجئن في صحبة عيالهن، من العصر، قبل أن تتحرك الزَّفة، كي يستقبلنها في أول الحارة.

 

(27)
تحركت الزَّفة عصر الخميس، من بيت العروس، يتقدمها موسيقيون وغوازي سنباط. كانت بطون الراقصات تتلوى على نقرات الطبول، مداعبات العروسين، في عربة مكشوفة، يجرها حصان مزين بسرج له ألوان الأعلام الزاهية، المزدانة بها الحارة. وأعد نجارون منصة، زُيّنت بثياب وفرش، فوقها كرسيان لسالم ومريم. وفي أول الحارة، تركت مسافة، بين خيمة السادة وأسمطة الآكلين الجالسين بدون ترتيب: فلاح بين غجريتين، أو حلبي مع عواطلي، أو فلاحة مع رجال أغراب، كانت تعمل معهم في الغيط أول النهار. أما العيال الذين لم يتلقوا في الولائم تحذيرًا من سرقة اللحم، فيندسّون في كل الموائد، بعيدًا عن رقابة الآباء.

 لم يشعر الحاج عمران باليُتم، كما توقع، إذ لاحظ أن الفرح ليس فرحه وحده، ولا يخص الاثني عشر المؤسسين لأوزير، بل يعتبره كل الحاضرين فرحهم الخاص، حتى إن بعضهم، ممن لا يعرفهم الرجل، كانوا يشرفون على الموائد، ويتابعون الزيت في القناديل، أو يصلحون الرايات الملونة بطول الحارة، ثم يقتربون من الحاج، ويقبِّلون يدًا يبادر إلى سحبها، وهو يشعر بالامتنان.

 ومالت إليه راقصة، ولفّت وسطه بشال، من بين شيلان كثيرة هبطت عليها، وهي تدنو من الحاج، وفاجأته بالدعوة إلى الرقص، واحمرّ وجهه خجلاً، لكن تصفيق الناس ملأه حماسة، وناوله أحدهم عصا، وتبعته حليمة التي أشارت إلى الموسيقيين بالتوقف. وقالت إن عمران ابنها وأخوها وأبوها، وإنه طلب إليها، يوم وُلد العريس سالم وأخوه عامر، هديّة في الفرح، رقصة تتحسر عليها غوازي سنباط. وأحست الراقصات بالغيرة، ودخلن معها مباراة، فُزْن فيها بمهارات الرقص، ونالت هي قدرًا أكبر من التصفيق الذي خفف عنها التعب، وتحمست هند، وكانت أكثر رشاقة، وانتصرت لعمّتها حليمة، وانتزعت إعجاب من فوجئوا بقدرات جسدها وليونته، حتى أغرت أخريات بالرقص، أمام منصة العروسين.

 كان عامر يتسلل، من غير أن يراه أحد، ليطمئن على جثة صفوان، في مكان لا يعرفه إلا اثنان، هو وجدّه، انتظارًا لترتيبات الدفن، ضحى الغد، أو بعد صلاة الجمعة، كما قال مروان. وفجأة فزعوا من رصاصات شقت السماء، آتية من مدخل الحارة. كان كارلو وجوليا وجوليانو قد وصلوا، ومدّوا أيديهم لمصافحة كل الأيدي التي فرغت من الأكل. وقبّلت جوليا العروسين، وجاملتهما برقصة سريعة، لم تصمد أمام راقصات سنباط، في حركاتهن الرشيقة الواثقة العفيّة. كان رقص جوليا خفيفًا مثل قهوة العصاري، ورقص الغوازي دسمًا، كذكر بط زغَّطته صاحبته شهرًا، قبل ذبحه.

 لم يعرف البنادقية الثلاثة إلا الحاج عمران، وعلى الله القهوجي، وبضعة رجال آخرين، ولكن جوليا التقطت شبهًا، بين العريس سالم الوديع، وأخيه عامر ذي الملامح الصارمة. ورأى عامر رينيه دوما قادمًا، بصحبة زوجته وابنته، فدعا جدّه لاستقبالهم، ثم حيّاهم بحياد، رغم تألّق عيني البنت، وهي تقبل عليه، بعد انقطاع دام أيامًا. وجلس الفرنسي مع البنادقية، فوق مقاعد قريبة من المنصة. وسرى همس بين الحاضرين، عن غياب أم مروان، وقيل إن شيخ البلد ضرب ابنها، حتى أوشك على الموت، فحملته واختبأت في مكان مجهول. وقال آخرون إن المجرم قتل صفوان بالفعل، ودفن جثته، وأقسمت أمه ألا تعيش بعده. وحكى أحدهم أنه سمعها تهذي، قائلة:

 ـ سمك البحر أولى بي، بعد خلوّ البلد من كبير يحمي الولايا.

 وكانت التعليقات تختم بنظرة إلى الحاج، ملؤها الإشفاق عليه، بدليل أنه جهز خيمة لسادة قساة القلوب، امتصوا دماء الفلاحين، وخيرات الأرض، ولم يكلفوا أنفسهم عناء الخروج من خيمتهم، لتحية الأغراب.

 كانت الألسنة تسلق أذني الرجل وضميره، حتى كاد عامر ينفجر، ويصرخ فيهم، بتهوّر الشباب، أن جدّه قوي في حكمته، وانتظروا حتى ينتهي العرس. ولكنه دعاه إلى الحكمة، والتزام الكتمان، كما أوصى مروان.

 وذهبت هند إلى حليمة، في مجلسها بين الرجال، وحدثتها عن قلقها على عامر. وصمتت المرأة، وأصابها هي الأخرى قلق، على ولد تزوغ عيناه، ولا يستقر على حال، متنقلاً من مكان لآخر، كأنه لا يفرح لأخيه كما يجب، بل إنه لا يبالي ببنت دوما التي تعلقت به عيناها، منذ وصلت مع أبويها. ونقلت هند إلى الحاج خوفها، وضايقها أنه لم يبد اهتمامًا، أو يرتعب مثل حليمة. ودخل إلى نفسها شك:

 ـ دبّرني يا سيدي الحاج.. الولد يضيع منّي.

 وأطلق ضحكة من القلب:

 ـ ولد يا هند؟

 وقبل أن ترد عاجلها:

 ـ عامر أطول منك.

 ورأى أنها استراحت قليلاً، فقال:

 ـ وأنتِ أصبى منه، وأجمل.

 أحست هند بالخجل، وغابت عن ضجيج الموسيقى، والسكارى، والصائحين تحية للراقصات والمغني. لأول مرة يجاملها رجل بكلمة، منذ مات مبروك، ولا أحد يجرؤ على التفكير في مغازلتها، أو الاقتران بها، فلأرامل دار عمران قدسية. والتفكير في زواج ثان، إلا من شقيق الزوج المتوفي، عيب لا يليق بهن، ولا برجال العائلة. وحين داعبها الحاج، استعادت صباها، ورأت مبروك يبتسم، وسط الزحام. هو الوحيد الذي يبتسم لها وحدها، وتبعته إلى أول الحارة، ولم تلحق به، أو تسمع وقعًا لقدميه، إذ سبقها مبتعدًا، شيئًا فشيئًا، عن أنوار المصابيح، وصوت المغني، خارجًا من البوابة البحرية، وكانت القهوة خالية من الرجال. وسار إلى النيل، وظلت تناديه، وهو لا يرد ولا يلتفت. وظنت أنه يريدها بعيدًا عن الناس.

 كانت هند تنوي ألا تتعب مبروك، حين يرفعها إلى السماء، في هذه المرة، لتهبط مثل اللوتس، وقد ارتفعت ثيابها حول رأسها، كأنها كرنبة. سوف تسارع هي إلى مداعبته، ولو في الماء الذي بدأ يشقٌّه بالفعل، متجهًا إلى الشاطيء الآخر، وتبعته غير مبالية بالبلل.

 ومن عشّته على الشاطيء، كذّب نوح المراكبي أذنيه، حين سمع اصطكاك ساقين بالماء، في حركة رتيبة تزداد بطئًا، ولا يرى أحدًا. كان نوح أول من روّج، بصمته البليغ، حكاية سمعان الغجري، الذي لم يسلِّم على الجنيّة، وهو يقتحم المقابر ليلاً، فشلّت ذراعه ولسانه. فمن هذا المجنون الذي يقتحم بيتها النيل ليلاً؟

 يعلم أهل البلد أن بين قدامى المراكبية، وعلى رأسهم نوح، وبين الجنيّة عهدًا، يقضي بعدم إيذائهم، والسماح لهم وحدهم بالصيد ليلاً، والنزول إلى الماء لأي سبب، في أي وقت، والمبيت إلى جوار النيل، مقابل الصمت عما يرون، وكتمان أسرار الجنيّات، وعدم التحدث عمن سحبن، إلى قاع البحر، من رجال، ثم أعدنهم إلى البر سالمين، بعد زواج ارتضاه الطرفان. وإلا أعيدوا جثثًا تطفو فوق الماء، حاملة ضربات من أكفٍّ غليظة.

 مشى نوح بموازاة الماء، حاملاً مصباحه، وتوقف بالقرب من الشبح الصامت، وعلا صوته ببسم الله الرحمن الرحيم، والسلام عليكم. ومن الماء، جاءه صوت امرأة، تسأله أين ذهب مبروك. وتوسلت إليه أن ينتظرها بمصباحه، ولما كررت اسم مبروك عرف أنها هند. ناداها باسمها فظنته مبروك، وعادت بخطى مسرعة، وارتمت في حضنه. كانت ترتعش، فحملها إلى العش، مع وصول حملة المشاعل، في الأعلى. سمعهم يسألون مراقب الفيضان هل رأى أحدًا، من دون أن يحددوا له اسمًا بالذات، تجنبًا لكثرة الكلام حول ذهاب عقل أم العريس. ورجح نوح أنهم يبحثون عنها، وفوجئوا بمن يصيح من الأسفل:

 ـ يا سيدي عامر.

 وهبط إليه، وبدون أن يبادل الصياد كلامًا، لفّ عامر أمه بعباءة.

 وكانت قد راحت في نوم عميق، واستكثر نوح المراكبي أن يقول، لمن يعتبره من سادة البلد، إن أمه استجابت للنداهة، أو خطف عقلها أبو التَّوَّاه. ثم داعبه وهو يصعد أمامه، حاملاً المصباح:

 ـ افتكرتك، والله يا سيدي عامر، تأتي لي بنصيبي.

 ردّ بامتنان:

 ـ تعال يا رجل يا طيّب.

 ذهب المراكبي مع عامر، الذي حمل أمه، لينضم إلى الآكلين. ولكنه رأى، في نور المصباح، وجهًا في عربة، كأنه لأم مروان. ونفض عن عينيه تلك الصورة فتهشمت، كما لم يجرؤ على سؤال عامر عن المرأة، أو أشباح ينتشرون حول عربةٍ، يصهل حصانها من وقت لآخر.

 كل ما تأكد للصياد أنهم رجال.

 وتسلل عامر، وغطى أمه في سريرها. وفي خروجه من الغرفة، واجهته حليمة بوجه متلهف، فأجاب عن سؤالها الصامت:

 ـ أبو التَّوَّاه أخذها للبحر، ونوح المراكبي ...

 ولكن ملامح وجهها اكتست صرامة مفاجئة، ورفعت سبابتها أمام شفتيها محذّرة:

 ـ اخرس يا ولد.

 خرس بالفعل، ولم يسأل، فأضافت:

 ـ لا أبو التَّوَّاه ولا النداهة.

 ـ حاضر يا جدتي.

 ـ ولا نوح المراكبي شافها.. فاهم؟

 ثم مال من لا تعرفه حليمة، إلى عمران، كأنه يبلغه سرًّا، فأمر بصنع جدار بشري، بوقوف عدد من الرجال العمالقة، ظهورهم لخيمة السادة، ووجوههم للآكلين والسكارى والمغني والراقصات والعروسين. وأشار إلى عامر بالخروج من الحارة، لمقابلة رسول. وتناول الحاج بندقية من جوليا، ودعا جوليانو وكارلو للتصويب إلى أعلى، تحية للعروسين. وقبل نفاد الذخيرة، كانت الاستغاثات تمزق جدران الخيمة التي لم تنطلق فيها رصاصة، إذ دُرِّب مروان على استخدام السلاح المناسب في المكان والزمان المناسبين، وقدّر أن الأفضل للانقضاض على شيخ البلد والشاهد والملتزم، وبقية رجال الباشا، هو السيوف والخناجر والسكاكين. وعلا الصراخ على فرقعات رصاص البنادقية، الذين شاركهم دوما مجاملة للحاج.

 وغضب الحاج على مروان، وسأل حفيده بانفعال، عن السبب الذي يدعو الولد ابن خليل الطوبجي إلى تغيير الخطة، من دون أن يخبره بأن العفاريت الزُرق ستطفيء مصابيح الفرح. وكان الاتفاق أن يصطاد رجالُ مروان مَن يخرج من الخيمة، واحدًا بعد الآخر، بعيدًا عن الحارة وضيوف الرجل، فكيف يقتلهم في ضيافته، وأمام داره. والأهم من ذلك كله، لماذا أمر بتحطيم المشاعل، وفضّ الفرح قبل الفجر؟

 كما كسر أحد عفاريت مروان مصباح نوح المراكبي، حين شك في التفاته إلى الوراء للحظة، حيث رأى نوح شبحًا عملاقًا، يتبعه شبحان، يبدو أحدهما قصيرًا ضئيل الجسد. وسمع، من بين محاولي الهرب والمستغيثين، من يقول:

 ـ راضية يا أمي ؟

 لم يكن يعرف صاحب الصوت، إلا الحاج عمران وعامر الذي اختفى بعد انتهاء الهجوم.

 ورفع الحاج يده، فطالت كتف مروان، على سبيل المؤازرة والتحية. لم ينطق ودعاه للمبيت، هو وأمه، في داره. ومالت السيدة إلى يد الرجل لتقبّلها، فسحبها وهو يربت بيده الأخرى على كتفها. وهمس في أذنها معاتبًا:

 ـ في البلد كبير يا أم مروان.

 وأحست بالأسف:

 ـ ربنا يخليك لنا يا سي الحاج.

 وفي الدار، وبعد صعود العروسين، جلس الأربعة: عمران وحليمة ومروان وأمه التي رأت أن تأخذ جثة ابنها، وترحل مع ابنها الآخر. ولم يعجب الكلام حليمة، ولكنها أكبرتها أمام ابنها، الذي بدا مثل وجيه. ولم تنهرها أو تنادها باسمها المجرد، وأكدت أن روح صفوان لا تستريح إلا في بلده، إلى جوار أبيه خليل.

 كان مروان يشعر بالضعف رغم قوته، ويريد بانتزاع جثة شقيقه، من أوزير، أن يعفيه من أن يمثلوا به، بعد طلوع الصبح، حين يبعثون الخبر إلى قصر محمد بيك أبو الذهب، والي مصر المحروسة، ومن هناك، يرفع مماليكه الأمر إليه، حيث توجَّه إلى عكا، وسائر البلاد الشامية. وربما يقرر المماليك، بعد أن يغتمُّوا على قتل السادة في أوزير، علي يدي مروان، تشهيل تجريدة لتدمير الزرع، وإحراق القرية كلها. وحدثته نفسه أن شيخ سمنود سيتخلى عنه، وربما تؤخذ الأم رهينة، إلى أن يسلم نفسه. ورأى الساعات المتبقية من الليل آخر عهد له بالهدوء والراحة، فبعد وصول خبر القضاء على رجال الباشا، ودفن جثثهم في قبر جماعي مجهول، سيطارَد ويتحول إلى قاطع طريق، مثل العربان، على طريق بيت الله الحرام. وتناول مروان يد والدته وقبّلها. وحسدها هي والحاج عمران وحليمة وناس أوزير الذين لا يعرفون من يكون والي مصر، ولا يعلمون إلى أين تذهب خيرات أرضهم، وهي كفيلة بأن تملأ شون الغلال طوال السنة.

***

كان الحاج قد أرسل، بعد انفضاض الناس مباشرة، إلى الشيخ بركة، مؤذن جامع المتولي الذي يخطب الجمعة، طالبًا إليه أن يغسّل صفوان. في العادة لا يقوم بركة بهذه المهمة، الموكولة إلى اللحّاد، ولكن الحاج لا يضمن لسانه، لأنه لا يخاف، ولا يطمح إلى ما هو أفضل من حفر القبور ودفن الموتى. أما الشيخ فيخاف ويطمع. قبل ساعة من خطبة الجمعة الماضية، شكا إليه الفلاحون ظلم السادة، الذين اقتسموا معهم نصف محصول القمح، قبل رفعه من الأجران، كما أجبروا كل فلاح على إرسال أحد أولاده، مع بغل أو حمار عفيّ، لشيل الأحجار الكبيرة، ليقيموا بها أسوارًا عالية حول بيوتهم.

 وقبيل صلاة الجمعة، استقبل الشيخ بركة رسول الملتزم، ثم صعد منبر جامع المتولي، وحدّث الناس عن جزاء الصابرين، ودعاهم إلى السمع والطاعة، وعدم الخروج على أولي الأمر منهم، وإن تأمّر عليهم عبد حبشي، وأنهى خطبته مؤكدًا أن سلطانًا غشومًا خير للمسلمين من فتنة تدوم، وأن على الرعية الإذعان لوليّ الأمر، حتى لو ظلم.

 سأله مروان عن هذا الشيخ الذي لا يتذكره، فقال الحاج إنه وفد مع السادة، وأصبح من أهل البلد، الذين أحبوه لخفة دمه، وأطلقوا عليه لقب "بركة"، إذ لا تخلو له خطبة، فوق المنبر أو بين أصحاب أي خلاف، من التأكيد أن "البركة في اللّمّة".

 في صمت، قام الشيخ بركة بعمله، بدون مساعدة من أحد، ضمانًا للسرية. غسل الجثة وكفّنها ولفّها بالمشمع، وصب فوقها مزيدًا من الحنوط، ثم أحاطها بمجامر العنبر. وأشار إلى الحاج، وقال له همسًا إن شبحًا يرقد بجوار باب دار صفوان.

***

 كان مروان لايزال يمسك بيد أمه، وهو منصت إلى كلام الحاج عن الشيخ بركة. وإلى أن همّا بالقيام، ليتوجها إلى بيت لم يزره، منذ كان طفلاً، لم تأت سيرة عامر، على أي لسان، ولا في إشارة عابرة، في كلام كثير تبادله الأربعة. إذ ظن جدّه أنه يؤدي مهمة كلفه بها مروان، كدفن الأشرار مثلاً، كما ظن مروان أنه يودع الضيوف البنادقية أو الفرنسيس، إلى منازلهم.

 وقبل دخول مروان وأمه الدار، عجب لأن الباب مفتوح، ثم تذكّر أن أبواب البيوت في البلد كلها لا تغلق. ورأى بجوار الباب كتلة من السواد متكوّمة، تصدر أنينًا، أقرب إلى عويل مكتوم. كانت الجارية أرملة خليل قد سبقتهما إلى الدار، ولم تجرؤ على الدخول، رغم الباب المفتوح، لأن الدار بلا حِسّ. لم تعرفه، وهو لم يهتم بمعرفتها. واحتضنت أمه التي أنِست إليها لأول مرة، والتمست فيها أختًا حقيقية.

 رفعت الأم الكفن الأبيض عن وجه ابنها، وأصابتها إغماءة، فنهض مروان، وحملها إلى السرير، ومن التعب نامت بعد قليل. ثم دعا الجارية إلى النوم إلى جوار أمه، فرفضت، وافترشت الأرض، وأسندت رأسها إلى السرير، ونامت حتى صحت الأم.

 

(28)
قال عمران لحليمة إنه راضٍ الليلة عن الله تمامًا؛ فسالم تزوج، وعن قريب يلحق به أخوه، ومات الأشرار. ولم تكن حليمة مطْمَئِنة تمامًا، وكانت تهز رأسها، وتهم بالسؤال عن عامر، ولكن عمران واصل كلامه الواثق، عن مشاركته في تطهير البلد من الآثام، وأكد أن وجود رجال الباشا، في أوزير، كان لعنة تصرف الناس عن التحدث بنعمة الله، وتدفعهم للكفر، حين لا يجدون في الحياة عدلاً.

 وتعمّد عمران أن يؤكد عدم اشتراكه المباشر في القتل:

 ـ ويدي نظيفة من دمهم، والحمد لله.

 ـ ربنا يستر.

 وأضاف أنه مستعد للقاء ربه، اليوم قبل الغد.

 ابتسمت حليمة، مجاملة له:

 ـ انسطلت يا عمران من نفس حشيش، في أول الليل؟. بعد ساعة، يا رجل يا طيّب، يطلع الصبح، بكرة خلاص وصل.

 تنهّد بعمق، وقال إن أيامه في الدنيا معدودة، ولكنها قدّرت أنه يرمي إلى شيء آخر، وصوّبت إليه نظرة أغنت عن أي كلام، فتناول يدها وقبّلها، وقال بسرعة:

 ـ الجارية.

 ـ انتهينا من حكايتها يا ابن والدي، من عشر سنين وزيادة.

 كان يفكر في ردّ يستعطفها به، فقالت:

 ـ تفكر في السُّخامة، وتقول إنك قاصد وجه الكريم؟، يا رجل اختشي!

 وأردفت:

 ـ من زمان، كنا نخاف رجوعك من عندها... نهايته، وليلة فرح سالم عاوز تدخلها الدار؟، عيب على شيبتك!

 وكاد عمران يثور عليها، ويعلن رفض وصايتها عليه، كأنها ضُرّة مرصودة لأية امرأة جديدة بالدار. وهمس في سرّه، بصوت خفيض، قائلاً إنه أخطأ في حق نفسه، حين حرم الجارية، كما حرم نفسه، أن يكون لها منه ذرية، ولو حدث هذا لكان ولده منها أصغر من عامر وسالم، في سن صفوان تقريبًا. وتذكر القتيل، وتشاءم، واستعاذ بالله من موت، لا يمنحه فرصة ليتنفس، ولا يحتكم الآن على أي حشيش، وكان هوجاسيان يجيد التصرف، في مثل هذه المواقف، أما على الله القهوجي فانصرف بعد ذهابه إلى الشيخ بركة، بدون أن يترك له تعميرة حشيش واحدة.

 وأسِفت حليمة لأنها تسببت في عبوسه، بافتعال النكد ليلة فرح سالم، ولم تطاوعها نفسها أن تعتذر عما لا تراه إلا واجبًا عليها، كسيدة للدار. واقتنعت بأنه لولاها لذهب الولدان اليتيمان عامر وسالم، كل في طريق، فلا جدّهما يقسو عليهما كما يجب، وأمهما هند مجنونة، لاتزال تحلم بمبروك، وتبكيه.

 ثم ضحكت بلا مناسبة، وكان عمران ضائقًا بها، ولم يسألها عن السبب، وهي أسرّت ذلك في نفسها، وقالت:

 ـ يا خوفي يا ابن والدي أن يكون لك عيّل من سُخامة سمنود.

 لم يحتمل ما ظنه إهانة، ولم يضحك:

 ـ السٌّخامة يا حليمة امرأتي، حلالي.

 ردّت ببرود:

 ـ هي آي نعم حلالك. لكنها ، طلعت أو نزلت، جارية.

 علا صوته بدرجة أخافتها:

 ـ امرأة عمران جارية يا حليمة؟، السِّتّ حرة لوجه الله من زمان.

 حاولت حليمة تهدئته، بشيء من الحياد، فلم تر مبررًا لثورته الطارئة. وكان قد تحول إلى عَصَب عارٍ، يحمل كرامة امرأته فوق أنفه:

 ـ حتى بعد عشرين سنة من خدمة العبد للسيد؟!، السِّتّ ما فكرت حتى تحضر الفرح، أو تقابلنا يوم التعطير في سمنود؟

 تناولت وجهه بين كفيها كطفل فهدأ، وداعبته:

 ـ زربون من صغرك يا عمران.

 وحكت مرة أخرى، بصوت مسموع، كيف تاها مع الغجر في سمنود. وداعبته وهي تقرص خدّه، مؤكدة أنه معذور، مرجِّحة أنه شرب لبن حمير وهو صغير، فأورثه العناد.

 وكاد عمران يبتسم، ولكنه منع نفسه في اللحظة الأخيرة. وكانت حليمة ذكية بالقدر الكافي، فقالت:

 ـ مستخسر تضحك يا صغير؟، قم واسترح، والصباح رباح.

 ولكنه ظل مكانه حتى ضحى اليوم التالي، حين قالت العروس إن عبيدًا وأجراء يريدون الحاج.

 

(29)
كانت مريم، في الصباحية، تهبط السلم بتأنٍّ، وهي تتأمل الزوايا والجدران، والأسقف المزينة بزخارف مصنوعة من الجبس المصّيص. أرادت التعرف إلى ملامح الدار، ولا تدري لماذا صحت مع الشروق، في ذلك الوقت المبكر لعروس، غير شاعرة بالإجهاد. كانت قد أسلمت جسدها للماء الدافيء، في طشت نحاسي استوعب جسدها الصغير، وأحست بأنها تبدلت، وأن أعضاءها نمت واستوت خلال ساعات، وداعبتها بنشوة الخارجة من معركة ظافرة. وهمت وهي تأتزر، بالعودة إلى السرير، وإيقاظ سالم، ولكنها أشفقت عليه، كما كانت لاتزال خجلى منه. واستبدلت بالرغبة المطلة من عينيها، ممارسة دلال فطري، بارتدائها جلبابًا أبيض، مزينًا بورد الجناين، بدت فيه زهرة مغسولة بندى الفجر.

 ودت مريم لو أن أهل الدار، كعادتهم، مستيقظون في هذا الوقت، ليثنوا على جمالها وصباها وورد خديها، الذي رشحها لأن تصبح عروسًا، لواحد من بيت عمران كبير أوزير.

 كانوا لايزالون نيامًا، وفتحت مريم باب الدار، فغمرها نور ربنا، المنسكب مع جَلَبة شديدة من الحارة. وفي عودتها، رأت عمران يتثاءب، فمالت إليه، وتناولت يمناه بين يديها، وقبلتها:

 ـ صباح الخير يا سيدي.

 كان وجهه مشرقًا، وقبل جبينها. وجاءت حليمة مبتسمة، واحتوتها في حضنها:

 ـ صباح النور يا عروسة الغالي.

 أربكتها الحفاوة، ولم تجد مخرجًا من لخمة الخجل، إلا أن تقول لحليمة:

 ـ من صباح ربنا، والناس تنادي سيدي الحاج يا أمّ.

 وخرج عمران إلى الناس، بخطى بطيئة، وسدّ باب الدار بجسدٍ اكتشفت حليمة أنه لايزال عفيًّا، فاطمأنت.

 وسألتها مريم:

 ـ أحضر الفطور يا أمّ ؟

 وأحست حليمة بالرضا، وضمتها إلى صدرها مرة أخرى، ورددت أدعية وآيات من القرآن، تُبعد عنها عين الحسود. وربتت على كتفيها، في إشارة إلى الفرح بوجود عروس صغيرة، تريد أن تريهم مهاراتها في تجهيز الطعام. وقالت مريم وهي تنسحب من بين يديها:

 ـ لا شُفت أمي هند، ولا سيدي عامر، من الصبح.

 وأثارت القلق في نفس حليمة على عامر، الذي اختفى في الليل، قبل انتهاء الفرح. وخرجت إلى جده، تحثه على البحث عن الحفيد الطائش. وشاهدت عمران، في الزحام، يتلقى تحيات الناس. وشدّته من يده، وبصعوبة عاد إلى العتبة المرتفعة بدرجتين عن مستوى الحارة. وخطب فيهم قائلاً:

 ـ كل حيّ رجعت له أرضه.

 وعلت التساؤلات عن رجال الباشا، وكيف أفلح الحاج في التفاوض معهم، وإقناعهم بالتنازل عما يرونه حقًا لأنفسهم. وأراحهم الرجل بدون تفسير.

 ـ استلموا الأرض حالاً، بغلّتها وتِبْنِها!

 بدأ الزحام ينفض تدريجيًا، وخلت الحارة إلا من عبيد لاذوا، قبل أيام، بدار الحاج. وهمس فيهم:

 ـ سادتكم، بلا شماتة، قابلوا وجه الكريم.

 بدا عليهم الذهول، فأوضح:

 ـ في القبر يتساوى السيد والعبد.. وفي أوزير يتساوى الخلق من اليوم.

 وأشار إليهم بالانصراف، ولم يفهموا، أو لم يصدقوا. وقال أحدهم، نيابة عنهم، إنهم عبيده هو. واستغرب الحاج مبادرة العبد، وزاد استغرابه حين وافقوا جميعًا، على انتقال عبوديتهم إليه. وأنقذته حليمة اللهفانة على عامر:

 ـ أنتم عبيد الحاج عمران، وهو أعتقكم لوجه الله، انتهينا؟

 بعد فترة تفرقوا خارجين من الحارة، خافضي الرؤوس، لا يشعرون بفرحة العتق. وقدّر الرجل أن هؤلاء الذين ضاعت أعمارهم، هم وعائلاتهم، في رق لا يرحم، بحاجة إلى سند، حتى تشتد أعوادهم، وتستقيم ظهورهم، ويكتسبوا ثقة تؤهلهم لأن يتعاملوا بندية، مع أهل البلد وغيرهم. واقترح أن يقسّم عليهم أملاك ساداتهم، من الأرض، وما في زرائبهم من جواميس وغنم وأبقار، أما الحمير والبغال فتوهب إلى إدارة أوزير، للإسهام في حمل التراب والحجارة، لتعلية السور الشرقي للقرية، الموازي للنيل، تحسبًا لأي فيضان.

 قبل أن تسأله حليمة عن عامر، خرجت إليهما هند، بشعر منكوش، وبدون أن تغسل وجهها. كانت ممصوصة الوجه مصفرّته، وفي عينيها يُتْم متجدد، وإحساس بالفقد.

 لأول مرة لا تلقي هند التحية، بل حكت عن زيارة مبروك وانزعاجه، بدرجة لم تقلل منها طبول الفرح ليلة أمس. وسألت عن سالم، فأقبلت إليها مريم، وكالعادة قبلت يدها، ثم هدأت من روعها، وقالت بخجل:

 ـ كسلان، والله يا أمّ، في سريره.

 ووقف بالباب رجل، لم ينشغلوا بسؤاله عن نفسه، قال إنه شاهد عامر يطارد جلابًا للرقيق، من أقرب المقربين إلى الشاهد، حتى اختفيا في ظلام ما قبل الفجر. وصرخت هند في العريس الذي لايزال نائمًا، وأمرته بالبحث عن أخيه.

 ثم هبط سالم، والثقة تقفز من عينيه، وقبل يدي جده، وغيّبته حليمة في حضنها، وغسلته بالتعاويذ، لتبعد عنه الشياطين وعيون الحاسدين. وأشارت لأمه بالابتعاد، مستنكرة أن يخرج الشاب "يوم الصباحية"، أيًّا كان السبب. وقبلته أمه بسرعة، وقالت إنها لا تأتمن أي خادم أو عبد، على التحري، بضمير خالص، عن عامر، والاجتهاد في طلبه، حتى لو تم تفتيش دور القرية كلها.

 ورغم رفضهم مغادرة سالم عتبة الدار، فقد أذعنوا أمام دموع هند، وهلاوسها عن زيارة مبروك، وتوجسها لأنه كان مرتعدًا، لم يشغله الغناء ولا الرقص، عن وجل بادٍ في عينيه.

 وانتقلت العدوى إلى حليمة، التي استهانت بانشغال هند في أول الأمر:

 ـ البنت ممسوسة يا عمران.

 وطمأنها سالم، الذي يحفظ كتاب الله، ويردد آياته بصوته العذب:

 ـ لا تخافي على هند يا جدتي، من يومها وقلبها خفيف.

 وصمت قليلاً، وأتبع:

 ـ قلبها خفيف، إنما عقلها كبير.

 ابتسمت هند، وارتدى سالم جلبابًا أبيض. ولم تنس حليمة أن تحيطه بالبخور والدعاء، وأشارت إلى خادم وعبد أن يتبعاه. وكانا مثله لا يدريان أين عامر، وأحزنهما ألا يكونا قريبين من مائدة أعدتها العروس مريم المنهمكة في تجهيز الفطور، من "حلة الاتفاق"، وما حولها من أطعمة وفاكهة وحلوى، لم يقرباها، لا هي ولا سالم.

 وتحلّقوا في وسط الدار، حول الطبلية العامرة بخيرات الله، وكان الحاج يشير إلى كل من يلقي السلام، أو يبارك لسالم وعروسه، آمرًا إياه بالدخول، وتناوُل الفطور، حتى امتدت الأواني النحاسية ذات النقوش الوردية إلى باب الدار، وبكل منها سلطانية يصل إلى حوافها مرق يطل منه ديك أو دجاجة أو بطة مطبوخة. وحول كل سلطانية صحون من الأرز، والطبيخ الغارق في السمن. وكلما ضاق وسط الدار بالواردين، أحس أهل الدار باتساع المكان، حتى بلغت الحلقات منتصف الحارة.

 وفضلت مريم ألا تتناول أول طعام لها، في دار زوجها، من دونه. وشعرت حليمة والحاج وهند بالفخر من نبل سلوكها. وإلى أن يعود سالم، لتفطر معه مريم، ظلت تجهز الطعام بالداخل. كانت صغيرة لا تعرف أُصولاً تفرض على العروس ألا يراها غرباء، عن أهل الدار، قبل مرور أسبوع على زواجها. وسمعت هذه النصيحة من حليمة، واستغربت مريم، وسألت هند عن السبب، فهزت كتفيها لا مبالية، وعلقت حليمة:

 ـ ما لقيت غيرها للسؤال يا مريم؟

 وكادت العروس تضيف سؤالاً آخر، فأشارت إليها حليمة بالصمت، ثم اختلت بها، في أحد الأركان، وهمست:

 ـ أمك هند عقلها صغير، ولا يهمها شيء!

 وفجأة، راقبت مريم، من زاوية غرفة الخبيز، اثنين من الضيوف الجالسين إلى الطبلية قد تجمدت أيديهما، في الهواء، بما فيها من طعام، وعيونهما مثبتة إلى شيء بالحارة لا تراه من مكانها، كأن سهم الله نزل عليهما. وامتدت العدوى إلى الباقين. وبدا أن مشهدًا صعقهم، فثبَّت أعضاءهم، ما بين يد مرفوعة لا تهبط، ويد في صحنٍ التصقت به، وثالثة تقترب من فم صاحبها فتعلقت في الفراغ، ورابعة بين شفتين مفتوحتين فلا أدخلت الطعام ولا أسقطته، وإصبع كانت تشير إلى جار بكلام فتيبَّست. إلا أن المشترك الوحيد بينهم، رجالاً ونساء، هو عيونهم المفتوحة، كأنها لتماثيل، أو لبشر حلت عليهم لعنة الله، فصاروا حجارة.

 الذين حكوا الواقعة، بعد صلاة الجمعة ولسنوات تالية، قالوا إن الجلاب نصب في منزل الشاهد كمينًا. وحين طارده عامر، لجأ إلى المنزل، وزنقه في ركن مظلم بغرفة بعيدة عن الحارة، وأوثقه تمامًا، وتمكن من تقييد ساقيه وربطهما إلى وتد، ويديه خلف ظهره، إلى أسياخ حديدية بنافذة عالية، كما كمم فمه بقطعة قماش. وظل يحرسه، من بعيد، طوال الليل، خائفًا منه، إلى أن أعياه التعب في الضحى، ومالت الكمامة إلى أحد جانبي فم عامر، وظل يصدر غمغمة وفأفأة، هدت سالم إلى مكانه، حين دخل منزل الشاهد للبحث عن شقيقه. ولما كان سالم يميل لفك القيود، هبطت على كتفه اليسرى بلطة، كسرت ضلوعه، فانغرست أسنان عامر في عنق الجلاب، حتى كاد يلفظ روحه. وأوثقه بطرف الحبل، ولفّ الطرف الآخر حول كتفه، وحمل أخاه الغارق في دمائه.

 على جانبي الطريق، من منزل الشاهد إلى دار الحاج عمران، وقف الخلق يشاهدون عريس أمس، محمولاً على كتف شقيق بدا عملاقًا، وهو يجر جلابًا كان، حتى مساء أمس، مزهوًّا بقوة سيده. وكلما اقترب الخادم أو العبد من عامر، يريدان إراحته بحمل سالم، أو سحب القاتل العاجز عن الاستغاثة، دفعهما بقوة لا يدري أحد أين ادخرها.

 كان يظن الضربة كسرت ضلوع أخيه، ولم يتخيل أن تقضي عليه. ولما وقف أمام الباب، حمل عنه الضيوف أخاه، إلى داخل الدار، وحاولوا تطبيبه. ومزق آخرون جسد الجلاب، بما طالته أيديهم: عصا غليظة، أو غطاء حلة، حتى إن فلاحًا كان في طريقه إلى الجرن، رفض التنازل عن التشفي من الجلاب، فظل يغرس المذراة في جسده، ولم يوقفه إلا عمران الذي قال للا أحد، وهو يشير إلى الصريع:

 ـ خذوه.

 جنّ عامر، حين علم بموت أخيه. لم يتوقع يومًا أن يمر بالدار عزرائيل، فيخطف منهم أحدًا، لا جده ولا حليمة. وكلما شارك في جنازة، ازدادت سخريته من الموت، موقنًا بأن موت أبيه مبروك ضريبة تعفي الأسرة من فواجع تالية، في أي أحد آخر. وظل ينفض جسد أخيه، باحثًا عن بقايا روح تسمح له بالرجوع ليملأ الدار فرحًا. وأمره بالنهوض، مؤكدًا في ذهول أنه حمله حيًّا، ولم يشعر بخروج روحه، ولو صعدت لخفّ وزنه:

 ـ لِحدّ وصولنا الدار، يا عالم، وأنا سامع نَفَسه.

 أما هند، فضاع صوتها، ولم تعد قادرة على الكلام أو البكاء. وضرب عمران كفًّا بكف، غير مصدق، ورددّ بصوت عال، وهو ينظر إلى السماء بغضب "كُفْر، والله العظيم كُفْر". وتحاملت النساء على مريم، فمنعنها أن تصل إلى الجثة، ولم تقاومهن طويلاً، إذ أصيبت بالإغماء، وغابت عما حولها. وسادت لحظات صمت، شملت أهل الدار والآكلين، لم يمزقها إلا عديد حليمة:

 ياللي شبابك زين وصغير

 زهر الجناين طاح على الأول

 ياللي شبابك زين وخسارة

 زهر الجناين طاح نواره

 ياللي شبابك زين وانت زين

 لولا شبابك ما بكت لي عين

 على سبيل المجاملة، جاءت نساء من أطراف البلد، سددن الحارة، التي أصبحت موجة سوداء، بلون الجلابيب. كن يلطمن خدودًا تبللها دموع، ويلتصق بها تراب السكك، يعاقبن به أنفسهن، بوضعه فوق الرؤوس، وتردّ إحداهن على حليمة:

 ليلة العدم زعقت من راسي

 لما حملوا زين الشباب ماشي

 ليلة العدم بيت أقول يا هوه

 لما حملوا زين الشباب وخدوه

 وتجيب أخرى، وهي تنظر إلى المكان الذي تمزقت فيه جثة الجلاب:

 مالك ومالي يا ابن اليهودية؟

 لا ليك حدايا ذنب ولا سِية

 في حين كان الشيخ بركة يغسّل الميت، بكى وأقسم ألا يخالف ضميره، وألا يبالي بأوامر الملتزم، أو غيره من رجال الباشا، مؤكدًا أنه سيترك لهم الدار التي بنوها له، حتى لو نام في العراء، ولن يخطب الجمعة التي سيؤذّن لصلاتها بعد ساعة من الغُسل. وسأله على الله القهوجي عن الخطيب الذي يرشحه للإمامة في جامع المتولي، فأجاب بسخرية:

 ـ من سنين يا على الله، وأنت لا تصلي الجمعة، واليوم تحرص عليها؟

 ردّ صوت لم يلتفتوا إلى صاحبه:

 ـ نكاية فيك يا منافق!

 وقال القهوجي شامتًا:

 ـ لو سألني ربنا لقلت له إن الصلاة وراء إمام منافق باطلة.

 اهتز الرجل؛ فلأول مرة يصارحه أحد بما يحاول إخفاءه. لم يكونوا معرضين عن تذكيره، بأنه مداس في أرجل السادة، حرصًا على مشاعره، وإنما خوفًا من سطوة أسياده. واكتشف بركة أن سنوات النفاق لم تكن كافية لتصالحه على ضميره الذي لايزال ينبض ببقايا حق. وضعه القهوجي أمام مرآة، رأى فيها نفسه قبيحًا. وقال إن كلام القهوجي سيعفيه أمام السادة من أي حرج، حين يتعلل ويعتذر عن عدم الصلاة بالناس، فكادوا يضحكون، بل تطاول عليه أحدهم:

 ـ السادة يا مغفل قابلوا وجه الكريم، ولم يصلّ عليهم مخلوق.

 فاحتضن الشيخ جثة سالم، وبكى واعتذر، متهمًا نفسه بالاشتراك في قتله، باستمراره أداة في أيدي من وصفهم بأعداء الله، ظالمي عباده الصالحين.

 ثم صعد المنبر، وخطب في الناس مذكّرًا بأن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الجنة دار الأبرار الشهداء، الذين يقف في مقدمتهم من قال كلمة حق أمام سلطان جائر، واصفًا سالم وصفوان بالشهيدين. وازدحم جامع المتولي، والحارات المحيطة به بالمصلين عليهما، بعد صلاة الجمعة.

 من الجامع إلى المقابر، امتدّ مشيعون يودعون الشابين، اللذين ضمهما قبر واحد من مقابر الحاج عمران، بدون أن يأمر هو بذلك، أو يطلب مروان.

 واستقبل لحّاد أوزير، وهو يساعد الشيخ بركة، جثة سالم أولاً، وحين فكّا أربطة الكفن، واستدارا ليتلقيا جثة صفوان، فوجئا بسقوطها على باب المقبرة، حين أرعش أيدي الرجال صوت مجلجل، صافٍ في قوته، يزلزل السامعين. وظن المحيطون بعين المقبرة أن عامر يرفض دفن صفوان، في مقابر عائلة كبير البلد، ثم تبين أنه ثائر على الموت، ولا يتخيل أن يفارق أخوه، ولا يريد دفنه. ولم يقو أحد على أن يمنعه شق نهر الخلق، ليجد الشيخ بركة في وجهه.

 مدّ بركة إليه يده مواسيًا، فتجاهلها عامر:

 ـ وحّد الله يا سي عامر، ربّك استرد وديعته.

 لم ينظر إليه عامر، بل قال، وهو يزيحه بظهر يده:

 ـ غُرْ يا ضلالي.

 ابتلّ الشيخ، وكسف وجهه، هو الذي ظن أنه، في هذا اليوم بالذات، فتح صفحة جديدة مع الله والناس. ودافع عن نفسه متظاهرًا بالتماسك، وهو يقول لعامر:

 ـ خُشّ ونم معه في القبر، أو أخرجه.

 كسعه الشاب، مفسحًا الهواء لجسده، بيدين لاتزالان تحملان قطرات من دم الجلاب. وحين همّ بدخول القبر، أيقن الناس أن عقله طاش، وانجذب.

 فتكاتفوا ومنعوه بالقوة، وشلّوا حركته، ثم هدأ تمامًا، وانفرطت عافيته مع نحيبٍ، اختلطت فيه أسماء مبروك وهوجاسيان وسالم، حتى استسلم جسده لمن حملوه، من غير مقاومة، إلى الدار.

 

(30)
أفاق عامر بعد العصر، على عائلة غارقة في الصمت، وإن كانت الأعين مفتوحة على أسئلة جارحة أو غامضة، وأصابع الاتهام تشير بالإدانة إلى أمه هند؛ فلولا إصرارها على أن يبحث عنه سالم، ما شقّت قلبه بلطة الجلاب. وهند لا تبالي بأحد، ولا تعي، وتغبر وجهها بتراب صنع مع العرق، من شعرها دائرة بدت فيها كمجنونة، تنادي مبروك كأنه يسمعها، وتوصيه بسالم، وترثيه
:

 ندامة على اللي راح ما خلّف

 شبيه الحمام لا باض ولا ولّف

 احتفظت حليمة بعقلها، وهي ترى عمران قد عادت إليه كراهيته لهند، إلى درجة لا تقل عن رغبته في أن تهلك هي الأخرى، كيوم مات مبروك.

 قال لنفسه، بصوت سمعته حليمة:

 ـ بنت العبد قتلتني مرتين.. قتلت ابني ودفعت ابنها للموت.

 وظنت حليمة الوقت مناسبًا للاعتراف بأنها، وحدها، من تسبب في مصرع مبروك، حين ارتطم رأسه بصخور وضعتها بيديها. وسمع صرخته، وانفجار رأسه رواد المقام الأحمدي بطندتا. وقالت إن أحدًا لن يصدقها، وسيتهمونها بجنون ظهرت بوداره على عامر، بعد تجاوزه إغماء دام ساعات. وشدّت على يدي عمران، مشيرة إلى هند:

 ـ واسِ اليتيمة يا ابن والدي.

 ـ ومن يواسيني أنا اليتيم. أكبّر وهي تقتل!

 ـ البلد كلها أولادك، والبنت مسكينة، مات زوجها وابنها وبينهما أبوها.

 أعرض عنها خارجًا، وهي تتحسر على الشاب الطيب حافظ كتاب الله، الذي لم يهنأ بعروسه.

 ثم جذبته بقوة أدهشته، وأمرته بالدخول:

 ـ كلّهم على لحم بطونهم، خلّيك معهم يأكلوا لهم لقمة.

 على غير اقتناع قعد عمران بينهم، وتطوعت نساء وصبايا لإعداد الطعام الذي أحضره الجيران، وعمرت الطبلية بخيرات الله، التي تجنبت الأعين النظر إليها، ولم تمتد إليها يد. كل انتظر أن يبادر أحد، أي أحد، إلى تحريك صحن، أو زحزحة كسرة خبز، أو النطق بكلمة ولو "باسم الله". كانوا ينتظرون أن يدعوهم كبير الدار، ولكن لسان عمران لم يطاوعه. وفي لمح البصر، تبودلت نظرات، فقاموا بلا اتفاق، كل إلى مكان، فدخلت كل امرأة غرفتها، وذهب عمران إلى مكانه الأثير، يتمدد على الكنبة العريضة تحت تكعيبة العنب، في مواجهة باب الدار. وتبعته حليمة، وجهزت له ركوبة، وقالت باختصار، وهي تحاول التحكم في دموعها:

 ـ طُلّ على الغيط، وتعال.

 وأمرت أحد العبيد، الذين أعتقتهم في الصباح، باتباعه ببغل آخر. وانفجرت بالبكاء وحدها تحت تكعيبة العنب، خاشية ضياع كبير الدار هو الآخر. ونظرت إلى السماء بأسى، ورفعت صوتها، في حين كانت نسوة يتجهن إليها، من حيث لا تراهن، وقالت:

 ـ عاتبة عليك.

 واستغفرت الآتيات للعزاء، وذكّرنها بحكمة الله، في الموت والحياة، وقالت بثقة:

 ـ هو أنا كفرت بالله؟، أنا أحبه أكثر من الناس كلها.

 إلا أنها رشقت السماء بنظرة أخرى، وأتبعت:

 ـ قسوة الحبيب صعبة.. الطيب حافظ قرآن ربنا مات، غرق في دمه. وأخوه الشقي اتجنن، وأمه خفّ عقلها من زمان.

 وتظاهرت واحدة بنصحها، فانفعلت حليمة:

 ـ مالك يا فاجرة؟، خلّيكِ في حالك، وسيبينا في حالنا.

 فكتمت الأخريات ضحكة، وهي استسلمت لبكاء متصل، ثم مسحت دموعها بطرف الطرحة، وأحكمتها حول وجهها، وأخلت لعينيها نافذة إلى السماء، وتساءلت:

 ـ أنا كفرت يا ناس!

 ثم قالت بشيء من الرضا، وعيناها إلى السماء:

 ـ لو طُلْتك لأبوسك.

 وتذكرت عمران، وأشفقت عليه.

 في الغيط، انشغل عمران بزحام الحياة عن أحزانه، وقرر البدء في تنفيذ فكرة كارلو، بحفر قناة حول زمام أوزير، لسحب مياه الفيضانات والسيول، بعيدًا عن البيوت، وإتاحة فرص الزراعة طوال شهور السنة. وفرح الناس بتجاوزه كارثة مصرع حفيده، ليلة الصباحية، ودعوه إلى غداء، تحت الصفصافة، كان من أشهى ما أكل.

 وحين هبط من فوق الركوبة، وتركها لأحد العبيد، ليذهب بها إلى الزريبة، فاجأته حليمة بما طال انتظاره له:

 ـ هات الجارية يا عمران.

 من الاستغراب كاد يضحك، واكتشف أن الوقت غير مناسب حتى للابتسام، وخرج من ارتباكه قائلاً:

 ـ امرأتي يا حليمة.

 وفاض بها، لأن هذا ليس وقته، إلا أنها قالت بصبر نافد:

 ـ حقّك عليّ يا ابن والدي، هات امرأتك يا أخي!

 رأى عمران أن يؤجل استقدامها أسبوعًا، ثم يعهد بذلك إلى أحد أتباع مروان.

 ولكن مروان، في الأيام التالية، لم يغادر أوزير، بل انشغل بأرض أبيه، واجتهد في زراعتها كأمهر فلاح، كما انخرط مع الناس في حفر قناة تحيط بالقرية، في نصف دائرة، قطرها ينام على النيل مباشرة.

 أكرموا كارلو صاحب الفكرة وصاحبيه جوليانو وجوليا، بمنحهم قطعة أرض، كانت من بعض أملاك السادة، خارج زمام البلد، على الجهة الأخرى للقناة، مقابل البوابة الغربية. أما رينيه دوما فساهم بكثير من المال، وتحمّل أجرة عشرات الفواعلية، العاملين في حفر القناة، من أوزير وغيرها، مقابل شقّ ترعة صغيرة، إلى حدائقه وأرضه.

 

(31)
كان الناس قد علموا، في اليوم التالي لدفن سالم وصفوان، ما فعل الحاج وحفيده عامر ومروان الطوبجي، وتنفسوا ملء صدورهم، بعد زوال سادة قاسموهم الهواء والثمار والزروع والمواشي، ولولا بقية حياء لقاسموهم نساءهم، بعد أن أجبروا كثيرين على التنازل عن العبيد والجواري.

 امتدت مساحة القرية باتساع أحلام أهلها، فضاء بلا نهاية. وكلما استصلحوا أرضًا جديدة، اكتشفوا أخرى بكرًا، تنتظر فأسًا ومحراثًا وقناة تربطها بإحدى السواقي، التي نبتت على القناة المحيطة بأوزير.

 كما حرص الكبار على ألا يدخل القرية غريب، تحسبًا لانتقام الوالي في مصر المحروسة، يردّ به اعتباره وهيبته أمام الذين قتلوا رجاله. وأحكمت الرقابة على البوابات الثلاث، فلا يسمح بتخطيها إلا لفواعلية وأجراء وغجر معروفي الوجوه لحرس شداد، يرصدون تحركات القادمين على البعد، ويغلقون البوبات مع انطفاء نور النهار.

 انتهى أسبوع، واشتاق الحاج إلى المرأة، واستكثر أن يترك الناس مشغولين باستكمال الإعمار، ويذهب بخلوّ بال، إلى سمنود، لاستقدام زوجته لأول مرة. ولام نفسه على التفكير، الذي توقع ألا يعجب الناس، وهم يرون مروان مستغنيًا عن أوسيته ومماليكه في سمنود، من أجل بلد قتل فيه أخوه، ودفن قبل أيام.

 وانشغل عمران، لأيام تالية، حين عثر على تمثال ضخم، يقترب طوله من ارتفاع شجرة كافور، وعرضه يزيد على ساقها. كان منحوتًا من الجرانيت، لرجل عملاق، يقف في كبرياء، ناظرًا إلى الأفق، متعاليًا على الحياة وما فيها، تلفّه عباءة، تبرز منها إحدى ذراعيه، وقدماه في نعلين لا يخفيان أصابعه المنحوتة بدقة، تكاد تنبض فيها الدماء. كانوا يحفرون بالقرب من البوابة البحرية، فارتدّت فأس، كادت تقتل ماسكها الذي لم يبال بالضربة في جبهته، مذهولاً بالاكتشاف، ومتحسسًا رأس التمثال وعنقه، وطيّات عباءة غطّت جسده العفيّ، إلا كفه اليمنى القابضة على طرف العباءة.

 كاد العامل يصاب بلوثة، من رجل ظن أنه سُخط في الحال حجارة، وليس كثيرًا على الله أن يعيد إليه الحياة. وصاح في ذهول:

 ـ سيدي سالم.. والله يشبهه!

 اجتمع حول التمثال رجال أشدّاء، وعجزوا عن تعتعته، وتناوبوا تحريكه إلى أن رفعوه، وأزالوا عنه ما علق به من طين. وبلا اتفاق، أطلقوا عليه "سيدي سالم". ثم وضعوه فوق قاعدة مرتفعة، أمام البوابة، في مواجهة القادم إلى أوزير من سمنود.

 وأسهم البنادقية الثلاثة والفرنسي رينيه دوما في تحديد زاوية الوجه، ليستقبل نور الصباح. وجاءت زوجة دوما وابنته، وطافتا بالتمثال، وأبدتا إعجابهما به، وضحكت البنت من الاسم الذي حمله، ونطقت سالم بطريقة أضحكت الفلاحين، وسألت عن عامر، ولم تتلق إجابة؛ فلا أحد يعلم أين ذهب، ولا متى يجيء.

 في اليوم نفسه، كانت زوجة دوما وابنته تستعدان للعودة إلى بلدهما. وأمر الحاج بتجهيز عربة لهم إلى سمنود، على أن تعود بدوما الذي آثر البقاء وحده بأوزير. وتطوع بالذهاب على الله القهوجي. ونسي عمران أن يكلفه بإحضار زوجته، في طريق العودة مع دوما من سمنود. ولم يندم كثيرًا على النسيان، ظانًّا أن مروان سيبادر إلى ذلك، بأن يأمر أحد رجاله، حين يعود إلى سمنود. وكان آخر ما قاله للقهوجي:

 ـ وحياة والدك يا على الله ما تتأخر.

 ولكن مروان لم يغادر أوزير، حتى إلى القهوة، مكتفيًا بعمل شاق في الغيط، ينتهي منه إلى النوم، بعد صلاة العشاء مباشرة، غير راغب في مجالسة أحد.

 وساعة ضحى، استوقف حرس البوابة شابين فتيين، فوق عربة مزينة بزخارف. سألا عن السيد مروان، فاستنفرا حاسة الخوف في نفوس الفلاحين، وخشيتهم أي غريب يبدو صاحب سلطة، فأعاد أحدهما تأكيد ما يريدانه بالتحديد:

 ـ بيت السيد مروان.

 لم يرد الحارس مباشرة، واكتفى بهزّ رأسه، مدعيًا عدم الفهم، أو التباس السمع:

 ـ بيت من؟

 كان يعطي نفسه فرصة للتفكير، وقراءة أعين الغريبين، وما تخبيء من شر، أو تظهر من علامات طِيبة. وقبل أن يبلغ أحد الحرس مروان، سارع أطفال إلى داره، فتوجس منهما شرًّا، وفرّ إلى الغيط، محذّرًا كل من يقابله أن يشي به للغريبين. وطارت أمه وأرملة أبيه إلى الحاج عمران تستعطفانه، وتحثانه على إنقاذ الشاب، من أيدي من لا يرحمون.

 قالتا إن مروان عرفهما من أوصافهما، وإنهما من مماليك شيخ سمنود، جاءا لاصطياد مروان إلى الشيخ، ليقتص منه.

 وكانا قد تعقبا خطوات مروان، حتى أدركاه، في أحد الأجران البعيدة، يذرو كومًا من القمح، وقد اكتسى وجهه قناعًا من التِّبْن الدقيق. وألقيا السلام، ولم يردّ، فقدما إليه نفسيهما بتواضع، ورحبا به:

 ـ تأخرت علينا يا سيدي.

 لم يطْمَئن، وإنما ازدادت شكوكه، ودعاهما إلى أن يسبقاه إلى الدار. وأكدا له أن الأوامر صارمة، بالعودة به الآن، وأن حياته في خطر. وحملاه فوق العربة، وحاول القفز، فمنعاه، وأسرعا إلى البلد.

 وفي الطريق إلى ما اعتبره بداية نهايته، فرك مروان الغبار، فبان وجهه أصفر، كأنه مقبل على موت. وأوضح في فزع أنه ليس مجرمًا، ولم يفعل شيئًا، بل حاول القصاص لأخيه صفوان، وأنه خطط مع الحاج عمران وحفيده عامر الذي ذهب عقله، ولم يحتمل أن تنسحب روح أخيه سالم، وهو يحمله، بعد أن صرعه بالبلطة جلاب، من أعوان الشاهد، ومزق الأهالي جسده، قبل صلاة الجمعة.

 سمعا كلامه بلا مبالاة، غير فاهمين. وانشغل الذي يقود العربة بجلد الفرس، وقال الآخر إن الشيخ في سمنود يحتضر، ويريده فورًا، ليوصي إليه بأملاكه؛ خوفًا من وصول لصوص أو أوباش، أو رجال الوالي الجديد، للاستيلاء عليها. فسأله مروان باستغراب:

 ـ الوالي الجديد؟ أي والٍ!

 ـ أي والٍ والسلام، لا يهم.

 قبل أن يسألهما أين ذهب الأمير الكبير الكريم، واهب الذهب، محمد بيك أبو الذهب، قال أحدهما إنه مات، في بلاد الشام، بعد أن دخلها بالقوة، وقتل وأسر من أهلها ما لا يحصيه أحد، ولم يكلف نفسه أن يميز الخبيث من الطّيّب، وما فرق بين مسلم ويهودي ومسيحي، فاستجاب الله دعاء الشوام، وأهلكته الشّكية، ومرض ولم يهنأ ببسط سطوته، إلى بلاد مات فيها، وعاد منها إلى مصر المحروسة رمّة، تفوح رائحتها تحت شمس بؤونة.

 آثر مروان، قبل الذهاب إلى داره، المرور بالحاج عمران، وقصّ عليه ما كان من الرجلين، فنصحه بالتماسك أمامهما والتزام الصمت، ثم يبعدهما فور الوصول إلى سمنود، ولو أهداهما إلى أي كبير يريد اتقاء شره. وشرح له أنه تعرى أمامهما من القوة، وبدا ضعيفًا هاربًا، ولن يتمكن من إدارة ما ينتظره من ضياع ورجال بينهم من رآه مذعورًا، ذات يوم.

 ـ تخلّص منهما ولا تطمّعْهما فيك.

 فاختلس مروان لحظة انشغال الرجلين، ورفع يد الحاج، وقبلها لأول مرة:

 ـ أحتاج حكمتك دائمًا يا سي الحاج.

 كان هذا يكفي الحاج تمامًا، بعد أن جُرحت كبرياؤه، حين ذهب إليه في سمنود.

 ثم كلمه باحترام يليق بأمير، راجيًا أن يكلف أحد رجاله، بالعودة من سمنود بزوجته التي لم تزر أوزير. وظل ينتظر رجوع على الله القهوجي بالعربة، ليطوف بنفسه بالحواري والغيطان، والبلاد الأخرى، بحثًا عن عامر الذي أذهب عقله موت أخيه.

 وكلما أشرقت لله شمس على أوزير، انتظر عمران بالبوابة البحرية، وتناول قهوته الخاصة، من يد منصور القهوجي الشاب، وسأله عن أبيه على الله، ذي العينين الزائغتين، وذكّر الناس بأن ابن المراكيب تأخر، منذ عاد رينيه وحده، وأنه يريد العربة والفرس، لإعادة الولد الشارد عامر.

 

(32)
لاحظ منصور القهوجي أنه كلما مضى وقت، تباطأت حركة الحاج، وثقلت خطاه. كان يصل إلى القهوة بعد صلاة الفجر، ثم مع شروق الشمس، إلى أن بدأ يصل بعد صلاة الظهر، فوق بغل يسحبه صبي، ولا يتمكن وحده من الهبوط، والوصول إلى مكان يخصه على المصطبة، سبق تجهيزه بحشية ومسند إلى الجدار.

 نفض الحاج رأسه فجأة، كأنه يشم رائحة تبتعثها الذاكرة. وصهل على السكة فرس، واهتزت أجراس سرج، وأحدثت صليلاً. فهبّ واقفًا، واجتاز المسافة، بلا مساعدة أحد، وتحسس الفرس وقبله في عنقه، فهزّ ذيله فرحًا، كما تشممه، ومسح خطمه في جلبابه، كأنه يرشده إلى قطعة سكر، عثر عليها الحاج في السيّالة، وطرب لها الفرس وهو يقرشها.

 لم يثر الحاج، ولا تناول السوط من يد على الله القهوجي، ليلهب به ظهره. وأزاح الولدَ منصورالذي ارتمى في حضن أب لا يعرفه، وكان منشغلاً عنه بانتظار وعيد الحاج الذي عاتبه على إجهاد الفرس اللاهث من التعب. وقال القهوجي إنه اضطر إلى الإسراع، وهو عائد إلى أوزير الآن، حتى لا يتأخر!

 ثم تأمل القهوجيُّ الحاجَ، ورآه قد اكتهل. وكاد يسأل رواد القهوة عن سنوات أضافت، في غفلة من الزمن، إلى وجهه خطوطًا، تؤرخ لعمر من الشقاء والفراق. ولما كان مستغرقًا، سأله الحاج غاضبًا:

 ـ يهون عليك الغياب عن فرح سالم؟!

 خرس على الله، وأعفى الحاج حتى من نظرة أسى، يشفق بها على ما ظنه ذهاب عقل رجل بلغ المئة. وحسب الرجل صمت القهوجي اعتذارًا عن التأخر عن حضور فرح سالم، ورفع سبابته بفخر:

 ـ فرح تحلف به البلاد ليوم الدين.

 وكان القهوجي ينصت غير مصدق، فأتبع الرجل:

 ـ الناس أصابها هوس من رقص الغوازي للصبح!

 وهزّ القهوجي رأسه، وترحّم على سالم، بصوت علا من كثرة التكرار. وتذكّر الحاج حفيده، ووجم للحظة، ثم كسا وجهه الرضا:

 ـ ابنه شبهه حتى في طيبة قلبه، وحفظه قرآن ربنا، غير أنه وحداني بلا أخ.

 زادت دهشة على الله؛ فجذبه الحاج من يده، ودعاه إلى القعود، إلى جواره في مكانه الخاص على المصطبة، وانفتحت شهيته للحكي. وهاوده على الله، غير راغب في أن يصدمه، ويقذف في وجهه بأن سالم مات ضحى يوم جمعة، بعد "الدخلة" بساعات. وقال إن من تتقدم به السن لا حرج عليه، فإذا ردّه الله إلى أرذل العمر، فلا أقل من أن تتآكل ذاكرته. وسأله على سبيل الاختبار:

 ـ سالم وحداني يا سي الحاج؟

 فعلق، وهو يطلق ضحكة التهمت من عمره عشرات الأعوام:

 ـ وحياتك وحداني، ابن ليلة، وكنت أنوي أن أسميه "ابن ليلته"، وأمه مريم زعلت، وعيّطت: "سالم سالم".

 فأفاق القهوجي على سنوات سرقت منه هو، ولم تسقط من ذاكرة الحاج. وحتى تتأكد له مقدمات ما اعتبره صدمة، سأله:

 ـ ورَأْي جدّته يا سي الحاج؟

 توقع أن يحدثه الحاج عن حليمة، الجدّة الروحية لسالم وعامر، ولكنه قال باطمئنان:

 ـ هند مسكينة، لا أب ولا ابن. هي فرحت بسالم الصغير، العريس، يوم ميلاده أكثر من أمه مريم.

 فضرب القهوجي يده في جبينه، ونادى منصور، فأتاه شاب طويل لم يتعرف إليه من أول نظرة، وسأله متى كانت "دُخْلة" سالم، فقال:

 ـ ليلة الجمعة.

 وأشار إليه الحاج بالرجوع، واستعجل القهوة، وقال لأبيه:

 ـ ما قلت لك من يومين من أيام ربنا.

 فقام الرجل يتحسس ابنه، غير مصدق أن الذي تركه لحمًا، في لفّة الهدوم، صار شابًّا، أكبر بأيام من سالم الذي ولد لأب لم يهنأ بزواجه إلا بضع ساعات. ثم عاد إلى الحاج الذي كان يضحك من فحولة حفيده:

 ـ سالم شبه مبروك، من ليلة واحدة ترك علامة!

 وعلّق أحد الذين لهم على الحاج دلال:

 ـ أبوه مبروك ترك علامتين!

 فقال الحاج:

 ـ دُخْلته بدأت أول الليل، كان عنده وقت، وبركات شيخ العرب.

 ولم يصدق على الله أنه غاب أطول مما أحصى من سنين، وفي غيابه ولد لسالم الصريع ابن يحمل اسم أبيه، وتزوج قبل يومين، ولكي يتأكد سأل الحاج:

 ـ وعامر يا سي الحاج؟

 ـ أسمع عنه حكايات ولا سيدنا الخضر.

 ـ حضر فرح سالم؟

 أحزنه السؤال فغضب، لأن القهوجي تأخر عليه بالفرس، وكان ينوي أن يبحث عن عامر في البلاد المجاورة، ليعيده إلى الدار. ودفعه بقوة فأوقعه، واتسخ بالتراب جلبابه، وخشي على الله أن يضربه الحاج بقدمه التي تدلت من فوق المصطبة. وصاح فيه:

 ـ تأخرت عليّ يا بهيم، وانتظرت الفرس ليشم رائحة عامر ابن الغالي.

 ونهض الحاج، وكان الفرس لايزال مجهدًا.

 وقبل أن يعنفه على ذلك، قال على الله:

 ـ اعذرني يا سي الحاج، أنا راجع من طنطه ولا الريح، وهربت من الفرنسيس بالعافية والحيلة.

 لم يسمع الرجل بوضوح:

 ـ فرنساوي؟.. دوما رجع بعدما وصّلت أهله. ومن زمان، وهو واحد منا.

 فقال القهوجي:

 ـ عسكر لا أول لهم ولا آخر، من الفرنسيس يا سي الحاج، حاصروا زوار شيخ العرب في طنطه، وضربوا عليهم نار البنادق والمدافع.

 فضرب الرجل كفًّا بكف:

 ـ ودخلوا المقام؟، رحمتك يا رب.

***

 

عــامـــر

(33)
وحده توقف الفرس، أمام باب الدار مباشرة، وتسمرت بالأرض أقدامه، رافضًا التحرك إلى باب الزريبة، على بعد خطوات. ولوى عنقه ناحية تكعيبة العنب، في مواجهة الباب، حيث كانت حليمة تمدد ساقيها في الشمس، وتضرب بمنشّة ذبابًا لا يراه غيرها.

 مدّ على الله القهوجي كفّه اليسرى، لتسكن عليها قدم الحاج اليمنى، وأسنده بيده اليمنى، وهو يهبط بحرص زائد. وإلى حليمة سبقهما الفرس، ومدت إليه ما تبقى من كوز ذرة مشوي، لايزال دافئًا، فتناوله بشفتيه، كأنه يقبل يدها، قبل أن يقرضه بأسنانه. وتأملت ما طالته عيناها من جسد الواقف الصامت، من دون أن تبلغ وجهه، وقالت:

 ـ راجع العصر يا سُخام الحلّة، وأنا من الصبح على لحم بطني في انتظارك؟

 ابتسم عمران ابتسامة أسى، وداعبها:

 ـ يا شيخة حرام عليك، أنت تغدّيت من ساعة واحدة!

 ومال إلى القهوجي:

 ـ ولا تشغل بالك، من مدّة وهي تنسى.

 فأحكمت منديل رأسها، على شعرها السارح في ضفيرتين تصلان إلى المصطبة:

 ـ عمري ما أنسى يا عمران، واسأل ابن المراكيب عامر.

 وأشارت إلى الواقف بجوار الحاج:

 ـ تعال هنا يا عامر الهباب.

 انحنى القهوجي، وصافحها مقبّلاً يدها، وهمس إليها بأنه على الله لا عامر.

 صمتت، ثم سألته:

 ـ على الله؟، ابن من يا ولد؟!

 ذكّرها بنفسه، قائلاً إنه ذهب إلى سمنود بالفرنساوي رينيه دوما وزوجته وابنته، وتأخر قليلاً. وسألته أين كان طوال أيام غيابه عن البلد، وقبل أن يجيب، سألته بروح طفلة:

 ـ معك حلاوى يا ولد من سمنود؟

 خيب صمته أملها، فأتبعت:

 ـ ولا حتى هريسة يا حمار!

 وضحك الثلاثة، وقال لها إنه لم يكن في سمنود، وإنما في طنطه، فتأملته ببقايا نور عينيها:

 ـ ولد محفلط، راجع من المولد بلا حمّص.

 وبظهر يدها، أزاحت ظله عنها. وقالت بغضب، من دون أن تلتفت إليه:

 ـ يا فرحتي وهو راجع يتبغدد ولا أبو قردان.

 لم يضحك عمران. كان يتخيل كيف اقتحموا مقام السيد أحمد البدوي بالخيول، وضربوا خيام الزوار بنيران المدافع. وأمر باستدعاء رينيه دوما، واستدار على الله مستجيبًا، فأوقفه بإشارة من سبابته، مؤكدًا أنه لا يطمئن إليه، ولا يضمن أن يعود إلا بعد سنوات، بمصيبة أخرى، يهون إلى جوارها اقتحام الفرنسيس المسجد الأحمدي.

 أوشك سالم أن يتخطّى عتبة الدار، ونهره جدّه، وعلى صوته جاءت أمه مريم وجدته هند، ومنعتاه الخروج، واحترم رأيهما، وهوّن من خوف رآه مبالغًا فيه. وقال إنه كان يريد أن يداعب جدّته حليمة، ويريح في حجرها رأسه، كما كان يفعل وهو صغير. وقالت حليمة إنه لايزال صغيرًا مثل الجحش، وإنه يقلّد عمه عامر، وأباه سالم الذي لم يره.

 وكانت قد نسيت عامر طويلاً، وما عادت تتذكره، وحين استدعته من ذاكرتها، أصابتها رعدة، وظلت تتحدث مع نفسها عنه، وتناديه وتلومه، غائبة عن تحذيراتهم للعريس.

 وقالت بعد أن أفاقت:

 ـ ولا رجل في البلد عاوز يرجّع ابن الغالي؟

 انقبضت قلوبهم؛ ها هو عامر ينبش الأدمغة، من جديد، ويوجعها بفتحها على مواجهة حقيقة أنه لايزال حيًّا. وكأن الدعوة إلى البحث عنه موجّهة إلى سالم العريس، كما كانت دعوة مشابهة قد وجهت إلى أبيه سالم الصريع. وتشاءموا، وبلا اتفاق شاغلوا حليمة لتنسى.

 ولكن الشرارة التي أطلقتها عودة القهوجي ما كان لها أن تخبو، إذ لمح على الله سالم العريس على العتبة فحيّاه، ثم اقترب منه، وانحنى قليلاً، قبل أن يحتضنه بعيدًا عن الباب بخطوة، حتى لا يراه أحد المارة بالحارة. ودمعت عيناه، وهو يراه صورة من والده سالم، الذي قتله الجلاب ذات ضحى، بعد الدُّخلة بساعات، ولم يحتمل أخوه عامر أن يعيش وحده في الدار، فأطلق ساقيه وراء عقله المجذوب. بدأ الأمر باتهام نفسه بأنه مسؤول عن مصير أخيه، مؤكدًا أنه كان المستهدف، لا توأمه الطيب حافظ كتاب الله، ولكن المصادفة وضعت سالم، تلك اللحظة، بين عامر وبلطة الجلاب الهابطة لحصد الروح، فكسرت ضلوعه، وأعطبت قلبه، وتمزق قميص الروح التي انطلقت إلى بارئها، وخلفها هام عامر، على مدى أكثر من ثلاثة وعشرين عامًا، لا دخل فيها الدار، ولا رآه أحد يقترب من إحدى البوابات الثلاث، وإن ظل وجهه محفورًا في خيال الناس؛ فلا يمضي أسبوع، إلا ويؤكد أحدهم أنه رآه بين حوارييه، في قهوة قريبة من سوق الأربعاء بسمنود، أو هابطًا مثل باشا، سوق الثلاثاء بالمحلة الكبرى. وعندما اقترب منه، ابتلعه الزحام، ليظل قريبًا بعيدًا، مستعصيًا إلا على ألا تفارق صورته ذاكرة الناس، مقتحمًا مقبلاً، ثم فارًّا مراوغًا.

 لم ييأسوا من رجوعه يومًا، وإن طال. وظلوا لسنوات، لا يعرفون لها عددًا، يعتقدون في أنه يحيا؛ فلا يليق به ولا بأوزير أن يدفن بعيدًا عنها.

 

(34)
كانوا قد استرخوا، وترهّلت كروشهم، ونبتت الحلفاء على جانبي الترع، كما كادت القناة المحيطة بأوزير أن تنسد، من غير أن يبالوا، اطمئنانًا إلى أن بعض ما تجود به الأرض يكفيهم، بعد إعفائهم من أية التزامات، من عوائد وضرائب وبرّاني، حيث نُسيت أوزير تمامًا، وظن أهلها أن مروان الذي ورث شيخ سمنود قد توسط لدى الباشا في مصر المحروسة، للتنازل عن الثأر، حتى لا ينال منه هو الآخر. وأعفيت النساء من الشغل في الغيط، وتفرغن للغزل في البيوت، ورعاية الذرية التي تسابق الرجال إلى الإكثار منها، والتباهي بذلك في الأسمار، حتى كاد رينيه دوما يشعر بالاختناق، وهو يرى الدار الواحدة تنبت كل سنة ولدًا، في حين لايزال وحيدًا، بلا زوجة ولا ولد. وأحس بتقدمه في السن، وكاد اليأس يتمكن منه، رغم ما يحيط به من حفاوة.

 وحين استدعاه الحاج عمران، أعلن أنه لا يعرف شيئًا عن الفرنسيس الذين يتكلم عنهم على الله القهوجي. وصدقاه، وأمر الحاج من يراقبه عن بعد، ويتبع خطواته، داخل البلد أو الغيطان، حتى حين يذهب إلى سمنود، للسوق أو الكنيسة.

 كاد الحاج يبكي، وهو يقحم اسم عامر بين جملة وأخرى، كأنه يوحي إليهم بأن حفيده وحده سيخلّص المقام الأحمدي من عسكر الفرنسيس الصليبيين. وقال إن استيلاءهم على طنطه سيطمعهم في خيرات المحلة وسمنود، والوصول إلى أوزير، ولن يسلم منهم بيت ولا غيط، حتى جناين رينيه دوما النصراني وزراعاته، ولن يمنعهم عنه أنه على دينهم ولسانهم.

 أبدى القهوجي استعداده للتفرغ التام للبحث عن عامر، إرضاء للحاج، رغم عدم اقتناعه بقدرة الشاب الذي بلغ الخمسين، في غفلة منهم ومن نفسه، على أن يفعل شيئًا لجده أو لأوزير، بعد فقدان عقله، وتغير الأحوال، وظهور جيل مترف من أهل البلد، لم يشهد أفراده ما واجه جيل المؤسسين من صعوبة في إعادة البناء، ولا الجيل التالي الذي خاض معركة دموية، لتطهير البلد من رجال الباشا.

 كان شبان أوزير يعرفون التوأمين عامر وسالم، كطيف أو خرافة. ثم بدأوا ببطء يختبرون سراب عامر في خيالهم، من باب الفضول وحده، على سبيل قتل رتابة أيامهم، بوسيلة تسلية لم ينبههم أحد من قبل، إلى الاجتراء على التفكير فيها.

 سلم الحاج عمران، عن طيب خاطر، فرسه للقهوجي، وحذره العودة من دون عامر:

 ـ يرجع معك على الفرس، أو تغور أنت من البلد.

 وانزعجت حليمة من فكرة التخلي عن الفرس بهذا الرضا، ونادت القهوجي، وهو يعدل نفسه على السرج، فهبط إلى الأرض، ليتلقى كلامها باحترام:

 ـ لو نويت تغور، فكّ قيد الفرس، وهو عارف السّكّة لوحده!

 كاد زاد على الله القهوجي، الذي أعدته هند، ينفد مع صبره. ولا يرى أملاً قريبًا، أو أثرًا يدل على عامر، في القرى المجاورة. لم يلفت اسم "عامر مبروك"، أو "عامر عمران" انتباه أحد الذين سألهم عنه.

 كان بعضهم يكتفي بهزّ كتفيه، ثم ينصرف في صمت. وفي نهاية المطاف توجه القهوجي إلى طنطه، وضحك كثيرًا من خيال الحاج عمران، المنزعج من دخول الفرنسيس مقام السيد البدوي، ولم يقل له أحد إنهم اقتحموا الجامع. وكانوا على مشارف المدينة، وأعاقتهم الخيام، وزحام مريدي شيخ العرب. وقال القهوجي إنها فرصته الأخيرة، في العثور على عامر، وإلا فلن يعود، وسيعتبر عودته العارضة إلى أوزير حلمًا.. ذهب بالفرس، وفوقه عاد، وزيادة عليه بعض أزودة نفدت بالفعل.

 في المدينة، ومع اقترابه من المولد، كان لقب "شيخ" سهلاً ومجانًا، يسبق أسماء وجهاء وبسطاء، مشاهير ومجهولين. وجرب أن يسأل عن "الشيخ عامر"، بين الذاكرين والمجاذيب. وقال له أحدهم إنه عرف، في السنين الأخيرة، شيخ الطريقة العامرية، طويلاً عريضًا مهيبًا، ابيضّ منه الشعر. وأنكر على الله أن تكون هذه الصفات لعامر الشاب؛ فلاتزال الذاكرة تحتفظ له بصورة فتوّة، في الخامسة والعشرين.

 في إحدى ضواحي طنطه، استظل بجدار منزل، وخرج إليه صبي بدِريس للفرس، وبعد قليل دسّ في حجره رغيف عيش، وقطعة جبن قريش. وتأخر عنه بعض الوقت، ثم أعطاه صحن دُقَّة من النوع الحرّيف الذي يحبه. وبعد الأكل طلب إلى الصبي قُلّة ماء. وقبل أن يعود الصبي، سرق القهوجي النومُ، ورأى عامر مثل أحسن صيِّت في الموالد، ففرح به، وحين مدّ إليه يده مصافحًا، ليذكره بنفسه، جاء الصبي بقلّة الماء، وأسقط من حلقها قطرات، فأصيب الرجل بالفزع. ومن الغضب كاد على الله يحطم رأسه بالقُلّة التي كسرها في الأرض، بين حوافر فرس انتفض من المفاجأة، وصهل بذعر.

 بكى الصبي، ولم يبال به القهوجي، وحاول العودة إلى الحلم، ليعثر على عامر، وأغمض عينيه، ولكن النوم استعصى عليه. وخرج إليه والد الصبي، وظنه مجنونًا، وأشار إليه بالانصراف. واعتذر الرجل، وشرح للأب، وهو يفك قيد الفرس قبل أن يمتطيه على مهل، أنه في منامه، أوشك أن يعثر على الشيخ عامر، الذي غاب عن أمه وجده قبل ربع قرن.

 ـ كان بيني وبينه خطوة، لولا الولد!

 وأرشده الأب إلى من يعرف غريبًا يحمل هذا الاسم، قائلاً إنه رجل صالح، وهبه الله قدرة على إخراج الجان من أجساد عباده.

 ومن حارة لحارة، ومن ضاحية لأخرى، بلغ القهوجي باب دار، وسحب الفرس وأوثقه إلى مزود، به تِبْن ودِريس. لم يسأله أحد لماذا دخل، وظن أنهم غير منتبهين إلى وجوده. كانوا يتبادلون تحية تخصهم، ومع الأغراب يلقون السلام، أو تحية المساء، أو يردونها بوضوح.

 وعند دخوله الباحة الخلفية للدار طلب أحدهم مالاً فأعطاه. كان يائسًا، لا يدري لماذا دخل، ولا كيف اطمأن لفرس تركه بلا حراسة، ولا كيف تساهل في منحهم ما طلبوا من مال، وهو الذي لا يشكو مرضًا، ولا يركبه عفريت.

 أقنع نفسه بأنه فعل ما يستطيع مثله أن يفعل، من أجل عمران وحليمة وهند، ناويًا أن يكون خروجه، من هذه الدار، إلى دنيا الله الواسعة، بعيدًا عن أوزير. واندسّ في الزحام، مثل أي مجذوب، لا يبين شيئًا من الزعيق والصراخ. وكان يتظاهر بالانخراط معهم، ويصغي إلى صاحب صوت رائق يغني، على مزمار عازف لا يراه، بسرعة تتداخل فيها الحروف، وتتآكل الكلمات، ثم يعيد غناءه بإبطاء، حين يطمئن إلى اقتراب المرضى من الدخول في الملكوت.

 ولكن القهوجي لم يستطع أن يفهم من غناء الشيخ كلمة. وظل يتحرك في المكان بتلقائية لا تثير الشبهات، متفاديًا أن يلاحظ أحدهم أنه واعٍ بمن حوله. وبدأ بالاقتراب، حيث يتاح للشيخ أن يراه، ثم ابتعد ببطء، كأنه مجذوب يدور في رحاب الملائكة، إلى أن أسقط جسده، كأنه مغشي عليه، بين قدمي الشيخ الذي انشغل عنه بإنهاء الإنشاد. وحين هم بالانحناء، تسابقت أيدي مريدين إلى رفعه، وقد رال، وسال لعابه من زاوية الفم، إلى الذقن والعنق.

 ارتمى على الله في حجر الشيخ، مؤكدًا أن الله أرسله في الوقت المناسب، لإنقاذه من داء أعيا الحكماء. ولما اختلى به قدم إليه نفسه، واعترف بأن داءه اسمه "أوزير"، يريد العودة إليها، ولكن كبيرها اشترط عليه أن يكون في صحبة حفيده، أو يختفي إلى الأبد. وقال إنه كاد يمد ذراعه، ويمسك بالحفيد، لولا الصبي الملعون الذي أيقظه، فتمزق الحلم. وأكد أن الجن الذين بلغوا عرش بلقيس، لا يعدمون حيلة، إذا أمرهم الشيخ بالبحث، عن أي أثر للحفيد الشارد، ومعرفة مكانه.

 كان الشيخ يستمع لامباليًا، ثم سحره حكي الرجل، الذي بدا كمريد جثا أمامه، رانيًا إليه، كأنه لا يراه، أو كأنه ينفذ إلى ما وراءه، مواصلاً حكاياته عن شاب كانوا يحلفون بقوته، وزهوه بنفسه، وقد خلّص البلد من الظالمين، ودفع ثمن شجاعته عقلاً اختل، بعد مصرع شقيقه سالم، ولم يرحم جده، ولا أمه هند، فترك القرية التي لا يصدق أهلها إلا أنه لايزال حيًّا.

 لاحظ القهوجي أن الشيخ يرتعد، كلما ذكر أسماء سالم أو هند أو عمران، كأنه هيكل من شمع يوقد حول مقام شيخ العرب، ويذوب وحده، أو يهتز من صدق الحكاية، وحرارة الكلمات.

 وسأله:

 ـ وأنت ؟

 لم يتوقف القهوجي أمام معنى السؤال، الذي يستفسر صاحبه عن موقع الحاكي، من حكاية لا تخصه. وبدا أنه لم يسمع، وقال إنه هو الآخر ظل تائهًا كالمجنون، منذ دفن سالم، وذهب برجل فرنسي اسمه رينيه، مع زوجته وابنته، إلى سمنود، ولم يعد إلى أوزير إلا قبيل أيام من مولد السيد البدوي، واكتشف أن القرية لم يذهب إليها رجال الباشا خمسًا وعشرين سنة، ويحكمها رجل بلغ المئة، هو الحاج عمران، وراعه أن بالجيل الجديد رخاوة، والأدهى أن الشبان لا يعانون منها، ولا يخجلون. وأقسم برحمة مبروك وسالم أنهم ليسوا خشنين بما يكفي، وتستهويهم القهاوي، وقراءة الكف، ومطاردة الغجريات.

 كما لم يتوقف أمام رعشة استولت على الشيخ، وهو يسمع اسم رينيه الفرنسي وابنته، وسأل نفسه بصوت خفيض، مسحه اندفاع القهوجي:

 ـ "اسمه رينيه ! "

 دمعت عينا القهوجي، فأخفى الشيخ لحيته بكفيه، وخرج منه صوت كأن الرجل يعرفه:

 ـ بُصّ في عيني.

 رد القهوجي وهو لا يفهم:

 ـ من ساعة، وأنا أبُصّ يا سيدنا، وأطمع في كرمك.

 ـ بُصّ بقلبك يا على الله.

 انتفض الرجل؛ فلم يسأله أحد عن اسمه، ولا يعرفه هنا مخلوق. وقام الشيخ بجسده العملاق، ومدّ يديه إلى الجالس:

 ـ أنا عامر يا على الله.

 ـ سيدنا الشيخ ؟!

 فسأله بحزم:

 ـ جدي بعثك؟

 لم يتمالك نفسه:

 ـ كلهم يا سيدي.. جدك وجدتك حليمة وأمك وسالم و....

 فقاطعه الشيخ بنظرة حادة. ثم أفاق، وقدر أن الرجل أيضًا مجنون، أو أنه يسخر منه، وكاد يفتك به، فأنقذ نفسه بسرعة:

 ـ سالم يا سيدي ابن المرحوم سالم.

 فأغمض عامر عينيه، وطلب ماء باردًا، صبه على رأسه، ليتأكد له أن ما يسمعه ليس حلمًا، ثم اصطحب ضيفه إلى داره، على مشارف المدينة، وقدم إليه ما اشتهته نفسه. وأمر أتباعًا ومريدين وإماء بتجهيز حمولة كبيرة، إلى أهله بأوزير. كما أمر بتوفير حشيش يكفيه طوال الليل، في رحلة العودة، كلما استراحوا في الطريق. وقال عامر ردًّا على استغراب القهوجي:

 ـ ما فارقني الموت من يوم قتل سالم.

 ـ الله يرحمه، وألف رحمة على والدك مبروك.

 ـ روح سالم تعذبت في خروجها، ومن ساعتها وأنا أخاف ألم الموت، ساعة قبض الروح.

 لم يجد القهوجي ما يقول، وهو يرى الشيخ المهيب هشًّا، وأنصت إليه:

 ـ الحشيش فرصة للإفلات من الألم، أتمنى الموت وأنا نائم أو سكران؛ فلا أدري بقابض الأرواح.

 ـ أكثر من عشرين سنة وأنت سكران يا سيدي؟

 سحب نَفَسًا عميقًا، وأغمض عينيه، كأنه فوجيء بما مضى من عمرٍ لم ينتبه إليه:

 ـ كنت أسكر لأفيق، وأفيق لأسكر؛ فلا أعرف ملاك الموت من الحور العين.

 لم يصدقه القهوجي، ولكنه ابتسم مجاملاً. وقال لنفسه إن هذا المجنون يتوهم أن أحدًا من خلق الله، يمكنه أن يرى عزرائيل مرتين. وحاول أن يمنع نفسه، فلم يملك إلا أن يقول له:

 ـ لو كنت شفت ملاك الموت، فإما أننا في الجنة، وإما أنك من أولياء الله الصالحين.

 حكى له عامر أنه أفرط، ذات ليلة، في تناول الحشيش، وهمد جسده تمامًا، وحسبوه ميتًا. وكان يسمع صراخًا وعديدًا يبدو قادمًا من بعيد، وحين ارتقى فوق السرير، بمسافة بلغت ست أذرع أو سبعًا، رأى نساء يبكين ويولولن، وهو عاجز عن مد ذراعه، ليكفهن عن الإزعاج، كما لم يتمكن من الإشارة إليهن بإصبعه، ليؤكد أنه حي، وأن ما ينظرن إليه ليس هو، بل كتلة من اللحم البارد، أما جسده فمعلق بين سماء الغرفة والأرض، وعيناه تريان بوضوح كل شيء: هو ممددًا فوق السرير، والأتباع والمريدين، بين باكٍ ومنهار، ومن يرفض فكرة موته، فيضع أذنه على قلب الذي يراقب المشهد، وهو يشعر بسلام وطمأنينة، راغبًا في أن يقول لهم إنه تحرر، بحمد الله، من أسر هذا الجسد المحدود، ويرى أكثر من حدوده، ويستطيع أن يجوب الآفاق.

 ولكن أحد الذين راعهم أن يغيب عامر، أمر بتحضير قهوة شديدة التركيز، وصبّها في حلقه، وسالت من فمه إلى صدره. وآذت سخونتها لسانه وحلقه، وتألم كثيرًا، وهو يرى جسده الضعيف مستباحًا لعنف هذا التابع، ولم يتمكن من منعه، حتى حين دعك بصلة حارة في أنفه، قبل أن يرجّه بقوةٍ، أسقطت الجسد المعلق، فاتحد بالمسجى، وأفاق.

 وقال للقهوجي إن جسده كاد يتهشم، وهم يهزونه برهبة الخائفين، عليه وعلى أنفسهم، من فكرة موته.

 ثم ضحك وقال إنه تمنى أن يعجلوا بدفن جثته، أو يتلفوها حتى لا تعود صالحة لاستقبال روحه المعلقة، وهي تراقبهم من سماء الغرفة، لتنطلق في سماء الله، غير مقيدة بجسد يشدها إليه.

 ضحك عامر، وكاد يغمى عليه من القهقهة، وهو يقول لعلى الله إن الرجال الملاعين لم يحزنوا عليه مثل النساء.

 ابتسم الرجل، وظن أنه يهذي. وفهم عامر سر فتوره، فأوضح له أنه عرف نساء بعدد شعر رأسه، أتاهن في اليقظة والسكْر: منهن الجواري والغجريات، والراغبات في أن يمنحهن ولدًا، وطالبات الحمل في رحاب السيد البدوي، ومن وهبن أنفسهن له.

 وبدافع الشعور بأنه يتباسط معه، سأله القهوجي:

 ـ كن عقيمات يا سيدي؟

 ومنعه الخوف أن يسأله عن ثمار هذا السخاء بالوصال، مع هذا العدد من النساء، ولماذا لم يُظهر كرامة، بأن يكون له، من إحداهن، ولد. وقال إن مثل هذا العدد يسمح له بأن يكون أبًا لجيش من الأبناء. وأوضح عامر أنه عاش حياة دونها جنة الله في سمائه، يخطط ليومه وساعته، ولا يفكر فيما وراء ذلك. يكون عاقلاً حين يقرر، ومجنونًا طوال الوقت، لا يهدف إلى أن تكون له عزوة من الأبناء، يستند إليهم في شيخوخته؛ إذ توقع الموت كل ساعة، وتنازل عن الحاجة إلى أي أحد، واستبدل بهذا كله، لذة متجددة، تمنحها له النساء طائعات، أو يفجرها فيهن، ليبلغ من النشوة منتهاها، حتى لو انتظره الموت، أسفل الفراش.

 وأضاف بما يشبه السخرية:

 ـ مبلغ علمي أن ليس لي ابن، وإذا حضرت امرأة بولد، وقالت إنه مني، فهو من بني عمران.

 واستدرك بإطلاق ضحكة، إذ لم يفكر في كلامه، ولم يرتبه:

 ـ من بني عمران لا بني إسرائيل!

 همّ بالتحرك، فأمهله القهوجي حتى الصباح، على أن يرسل رسولاً إلى جده في أوزير، ليتأهب للخبر، بدلاً من المفاجأة. وكان يريد أن يستأثر به طوال الليل، ليعرف منه المزيد.

 

(35)
قال عامر إنه كان وحشًا بريًّا، لم يكتشف قدرته إلا بعد جنونه، إذ استقبلته امرأة على مشارف سمنود، من ناحية المحلة الكبرى. كان هائمًا، يعاني الجوع والعطش ويرغب في النوم، فأدخلته خيمتها، وبسطت إلى رأسه فخذها، قبل أن تسحب وسادة من الخيش المطوي، ثم تحسست بطنه الضامر، ومن دفء المداعبة، تدفقت فيه الدماء، رغم حاجته إلى النوم. وكنس رهزها ونخيرها كل ما تبقى في ذاكرته، من فنون سابقاتها، اللاتي عرفهن وهو عاقل، حتى إنه نسي الجوع والتعب، في خيمة اللذة الأولى، وخارجها نفر بغل فخلع أحد أوتادها، فسقطت عليهما، وهو يواصل الطعن كأنه ينتحر، أو مقبل على موت، وهي من النشوة تجذبه إليها، وتغرس في ظهره أظفارها، وتصرخ:

 ـ يغور البغل في ستين داهية يا سيدي.

 ثم أصلحا الخيمة، وتناولا غداء. وقالت بامتنان إن هذا الشيء نعمة من الله، لا يمنحها إلا أحد أوليائه.

 ـ أنت وليٌ، ما اسمك يا سيدي.

 قال وهو يقاوم النعاس:

 ـ عامر.

 فقبّلت يديه، وهبطت دموع لم يسألها عن سببها.

 إلى الخيمة أعاد البغل فلاحون. وقالت لهم إن عندها ضيفًا من أولياء الله، وقبلت يديه أمامهم، والتفوا حوله طالبين البركة، وأخذوا منه العهد، واستدعى عامر ما كان يحفظ من القرآن. وردده عليهم بصوته الصافي، وهم مسحورون بثباته، وثقته المستمدة من روح الله.

 وبدورهم أشاعوا عنه الصلاح والتقوى، فزاد مريدوه، وتنوعت مواهب المقربين منهم إليه، في حجبه عن عامة الناس، أو إشاعة قدرته على إخراج الجن من الممسوسين.

 ضحك القهوجي، وقال إنه لم يفهم شيئًا، لا التحية، ولا غناء عامر، ولم ينكر جمال صوته. وقال عامر إن هؤلاء مرضى بالوهم، وهو يريحهم بكلام لا يفهمونه، ومع صفاء الصوت، الذي يضيع في ضجيج المزمار والدف وصراخ المرضى، لا يستفسر أحد عن ألفاظ غير مفهومة.

 سأله القهوجي:

 ـ وكم شيخ طريقة صنعته المرأة في خيمتها يا سيدي!

 فغضب عامر، وظل يضمرها للقهوجي، كأنه يطعنه في شرف المرأة، أو يشكك في جدارته بالولاية:

 ـ لو أشرت لرجالي لقطعوك، كما قطع جسد الجلاب قاتل سالم.

 شعر بالخزي، وانحنى يقبل يديه:

 ـ أنا آخر من يفكر في الإساءة إليك يا سيدي.

 لم يسحب عامر يديه، هذه المرة. وقال إن المرأة تركت أرضها وأهلها، وجاءت معه إلى طنطه، وعاشت له كأم وزوجة وخادمة، إلى أن ماتت.

 وأناب عامر عددًا من رجاله، لإدارة أملاكه المتفرقة في ولاية الغربية، وأقربها إلى نفسه "مسموح" على مشارف طنطه، وهي أرض منحت له، وأعفيت من الضرائب، وله على رأسها دار صغيرة. وعلى حدود المحلة الكبرى من ناحية سمنود، أرض الرِّزْقة، وقد أوقفها على جامع الشيخ عامر، وملحقاته من سبيل وكُتّاب لتحفيظ القرآن. وكانت له مساحات أصغر من الأطيان بقرى بعيدة عن أوزير.

 وقال إنه تفادى الذهاب إلى أوزير، أو المرور بها، بعد أن هجرها ملتاثًا لا يعي، فلا يعقل أن يرجع إليها، بعد مصرع أخيه سالم.

 وعلق القهوجي بشجاعة:

 ـ ولكنك يا سيدي أعقل العقلاء.

 حاول عامر أن يكظم غيظه، ولم يشعر القهوجي بالخوف، بل قدر أن هذا هو العقل ذاته، أو على الأقل بداية استعادته. وبعد لحظات صمت، قال عامر:

 ـ أيبقى للإنسان عقل بعد تسرب روح شقيقه المحمول على كتفه؟

 وكادت دموع عزيزة تفضح ضعف عامر، وأدار القهوجي رأسه، ليعفيه من الحرج، وغامت الرؤية:

 ـ سالم مات يا على الله!

 ـ ربنا عوضكم بسالم الصغير.. العريس!

 ـ عريس ؟

 لام القهوجي نفسه، ربما كان من غير المناسب، أن يفاجئه بتفاصيل ليس مستعدًا لاستيعابها، مرة واحدة.

 وأوضح:

 ـ آ.. كانت دُخْلته يوم الخميس.

 ـ أنت مخبول يا قهوجي؟

 ـ ورحمة الغالي، إن جدك قال لي إن المرحوم سالم شبه والدك مبروك، ترك كرامة، من أول ليلة.

 واستدرك مبتسمًا:

 ـ وسي الحاج ضحك من قلبه يا سيدي، وقال إن من شابه أباه فما ظلم.

 كاد قلب عامر ينخلع مع زفرة أطلقها، وأغمض عينيه ليرى، ويمنح خياله اتساعًا يسمح له بتصور أن ما يسمعه حقيقة:

 ـ كلام يخبل العاقل، فما بالك بمجنون؟

 أحزن عامر أن يشعر ببوادر عودة عقله، وأن يتعرى أمام من اعتبره أدنى من صديق، فكل ما يتمتع به القهوجي هو مصادفة انتمائه إلى أوزير، ولكن هذا لا يعطيه الحق في معرفة أسرارٍ، لم يكن عامر يهتم بكتمانها، قبل احتيال هذا الزائر. وتساءل عامر عن مدى صدق هذا الغريب، مقدرًا ألا يكون هو نفسه على الله القهوجي، ولا من أوزير، وأنه كذب عليه.

 وحدّثته نفسه أن هذا الرجل، على افتراض أنه القهوجي رسول جده عمران، فهو يستحق القتل، بعد أن قتل طمأنينة عامر وسكينته. وقال إن إشارة بسبابته لأي من رجاله، ستنهي حياة القهوجي، كما ستكون خلاصًا من عبء ضمير يوشك أن يستيقظ، بعد أن أغلقه سنين لا يعرف لها عددًا. حين باركته المرأة في الخيمة، وصدقها الفلاحون، وآمنوا به وليًّا، نوى أن يقضي عمره يومًا بيوم، بعيدًا عن الوقوع تحت وطأة إحساس بذنب، وأن يشبع من الحياة، بعد أن أتعبه ملاك الموت بثقله، ذات ضحى، حين امتطى ظهره، في رحلة انتزع في نهايتها روح شقيقه سالم. وبعد أن أصبح عامر وليًّا له أتباع أشداء، تحرر من وخز الضمير، وخاصم كل طريق يؤدي به إلى الشعور بالذنب.

 كان القهوجي ينظر صامتًا، وعامر يفكر في قطع عنقه، ولم يتعب في البحث عن سبب يبرر به لنفسه قتل رجل ليس عدوًا له، لأنه أول من يجرؤ على أن يضع مرآة أمام شيخ لا يناقشه أحد. ولكن المرآة، حين رأى فيها نفسه وأهله، فضحت ضعفه، بعد أن أدمن القوة واستمرأها، واستمتع بثمارها، وألذّها التحرر من مراجعة نفسه له، وعتابها عليه.

 قال عامر إن إخفاء القهوجي محوٌ لصفحة يريد بها تعكير صفو أيامه. وامتدت يده إلى عنق الرجل، وتذكر أنه لم يقتل بيديه أحدًا، وإنما كان يأمر أو يشير، فيموت منافسون له أو أعداء، ليظل وحده الأقوى.

 لم يكن يعنيه الثراء، بل صدق الانتماء، وأن يدوم ولاء أتباعه، حتى إنه كان يوزع عليهم عطايا الأثرياء وهداياهم إليه. كما كان يعيد نثر ما جمعه، من رواد حفلات الممسوسين، على المرضى أنفسهم وذويهم، بعد أن اعتادوا استرداد أموالهم، في الصباح، أمام الدار.

 وظن القهوجي، في بداية الأمر، أنه يداعبه، ولكن قبضة اليدين أفقدته وقاره، فانتفض ضاربًا ذراعي عامر بكلتا يديه:

 ـ أَفْطس بجدّ يا مجنون!

 فارتعشت يدا عامر، وبدا أنه يترنح، وبدون أن يدري القهوجي، التفّ حوله حواريون يريدون الفتك به، ولكن عامر الذي عجز عن الكلام، نهاهم بإشارة تحذير بسبابته، عن إيذاء الرجل.

 وأدخلوه الدار، وهو في حالة من الإعياء لم يعهدوه بها.

 والتبس الأمر على القهوجي والأتباع. ولم يجرؤ أحد على توجيه السؤال للآخر، عن سر هذا الغريب الغامض، وكيف احتفى به الشيخ، أول الليل، ثم أراد خنقه، من غير أن ينتظر أن يوجه إليهم أمرًا، بل شرع في القتل، لأول مرة، بيديه. وقال بعضهم إن الذي يدفع الشيخ إلى تلويث يديه، بمثل هذا السلوك، لا يستحق أن يعيش، وعجبوا لسماح الشيخ له برفع صوته، وضرب ذراعيه.

 وقبل أن تحركهم الرغبة في المجاملة، خرج عليهم عامر، حليق الذقن، مرتديًا الجلباب الكشمير، فنهضوا.

 وقال:

 ـ أوزير.

 ـ الصبح يا سيدنا ؟

 ـ حالاً.

 أمر بتحميل الركائب كل ما في الشون والخزائن، من البقول والحبوب والفواكه والطيور. واستعجل وصول الذين ذهبوا لشراء تمر وحمّص وحلوى وهريسة وكعك محشو بالسكر والعجمية. وأشار إلى القهوجي، من دون أن ينظر إليه:

 ـ خلّيك في الأول، وانخُس البغل.

 ـ قلقان يا سيدي ؟

 أجاب عن سؤال القهوجي بحزم:

 ـ قلبي يقول لي إن جدي في خطر.

 وأتبع:

 ـ مهمتك الوصول بنا للبلد قبل الفجر.

 

(36)
تحرك الركب، مسبوقًا ومتبوعًا بحملة البنادق فوق الخيول، تحسبًا لأي شيء. وسلك القهوجي طرقًا غير مألوفة، حتى يصلوا قبل الفجر. وحين لاحت أمامه على البعد، ما تصور أنه البوابة البحرية، المواجهة للقادم من جهة الشمال، العائد من سمنود، أحس بالأمان. وأجهد عينيه ليتأكد أن هذا الهيكل ليس خيالاً، بل البوابة التي عاصر بناءها، مع اثنتين أقل منها شهرة، ويعلو كل واحدة من الثلاث مصباحان، وإن حظيت هذه بشرف وجود تمثال سيدي سالم، الذي يرتمي عليه نور المصباحين، إلى أن يستقبل وجهه أول شعاع لشمس الصباح
.

 ظن القهوجي أنه ضل الطريق، فتوقف بالبغل، ولاحظ أن كتلة من الليل، كانت تسير بمحاذاته، قد توقفت وتكورت، فنادى أحد حملة البنادق، وخشي المتكور أن يرديه أحدهم، فاستطال رجلاً، بعد أن سمع صوت القهوجي. وقال إنه منصور القهوجي، ابنه. وقال إن الفرنسيس نهبوا أوزير، وإن الحاج عمران أمر بنشر عسس وبصاصين، في الليل، حول البوابات الثلاث، حتى لا يتسلل إلى القرية غريب. وانشغل منصور عن أبيه بذلك الذي لا يرى وجهه، ولكنه يمتطي فرسًا يسحبه رجلان.

 ثم قال:

 ـ الفرنسيس كرنكوا قبل سمنود، بعد ما نفّضوا البلد من المواشي والطيور.

 فأمر عامر بإدخال الركائب، واستبقاء حملة البنادق. وقال للقهوجي إن الآخرين يحتاجون أسلحة، من البلط والشقارف والخناجر، ليتوجه فورًا إلى سمنود، ليفاجيء اللصوص الفرنسيس، ويعود من عندهم بالمنهوبات. ولكنه فوجيء بمن يقول له إن جده يريده، وينتظره ويأمره بالانتظار.

 وأضيئت المصابيح من أول الحارة، وحول الدوار، وقبل أن يرمي عامر نفسه في حضن أي من المنتظرين، جذبه أحد الوجوه، فكاد الجنون يصيبه، مرة أخرى، وهو يرى سالم الصغير، كأنه سالم الكبير ينظر لنفسه في مرآة، حتى الجلباب الأبيض كأنه الذي ارتداه سالم توأمه في الصّباحية، ضحى يوم الجمعة، بعد الدُّخْلة بساعات، قبل أن يتشرّب الدماء، ويخلو من الروح.. روح أخيه.

 عانى الداخلون ضيقًا في التنفس. خنقتهم بقايا رائحة احتراق قش مبتل، وشياط جلود طيور وحيوانات.

 وشاهد عامر كلمات مكتوبة، بلا تناسق، على واجهة الدار المنقوشة في ذاكرته، برسومها التي أحاطت بالبوابة، ابتهاجًا بعودة جدّه، آخر مرة، من الحجاز، بعد أداة فريضة الحج.. كانت الرسوم تضم سفينة صغيرة وجملاً، وآيات قرآنية مكتوبة بالخط الكوفي الهندسي.

 وأجلسه جده إلى جواره، على الأريكة أمام الدار، وقال إن أوزير شهدت أيامًا سودًا، أكثر سوادًا من عهد رجال الباشا الذين كان آخرهم الجلاب، وأشار عمران إلى مكان على بعد خطوات، مزقت فيه جثة الجلاب، ذات ضحى. وقال إنه أرسل على الله القهوجي إلى عامر، ليقود الناس إلى طنطه، وينضموا إلى خلق آخرين، رجح أنهم نهضوا لتخليص المقام الأحمدي من تدنيس عسكر الفرنسيس، الذين لا يعرفون الله، ولا يراعون لعباده حرمة.

 خشي عامر أن يخيب أمل جده فيه، إذا اعترف له بأنه لم يكن معنيًّا بالاشتراك في التصدي للقائد الفرنسي فوجير، وأنه لم يكلف نفسه جهد الذهاب إلى الجامع، للفرجة على طينة هؤلاء الفرنسيس وسحنتهم، وكيف كانوا ينتزعون الأموال من الأهالي، ويخطفون أطعمتهم وحيواناتهم المنذورة للفقراء وأبناء السبيل. وكانت أخبار تصله عن اعتقال الفرنسيس وجهاء وكبار عائلات، قبل أن ينتفض الناس، ويخلصوهم، ويهرب العسكر ليلاً.

 كاد عامر يقول لجده إنه لم يقصر، بل ترك لرجاله حرية البقاء معه، أو الذهاب للانضمام إلى المقاومين، فلا ينهاهم ولا يشجعهم، منشغلاً بالحريم والملذات، وتوزيع ما يأتيه من مال وفير، على من يحتاج.

 وحيره اهتمام الجد بما جرى لجامع السيد البدوي ومقامه، أكثر من كارثة أوزير، وسأله بما يشبه العزاء:

 ـ خربوا البلد في يومين يا جدي ؟

 ـ القهوجي مشى من هنا، وهم حطوا على رؤوسنا، ولا الجراد!

 حكايات الجد، عن قرية نهبت وانتهكت، أطارت النوم من عيني الحفيد. ولكن حليمة سألته عن الحمّص والحلوى، فأشار إلى من لا يرونهم في الظلام، وأتوا إليها بكل ما تشتهي، من أصناف لا يأتي العائدون من المولد إلا بالقليل منها. وتربعت على العتبة فاردة جلبابها، وهي تفرز الحلوى، وتتأملها. وسألته:

 ـ تغيب يومين يا سخام وترجع بكوم عيال ؟

 وأتبعت بدون أن تنظر إليه، أو تنتظر منه ردًّا:

 ـ كلهم عيالك يا عامر ؟

 وعاجلته، وهو يفكر في أسئلةٍ قدّر أنها تنزلق من لسانها بلا وعي:

 ـ رجعت بالحمّص والعيال، وتركت نسوانك في طنطه ؟

 أنقذه جده من الحيرة، موضحًا أنها تنسى كثيرًا، وتختلط عليها الوجوه والأسماء والأزمنة:

 ـ من عشر سنين وزيادة.

 سأل عامر عن أمه هند، ومريم أرملة شقيقه سالم، ونسي أن يسأل عن اسم عروس سالم الصغير. وقال جده إنهن يشرفن على الطباخين، ورجّح أنه يحتاج من يعد له ماء، وثيابًا نظيفة، ليستحم ويجلس على راحته، بعد مشقة السفر.

 ثم وقف عامر، وحاول قراءة الكلمات المكتوبة بخط غير جميل، بل يبدو قبيحًا إذا قورن بالخط الكوفي المكتوبة به أيات الحج.

 ونبهه جده إلى أن الماء جاهز، وأن بإمكانه الاستحمام في حجرة خلفية، بسبب انشغال الحمام بالأهل والضيوف.

 

(37)
دخل عامر الدار الواسعة، كأنه غادرها أمس، واستعجب أن يمضي من عمر الدار وعمره، كما قالوا له، أكثر من عشرين عامًا، ولا يتغير من ملامح الدار شيء، لا الغرف، ولا الباحة، حتى الحجرة الخلفية المخصصة لخزين الدقيق والحبوب. وحين همّ بدخولها، وهو ينزع جلبابه، رأى في نور القنديل وجهًا كأنه غادره على الباب قبل لحظات. خرج الوجه من ذاكرة عامر بسرعة خاطفة أدارت رأسه، ملتهمًا من عمره وذاكرته سنوات غربته. وبُهتت البنت، ولم تنطق. ولا هو استطاع الكلام. ثم بعد حوار صامت، خرج السؤال من أعماقه، متوجهًا إليها، وإلى نفسه
:

 ـ صفية ؟!

 هي نفسها بنت الحلبي، التي قاومته في الغيط، فوق النورج، قبل زواج شقيقه سالم، ونفرت منه، رغم تمكنه منها، ولم تمنحه نفسها فأطلقها. في ذلك اليوم كانت البنت قوية، رافضة بكبرياء، لا يعنيها أنه حفيد سيد أوزير، وهي ابنة حلبي عابر، آثر البقاء بالقرية، وليس له فيها جذور ولا سند.

 حين نطق عامر اسمها، أصابتها خفقة، فسقط منها كوز الماء، قبل أن تضعه فوق الإناء.

 هي فوجئت به، إذ أيقظوها وأمروها بإعداد ماء للاستحمام في الحجرة الخلفية. وأعطتها عروس سالم ثيابًا مطوية بعناية، فهبطت بها من أعلى، ولم تقل لها لمن، والبنت لم تسأل؛ ليس لأن بنات الغجر والحلب والعابرين عليهن الطاعة في صمت، وإنما لأنها، هي الحرة المعتزة بنفسها، كانت تود الانتهاء بسرعة، لتعود إلى النوم.

 ـ صفية ؟!

 هزّها السؤال مرة أخرى، وأغمضت عينيها، لتنصت لاسمها منطوقًا، بدرجة من اللهفة لم تعهدها، وانتشت.

 كان الجلباب لايزال معلقًا على كتفيه، فلا نزعه تمامًا، ولا تذكّر أن يسدله ليستر سرواله. ولم تشعر البنت بخوف، إذ نظرت في عيني عامر، وأحست بحاجته إليها، بعد أن أكل العمر الفائت فتوّته. وهو لم ير أن السنين رمت عليها أية حمولة، أو زادتها إلا جاذبية؛ فالجسد الذي احتضنه بالقوة يوما، واستعصى عليه فوق النورج، يحتفظ برشاقته، والوجه صافٍ، تزيده العينان بهاء.

 اقترب منها، وهي تغمض عينيها، سعيدة غير مصدقة. واحتوى خديها بين يديه، في حين كانت أنامله تداعب ما خلف أذنيها، والإبهامان يتحسسان، في حركة دائرية، الخدّين وما تحت العينين. وقرأ فيهما، رغم الفرحة القافزة بلا تحفظ ولا خوف، حزنًا دفينًا. وفي الضوء الخافت، لمح ما تخيله دمعة.

 وسألته بثبات الواثقة، وهي ترنو إلى عينيه:

 ـ أنت بخير ؟

 هزّه السؤال؛ فلأول مرة، على مدى أكثر من عشرين عامًا، يسأله أحد عن حاله، بمثل هذا الصدق أو بغيره. كان يعيش كملك، تطاع أوامره بلا نقاش، ويحرص الناس على اكتساب رضاه، خوفًا وطمعًا، ولكنهم لم يحرصوا على أن يسألوه عن حاله.. عن أشواقه وآلامه، مثل أي بشر تكتمل إنسانيته بمثل هذا الحرص.

 لم يعرف عامر كيف يجيب. كل ما قاله، وهو يتابع بإشفاق دمعة استعصت على مفارقة عينيها:

 ـ أنا رجعت يا صفية.

 ظلت البنت متعلقة بذراعيه، وأراد أن يرخي الجلباب، فبادرت إلى رفعه، واستسلم لها، ثانيًا ركبتيه ورافعًا ذراعيه، وهي تنزعه من رأسه الذي اقترب مصادفة من صدرها. واستراح لحظة بين نهر ثدييها. وألقت الجلباب، وأراد العودة إلى صدرها، حين لاحظ أنها لم تستنكر سلوكه العفوي، فقرصت خدّه بدلال، وأكدت أنها من يحتاج صدره، بعد موت والدها:

 ـ لولا سي الحاج لنهشوا لحمي.

 استمع إليها، وهو يضمها إليه، واستقر رأسها عند مستوى بطنه، فاكتشف عامر كم هو عملاق، إذا ما قورن بها. وضحكا بلا اتفاق.

 ثم قالت:

 ـ أنت تأخرت يا عامر.

 حتى تلك اللحظة، لم يكن عامر قد عثر على نفسه، إذ توزّع إحساس الخلق به، بين سي عامر، السيد المحترم حفيد كبير أوزير، وشيخ الطريقة ذي الكرامات، والثري العائد بخيرات المدينة من الأمتعة والدواب والرجال. وحين نزعت عنه لقبه، عاد إلى نفسه.. إلى عامر الذي عرفه قبل ربع قرن. وفكر قليلاً في جرأتها، وهي تجرّده من ألقابه، ومن جلبابه، بثقة غير متوقعة من بنت تعيش في البلد بمفردها، في حين رفضت أن يمسها بيده يومًا، حيث كانت تحتمي بظل أبيها.

 احتماؤها بعامر، وهي ترفع الصديري وتدفن وجهها في بطنه، نفض عنه خمسًا وعشرين سنة. وتناول وجهها بيديه، ولمح دموعًا حقيقية، جففها بشفتيه، فعاجلته صفية بقبلة في فمه، فانحنى وحملها بين ذراعيه، وأغمضت عينيها، وهمست:

 ـ كلّمني يا عامر.. وَشْوِشْني.

 أطلق زفرة، نادمًا على سنوات رآها فارغة، لم يطلب فيها أحد سماعه، رغم تحفزهم لتنفيذ أي أمر.

 مال إليها مقبّلاً، وابتسم من قلبه:

 ـ يا.....ه يا صفية !

 ـ كلّمني، عاوزة أشوفك يا عامر.

 قال إنه لم يدرك مرور السنين، إلا حين أخبره القهوجي، وكاد يقتله. وإنه ربح كثيرًا، وعاش كأكبر باشا، ولكنه الآن أسقط من ذاكرته سنوات البعاد، وكل ما جنى فيها من أموال وأطيان ورجال هم رهن إشارته. وتأمل عينيها، وتخيلها يوم النورج. وساعدته صفية في نزع ملابسه، غير مباليين بأحد. ثم أحسّا بخفوت تدريجي لصخب الحارة، إلى أن ساد صمت، لا يشقه إلا استغاثاتها في البداية، صارخة من الألم، فقدّر أنها بكر، وتراجع قليلاً، فانقضت عليه، وطرحها فوق زكيبة الدقيق، وصرعها وهي تنخر بالْتِذاذ، وتعلن زوال الألم، وتشده كي يواصل الطعن. ثم نام إلى جوارها، حتى مطلع الفجر.

 

(38)
خرج إلى المنتظرين، وقال لجدّه إنه تزوج صفية، وخلا وجه الحاج عمران من أي تعليق، واستنكرت أمه هند أن يكون زواجه، في الخمسين بعد صبر سنين، من ابنة حلبي بلا أصل ولا سند. ولما علمت حليمة، وبّخت هند:

 ـ همّ ينخسك يا بنت هوجة، نسيتِ نفسك ؟

 وانحنى يقبّل يد جدّته، كي تكف عن سباب أمه، فدفعته بقوة لا يدري من أين لها بها:

 ـ وأنت، يا سُخام الحلّة، كيفك حَبَك ساعة وصولك!

 وأتبعت بشيء من الغيظ:

 ـ وعلى الدقيق يا فاجر !

 طمأنها:

 ـ خير ربنا ما له حدّ يا جدّتي.

 وابتسمت فأحس عامر بالراحة:

 ـ لكنك يا جحش أقلقت نومي!

 ونسيت هند اعتراضها على صفية، وأطلقت ضحكة:

 ـ ألف رحمة تنزل على مبروك يا عمتي.

 وتنفست بعمق، وابتسمت، كأنها لا ترى أحدًا:

 ـ ورحمة ربنا يا عمتي، خلاني أصرخ فوق السطح.

 اتسع وجهها للانبساط، وخلا إلا من استقبال البهجة، فتوجست حليمة، وضربت صدرها بيدها، ونظرت إليها ولكنها لم تسكت، ولم تبال. فقالت:

 ـ سكِّت المفضوحة يا عمران.

 تحير عمران في شؤون النساء، على حين واصلت هند:

 ـ كنا ولا المجانين يا عمتي، وكسر بيض الفراخ فوق صدري، وفي الشارع ضحك الناس، وقالوا له: ارحم البُنيّة ووفّر عافيتك لبكرة.

 وصمتت فجأة، وارتمت في حجر حليمة:

 ـ مات في أول ليلة.

 وسألتها بحزم:

 ـ كان يعرف موته يا عمتي ؟

 بكت وأبكت السامعين، كأن مبروك الذي سقط عاريًا، قبل نصف قرن، مات الليلة.

 كان ضوء النهار يتسلل، ويكنس بتكاسل بقايا ليل، بما سمح لعامر أن يقرأ بيتًا من الشعر، لمحه في أول الليل، مكتوبًا على واجهة الدار، فوق رسوم الحج. وضايقه سوء الخط، ولكن المعنى أعجبه، حتى أنساه أن يسأل جدّه عن صاحبه، وقرأه بصوت مسموع، حتى حفظه:

 ذهب الذين يُعاش في أكنافهم

 وبقيت في خَلَف كجلد الأجربِ

 أسعده حفظ بيت الشعر، حتى لا يضطر إلى النظر للجدار، فتؤذيه ردءاة الخط.

 وهمس إلى جدّه، مؤكدًا أن الذي له حفيد مثله لا يحزن، ولا يشعر بوحدة. وعلى حين ظل جدّه يحدثه عن ملاقاة عسكر الفرنسيس، اقتحمت هند خلوتهما، وكررت السؤال باستغراب عن حكاية زواجه. وصمت قليلاً، وبعد تخلصه من الخجل، رفع إليها بصره، وهزّ رأسه بالإيجاب. ولم تبد تعليقًا، ولكن جدّه لم يحتمل:

 ـ البنت صفية يا عامر؟، بنت الحلبي !

 فدخلت حليمة:

 ـ ما لها صفية يا ناس؟، بنت ولا المرمر، وخدودها ولا التوت الأحمر، توت خدّ الجميل.

 فأشرق وجه عامر، ونسي جده وجدته، وتذكّر صفية، التي لم تتغير صورتها في عينيه بين لحظتين يفصلهما ربع قرن.. بين يوم النورج، وليلة غرفة المعاش قبل قليل. وفكر في العودة إليها، لولا الخوف من لسان حليمة الذي لا يرحم أحدًا.

 وهدأ عمران، قائلاً إن مبروك نفسه بدأ رحلة الجنون، في العائلة، حين تزوج هند بنت هوجاسيان العبد.

 ثم صمت، وأضاف كأنه يعزّي نفسه:

 ـ على الأقل ما كان الحلبي من العبيد.

 ردّت حليمة:

 ـ وبنته صفية اسم على مسمى، نعرفها من زمان حرة وشريفة.

 أوضح له الجدّ أن أوزير محصنة، إذ تحيطها قناة عريضة، تحرسها أشجار السنط والتوت الكافور والجازورينا والزنزلخت، فضلا عن بِرْكة حفروها، في الآونة الأخيرة، في نهاية الجهة الشمالية، على يمين الداخل إلى أوزير من ناحية سمنود. وسأله عامر عن خلق كثيرين، تضيق بهم الساحة القريبة من الدار. وأوضح الجدّ أنهم نزحوا إلى أوزير، من القرى المجاورة، ومن سمنود نفسها، حين عجزوا عن الوفاء بمطالب المماليك، ورجال الباشا في مصر المحروسة، وأنهم تركوا ديارهم وأرضهم، هربًا من فايظ كبير، يفرضه عليهم ملتزمون يوردون بعضه للباشا، ويستأثرون لأنفسهم بالكثير، حتى خلت قرى كاملة من أهلها، وحين فتشها المماليك لم يعثروا فيها إلا على الكلاب الضالة. وضحك فلاح من قرية قريبة، وهو يقبّل يد عامر، مقدمًا إليه نفسه قائلاً إن آخر ما كان يمتلكه ثور، ولما أحس باقترابهم، حاول أن يفكه من الساقية، ويهرب به إلى أوزير، فدهمه المماليك ورجالهم، فأنقذ نفسه، وترك لهم الثور والساقية.

 ودمعت عينا الرجل، مؤكدًا أنه لم يحزن على الثور، الذي هو بقية أهله، إلا هذه اللحظة:

 ـ والله يا سي الحاج كنت أتمنى أسيّح دمه قدام سي عامر.

 وطيّب عامر خاطره، قائلاً إن الدوار ازدحم بخيرات الله. وأتبع جدّه أن ديار الخلق امتلأت بالبهائم، وامتدت المزاود من الزرائب إلى السكك، بلا خوف من تعرض المواشي للسرقة.

 وسأله الحاج: كنت عاوز تفك البهيم من الساقية، وتسحبه في يدك يا صابر، وما فكرت في إنقاذ أولادك!

 بكى صابر، وقال إن الطاعون حصد أسرته قبل سنوات، وما ترك له إلا ولدًا، أخطأه الموت، ليكون من نصيب مماليك جاءوا في حماية انكشارية، حملوا فوق ظهور الحمير والبغال أقفاص البط والفراخ والحمام، وزكائب الغلال، وما وجدوه في الديار من بيض وسمن. وخلف عرباتهم سحبوا قطعان الغنم والبقر والجواميس والجمال. ولما وجدوا دار صابر خاوية، أشاروا إلى ابنه الصبي، فارتاع أبوه، وسارع إلى عزلهم بجسده النحيل عن الولد، يريد افتداءه بنفسه، فكسعوه ساخرين من شيبته وهزاله، وخطفوا الصبي، وسلسلوه مع غيره، وجرّوهم باتجاه المحلة الكبرى.

 وعلا نشيج صابر، وهو يقول بحسرة إن الدار، على سعتها، ضاقت به، وكان لا يطيق دخولها إلا ساعة النوم، وظل يعمل ليلاً ونهارًا مثل العبيد.

 وقاطعه الحاج مواسيًا:

 ـ العبد أحسن والله يا صابر، على الأقل يمكنه قتل سيده، أو الهرب منه من غير أسى.

 وأتبع:

 ـ ولكن الفلاح مسكين، تربطه أرضه، وما يقدر يهرب منها.

 وعلق عامر، وهو يغمض عينيه، مطلقا زفرة عميقة:

 ـ ولا من ذكرياته يا جدّي.

 أوضح صابر أنه تمكن من شراء بقرة وحمار، هما حصاد عام أو يزيد من الشغل الدائم، وسأل عن ابنه، ثم ذهب إليه، ليفتديه من المملوك في المحلة الكبرى، ولكن ابنه رفض العودة إليه.

 ثم ضرب كفًا بكف:

 ـ المملوك عديم الضمير حجز البقرة !

 وضحك الحاج عمران. وقال عامر كأنه يقدم العزاء للرجل:

 ـ احمد ربنا على أنك رجعت لبلدك بالحمار يا صابر.

 ـ ابن الهرمة سحب الحمار من يدي. قلت له: أركبه للبلد لأني مريض، بصّ لي من فوق لتحت، وقال إن الحمار زعلان منّي، ولو عاوز يرجع هو عارف طريق البلد، والسكة في دماغه.

 ابتسم صابر لأول مرة، غير قادر على الضحك:

 ـ أول مرة أعرف أن في دماغ الحمار سكة، مجنون والله!

 سأله عامر: أيهما المجنون؟، المملوك أم الحمار. وعلت ضحكة صابر:

 ـ المملوك لأنه أهبل، والحمار لأنه قعد مع ابني هناك، ورفض الرجوع، مع أن السكة في دماغه!

 وتذكّر عامر حكاية مروان، مع أبيه خليل الطوبجي، وسأل جدّه عنه، فقال إن أحدًا لا يعرف عنه شيئًا، حتى أمه وأرملة أبيه، وإنهم خافوا أن يستقصوا الأمر، حتى لا ينتبه رجال الباشا إلى خلوِّ أوزير من ملتزم ومتولي وكاشف ومشدّ، وغيرهم من الملاعين.

 وسأله:

 ـ وكيف رجعت لبلدك يا صابر ؟

 ـ لو كنت أعرف أني راجع من غير الحمار، كنت عملت حسابي، ولبست بُلْغة.

 وأوضح أنه نام، تحت شجرة، إلى ما قبل مغيب الشمس، حتى لا تكتوي قدماه بجمر الطريق، في شمس بؤونة، ثم عاد إلى الدار الخالية من أي نَفَس لمخلوق:

 ـ نمت في الحارة والله يا سي عامر.

 وانكمش في نفسه مُضيفًا:

 ـ جدران الدار الفاضية خنقتني!

 وقال إن للمماليك، رغم جورهم، فضلاً واحدًا، أضافوه مصادفة إلى ميزان حسناتهم، هو المساواة بين الغني والفقير؛ إذ قابلوا أحد وجهاء البلد، وسلبوه ماله، وأفرغوا الزريبة من المواشي. وحين قابله آخرون في اليوم التالي، ظنوه ثريًّا، بسبب حُسن هندامه، وطالبوه بأموال لا يملك منها شيئًا، وطرحوه أرضًا وجلدوه، وكسروا أنفه، هو وأغنياء البلد. واعتاد الناس أن يروه في ملابس مهلهلة. وكان كثير من الأغنياء يضللون البصاصين، بالنوم في الشوارع والأزِقّة!

 

(39)
طلب الحاج إلى حفيده سرعة الصعود إلى عروسه. واقترح عامر وهو ينهض أن يذهب إلى كل قرية، رجل من أهلها، يستقصي الأمر.

 وتولى على الله القهوجي إعداد مهام الرجال. ولما صحا عامر، بعد العصر، قالوا له إن البلاد صارت مهجورة، وخالية من أي حسّ لمخلوق، حتى الكلاب. وإن القرية المجاورة لسمنود اتخذها الفرنسيس قاعدة للعسكر.

 لما بلغ الفرنسيس سمنود، جاءتهم أنباء تخلّي الفلاحين عن ديارهم وأرضهم التي عرّاها الخريف من الزرع، وزهدوا في زراعتها لموسم قادم، بعد الفيضان، حرصًا على أعراضهم من أغراب بلا ضمير.

 الحكايات التي جمعها الرجال، وصبّوها في حجر عامر وجدّه، كانت تنمو في دوائر أوسع من قدرة خياله على الاحتمال. وكلما سمع حكاية، نظر إلى أحد كتابين في يمينه، عاد بهما إلى أوزير، وسأل الله السلامة؛ فالفرنسيس، كما حكى الرجال، لا يراعون لأحد حرمة. وسطوا على أموال الناس، وأقاموا شونة عظيمة في سمنود، تكفي لتخزين عشرة آلاف إردب من القمح والشعير والفول والعدس، وإلى جوارها شونة أخرى لتخزين آلاف القناطير من الفحم، وأنشأوا سورًا عاليًا، في ساحة خالية، والمدينة كلها خالية تقريبًا، دفعوا إليها عشرات الخراف والجواميس والبقر والعبيد، وجعلوا على البوابة مملوكًا بأتباعه، يتقدمهم عملاق نصراني، وقالوا للأهالي إن النصارى هم خاطفو العبيد والبهائم. وقبل المملوك المهانة، بعد أن رأى الرصاص يخترق جسد مماليك آخرين، اعترضوا على تسليم مفاتيح بيوتهم للفرنسيس.

 تعمّد الفرنسيس تفجير أول بيت يستولون عليه بالقوة، إذ أحرقوه بما فيه، وأعدموا صاحبه أمام جموع لا تحتمل إهانة أحد، حتى لو كان ذا جبروت. وطمأنوا الأهالي بأن سمنود ليست هدفًا ولا مطمعًا، بل محطة عبور إلى المنصورة شمالاً، والعودة منها إلى طنطه أو المحلة الكبرى، إذا لزم الأمر.

 وانتشر جنودهم، ومن آثر التعامل معهم، في القرى المجاورة لسمنود، ولكن أهل القرى هجروها إلى أوزير.

 كان الجنود ينهبون الأرض، فرادى وجماعات، فوق أحصنة تخلّف غبارًا يسد عين الشمس، فإذا ما سمعوا نباح كلاب أو مواء قطط، في مكان ظنوه مأهولاً، وتبدأ مهام المتعاونين في اصطياد الأهالي، وإفراغ بيوتهم من الأمتعة والأزودة والحيوانات والطيور.

 قدر الحاج عمران أن التفاوض مع هؤلاء أسلم، انتظارًا لقضاء الله:

 ـ ربما يبتليهم الله بالطاعون ونستريح منهم.

 وقال عامر بغضب:

 ـ ويلاحقنا العار كل يوم، حتى يبتليهم ربنا بطاعون ويموتوا؟!

 كاد عامر يقول إن الطاعون لا يحصد إلا الفقراء، وإن الظلم أقسى من الطاعون، وأقرب إلى الكفر. ونحّى أحد الكتابين، وفتح الآخر، واتجهت إليه الأعين، بدهشة لا تخلو من استنكار؛ فلأول مرة يرون مثل هذه الأوراق، بين يدي أحد أبناء أوزير، التي تخلو إلا من كتاب الله. ولاحظوا أن الكتاب المفتوح منزوع الغلاف، ولا يعرفون له عنوانًا أو مؤلفًا.

 وأشار عامر إلى صفحة سبق أن قرأها كثيرًا، وقرأ على جده ما قاله كعب الأحبار لعمر بن الخطاب:

 إن الله عندما خلق الدنيا جعل لكل شيء شيئًا، فقال الشقاء أنا لاحق بالبادية، وقالت الصحة وأنا معك. وقالت الشجاعة أنا لاحقة بالشام، فقالت الفتنة وأنا معك. وقال الخصب وأنا لاحق بمصر، فقال الذل وأنا معك.

 فاهتزّ الحاج، وسأله: من يكون كعب الأحبار هذا؟، وهزّ كتفيه بالنفي:

 ضرب الجد كفًا بكف، وقال:

 ـ كلام سي كعب قضاء وقدر؟

 ـ أبدًا، كلام والسلام.

 ـ مكتوب يا عامر في اللوح المحفوظ؟

 كتم عامر الضحك:

 ـ ومن اطلع على اللوح المحفوظ يا جدي!

 ـ رواه مثلاً عن النبي؟

 ـ مكتوب هنا يا جدي عن كعب الأحبار.

 فنهض الجد، مشيرًا بسبابته، وهو يدخل الدار:

 ـ احرق كتاب سي كعب. غلط في غلط.

 أدرك عامر أن جده اغتاظ من وصف المصريين بالذل، فطمأنه بأن الذين تصدوا لرجال الباشا في أوزير، قبل خمسة وعشرين عامًا، وقضوا عليهم، والذين طاردوا عسكر الفرنسيس في طنطه، قبل أيام، ليسوا أذلة، ولن يكونوا.

 وقال إنه سيخرج بالرجال لاستعادة القرى، على أن يعود إليها أهلها المقيمون بأوزير، في اليوم نفسه، قبل أن يتقدم الرجال إلى قرى تالية، حتى يبلغوا سمنود.

 قبل أن يخرج عامر، ألحت صفية في الذهاب معه، مؤكدة أنها تجيد ركوب الخيل، وأنها الأولى برعايته، في رحلة لا يعرف أحد نهايتها.

 وأعجبه إصرارها وتماسكها، ولكنه خاف أن يصبح هدفًا لكلام الرجال. ولأنه يعلم أنها لا تبالي بأحد، بدليل ارتمائها في حضنه ليلة رجوعه، بلا نقاش ولا ندم، فقد بحث عن سبب آخر، هو خوفه عليها من الكفرة الفرنسيس.

 وهمس في أذنها، متصنعًا الدعابة في موضع الجِدّ:

 ـ لو شاف الفرنسيس عيونك، لرحمونا من البهدلة، وكفونا شر القتال!

 ولكنها رأت مجاملته إهانة لذكائها، ومجرد تريقة على أنها لا تملك إلا جمال عينيها. وهو يعرف كم هي صلبة وعنيدة. ولم يشأ أن يغضبها:

 ـ يرضيك اتهامهم لأوزير بأن رجالها ماتوا؟

 وكان الحاج عمران يتخطى عتبة الدار، ويمد يديه إلى لا أحد، فسبقت صفية الرجال إليه. واستند إليها، حتى المصطبة. وقال عامر:

 ـ جدي يحتاجك هنا يا صفية.

 فقبّلت يد الحاج، وجذبها برفق الوهن وقبّل جبينها:

 ـ ادعي ربنا يا بنتي ليرجعوا لنا بالسلامة.

 قفزت هند، من النوم إلى الحارة، بشعرها الذهبي المنكوش المحتفظ بطوله، ورفعت يديها على طولهما، لتمسك بكتفي عامر، وتهزّه وهي تمسح بعينيها الزحام المحيط بهما، في دائرة من الرجال والأحصنة والبغال والحمير، وتسأله كيف يصل الفجر ويتزوج وينام ساعة، ويرحل الآن!

 وعلقت حليمة، بعد أن حَبَكت الطرحة على منديل رأسها:

 ـ مجانين، كلهم مجانين.

 فضحكت هند:

 ـ قولي له يا عمتي. كيف يزور الدار ساعة، وتبقى له فيها امرأة، ويتركنا؟

 وأدارت وجهها إلى عمران:

 ـ ولا الحلم يا سيدي، والله ما أنا مصدّقة.

 كان الحاج عمران يقدر حاجة هند وصفية إلى عامر، ولكنه لا يستطيع أن يثنيه عن مهمة لن ينجزها سواه، وتمنى لو كان مروان موجودًا، ليتعاونا مرة أخرى، كما نجحا ليلة تطهير البلد من رجال الباشا. ولم يجد ما يقول.

 أحست هند بأنها وحدها في جبهة، بعد صمت صفية وانكماشها إلى جوار الحاج:

 ـ أفرّط في ابن بطني، وينفطر قلبي عليه يا ناس؟

 وارتمت في حضن حليمة، وبكت:

 ـ قولي له يا عمتي. حرام يسيبنا عشرين سنة، ويرجع لنا ساعة، وبعدها يمشي.

 وبدا أن حليمة في ملكوت آخر:

 ـ ابن الأكابر يمشي يا موكوسة؟!

 ـ آ.. والله يا عمتي.

 ـ والفرس من يركبه لو مشى ابن مبروك!

 أرادت أن توضح لها أن عامر راحل، بعد قليل، ولا يهمهم على قدميه، أو فوق فرس. ولكنها راقبت انفصالها عن الزحام، وسألت عن محسوب القهوجي. وبحثت هند عن على الله. وقالت حليمة:

 ـ الولد محسوب تأخر عليَّ بالقهوة.

 كاد عمران يقول لها إن محسوب مات، قبل خمسين عامًا، حتى هند نفسها لا تتذكره. وطمأن حفيده مؤكدًا أن ذاكرتها تخونها كثيرًا، وأنها تنسى أشياء قريبة، وتتذكر أحيانًا مواقف مضى عليها ما يقرب من مئة عام.

 قالت حليمة لعمران، وهي تشير إلى الجمع:

 ـ عيب عليك يا عمران، توقف الضيوف في الحارة.

 وطلبت أن يدخلهم الدار، وأن يستعجل رفع المناديل المزينة بورد الجناين، والمصابيح قبل الغروب:

 ـ ليلة فرح مبروك لازم يتكلم عنها الناس في البرّين.

 وسألت هندًا أين أبوها، فدمعت عيناها، ليس على مبروك، وإنما على أب مات، وتركها يتيمة، وعمة حنون قاسية يتسرب عقلها، حين تريد منها الحماية، ولن تحتاجها بعد الآن في شيء؛ فلا يعنيها بعد رحيل الابن الوحيد شيء، ولا أحد.

 

(40)
ظل عامر يتلكأ، ليس من أجل زوجته وأمه، بل انتظارًا لوصول آخر رجاله من القرى المجاورة. وحين جاء أبلغه بأن طلائع الفرنسيس احتلوا بيت رينيه دوما. وغلبه الحزن على أن يخونه الرجل، الذي أحب ابنته يومًا، ويخون أوزير، ويبيعها لأهله الفرنسيس، بل يمنحهم بيته الذي حافظ الجد على ألا يمسه أحد بسوء.

 وقال لجده إن الذي يخون العيش والملح لا يستحق أن يعيش في البلد، وتمهل الحاج، ثم عقب عليه مؤكدًا:

 ـ ولا يموت فيها يا عامر.

 وكلف رجالاً بتتبع أثر رينيه دوما، والاحتفاظ به إلى أن يعود. وأرسل آخرين لتضليل العسكر المقيمين ببيته، واجتذابهم خارجه، لتنظيفه منهم، قبل التقدم إلى القرية التالية. وجاءه حرس البوابة بشاب عسلي العينين، تحتفظ ملامحه بنبل، رغم الإجهاد والهزال. وعجزوا عن التحاور معه. كان لا ينطق إلا كلمات محدودة، متعمدًا الضغط على مخارج الحروف، فتتآكل بدون قصد، بصورة تضحك الناس. ومن كلماته: السلام عليكم، عمران، أوزير، جوليا، جوليانو.

 اجتهد الفلاحون ورجال عامر في التفاهم معه، بترديد كلمات مثل جامع السيد البدوي، وطنطه، وسمنود. وهزّ الشاب رأسه فرحًا بالكلمة الأخيرة، وظنوه تائهًا، وسألوه عن زملائه، في معسكر الفرنسيس، ولم يفهم.

 وأنقذهم رينيه. كان وجهه مكسوًا بهزيمة وأسى، ودفع من حاولوا إنزاله من فوق الفرس، مستغربًا سلوكهم الذي رآه عدوانيًّا بلا سبب، حتى هبط أمام الدار، واتجه إلى الحاج، متجاوزًا بعينيه رجلاً لا يعرفه. واستشاط عامر من تجاهل رينيه له، ولكنه أنصت إليه:

 ـ أكثر من عشرين سنة في بلدك يا سيدي الحاج، ولا تحميني!

 وقابله صمت تام، ونظر حوله، وأضاف:

 ـ رجالك احتلوا بيتي، ومنعوني دخوله، أو الوصول إليه.

 وأشار الحاج إلى عامر، ولم يفهم رينيه، فقال:

 ـ عامر كبير البلد، اسأله.

 فتأمله الرجل، مستعيدًا صورة ذلك الشاب الذي دخل بيته من ربع قرن، وتعلقت به ابنته يومًا. على حين لم يجد عامر صعوبة في معرفته، وهو في أول الحارة.

 قدم رينيه إلى عامر التحية الواجبة، واصفًا إياه بالسيد. وهمس رجل في أذن عامر، قائلاً إن عسكر الفرنسيس اقتربوا من أوزير، بعد احتلال بيت رينيه، فباغته بالسؤال:

 ـ من سمح لهم، وعرفهم طريق دارك أنت بالذات؟

 ـ أنا يا سيد عامر لا أخون أهلي.

 رأى أن عامر وجدّه ومعظم الرجال غير مقتنعين، فقال:

 ـ اسأل الفلاحين عن مكاني من الصبح، واسأل من منعوني دخول بيتي.

 وقال رجال إنهم منعوه بلوغ البيت، خوفًا عليه من بنادق مصوبة، تجاه أي داخل.

 كان الشاب الغريب، عسلي العينين، يتابع بدهشة حوارات لا يفهم منها إلا كلمات فرنسية قليلة، ينطقها رينيه في لحظات انفعاله. وحين يهدأ غضبه يتحدث العربية.

 دمعت عينا رينيه، وأوضح لعامر أنه ليس حزينًا على البيت، فهو يثق بأن للبلد كبيرًا سيعيده إليه، ولكن حزنه على اعتباره غريبًا غير جدير بالثقة. وأحرجهم كلامه، ورأى عامر أن الاستعانة به في حيرتهم، ستمنحه دورًا يُنسيه الكدر.

 وتبادل رينيه مع الشاب حوارًا لا يفهمه أحد، ثم صافحه بحرارة. وقال للحاج إنه كارلو من البندقية، ابن جوليانو الذي كان هنا مع زوجته جوليا وصديقهما كارلو، وإن أباه أوصاه، إذا اقترب من أوزير أو زارها، بالبحث عن شاب اسمه عمران، مؤكدًا له أن المصريين يورّثون أسماء الأجداد إلى الأحفاد، ولابد أن للحاج عمران حفيدًا يخلد اسمه.

 وضحك الحاج:

 ـ ابن المراكيب جوليانو أبوك فاكرني مت؟!

 ونبّه رينيه الشاب، مشيرًا إلى الوجيه الذي يتربع فوق المصطبة:

 ـ هذا هو السيد عمران.

 وأقبل عليه الشاب محييًا، وقال كلمات مضطربة، لم يفهمها الحاج. وسأله:

 ـ مالك يا ولد ؟

 ازداد ارتباك الشاب، فعمد الحاج إلى مداعبته:

 ـ أبوك عاوز البنادق ؟!

 نظر الشاب إلى رينيه، يطلب تفسيرًا، ثم قال رينيه إن الشاب جاء ببذور، لبقول وأشجار، وحين طارده العسكر وهو يقترب من أوزير، أنقذ نفسه تاركًا كل شيء. وقال إنه دفن، على بعد خطوات من شجرة جميز يعرف مكانها، بندقيتين ومسدسًا.

 أراد الشاب الخروج من حيرته، فأشار الحاج إلى رينيه:

 ـ ترجم له يا رينيه. لو قعد جوليانو معنا لصار له، في أوزير، دار وأرض.

 تذكر رينيه ما جرى لبيته، وتغيرت ملامحه:

 ـ العسكر ضيعوا كل شيء.

 ـ عسكر فرنسيس من بلدكم.

 ـ بلدي هنا، من سنين وأنا أعيش في أوزير.

 ـ بطولك يا رينيه، لا عيّل ولا امرأة. والمثل يقول إنهم سألوا جحا "بلدك فين، قال: اللي فيها مراتي".

 تجدد حزن رينيه، متأسيًا على ابنة ذهبت مع أمها، التي لم تحتمل العيش معه، غريبة في أوزير. وكاد يسأل الحاج عن سبب رفضه زوجًا لهند، حين ألمح، عن طريق وسطاء، إلى فكرة الزواج بها، وغضب الحاج آنذاك. وقدر رينيه أن الإشارة، الآن، إلى زواجه عمومًا لا تجوز، فمن شأنها المساس بالعائلة والإساءة إلى هند نفسها، بعد رجوع عامر؛ إذ يتعرض البلد لهجوم في أي وقت. وتأهب الرجال للتحرك.

 واستدرك رينيه بذكاء:

 ـ بلدي هي أهلي، وأنتم أهلي.

 سأل عامر كارلو عن ملابس العسكر الذين رآهم. وأمر بتجهيز مثلها تمامًا، وأمره بالذهاب مع اثنين من رجاله. ثم عادوا من الغيط منهكين، بالبذور والأسلحة. ورأى عامر أن يرتدي كارلو ملابس العسكر، مع صاحبيه اللذين رافقاه في المهمة الأولى، وأن يتجهوا إلى بيت رينيه.

 لكن عسكر الفرنسيس استطاعوا اعتقالهم، فلم يعودوا، ولم يتمكنوا من طلب استغاثة، ولم يسمع أصواتهم الرجال الذين راقبوهم من فوق الشجر.

 وأمرت هند زوجة ابنها بإعداد بخور، وجعلت عامر يخطو، فوق طاجن تتصاعد منه أدعية وبخور في دوائر، لتذوب في دوامات فوق رؤوس الرجال. وطلبت إلى الحاج عمران أن يتبع عامر عبدان، يحرسانه من سهام الصليبيين، وعبد ثالث يأتيهم بأخباره، ويعود إليه بما يحتاج من الدار.

 واستنكرت صفية هدوء هند، وسماحها لابنها الوحيد بترك الدار، إلى قتال لا يعلم أحد متى ينتهي، وكم سيحصد من أرواح. وكادت تصرخ، وتقول إن البخور لا تطرد عزرائيل، ولا تحمي أحدًا من قدره. وتوسلت إلى هند، وهي تشير إلى عامر:

 ـ خلّيه يا أمّ يسمح لي.. يعطيني أي فرس وأكون جنبه.

 فنقلت هند عينيها بين عامر وصفية، ولم تعلق.

 ثم أخذتها إلى باب الدار، وناداها الحاج عمران، بحزم لا يخلو من تعاطف:

 ـ صفية.

 كانت الكلمة تلخص كل شيء، ولا تحتمل مزيدًا من المماطلة. وردت بانكسار:

 ـ نعم يا سيدي.

 ـ خُشِّي الدار.

 قال عامر إن ساعة الجد جاءت، وتدفق رجال وغجر وعبيد، من حارات وأزقّة صبّت حمولتها من الخلق في الشوارع، وسكبتهم البوابة البحرية إلى السكة. واضطرب عسكر الفرنسيس في بيت رينيه، لما شاهدوا جيوش النمل تزحف، فسلم أحدهم نفسه، واستطاع كارلو ورفيقاه أسر آخر، وهرب الباقون.

 تفقّد رينيه بيته. وفي غرفة ملحقة به أودع الأسيران.

 واصل الرجال الزحف، بعد تقسيمهم إلى ثلاث فرق. اثنتان تسيران بموازاة النيل، وثالثة تشق الغيطان في قوس بعيد، لتلتقي بهما عند القرية المستهدفة. وتعاونت من نهر النيل مراكب، كان عددها يزيد، كلما بلغوا قرية أو عزبة، في الطريق إلى سمنود، بانضمام مراكبية آخرين إلى المقاومين.

 وكلما تقدم الرجال الزاحفون إلى سمنود، زاد عدد الأسرى الفرنسيس، ودُفع بهم إلى أوزير.

 وحرص الحاج عمران على ألا يدخل أوزير أسير، وألا يرى البوابة، حتى لا يعرف عن البلد شيئًا إذا ما هرب أو أعيد. وضاقت بهم حجرة ملحقة ببيت رينيه دوما، فاقترح استخدام بعضهم، في تزويد الرجال المحاربين بالفحم والطعام والقهوة، في حراسة رجال من أوزير أو القرى المحررة.

 في ضحى اليوم التالي، حوصر الرجال على مشارف سمنود، وتمكن بعضهم من تفسير ابتسامات الرضا في عيون الأسرى، الذين كانوا أقرب إلى العبيد، في الساعات الماضية.

 كان الأسرى يبتسمون شماتة في الواهمين، ضعيفي الخبرة بالقتال، إذ ظنوا انسحاب عسكر الفرنسيس من القرى هزيمة، أو ضعفًا، وليس ذكاء، وتفاديًا لحروب الشوارع، وصولاً إلى أرض مكشوفة، يسهل فيها اصطياد جموع الفلاحين غير المسلحين، إلا بشقارف وفؤوس ومعاول ومقاليع.

 لكن خبرة صناع الشواديف فاجأتهم بقذف كرات النار، المصوبة بدقة إلى تجمعات عسكر الفرنسيس، وشون الغلال. كانوا ينشطون في الليل، في هبّات تستهدف نهب مخازن الأسلحة والغلال، وقصف أي مكان تشتعل فيه نار للطعام أو شيّ الذرة. وفي النهار يختفون عن السكك والغيطان، فلا يعثر عليهم جنود الفرنسيس، وكان عددهم ينقص كلما هبطوا غيطًا، إذ كان رجال عامر يلبدون بغيطان الذرة، في حفر لا تُظهر إلا رؤوسهم، فإذا مر بهم صليبي، عاجلوه بضربة على مؤخرة رأسه، ونزعوا سلاحه وثيابه، وألبسوه غيرها، وسحبوه إلى أوزير.

 

(41)
في الأيام التالية غابت أخبار عامر عن جدّه وأهله، وامتنعت صفية عن الأكل.

 قالت هند إن لعنة تطارد أهلها.. أمها وأباها وزوجها مبروك، وابنيها سالم الصريع وعامر الذي لم يحتمل البقاء في الدار يومًا كاملاً. أما حليمة، فحين يعود إليها الوعي تسبّهم وتضحك، وتعلن أن الله يحبها، وستحبه أكثر، لو أخذها وأراحها من وجوههم. ثم تعثر عيناها في سالم الحريص على نظافته، فتقول إنه "أبو قردان" عويل ونظيف. وتنظر إلى صفية، وتقرص خدها، وتضرب صدرها ضربة خفيفة ذات مغزي:

 ـ مستعجلة؟، بكرة يرجع لك يا ... !

 من الكسوف دارت صفية وجهها بيدها. وكانت تتجه إلى الفرن. وردّت هند:

 ـ ارحميها يا عمتي، البنت وشّ كسوف!

 وبدا أن حليمة نسيت، فقالت لهند:

 ـ همّ ينخسك يا بنت هوجة، هو أنا قلت كلمة تزعل عروسة الغالي؟

 وأشارت إلى البرام الخاص بها، بين الطواجن المصفوفة في الشمس، أمام الفرن. وأبدت رغبتها في التنازل عنه، لأول مرة. وقالت لصفية، وهي تشير إلى نهر النيل الذي تسميه البحر:

 ـ اشطفي البرام في البحر، وجهّزي فيه اللبن الرايب لعامر قبل ما يرجع.

 هبط عمران من فوق الفرس، وقال لهند إنه يريد بعض اللبن، وأشار إلى صدره، وهو يزفر بعمق:

 ـ الصهد يقطع صدري يا أم عامر.

 لأول مرة تسمع هند أحدًا يناديها باحترام رأته مبالغًا فيه، وانتشت بالكلام عن كل شيء، بما في ذلك ما يعانيه الحاج. وكبر عامر في عينيها، وكبرت في عيني نفسها، واثقة بأن ابنها الغائب منحها مكانة لا تحظى بها امرأة في أوزير، باستثناء حليمة.

 وضربت حليمة صدرها بيمناها، وفاجأتهم بالسؤال:

 ـ عامر في خطر ؟

 تصنع عمران الاستهانة، تفاديًا لإزعاج حليمة وهند وصفية:

 ـ أبدًا، ولكن هناك أسرى في سمنود.

 ولكن حليمة نادت سالم، وأمرته بركوب الفرس، لإيصال اللبن الرائب إلى عمه عامر. وخرجت أمه مريم، تسبقها دموعها، فأعرضت عنها حليمة، وسألت سالم:

 ـ اعمل لك همّة يا سخام الحلّة.

 هزّ سالم كتفيه، ورفع جلبابه، كي لا يتسخ. وأشار إلى أمه، بما يفيد أن ذهابه سيوجع قلبها. ولكن حليمة فضحت ضعفه، وأطلقت باتجاهه بصقة في الهواء، مؤكدة أن أمه لا تهمه، قدر حرصه على ألا يغادر حضن عروسه.

 ـ والنبي ما ينفعك حضن عروستك، لو وصل الكفرة هنا يا جحش.

 انتظرت أن يرد، أو يبدي تبرمًا. ثم قطعت الصمت، وهي تقذفه بشقفة لم تبلغه بالطبع:

 ـ والنبي أنت ناقص رباية، طبعًا لا أب ولا عم.

 ثم هزّت رأسها وأتبعت:

 ـ بكرة يرجع ويربيك.

 وظلت هند حائرة بين ابن غاب كثيرًا، ولم تهنأ بعودته، وحفيد نشأ وحيدًا، أحاطته نساء الدار باهتمام زائد، خوفًا عليه من الموت، فأورثنه الكسل، وضعف الهمة.

 كانت الهمة من نصيب رينيه دوما وكارلو، الذي زرع في البركة أنواعًا من أسماك تأتي كل عام، مع فيضان النيل.

 وكان يحلو للحاج، كلما ضاقت به الدنيا، وتأخرت عنه أخبار سارة من سمنود، أن يستدعي كارلو لساعة سمر، ويتولى رينيه الترجمة بينهما. وقال له ذات ليلة:

 ـ لولا حلاوة لسان والدك، لقتل هنا من خمسين سنة.

 أنصت إليه كارلو، موضحًا أن أباه لم يحدثه عن مثل هذه الأمور.

 وأتبع الحاج:

 ـ من أول يوم تكلم بلساننا، وأول ما نطق فاجأنا بكلام من القرآن.

 واستسلم لضحكة من القلب، أنهاها بقوله:

 ـ جوليانو الفاجر !

 ضحكوا جميعًا، من قلوبهم، ومعهم كارلو مجاملاً، من دون أن يفهم. وأخرج من جيبه ورقة مكتوبة بحروفٍ ظنوها حجابًا، صنعه له شيخ يؤاخي الجن، لوقايته الشرور.

 ثم قرأ بتلعثم، عاجزًا عن نطق حرفي الحاء والعين:

 ـ "بسم الله الرحمن الرحيم

 وإنْ أحد من المشركين استجارك فأَجِرْهُ حتى يسمع كلام الله ثم أَبْلِغْهُ مأمنه".

 بهت الحاضرون، وكانوا لا يتجاوزون العشرة، ممن أعجزتهم السن عن مقاومة عسكر الفرنسيس، في سمنود. وكان أصغرهم هندي ومغربي، استقرا في البلد قبل أشهر، إذ حلت لهما أوزير، بعد عودتهما من الحجاز. وأقام المغربي مع زوجة تصغره بحوالي عشرين سنة، في دار صغيرة. في حين اكتفى الهندي ببناء عش صغير، إلى جوار زريبة واسعة بلا سقف، لفيل صغير جاء به.

 وغاب عنهم الحاج عمران، مغمضًا عينيه، ليرى زحامًا حول جوليا وجوليانو وكارلو، قبل خمسين عامًا، مستدعيًا وجه خليل الطوبجي وغيره من مؤسسي أوزير. وترحم عليهم جميعًا، ودمعت عيناه، وهو يردد:

 ـ آمنت بالله.. آمنت بالله.

 ونهض فجأة، ونادى حليمة، فأفزعها من النوم، وقالت:

 ـ عقلك خفّ والنبي يا عمران الهباب.

 ـ كلهم ماتوا يا حليمة، شُفتهم في الحال، وعرفتهم وما عرفوني.

 ضاقت به، لأنه تعمد إيقاظها:

 ـ عرفت من يا شيخ، حرام عليك، كبرت وخرفت؟

 فأجابها بحسرة:

 ـ كبرت يا حليمة وما خرفت.

 نظر إلى بيت الشعر المكتوب على واجهة الدار. وفهمت حليمة سرّ حزنه، فانحنت وقبّلت رأسه، وطمأنته بأن حياته مهمة لأوزير؛ فبعد رحيل عامر مع الرجال، ليس للبلد غيره، والناس تحتاج كبيرًا تستظل به، وتحتمي بتاريخه واسمه، وتستقوي به على ضعاف النفوس.

 وفضحت دموعه ضعفه، وهو يؤكد أنه عاش طويلاً، أطول مما ينبغي، وشبع أيامًا ونساء وطعامًا، ويخشى ألا يموت، فيتعذب بالحياة، ويحرم راحة الموت.

 ـ زمان، أيام الطفولة، طفولتنا، وطفولة مبروك، وطفولة سالم وعامر، كنا نهرب من الموت، وما كنا ندري أنه سيعذبنا بالهروب منا.

 وضع يده على صدره، فأشارت حليمة إلى أحد العبيد، فأتى بقُلّة ماء. ناولتها الحاج، من غير أن يطلب:

 ـ وحّد الله يا ابن والدي، اشرب وهاتها بعدك.

 ردّ إليها القُلّة، عازفًا عن الشرب، وعن أي شيء، فدفعتها إليها بصمت، كأنه أمر لا يرد:

 ـ اشرب يا أخي، نشّفت ريقنا من غير داع.

 ارتعشت يداه، وسال الماء من فمه إلى صدره:

 ـ عشت سنين مالها عدد، شبعت يا حليمة.

 

(42)
كان الرجال قد تسربوا، واستعادت حليمة يقظتها، وتذكرت أنها يومًا ستموت، كما مات الذين عاصرتهم، في مئة عام.. والدا عمران، وزوجاته وبناته، ثم مبروك ابنه، وهوجاسيان، وسالم حفيده. أصبحت راضية مطمئنة، بعد طول مجاهدة لنفسها، ومناجاة لله، بأنها تحبه، ولابد أنه يحبها. وتمنت أن تموت بلا ألم، ولكنها ارتجفت من فكرة موت عمران، في هذا التوقيت، والبلد عارٍ من الرجال، وخالٍ من الكبراء.

 ألهمتها نفسها أن مثل هذا الرجل، الذي ربته طفلاً، وتعرفه أكثر مما يعرف نفسه، سيموت إذا لم يجد لنفسه دورًا، أو عزف عنه الآخرون. وسألته البحث عن وسيلة لفك حصار عامر والذين معه، من المقاومين، في سمنود.

 لم تكن حليمة تعرف شيئًا عن عامر ورجاله، ولا أين وصلوا. ولكنها أطلقت الكلمة، ففزع الرجل نافضًا هواجسه وهمومه، ولم ينتظر أن يستدعوا له رينيه دوما، بل ذهب بنفسه إليه.

 كان رينيه وكارلو مشغولين بصف أسرى جدد، يؤتى بهم تلقائيًّا، إلى الحجرة التي ضاقت بهم. وسألهم الحاج عن الحرف التي يجيدونها، ووجد منهم الفلاح، وصانع المراكب، وفنان المعمار، والرسام.

 تهلل وجه رينيه، وقال للحاج إنه كان ينوي الذهاب إليه، ليستأذنه في بناء كنيسة صغيرة لهؤلاء الأسرى المساكين، الذين لا يعرفون لبقائهم نهاية، ولا يتمكنون من الذهاب إلى الكنيسة في سمنود. ورسم علامة الصليب.

 واغتاظ عمران:

 ـ كنيسة ؟

 كانت وجوههم ممصوصة، جوعًا واغترابًا وحزنًا.

 وأشار الحاج إليهم، مشفقًا على حالهم، وقال لرينيه:

 ـ اسأل أولاد الهرمة، هل جاءوا من آخر بلاد المسلمين، ليعبدوا الله في أوزير!

 ـ مغلوبون على أمرهم يا سيدي.

 أمسك الحاج بكتف رينيه، وهزها بعنف:

 ـ ولكنك ما فكرت في بناء كنيسة للنصارى الغلابة الهاربين، مع المسلمين، من ظلم المماليك، لما لجأوا إلى أوزير.

 فأسعفه ذكاؤه:

 ـ كانوا يعيشون في خيرك، ونسوا ربنا.

 وأعجبه الإطراء، فأتبع رينيه:

 ـ حتى المسلمين ما فكروا في إعادة بناء جامع المتولي.

 هزّ الرجل رأسه متعجبًا، من مفارقة لم تشغله من قبل.

 وقال رينيه، وهو يشير إلى الأسرى الفرنسيس:

 ـ العسكر شافوا الموت يا سيدي، وفي الزنقة يلجأ الإنسان إلى ربه.

 نسي الحاج لماذا جاء إلى رينيه. وساعدوه على ركوب الفرس. وقال وهو يستدير:

 ـ قبل الكنيسة، قل لهم يبنوا حجرة جديدة بدل بياتهم في الطلّ.

 وأضاف رافعًا سبابته:

 ـ وبعد الكنيسة عليهم بناء الجامع.

 نوى الحاج ألا يطلق عليه اسم "جامع المتولي"؛ لتكون أوزير أول قرية تخلو من جامع بهذا الاسم، على أن يترك لعامر الحق في اختيار الاسم المناسب.

 وفي نفسه، كان يمكنه أن يصدر أمرًا، فيستجيب الناس، ولكنه منح خياله وأمانيه فرصة لعودة عامر والرجال، ليطلقوا على الجامع الاسم الذي يريدون.

 تذكر الحاج أنه كان يريد مناقشة رينيه في حصار المقاومين؛ لأنه وحده القادر على تقصي الأمر، وإن كان ذلك يسبب له حرجًا، لدى أهله الفرنسيس، فيمكنه اختيار أحد الأسرى، لهذه المهمة.

 ولما بلغ الدار، وجد على الله القهوجي، والضيف المغربي وصاحبه الهندي يقدم إلى فيله الصغير، آخر عقلة من عود قصب. وعجب أن جاء المغربي وزوجته إلى أوزير، ومعهما هذا الهندي. ولم يسأله من قبل كيف عرفه.

 وقال للمغربي الذي ينسى اسمه، رغم مكوثه في أوزير نحو ثلاثة أشهر:

 ـ عبدك الهندي يحب فيله، كما يحب الرجل ابنه!

 وأوضح له:

 ـ والله ما هو عبدي يا سي الحاج.

 ضحك المغربي، وضحكت زوجته:

 ـ ذهبت يا سي الحاج إلى الحجاز، مع امرأتي، وعاد معنا الهندي.

 وأتبع متعجبًا:

 ـ الهندي قال لنا إنه يريد أن يقبّل تراب الأزهر، حتى لو ضحى بالفيل!

 حكى أنه فرغ من الحج، وقابل الهندي، ولما عرف أنه سيمر بمصر، عائدًا إلى المغرب، قبّل يده، وأبدى رغبته في زيارة الأزهر. وكان ينوي بيع الفيل، ولكنه خشي المنسر والعربان، وقال إن الفيل يحميهم. وهرب الهندي من شريف مكة، إذ بلغه أنه يريده، وأكد أن شريف مكة كان يريد الفيل زينة، وصاحبه عبدًا.

 كانت زوجة المغربي صغيرة السن، نحيلة الجسد، خفيفة الظل، تسبق طلعتها ابتسامة تملأ المكان إشراقًا. ولم يكن الحاج يفهم كلامها، على حين كان زوجها الكهل ينطق بالقرآن، بين جملة وأخرى. وداعبها الحاج:

 ـ لك بيننا شهور يا شيخة، وما تعلمتِ كلامنا.

 فدهشت، وتغير لون وجهها:

 ـ يا عيب الشوم يا سي الحاج، أنا شيخة؟!

 وساد صمت أزعجهم، فقالت:

 ـ أنا حاجّة بيت الله من أربعة أشهر.

 واطمأنت بعد قليل، وهي تتذكر أنها سمعته يقول لحليمة وهند، كلما أصابته دهشة: "يا شيخة".

 نسي الأمر، وقال لرجال رفض خروجهم للجهاد، كالمغربي والهندي وبعض الغجر وكبار السن، إن بنائين من الأسرى الفرنسيس، سينتهون من بناء كنيسة، وسجن لأنفسهم ولمن سيأتي من أسرى، ثم يبنون جامعًا كبيرًا. وفرحوا وكاد بعضهم يعترض على دخول الكفرة الفرنسيس بيت الله، وهم غير أطهار.

 ونظر إلى أعين النساء.. حليمة وهند وصفية ومريم والمغربية. وهن بين غير مكترثة، ومعترضة في صمت. وعلقت حليمة:

 ـ قل لهم يرجّعوا أولادنا، ويفرحوا قلوبنا، أحسن لهم عند ربنا من الكنيسة والجامع.

 وقبل أن يرد قاطعته:

 ـ يا نحلة لا تلدغيني، ولا عاوز العسل منك.

 وبحكمة أوضح أنهم أسرى، لا حيلة لهم. وألهمته نفسه أن يرضي حليمة بشيء:

 ـ ما عادت الأفران تكفي أولاد البلد والضيوف. والفرنسيس عندهم فكرة عن طابونة نبنيها في الخلاء.

 قالت حليمة:

 ـ عيب عليك يا ابن والدي. طابونة بعد خطوة واحدة من البوابة تحسب لرينيه وأهله. ابنيها داخل السور، أوزير واسعة.

 احمرّ وجه المغربية من الخجل، وفغرت فمها ناطقة بالحرف الأول من كلمة "طابونة"، وتبادلت مع زوجها نظرات لا يفهمها سواهما. ولاحظت هند دهشتها، فهمست إليها قائلة إن كلمة "طابونة" في بلادها، تعني عضو المرأة، وأشارت إلى ما بين فخذيها. وضحكت هند وحليمة. ولا تدري المغربية أيهما التي قالت لها بودّ:

 ـ الله يكسفك يا شيخة، وليّة مفضوحة وشّها مكشوف!

 انزعجت المغربية مرة أخرى، ولكنها أطلقت تنهيدة بها الكثير من الدلال:

 ـ شيخة؟، أنا شيخة!

 

(43)
انفض الناس، وانتبه الحاج إلى أن على الله القهوجي لم يشارك في أي كلام، عن الجامع أو الكنيسة أو الطابونة. ورأى في يده حصانًا، لم تشهد أوزير مثله. وسأله من أين أتى به، وهو الذي لا يملك ثمن حمار. وقال القهوجي إنه هدية، وحكى عن أسر عامر وبعض الرجال، في مكان مجهول بسمنود.

 وأغمض الرجل عينيه، حتى لا يرتبك القهوجي ويتوقف عن الكلام. وقال القهوجي:

 ـ جماعة من الفرنسيس حاصرتنا، سيدي عامر وغيره، وكنت بينهم.

 كاد الحاج يسأله كيف تمكن، وحده، من الخروج. ومن أعطاه الحصان. ولكنه تمالك عن إظهار الانفعال.

 وقال القهوجي إن الحصار دام يومين، ونفد الزاد، فقبضوا عليهم. ولاحظوا أن عامر تشع من عينيه علامات الكبرياء والنبل، ورجحوا أنه القائد. وسألوه عن أنواع الأسلحة وأماكنها، وفرق المقاومين، وأماكن تجمعاتهم. وأنكر معرفته بأي شيء.

 وقال بثقة تعري اضطرابه:

 ـ وأنكره الرجال كلهم، ولكن الفرنسيس عرفوه لوحدهم.

 ففاجأه الرجل بعينين تخترقان روحه، وأشار إليه، وهو يكاد يضع سبابته في عينه:

 ـ أنكره الرجال، وأرشدتهم إليه امرأة!

 فانتفض القهوجي، وتصنع الغباء:

 ـ تشتمني يا سي الحاج ؟

 ـ أنكره الرجال، وتطوعت يا بهيم بالوشاية.

 وصفعه بأقصى ما يملك من قوة، وسأله عن مكان عامر:

 ـ انطق يا بغل.

 وأطرق القهوجي، ودفعه الرجل بالعصا في صدره، فوقع على الأرض:

 ـ والثمن حصان؟، قيمة عامر حصان يا حلّوف!

 وباغته بالسؤال: هل الحصان وحده ثمن للوشاية، أم طُلب إليه إبلاغ الرسالة أيضًا. وقبّل القهوجي قدميه، صاعدًا إلى كفيه، قائلاً إنه رهن الإشارة.

 لم يفسر سببًا لوشايته، ولم يعتذر، ولكنه أكد استعداده لتنفيذ أي أمر، ولو أرسله إلى قائد الفرنسيس برسالة، تفيد انكشاف أمره، وأوصى الكفرة بالتخلص منه.

 حدجه الحاج بنظرة ازدراء، قائلاً إن الخائن لا يؤتمن على رسالة، ولا يليق به دور الشهداء. وأمر بحبسه في الزريبة، بعد توثيق قدميه، إلى أن يأتي كبير البلد، وينظر في أمره.

 كان لديه يقين بعودة عامر، وبالغ في إطرائه أمام الناس، ووصفه بأنه كبيرهم، ليمنح نفسه إحساسًا بقربه منه، وسرعة عودته إليه.

 

(44)
مضى أسبوع، على انقطاع أخبار عامر عن أوزير، وعجز رجال الجد عن بلوغ الحفيد، أو معرفة تفاصيل عن أسره، أو موته، أو قتله. ولم يجد عمران بدًّا من الاستعانة، على كره منه، بعلى الله القهوجي. وأوصاه بألا يقول للفرنسيس إن سره انكشف، أو يفسر لهم سر التباطؤ عن الاتصال بهم، لحرصه على ألا يتبعه أو يشك فيه أحد. وأمره بألا يفكر في الرجوع إلى أوزير، إلا إذا قابل عامر.

 كان عامر ضامرًا نحيلاً، تكسو كبرياءه بقايا جراح بالوجه والرقبة. كان وحده في غرفة مرتفعة الجدران، يثقبها من السقف عمود من شمس النهار، وحول الضوء العزيز، تتعانق ذرات من غبار الغرفة، التي شق ظلامها ضوء شحيح، حين فتح الباب، ودخل على الله القهوجي، منحنيًا إلى السيد الأسير.

 قبّل يده، وطلب العفو. وظنه عامر مقبوضًا عليه، وألحق بغرفته، وأنه يعتذر عن ضعفٍ منعه الاستمرار في مقاومة الفرنسيس. وكاد القهوجي يعترف له، ولكنه أراد أن يستمع إليه، لينقل الكلام إلى جده، فيفتدي رقبته.

 لم يكن عامر يشعر بأسى على نفسه، وسأله عن الرجال، وهل استعاد الفرنسيس بلادًا طهرها منهم، وعادت إلى أهلها. وضحك سائلاً عن عودة أهل القرى إليها، أم حلا لهم المقام بأوزير.

 كاد القهوجي يقول إنه كان مقيدًا في الزريبة، ولا يدري عن أوزير شيئًا. وسأله عن حاله، مستعيدًا صورته حين قابله في طنطه، بعد ليلة الزار، والحشيش، والكلام عن النساء، والموت، وعودته إلى الحياة.

 وقال عامر إن رجلاً ملثمًا يتكلم لهجة أهل سمنود، لا لهجة فلاحي أوزير، استجوبه بقسوة:

 ـ كان يتحنجل في مشيه، ولكني سأعرفه من عينيه، وأقضي عليه.

 فانكمش القهوجي في جلده، كأن التهديد موجه إليه. وسأله:

 ـ آذاك يا سيدي ؟

 ـ خنقني غباؤه وجبنه البادي في عينيه.

 ـ آذاك يا سيدي ؟

 ـ سألني بعد مشاورة سادته الفرنسيس: أنت من أسافل الناس والأوباش؟. وقلت من غير اهتمام بالنظر إليهم أو إليه: أنا من مساتير الناس.

 ـ آذاك يا سيدي ؟

 ـ ما عجبه ردي، فقال بسخرية: دستور يا أسيادي!، خوّفتني يا شيخ العرب.

 وأضاف عامر:

 ـ ومال إليهم الخسيس، وأتبع جادًّا: كيف تحاربون رجال الدولة؟، المماليك أنفسهم سلموا أو هربوا.

 أشار القهوجي إلى جراح لم تندمل، فأوضح عامر أنهم تفننوا في تعذيبه، ترغيبًا وترهيبًا، وهو صامت.

 وعلق القهوجي:

 ـ كان عندك عذر يا سيدي.

 ردّ عامر منفعلاً، وهو يتكيء على يمينه، ليعدل جلسته على أرض غير مستوية:

 ـ أخون نفسي يا قهوجي.

 أحس القهوجي بأن سيده يعرّيه، ويفضح خيانته، ويحاصره حتى يعترف أمامه بأنه وشى به، بمجرد وقوعه في أسر لم ينته. وسأله:

 ـ عرفوك يا سيدي ؟

 ـ أنت أدرى.

 ـ أنا؟، يا سيدي...

 فأنقذه عامر، من غير قصد:

 ـ لأنك قاومت بعدي، وما أسروك إلا اليوم.

 تمنى القهوجي أن يرحمه عامر من هذه المناورة، فلا تتلف أعصابه، وتنهار قدرته على الصمت. وهمّ بأن يعترف له، ويطلب العفو، أو القتل الأهون من عذاب الضمير.

 وسأله كيف تحمّل، وهو المدلل ابن كبير البلد، تعذيبهم له.

 وتحسس جسده، فارتعش عامر. كأن السوط يلهب جسده. وقال:

 ـ ومن غيري يتحمل العذاب ؟

 صمت مغمضًا عينيه، كأنه ينظر إلى بصيرته ليرى.

 ثم أوضح للقهوجي أن الألم كان ينتهي مع تصاعد هبوط السياط، إذ يستعرض ملذات حياته، فلا يأسى على شيء، وحين يبلغوا معه درجة تقترب من تعريضه للموت، يستدعي موته، على فراش السيدة، ليلة أفرط في شرب الحشيش، حين خفّ جسده، وأوجعته سماء الحجرة حين ارتطم بها، على حين كان يشاهد جثته ممددة، محروسة ومغسولة بدموع الأتباع والنساء.

 وقال مبتسمًا:

 ـ شبعت يا على الله، عشت ولا الملوك. هم يخافون زوال ملكهم، وكان ملكي يزيد، مالي يكثر، والنساء بلا عدد، يتمنين موافقتي على أن يهبن أنفسهن لي.

 ـ أنت ولي يا سيدي، كما قالت لك المرأة في سمنود.

 ردّ كأنه يعاتبه:

 ـ كانت زوجتي، يا قهوجي، عليها سلام الله.

 فاستدرك كأنه يعتذر:

 ـ زوجتك يا سيدي.

 ـ ليتها منحتني الولد. جربت متع الحياة كلها، إلا أن يكون لي ابن.

 وقال بين الجد والهزل:

 ـ ربما يكون لي أولاد في أي مكان، ولا ينقصني الخلف، فأتباعي كثيرون.

 ثم صمت، وهمس لنفسه:

 ـ ينقصني الحشيش.

 ضحك القهوجي، فغضب عامر، إذ ظنه يسخر منه:

 ـ هو الشيء الوحيد الذي سمت به روحي، وأنا ميت. يهمني وجوده، حتى لو رفضت تدخينه.

 ـ وحّد الله يا سيدي.

 ـ أنا مؤمن بالله يا قهوجي. ما يحزنني أنني لم أحفظ كتابه كاملاً، مثل أخي سالم. ونسيت الكثير من القليل الذي حفظته في الكُتَّاب.

 وانفجر ضاحكًا:

 ـ كانت قراءتي القرآن، مثل غنائي، تجذب إليّ النسوان!

 ـ آتيك بالحشيش يا سيدي؟

 عاد القهوجي إلى أوزير، وكان الأسرى الفرنسيس قد ازداد عددهم وصمتهم، فلا يسمع لأحدهم صوت، عدا موران الذي بنى كنيسة صغيرة وسجنًا، في حرم بيت رينيه، واستعد لبناء الجامع. وكان موران يشتكي إلى الحاج ضيق مساعديه الأسرى، بأطفال يقذفونهم بالزنزلخت، فيلهبون به رقابهم، ويطلقون على تجمعاتهم، أثناء الشغل، قراطيس التراب، والتِّبْن الناعم، فتتأذى أعينهم.

 وسأله الحاج:

 ـ عند الجامع يا مروان ؟

 نسي الشاب سؤال الحاج، وضايقه أن يخطيء الرجل في نطق اسمه، وأوضح كاظمًا غيظه:

 ـ اسمي موران يا سيدي.

 همّ الحاج بالانشغال عنه، مستهينًا به، إذ نسي آلام زملائه، ومضايقات الأطفال لهم، وغضب من خطأ في نطق اسمه. وقال رينيه إن الأطفال يزفّونهم بمجرد خروجهم من بيته، مرورًا ببوابة سالم، حتى يبلغوا الجامع. وضحك الحاج، وطلب استدعاء أمهات الأطفال، مؤكدًا أنهم يضيعون التِّبْن في اللعب الفارغ، والتريقة على الفرنسيس، وأن البهائم أولى بالعلوفات من الكفرة. وقال للنساء إن العليق عزّ في الأيام الأخيرة، ولا يمكن شراؤه إلا بالمواكسة، بعد أن شطح سعر الذرة والقمح والتِّبْن. وأمرهن بردع الأطفال، والانشغال بشيء مفيد، ولو بصنع أقراص الجلّة، وقودًا للطابونة. واقترح إرسال بعض أقراص الجلّة إلى المقاتلين، للتدفئة ليلاً، إذ لا يرتفع لهبها كثيرًا، فلا تكشف أماكنهم.

 من الفجر، قامت النساء بتتبع البقر والجواميس، في السكك. ومع هبوط قطع الروث، ساخنة محفوفة بالبخار، يُضفن إليها قش الأرز، وتنشط الأذرع القوية في عجنها، لتصير كتلة متماسكة، قبل بسطها في دائرة، وتركها لتجف في عين الشمس.

 واستراح موران لإبعاد الأطفال عن مضايقة الأسرى، ولكنه ظل حزينًا، يشعر بغربة مضاعفة، ظانًّا أن الحاج يتعمد إهانته، بتجاهل نطق اسمه صحيحًا، وإن استراح قليلاً، حين لاحظ أن الحاج، الذي يعرف اسم المغربي، لا يناديه باسمه الأول، إذ يقول له: "يا مغربي"، فيردّ بدون غضب. بل إن المغربي شعر بالامتنان، حين كلفه الحاج بتعليم الأطفال والراغبين، من كبار السن، صناعة الزعابيط. وكان شكل الزعبوط، حين لبسه المغربي أول مرة، مختلفًا ومثيرًا لأهل أوزير، الذين لا يعرفون إلا الطواقي الصوفية.

 

(45)
وقف القهوجي أمام دار الحاج، وأدار بصره إلى ناحية الفرن، منجذبًا إلى كلام النساء.

 وكانت المغربية أمام الفرن، وخلفها تحلقت النسوة حول طبلية كبيرة، صُفّت فوقها قطع العجين في دوائر متداخلة، وأيدي النساء تصنع على المطارح نغمًا حنونًا، كأغاني الخبيز، وأغاني هند لهفة على ابنها الغائب:

 السبع سبع ولا فيش أحد زيّه

 يمسك على الجدّ والشرف المليح زيّه

 والأسد حلف يمينين ما يحارب إلا أسد زيّه

 كانت المغربية تنصت إلى هند، ساهية إليها، وقد ألصق العرق جلبابها بجسدها، فبرز الثديان نافرين في تماسك، كقطعتي عجين، كما سقطت عن رأسها الطرحة، وبدا شعرها أسود ناعمًا، ورقبتها شديدة البياض، وانسدل الجلباب فغطى ساقيها وأصابع القدمين.

 واستندت حليمة إلى عصا، في طريقها إلى الفرن، على بعد خطوات من باب الدار، خائفة على المغربية قليلة الخبرة بفنون الخبيز. وانتبهت هند وسحبت جلباب المغربية فجأة، قبل أن تشتبك به النيران، فبانت ساقاها والربلتان البيضاوان. وأزعجها أن ترتدي سيدة جلبابًا على اللحم. وقالت:

 ـ والنبي أنت شرشوحة وعبيطة !

 ازداد خدّا السيدة احمرارًا، وأرادت أن ترد، أو تقوم لتستر خجلها، لولا وصول حليمة التي لم تسمع كلام هند. وصاحت بصوت عالٍ مشحون بالخوف على المغربية، من امتداد النار إلى جلبابها:

 ـ ابعدي يا حبيبتي هدومك عن المَحْمة.

 ثم همهم القهوجي، كأنه يريد الإخبار عن وصوله، ولم يخف على حليمة أنه اختلس، إلى المغربية، نظرات غير بريئة، فأحرجته بقولها:

 ـ انكسف يا عديم الذوق، البنت ما هي حِمْل عينك يا جحش.

 فاحتشم، ومن الخزي أغمض عينيه.

 اقتربت منه، ونخسته:

 ـ تأكل الولية بعينك النجسة، وتعمل وشّ كسوف؟

 وسألته:

 ـ قاعد في البلد ولا النسوان، يا أخي اعمل لك همّة، وحارب الكفرة أحسن لك من البصبصة.

 فأنقذ نفسه من لسانها:

 ـ كنت هناك، وسيدي عامر يسلم عليكم.

 فقفزت هند، تريد الاطمئنان على ابنها. ووقفت صفية عند الفرن، تنصت إليهم؛ فليس من عادة نساء أوزير إظهار اللوعة على الأزواج.

 ولكن صفية التي لم تبال بأحد، حين قبّلت عامر، وعانقته ساعة المغادرة، سألت القهوجي بلهفة عن حال زوجها، واستفسرت بشيء من الريبة، عن سر وصوله إلى زوجها، ثم العودة إلى أوزير، على حين لا يستطيع ذلك من هم أكثر منه شجاعة وفتوة.

 ونهاها الحاج عمران عن توجيه مزيد من الأسئلة، وطمأنها.

 واختلى بالقهوجي، وسمع رسالة عامر.

 وقال إن الحشيش عزيز، وأمر باستدعاء رينيه دوما.

 الحاج عمران أمر رينيه بكتابة رسالة إلى قائد الفرنسيس، يعرض فيها هدنة، ويحذره الغدر. وقال إنه سيطلب إليه أن يمده ببعض الحشيش، ليتأكد له حسن نيّته. وشرح فيها أن الفرنسيس هم السبب في تعكير صفو رجال أوزير المقاتلين والقاعدين؛ إذ خلا البلد من الحشيش والخمور، بعد إغلاق معصرة القصب، ومشاركة صاحبها في القتال. وكان يمدهم بالخمر من عصير القصب. ولم يستفد من هذه الحال إلا فيل الهندي.

 ثم استدرك:

 ـ لا لا يا رينيه، وحياة والدك يا شيخ ما تكتب حكاية الفيل.

 وقرأ رينيه ترجمة عربية للرسالة، وسأله ماذا يكتب في مقدمتها، وطرح أكثر من صيغة:

 السيد قائد الفرنسيس

 سيدي القائد

 إلى رئيس العسكر

 ولم يسترح الحاج، وضاقت نفسه بأن يكون الغازي سيدًا، ولو في رسالة.

 وأعاد رينيه السؤال، عن صيغة المناداة، فقال الحاج:

 ـ سجل في أول السطر: يا ابن الهرمة.

 ـ ما فهمت والله يا سيدي.

 ـ قل له: يا مغفَّل.

 ـ لا أفهم.

 ـ اكتب، قل له: يا حمار.

 ـ لا يصح يا سيدي.

 ـ إنما يصح أن تعتدوا علينا.

 فأصابت الطعنة رينيه، كأن الرجل ينتقص شرفه. وأحس عمران بقسوته، فداعبه:

 ـ والله لا تزعل يا شيخ، أنا أقصد أولاد الهرمة.

 وضحك رينيه:

 ـ الهرمة، الهرمة!

 اتفقا على كتابة السطر الأول: "إلى قائد عسكر الفرنسيس"، وأن يحمل الرسالة على الله القهوجي وأحد الأسرى.

 لكن رينيه ألمح إلى رغبته في مصاحبة القهوجي، فحمد الحاج ربه، واحتضن الفرنسي الذي لم يفهم شيئًا.

 وبعد سفره إلى المدينة، قال الحاج لحليمة وهند وصفية إنه كان، في بعض الأحيان، يشك في ولاء رينيه للفرنسيس، واتصاله بهم، ولكن لهفة عينيه فضحت يُتْمه، بين أهل أوزير الذين لايزالون يحسبونه على الفرنسيس، والأسرى المغلوبين على أمرهم.

 وأبدت حليمة قلقها:

 ـ يا خوفي يا ابن والدي.

 وشاركتها هند، موضحة ما احتالت حليمة على إخفائه، خوفًا من تحققه:

 ـ ولو قتلوا القهوجي ورينيه ؟

 فانتفضت صفية، وتأكد لها أن قتل حاملي الرسالة، إشارة إلى الشروع في قتل الأسرى. وقامت بحذر، مستندة إلى زكيبة من الأرز، وسألت:

 ـ وعامر يا أمّ ؟

 رفعت حليمة عصاها، فلامست بطن هند، وداعبتها قائلة إن الذي وضع بذرة، لا يتأخر عن الحصاد. وقالت مزهوة بالغائب:

 ـ صفية حبلى يا عمران !

 ودّ الرجل لو تساعده صحته ليرقص. ومدّ يده إلى صفية، فقعدت وأحنت رأسها من الخجل، وقبلت يده، وقبل جبينها. وقال:

 ـ لو أعرف لقلت للقهوجي "بلّغ عامر وفرّحه".

 علقت حليمة ساخرة:

 ـ عامر صاحب مزاج يا ابن والدي، حضن صفية عنده أهم من ولده!

 ـ يا شيخة خافي ربنا.

 ـ عامر شبه والده مبروك، وشبهك يا عمران.

 وقبل أن تكمل، دمعت عينا هند من التأثر، وقالت:

 ـ مسكينة صفية، ما فرحت غير ساعة.

 غابت عنهم هند، وزحفت على قدميها، إلى أن بلغت عتبة الدار، ومددت في الحارة ساقيها، وأقسمت أن تزفّ عامر إلى صفية، بالغناء والمزمار والطبل وغوازي سنباط، من بوابة سالم إلى باب الدار.

 وعلقت حليمة:

 ـ مجنونة يا بنت هوجة، زفّة لعروسة حبلى!

 ـ صفية راضية يا عمتي.

 كانوا لايزالون داخل الدار، حين لمحوا هند تمسح دموعها بطرف الجلباب، من آنٍ لآخر، وهي تغني بصوت عذب، آمرة صفية بأن تردد معها:

 داري جمالك عن عيون الناس

 لولا الملامة يا حبيبي وكلام الناس

 لاحُطّ رجلي ورجلك في قميص ولباس

 وأحلفك بالأمانة ما تقول للناس

 ولامتها حليمة على الغناء، في حين لايزال ابنها غائبًا:

 ـ عيب عليك الفرح، وابنك محبوس.

 تدخل عمران، قائلاً بثقة إن عامر عائد، اليوم أو غدًا؛ فالرسالة على بساطتها، كافية لإرهاب قائد الفرنسيس، واستعجال إعادة عامر والذين معه، واستعادة جنود الفرنسيس الأسرى. وأوضح للنساء أنه طلب هدنة، وبعض الحشيش والخمور، وهذا يكفي ليتأكد للفرنسيس أنهم يواجهون خصمًا لا يهاب الموت، ولا يستجدي عطفًا للإفراج عن رهائن أو أسرى؛ فما لديه من مقاتلين أكثر عددًا وقوة، بدليل عدم الإشارة إلى تفاوض أو مساومة أو مقايضة.

 قالت صفية إن الرسالة شديدة الذكاء، والخطورة أيضًا؛ فربما يفهم الفرنسيس أنها مقدمة لزحف بشر بلا عدد، يريدون أجساد الكفرة طعامًا، بعد فيضانٍ أهلك الزرع والدواب، وألجأ الآلاف إلى أوزير، التي لم تتأثر بالهلاك كالقرى الأخرى، بسبب البِرْكة والقناة المحيطة بها. ولكنها حذرت أن يفهم الفرنسيس، من الرسالة، أن طالبي الخمر مجانين، ينشدون آخر متع متاحة، قبل الموت القادم مع الفرنسيس.

 واستهان عمران بذكاء الفرنسيس، قائلاً إن لديه حلاً أخيرًا، لو أظهروا فُحشًا في الرد، وهو الإيعاز إلى المشايخ في أمر الكفرة.

 سيقول إنهم سينقضّون على كل مال المسلمين وديارهم، ويستحلون نساءهم. وعندها يعلن المشايخ ذلك في خطبة الجمعة، في وقت واحد، آمرين المصلين بالدفاع عن أعراضهم، ولو بأكل لحوم الذين لا يراعون حرمات الله.

 ـ ساعتها لا تنفع المدافع.

 ـ ولو رجع الأسرى قبل ما ينتهي بناء الجامع؟

 فنهض الحاج قلقًا على الجامع، لأول مرة، واستدعى موران. ولكنه اطمأن حين ابتسم الشاب، رغم سماعه خطأ الحاج في نطق اسمه، كما لم يضق صدره كعادته، أو يوضح أن اسمه موران لا مروان.

 وقال موران ما فهموا منه أنه باقٍ، مع رينيه، في أوزير، ولن يعود إلى العسكر.

 

(46)
رجع القهوجي ورينيه، تسبقهما ابتسامة ثقة، وبسطا أمام الحاج وموران زجاجات الخمر، قائلين إنها هدية، وإن الفرنسيس وافقوا على مبادلة الأسرى.

 وتحت غواية الخمر، نسي الحاج ذكر عامر.

 ثم انتبه إلى الأمر، وتنهّد بأسى حين تذكر أنه اجتنب الخمر من زمن، ولا تسعفه أيامه بالعودة إليها. وقال بدعابة تحمل الجِد والهزل إن الأعداء لا يتورعون عن وضع السم في الخمر. ودعا موران لتناول بعضها أولاً.

 وتناولها الشاب، وبعد أول جرعة لام الحاج، موضحًا أنه أصبح واحدًا من أهل أوزير، وإذا كان لابد أن تتم التضحية بأحد، فليكن من الأسرى. وقال مداعبًا: على الأقل يجب ألا أموت، قبل إتمام بناء الجامع.. جامع عمران.

 وأجاب آخرون عن دهشة الحاج الصامتة، قائلين إن الناس أطلقت عليه "جامع عمران"، بعد الشروع في بنائه.

 غمرت شمس النهار تمثال سيدي سالم، وبدا بعد غسله طازجًا، كأنه خرج من الأرض في الحال، شامخًا أمام البوابة، وأمر الحاج بطلائها قبل عودة عامر. ولكن الطلاء لم يصمد أمام الخارجين من أوزير، عائدين إلى قراهم، والداخلين بخيرات القرى الأخرى، من حبوب وطيور وحيوانات، مشاركين كبير البلد فرحته بحفيده.

 رُفعت رايات ومناديل ملونة، لا تعانق الهواء، في العادة، إلا في أفراح الميسورين. في حين وقف الهندي، على جانب البوابة، بفيله الذي ارتدى قماشًا زاهيًا، تزدان به الركائب في الاحتفال بمولد النبي. وعلى الجانب الآخر للبوابة، نصب مدفع كان لدى الأسرى الفرنسيس.

وأسندوا الحاج حتى ركب الفرس، وكان يريد الاطمئنان على عامر، قبل بلوغ الدار. ووقفت العربة أمام بيت رينيه، ساعة وصول الحاج مباشرة. وتحسس عمران حفيده بكفين واهنتين وبصر عليل، واطمأن إلى خلوّ وجهه من إصابات تزعج أمه وزوجته، ولكنه أمر فجيء بالحلاق فأصلح شعره. وازدحم بيت رينيه بأصحاب عامر، من زملاء الأسر، أو المقاومين الذين حققوا نصرًا على الفرنسيس، وأسروا جنودًا، أو سرقوا مدافع.

 بأمر الجد، نزعوا ثيابه، وهو من الذهول لا يقاوم، بل يسأل، وهم يجيبون:

 ـ لتستحم يا عريس !

 ومن الفرحة نسوا العطر، فأسعفهم رينيه بزجاجة صغيرة، ذات رائحة طيبة، ورفض أن يستعيدها، قائلاً إنها هدية من الكنيسة إلى سيد أوزير.

 شاركوا في غسل جسد عامر، ثم خرج رشيقًا يرتدي الجلباب الكشمير، يكاد من شعوره بالخفة يطير، ويستعجل الرجوع. وأوقفه الجد، ومدّ إليه يده بمقود الفرس، آمرًا إياه بالقفز:

 ـ استلم فرس كبير البلد.

 أمام البوابة، ضرب المدفع لقدومه. وقدم الهندي وفيله ألاعيب أضحكت الناس، وهم يرون لأول مرة، فيلاً يصنع أعاجيب بخرطومه، وتسابق الصبية إلى تقديم القصب وعيدان الذرة، ليلتهمها مداعبًا إياهم بخرطومه، ومحركًا الهواء بأذنيه.

 كان عامر لايزال أمام البوابة، فوق الفرس، يشاهد أفراح الناس بالفيل، حين انفضت حلقة النساء، عمن ترتدي ثوبًا أبيض، كملاك وسط دائرة من نساء ابتعدن عنها في الوقت نفسه. كانت صفية تنظر إلى زوجها بفخر، وهبط عامر، بخطوات واثقة، وغاب رأسها في صدره، وهي تهتز بحركة لا ترى إلا بالبصيرة، ورفعت رأسها، كأنها تقول له سرًا، وفاجأته بقبلة. وعلقت نساء:

 ـ غجرية قادرة.

 صوّبت هند إلى مصدر الصوت نظرة، أخرست النساء. وضبط ضاربو الطبول الإيقاع على حركة أقدام عامر وصفية، وجذبا إليهما امرأة من الغجر، شجعت المغربية على الرقص. ونزعت هند طرحتها، وأحاطت بها وسط المغربية، على حين زاد عدد الراقصات، وعلا إيقاع الطبول. وأصبح عامر وصفية في وسط دائرة من نساء وفتيات، أظهرن براعة في مباراة أعلنت فيها الأجساد فرحتها، حتى هند اقتربت من عامر، ونزعته من حضن زوجته، وخافت عليه الحسد، ولم يكن معها إلا سورة الفاتحة، فقرأتها وغسلته بها، ورقصت مع النساء، وحزّمتها المغربية بمنديل رأسها، فانسدل شعرها طويلاً ناعمًا بلون الليل، راقصًا معها، وهي تنافس هند، حاصدة الإعجاب والتصفيق.

 ثم قفز عامر، ممتطيًا الفرس، وبسط قدمه فاستندت إليها صفية، وجذبها فجلست وراءه.

 أفسحوا للفرس طريقًا، تعانقت فيه الموسيقى والزغاريد، ورقص أولاد الغجر والضيوف، قبل أن يحصلوا على أنصبتهم من الطعام والحلوى، من مائدة عامرة، أشرف عليها سالم وزوجته، غير مباليين بحليمة الغائبة عن الصخب والموسيقى والرقص وعامر الذي قبل يدها، وأبلغها برجوعه، فقالت بحياد:

 ـ ومن أخّرك في الغيط يا سخام ؟

 بنظرة من صفية، فهم أن حليمة عادت إلى نسيانها، ولم يشأ أن يلح عليها بالقول إنه عاد من الأسر، بل جاراها قائلاً إنه كان يحضر لها بعض الجمّيز الباط، والفول الأخضر الذي تحبه. وداعبها:

 ـ ولكن الفول جامد يوجع أسنانك !

 فخطفت قرن فول، لا يدري عامر من وضعه في يده، وقالت:

 ـ أنا أصبى من أمك يا جحش !

 وسمعتها هند، في دخولها الدار. وقالت:

 ـ أنت أصبى مني يا عمتي، ولو أنك واعية لفحت البحر.

 انتهى كارلو من زراعة شجيرة، طولها ثلاثة أشبار، أمام الدار قريبًا من الفرن، وقال إنها ستثمر حبات التوت بعد سنتين أو ثلاث، على أن ترتوي بماء الفيضان القادم. وسألتهم حليمة عن تأخر الفيضان هذا العام، وهمسوا قائلين لأنفسهم إن الفيضان لم يكن له مثيل من عشرات السنين، ولولا البِرْكة والقناة، لهلكت أوزير مثل غيرها من القرى.

 أشار إليهم عمران بالصمت.

 كان مريضًا عاجزًا عن الحركة، وطالبهم بمهاودة حليمة في الكلام، لأن لسانها لا يهدأ:

 ـ وأنت يا عمران السخام، واجع قلب مبروك ابنك الوحداني.

 أنصتوا جميعًا، منتظرين ردّ عمران العارف بمرضها. وقال:

 ـ مبروك زعلان مني يا حليمة ؟

 ـ عنده حق يا ابن والدي، لأنك رافض هند بنت هوجة.

 لم تحتمل هند هذا الضغط غير المقصود، على أعصابها، فتمنت الموت، ليخلصها من عبء الموت الحالّ ضيفًا مقيمًا بالدار، رغم اعتياده.

 تأكد للحاج أن الحمى تمكنت من حليمة. وسعى إلى التأسِّي بتذكيرها بوعد قديم بألا تموت إلا بعد زواج ابنيْ مبروك. ولكنها صمتت وسحبت الغطاء فوقها، ثم وجدوها مسترخية، كأنها لفظت روحها من بين شفتين منفرجتين قليلاً، تبتسمان للموت. ولم يقو عمران على الحزن، أو المشي في جنازتها، أو تلقي العزاء. وعزّ عليه أن تتسرب صحته، وأن تفرغ أوزير من رفاقه، وتبدو ساحة تخص غيره من الأجيال اللاحقة. وتمنى الموت فأتاه.

 

(47)
لبضعة أشهر غابت البهجة عن الدار، وعن أوزير كلها؛ إذ ظل الطاعون يسري في السكك والغيطان والحواري، ويلتهم من يقابله، حتى خلت الدنيا من الحياة، فلا أفراح تقام، ولا صلوات في جامع عمران، باستثناء صلاة الجمعة، التي يخطفونها خطفًا. أما الأرض فصارت خرابًا، عدا مساحات صغيرة، قريبة من السور، يسرق أصحابها ساعة ليزرعوها، حين تشتد حرارة الشمس.

 كانت السكة الوحيدة العامرة هي المؤدية إلى المقابر. وحسب على الله القهوجي أقصر طريق لموته هو التطوع بحفر القبور، ودفن الموتى، رغبة منه في التكفير عن ذنبه في حق عامر، ظنًّا منه أن جده قد أسر إليه بالأمر.

 لم تشهد جنازة زحامًا، فلا يشيع الميت إلا أبناؤه وأهله المقربون، خوفًا من أن يموتوا في الطريق، فلا يجدوا من يبادر إلى دفنهم.

 ولزم عامر داره، مكتفيًا بإعادة قراءة أحد كتابين عاد بهما إلى أوزير، ساخرًا من مقولة كعب الأحبار عن جبن المصريين. وفشل في فك رموز الكتاب الثاني. وكلما تسلل الطاعون إلى الدار، من السطح أو من الباب، واختطف نفسًا، ضاقت عليه الدار، فيلجأ إلى صدر أمه. ولكن الدار اتسعت عليهم قليلاً، بانضمام المغربية، كإحدى سيدات الدار، بعد موت زوجها.

 وعلى يد المغربية، وقابلة من الغجر، وضعت صفية ولدين. ولم تهفُ نفس عامر إلى النظر إليهما، واكتفى برؤيتهما، عن بعد، في غربال، ملفوفين في خرق بالية. وظل مشغولاً بصفية.

 كانت تمد إليه يدها، ليدفئها بكفيه، وتتحامل على نفسها بالابتسام، لكي يطمئن. وفي هذيانه، قال لها كلامًا كثيرًا، متفاديًا أن تفضحه دموعه، فحكى عن أيامه في الأسر، واشتياقه إليها. وكانت تتظاهر بالتجاوب معه، والفرح بحكاياته، في حين تخذلها عيناها، بانطباق الجفنين على نور الروح.

 زهد عامر في حياته، معرضًا عن الطعام، حتى كاد يرمي نفسه في النيل، ليتخلص من عبء انتظار شفائها.

 ثم خفضت المغربية رأسها، متوسلة إليه أن يتناول بعض الطعام:

 ـ ستي صفية أمرتني بتحضير الأكل لك يا سي عامر.

 فقام من السرير، ووجد صفية غائبة تمامًا، يرفع صدرُها الغطاء بصعوبة، فأزاحه عنها، وتنفست بعمق. ونهته أمه، وغطت المريضة:

 ـ ضعيفة يا ابني، تموت من البرد.

 ـ البرد أحسن لها يا أمّ من الموت من خنق نَفَسها بالغطيان.

 لكنه لم ينهر المغربية، مقدرًا أنها كذبت عليه بحسن نية، حين أتت إليه بالطعام.

 وذهب إلى الأريكة، عند الفرن، ونظر إلى واجهة الدار، وقرأ بيتي الشعر، ولم ينتبه إلى سوء الخط، وأعاد قراءتهما، وهز رأسه، إلى أن استكان. وخيّل إليه أن أمه تردد بصوت صافٍ:

 يا شابة يا أمّ الشباب الزّين

 لولا شبابك ما بكت لي عين

 فاستيقظ من إغفاءة، وكان مهيأ لتلقي طعنة أخرى، من قدر لا يرحمه، ولكنه منح نفسه أملاً ببعض التلكؤ، عن دخول الدار، ليرى بعينيه. ولم يكن قادرًا على الحركة. وكانت هند تقول كلامًا منغمًا يشبه الرثاء:

 ونقول عليكِ يا حلوة الجبين

 يا مهرة العايق على البرسيم

 ونقول عليك يا حلوة السيقان

 يا مهرة العايق على الجُلبان

 فجرى إلى السرير، وأطلق صرخته:

 ـ صفية ماتت يا أمّ ؟

 ـ الله يرحم الجميع.. جدودك ووالدك مبروك كان زينة الشباب، وشقيقك سالم وابنه وامرأته.

 كانت تنظر إليه، ولكنها لا تراه، وتواصل حكايتها:

 ـ مبروك والدك خاف الموت مرة واحدة، وبعدها مات.

 كانت تحكي بلا مرارة، كأن مبروك يسمعها ويراها. وانتقلت من الحجرة إلى وسط الدار، قريبًا من المدخل، ورفعت جلبابها بذراعيها، وروت حكاية اللوتس، حين كان مبروك يرفعها ويداعبها، وحليمة تستعجلها الرجوع إلى الفرن. وقالت ضاحكة إنه كان مضطربًا، يتصبب عرقًا، وهي غشيمة غير فاهمة، حتى بعد الزواج، حين أُغلق عليهما باب.

 وسألت عامر عن طبيعة البيض الكثير الذي أغرق به مبروك صدرها، وسال على جسدها، على السطح في طنطه.

 وأتبعت:

 ـ بيض خفيف من غير ديك .

 وبكت ناعية مبروك، ناسية أن صفية هي من ماتت، وتنتظر الدفن.

 وصرخ عامر:

 ـ صفية ماتت يا أمّ .

 وقالت له إن على صفية أن تحمد ربنا، لأنها وجدت من يغسلها ويكفنها ويصلي عليها، ويمشي في جنازتها إلى المقابر، فمن مات محظوظ بالأحياء.

 ـ الحسرة علينا، أن يموت ناس أوزير كلهم، وما يبقى أحد يصلي علينا.

 بعد دفن زوجته، مرّ بجامع عمران، ودخله لأول مرة.

 كان خلي الذهن، يحب الله من قلبه، راضيًا بقضائه. وصلى ركعتين، ناسيًا أن ينوي. وعلق بابتسامة خفيفة:

 ـ رحمة على صفية .

 أسر لعلى الله القهوجي بأنه صلى، من دون نية محددة، يتوجه بالركعتين إليها. ولم ينشغل القهوجي، أو أتباع عامر من العبيد أو أصدقائه العائدين معه من تغريبة ربع قرن، بحكاية النية، وإنما بالصلاة نفسها. وأراد القهوجي أن يخفف عنه، فقال إنهم يقولون إنك، يا سيدي، ما صليت قبل العودة إلى أوزير.

 وقال عامر باطمئنان المؤمن:

 ـ كنت في طنطه أو المحلة، أو سمنود في الأسر، ونسيت الصلاة.

 صمت القهوجي، وتذكر أنه هو أيضًا لم يكن يصلي في المدينة، أية مدينة، مهما تطُل إقامته بها، وحين يجتاز بوابة سالم في أوزير، يفكر في الصلاة، قبل أن يقرب زوجته.

 وقال لعامر:

 ـ الله لا يحب المدن .

 فعلق عامر من غير تفكير:

 ـ وهي لا تحبه .

 وهمّ بالخروج، وهو يستغفر الله، مانعًا بادرة ابتسامة.

 لكن نوح المراكبي أوقفه، وأشار إلى ممر جاف، هابط من أعلى الشاطيء إلى وجه ماء النيل، بين مرتفعين من طمي الفيضان. وقال إنه شاهد طيف والدته، كانت تسير بخفة، كأن قدميها لا تلمسان الأرض، حتى بلغت الماء، فبسطت طرحتها، كأنها مركب، إلى أن غابت عن عينيه، ولم تبالِ بتوسلاته إليها بالرجوع، ولا التفتت إليه.

 انتظر عامر على الشاطيء، حتى غربت الشمس، على حين جابت مراكب الصيادين نهر النيل، بموازاة أوزير، بحثًا عن جثتها، حتى اقترح أحدهم وضع رغيف عيش، فوقه حبات من الملح، على صفحة الماء. وتبع الصيادون الرغيف، معتقدين أنه سيغوص حيث توجد هند مع إحدى الجنيات.

 واستأذن مؤذن الجامع ليرفع أذان الفجر. ولم يذهب إلى الصلاة أحد.

 كانوا ينتظرون على الشاطيء، مجاملة لعامر، وخوفًا على هند. وسأل عامر نفسه: كيف طاوعها قلبها، حتى تترك حفيدين يتيمين؟

 مع غروب شمس اليوم التالي، تأكد لعامر أنها غرقت، وجرف التيار جثتها، باتجاه سمنود.

 ولكنه تخوف من فكرة غياب أمه، بعد خلوّ الدار من أي سند لظهره. وقدّر أن سقف السماء يقترب من الأرض، وأن الذين خطفهم الطاعون هربوا من انهيار السقف والجدران، لائذين بالموت، وأنه وحده يواجه عبئًا، لا مفر منه حتى بالطاعون. ورجح ألا تكون أمه قد اقتربت من النهر، إلا في أوهام المراكبي.

 عاد إلى الدار التي أمست ضيقة وخانقة؛ فلم يحتمل البقاء بها، وخرج إلى الأريكة.

 ولاحظ أن كل الوجوه التي رآها لرجال. وفي حلم خاطف، زارته نساء أقمن زمنًا في حياته، أو في خياله.. من ابنة رينيه، إلى المرأة التي أحيته ما بين سمنود والمحلة الكبرى، بعد موت شقيقه سالم. وانبسط وجهه لمرأى صفية، على النورج، محفوفة بهالة من الإشراق والعناد.

ولكنه انتفض على صوت المغربية:

 ـ الأكل يا سي عامر.

 كانت قد تفننت في صنع أصناف من الأطعمة المغربية والمصرية، للسيد الذي لم يذق طعم الزاد، على مدى يومين، ووضعتها إلى جوار الأريكة، على الطبلية، وأمرت العبيد بألا يوقظوه، إلا بعد انتهائها من رصّ الأطعمة، مرجحة أن رائحة الشواء والطبيخ ستنبهه.

 ففزع عامر من غفوته، وضرب الطبلية بقدمه، ونهر المغربية بصوت عالٍ أزعج ابنيه فبكيا، وهرعت إليهما. وانشغل العبيد برفع الأطعمة المختلطة بالتراب.

 خنقه بكاء ولديه، فنظر إلى شجيرة التوت، التي لم تورق وجفّت كعصا. وتوقع جفاف ابنيه، جلدًا على عظم، حتى يموتا مثلها فيستريح من قاتلين صغيرين، فرقا بينه وبين زوجةٍ لم تكن، قبل الوضع، تعاني تعبًا، ولا ماتت بالطاعون، وإنما من نزيف سببته صعوبة الولادة، كما قالت له الغجرية.

 لام نفسه، على ابتعاده عن صفية أكثر من عشرين سنة، ولم تهنأ به إلا قبيل انطفاء شمس دنياها. واستهان بحياة تخلو من مثلها، وبدار لا تعمرها امرأة.

 

(48)
اعتاد الرجال ونساؤهم أن يقضوا مع عامر أول الليل، منشغلين بشيّ الذرة، وتناول القهوة، والإشارة في جانب من السمر، إلى أن هند ستعود يومًا، وتملأ الدنيا صخبًا، ويكبر في حجرها الصغيران. وكان عامر ينتفض كلما ذكره بهما أحد، كأنهما عدوان.

 والتمست منه نساء، في مثل سن أمه، الخروج ولو إلى الغيط، بدلاً من الموت كمدًا. وداعبنه قائلات إنه ربما أعجبته أمة، فيسعد سيدها إهداؤها له. وعجز عامر حتى عن الضحك، واثقًا بأنه لم يعد قادرًا على شيء، وأن الله ينتقم منه، بسلبه قدرته، ليصبح والخصيان سواء.

 كان أول خروج لعامر من داره، حين اقترب منه القهوجي، قائلاً بتردد إن من واجبه، كسيد لأوزير، أن يعزي كارلو وموران في وفاة رينيه. فارتجف مستنكرًا أن يرث الأغراب غربته، مؤكدًا أن رينيه ابن البلد، ولأوزير فيه أكثر منهما، سنوات بطول العمر، مقابل أيام جمعتهما به. وسأله إذا كان أحدهما أو كلاهما أوعز إليه في حق تلقي العزاء، أو أن يأتي عامر خاصة لتعزيتهما. فنفى القهوجي.

 هزّ عامر رأسه باطمئنان، وقال إن أهل أوزير أولى بتلقي العزاء في رينيه، من الفرنسي والبندقي. ونهض معه.

 شيعوا رينيه، في المسافة القصيرة الفاصلة بين بيته والكنيسة. ورسم موران وكارلو علامة الصليب، وقرأ عامر ورجاله الفاتحة على روح الفقيد.

 في المساء، أقيم في الساحة القريبة من البوابة سرادق للعزاء، تواصلت فيه تلاوة القرآن، ساعات، بسبب كثرة المعزين من القرى الأخرى، في رجلٍ عمل في أرضه كثير من الشغالة والفواعلية ونجاري السواقي، ولم يؤجل أجرة أحدهم إلى اليوم التالي.

 همّ القهوجي، وهو يناول عامر القهوة الخالية من السكر، بالاعتراف إلى سيد أوزير بذنبه، راضيًا بأي حكم ليتخفف من وطأة الوشاية. وكلما نظر إلى عامر فزع، حتى ارتاب فيه الرجل، وأمسكه من كتفه، ونفضه. واستحلفه القهوجي بولديه أن يعطيه الأمان، وسأله عن اسميهما.

 وغاب عامر عن القهوة والقهوجي والسرادق وقاريء القرآن، وزكريا ويحيى وعيسى وإسماعيل، وأنبياء سورة مريم. ولم ير أحدًا من المعزين الذين يصافحونه، شاعرًا لأول مرة، بالتقصير في حق ولدين لا ذنب لهما في شيء، وليس من الحكمة أن يعاقبهما، ويتجاهل منحهما اسمين.

 وأنصت إلى قاريء القرآن، في تلاوته سورة مريم، حين بلغ آيات "واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقًا نبيًا. ورفعناه مكانًا عليًّا. أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح..."

 لم يتابع بقية الآية، عازمًا أن يكون اسما ابنيه إدريس ونوح. ولكنه تذكر نوح المراكبي، الذي أبلغه نبأ غرق أمه، فتشاءم به. وقال للقهوجي:

 ـ إدريس ويحيى .

 وأتبع مجيبًا عن سؤال لم ينطقه على الله القهوجي:

 ـ كلهم أنبياء والسلام.

 ورأى القهوجي رضا عامر عن ولديه فرصة للاعتراف، وسيرضى عنه ويصفح؛ فليس ذنب الوشاية كذنب الولدين في موت أمهما. وبلا مناسبة، انحنى وقبّل يده:

 ـ قلبي موجوع يا سيدي، وما أريد الموت إلا بعد مصارحتك.

 ازدادت ريبته في القهوجي، واكتفى عامر بالنظر في عينيه، فانهار وتضاءل، طالبًا الوعد بالعفو، فمنحه إياه بصر فارغ. ولكن القهوجي رجح، في لحظة كطرفة عين، أن عامر لا يعرف شيئًا، وأن له عليه فضل العودة إلى أوزير. وقال لنفسه إن العودة، وإن كانت قد جلبت على عامر بعض المرارة، كالأسر مثلاً، فإن لها ثمارًا أخرى، كزواجه صفية التي أنجبت له ولدين.

 وزعق عامر:

 ـ خلّصني يا قهوجي .

 بدا على الله واثقًا، هذه المرة، وقال بهدوء إنه يريد أمًّا لابنيه إدريس ويحيى. وتردد أن يحدثه في شأن زواجه بسيدة تحبهما كثيرًا، وأكد أنها وحدها التي تعرف أيهما وُلد قبل شقيقه.

 فقال عامر:

 ـ الأول إدريس .

 ثم انتبه إلى أن القهوجي لم يقل له من تكون تلك المرأة. وقال إنها المغربية.

 عزّ على عامر أن يتزوج أرملة، متأسيًا على أيامه في طنطه والمحلة الكبرى. ولم تتسع ذاكرته لنساء كان في حياتهن الأول، من دون أن ينشغل بمعرفة أسمائهن.

 في رجوعه من السرادق إلى الدار، لم يستبعد أن تصبح المغربية أمًّا لولديه، وزوجة له، حتى لو لم يقربها. وكانت في الأيام السابقة أكبر من جارية، وأقل من زوجة، ولم يفكر فيها كأنثى، وظلت بحكم حب جده وأمه لها، مثل زوجة أخ. وتذكر أنه لم ينظر إلى وجهها، ولا تحمل ذاكرته ملامحها. وحين فكر فيها زوجة له، سوغ ذلك لنفسه بأنه لم يعرف زوجها.

 ومن مجلسه على الأريكة، أتته رائحة الطيب، سارية من الدار. وتمنى أن تأتيه بالعشاء، لينظر إليها. ولكنها أرسلت بالعشاء عبيدًا. وكلما طلب شيئًا، هو أو القهوجي أو أحد الرجال الذين ضاقت بهم الطبلية، أرسلت المغربية به عبدًا. وحدثته نفسه أن من حق ولديه أن تكون لهما أمّ، وقدر أكثر من مرة، أن تكون المغربية مناسبة، وقرر ألا يكرر خطأه بإضاعة الفرصة؛ فليس في العمر خمسة وعشرون عامًا أخرى، كتلك التي أضاعها على نفسه وعلى صفية.

***

 بعد انصرافهم، طلب عامر إلى زوجة على الله القهوجي أن تأخذ معها إدريس ويحيى، ولكن المغربية أشارت إلى أن الولدين لا يكفان عن البكاء إلا معها. ورفضت أن يناما في حجرة بعيدة مع إحدى الإماء. وحين اختلى بها، ومدّ إليها يده، تأودت هاربة، كأنها فرس حرون. وجرى وراءها كصبي يرى أنثى لأول مرة، قافزًا من السرير إلى باب الغرفة إلى باحة دار أخليت لهما.

 لم يكن قد مسها بعد، وحين أمسك بها، كان يلهث من التعب. وأدهشه عدوه خلفها، وظن أنها خجلى. ومدّد ساقيه، وبرفق ضغط ركبتيها وبسط ساقيها مثله، فاستجابت، ثم أراح رأسها على فخذه، وداعب شعرها. ثم مضى الوقت في صمت لا يقطعه إلا هديل حمامات، وقأقأة دجاجات على سطح الدار. وتذكر حكايات أمه عن ليلتها مع أبيه في طنطه، وكيف كسا جسدها بكل ما عثر عليه من بيض الطيور على سطح المنزل. وابتسم في حين كانت المغربية تنظر بحياد إلى الجدار، كأنها لا ترى.

 رفعها بين ذراعيه، وصعد السلم، متجاوزًا الدور الأعلى، قاصدًا السطح. وكانت نسمات الهواء أشد مما يحتمله جسدها الضئيل، فالتمست منه أن يهبط بها إلى الغرفة. كانت لاتزال بين يديه، وجسدها قوس ينساب حول صدره، كأنه يلتحف بها. وفتح الباب برفق، حتى لا يستيقظ ولداه. وسحب فوقها الغطاء، وقبل أن يعتدل، تعلقت بعنقه، وجلست إلى جواره، وكانت ساقاه على الأرض، يتأهب للانصراف في أي وقت.

 غضت طرفها، وقالت بحياء:

 ـ من حقي أني أختشي منك يا سي عامر.

 كان قد بلغ من الملل حدًّا لا يحتمل معه أن يذكّرها بأنها أمست زوجته، ولم يشأ أن يخدش كبرياءها ووحدتها في بلد غريب، بالقول إنه تزوجها لكي ترعى ولديه.

 وأضافت بعد أن رفعت بصرها، من دون أن تجرؤ على النظر إلى عينيه:

 ـ من حكايات سي الحاج وستي حليمة وهند والقهوجي عنك، تصورتك فوق الناس.

 أعجبه ذكاؤها، وحسب أنها تسعى إلى إرضاء غروره، وواصل الإنصات إليها. ورأى أنها تتكلم بلا تكلف، ولا تعني شيئًا آخر أكثر من الكلام، ولا تهدف إلى استمالته إليها.

 علا صوتها بالضحك:

 ـ وأنا في سمنود، من يومين، سألوني عن بلدي، قلت من دار سي الحاج عمران، من حريم سي عامر سيد أوزير.

 سمع بكاء أحد ولديه فنهض، ووقفت على حافة السرير، وتعلقت برقبته من الخلف. وقالت إن إدريس هو الذي يبكي بلا سبب، ويزعج أخاه. وأسعده أنها تميز بكاء أحدهما عن الآخر، وتتحدث عنهما كأنهما ابنا بطنها، وأعجبه أن بطنها لا يصيبه ترهل بطون المصريات. ومدّ يده وتأكد بنفسه، وحين همّ بسحب يده، قبضت عليها، واحتفظت بها فوق السرة تمامًا. وقالت إنها تنتظر لحظة بكاء إدريس، وسيبكي يحيى بعد قليل متأثرًا به. ونزعت عنه ثيابه، وهو مأخوذ بها، وتذكر أنها رفضت أن ينام الولدان في غرفة بعيدة عنها. وكلما علا صراخها بادلاها البكاء، وهي تطلق أغانيجها، وتتلوى تحته، وتنساب بنعومة ورشاقة، وهو يباريها منتزعًا من عمره ثلاثين عامًا. ثم هدأ الزوجان وسكت الولدان.

 مضى الليل على عجل، وهو لا يريد أن يشبع، وكلما نام الولدان، فزعا من جديد، فتضحك وترفع صوتها بالغناء. وكان صوتها العذب في صفائه كخرير مياه الجداول، يصيب أكثر المناطق ضعفًا فيه؛ فينهض راغبًا إياها، ولا يباليان ببكاء الولدين.

 وحين توسدت ذراعه، لم تكن ترغب في النوم، ولا هو. ولم يقويا على القيام ولا الكلام.

 ولكنه سألها عن اسمها، ففاجأته ضحكة مغناج، ممطوطة ذات جرس وذيل، أيقظت الولدين:

 ـ زهرة يا سي عامر .

 فكتم ضحكتها بقبلة في فمهما، واشتعلا الجسدان. وفي نهاية الشوط داعبها، واتهمها باللؤم، وأقسم ألا يسألها عن اسمها مرة أخرى.

 واستغرقا في ضحك متصل.

 وظلت الابتسامة تكسو وجه عامر، حتى سأله على الله القهوجي، بعد أيام، عن حاله. وقال عامر إنه صدّق بعد زواجه زهرة ما سمعه في طنطه، من شيخ كان يصطحب صبية. قال له إن من لم يتزوج مغربية، ما ذاق طعم النساء.

 ثم ألمح القهوجي إلى أن عامر يكبرها بعشرين سنة أو أكثر، فسخر منه أبو إدريس، مؤكدًا في فخر أن الرجل حين يعشق أو يتزوج يصير من عمر زوجته!

 في الأيام التالية، لم يرغب عامر في شيء؛ فالمتعة أمامه، والموت ينتظره.

 حتى بعد ابتعاد شبح الطاعون عن أوزير، وكفه عن اصطياد الأرواح، ظل أبو إدريس يتوقع غدره، في أي وقت، ويحتسي اللذة، كأنه سيموت بعدها مباشرة، تاركًا أمر البلد في يد منصور القهوجي، الذي تخلى عن القهوة البحرية، وتفرغ لإدارة شؤون أوزير، باسم عامر المهووس بزوجته.

 لم يكن منصور يجيد الزراعة، ولكنه يعرف أخبار أهل أوزير: علاقاتهم، وأصولهم، ومن أين أتوا، وكيف جاءوا، وماذا كسبوا.

 كانت سنوات عمله بالقهوة سجلاً مرتّبًا، تنمو صفحاته بدقة وحساب، كأنه كان يعلم أن أباه سيشفع له لدى سيد أوزير، طالبًا أن يخلفه عنده.

 في وقت قصير أصبح منصور موضع ثقة عامر، وأمين أسراره، وكانت لديه أفكار جديدة أعجبت الرجل، وأمره بسرعة تنفيذها، منها تكليف موران ببناء أبراج للمراقبة، فوق السور المحيط بأوزير بعد تعليته، على أن تسمح المسافة، بين كل برجين، للذي في الأول برؤية الذي يليه، وسماع استغاثته.

 وتمكن كارلو من إحضار نبات ذي أوراق وسيقان ناعمة، ينمو سريعًا وتتعانق أوراقه وفروعه، وتتكاثف وتحجب الرؤية. وزرع بعضه على حافة قناة كارلو الكبير.

 في بضعة أشهر، نبت جدار أخضر، وزرع الفلاحون منه حول السواقي، وعلى رؤوس الأراضي ليمنعوا البهائم اقتحام الغيطان وإتلاف الزرع. وكانوا كلما خدشوا ورق النبات أو سيقانه أخرج سائلاً لزجًا في بياض اللبن، واستخدموه في تطبيب جروح الجلد الناتجة عن إصابات الفؤوس والشقارف.

 وسأله عامر، ذات مرة، عن اسم هذا النبات العجيب، فصمت منصور، وأسعفه ذكاؤه قائلاً:

 ـ أبو لبن يا سي يا عامر .

 واختصر أبو لبن المسافة بين جداره العالي وسور أوزير.

 كان القادم من بعيد يظن الجدار الأخضر نائمًا في حضن السور مباشرة، في حين تفصل بينهما قناة كارلو، ولا تسمح لأحد بدخول القرية، إلا عبر البوابات.

 

(49)
اعتاد منصور أن يعرض على عامر تفاصيل مشاريعه لأوزير. ثم أصبح يطلعه على بعضها بعد إتمام الإنجاز.

 وفي وقت تالٍ، كان منصور يمر بالدار، كلما سمح وقته، ولا يبادر إلى الإخبار بشيء، إلا بالإجابة عما يسأل عنه أبو إدريس. وفي العادة، لم يكن عامر، يسأل أو يبالي، وإن داعب منصور في إحدى المرات، طالبًا ألا يغيب عنه، وأثنى على القهوة التي يصر الشاب على صنعها لعامر بنفسه. وكانت تعجب زهرة أيضًا. ولم يجرؤ منصور يومًا على أن يشاركهما القهوة التي لم يعد يصنع غيرها.

 كان بعض الناس يرون الشاب يقدم القهوة، باحترام بالغ، إلى سيدَيْ أوزير، ويتبسط السيد في الكلام معه، فصار منصور مقصد الذين يريدون من عامر مساعدة أو طلبًا. وفي بعض الأحيان كان الشاب ينجزها بنفسه، من دون عرضها على السيد، حتى بلغ به الأمر إذاعة تحذير، من فوق مئذنة جامع عمران، بألا يغادر أوزير أحد، وألا يُسمح لأحد بدخول البوابات، إلا بإذن خاص من سيدها. ولم يكن لأحد غيره حق دخول دار عامر، في أي وقت من النهار.

 ثم طاف مؤذن الجامع، معلنًا في الشوارع والحواري، حظر تجاوز البوابات بعد المغرب؛ قائلاً إن الفرنسيس يصطادون خلق الله، ويتخفون ليلاً في جنينة رينيه وزراعات كارلو المحيطة بالكنيسة. ومنع عن كارلو وموران الاتصال بسيد أوزير الذي لا يراه أحد إلا مصادفة، كلما ذهب إلى صلاة الجمعة. أما الحواري المؤدية إلى داره، فمنع منصور المرور بها، إلا لجيران عامر، وهم لا يرونه أيضًا، وأشاعوا أنه أصبح أكرش، ونبَت له لُغد يتدلى كذقن تمثال سيدي سالم.

***

 ذات يوم، حكى أحدهم أنه رأى زهرة معه فوق السطح، تسخر من بطنه ولُغده، وتعاتبه قائلة إنه أصبح مثل رجال المغرب، وتطلب إليه أن يراعي الله في نفسه وأرضه، ويسرح مرة في الأسبوع، ليرى الغيط؛ فيفرح به الزرع، ويعرف أن له صاحبًا.

 وقيل إن السيد العاشق كان، بعد أن يصل إلى الغيط، ينتظر حتى الغروب، ثم يعدو خلف فرس تقوده زهرة بمهارة، إلى أن يقتربا من بوابة سيدي سالم، فتتخلى له عن القيادة، وتقبض بذراعيها، من الخلف، حول وسطه.

 وسأل أبو إدريس يومًا عن اختفاء الناس من السكك بعد المغرب، فقال منصور إنهم يخشون الذئاب على البهائم والغنم.

 لم يعد أبو إدريس بعدها إلى السؤال، غارقًا في متعةٍ تتفنن زهرة في ابتكارها، فتبدو معها عروسًا جديدة، كما كفت زهرة عن دعوته إلى الخروج، أو مقابلة الناس. وقيل إنها أصيبت هي الأخرى بعدوى الامتلاء، وصارت بدينة.

 وعلى فترات متباعدة، كان عامر يضبط في نفسه حنينًا إلى أماكن شهدت سنوات فتوته؛ إذ أمر بصنع نورج لا يستخدمه أحد، ووضعه في الغيط، في المكان الذي جلس فيه إلى جوار صفية، حين هددها فزجرته وعفّ عنها.

 كما أمر منصور بالبحث عن مروان الطوبجي في سمنود وما حولها، وعندما أخبره القهوجي بعجزه عن العثور عليه، قال:

 ـ أبوك على الله كان أشطر منك.

 ثم أعقب ضاحكًا:

 ـ أبوك الله يرحمه عثر عليّ في مولد!

 ولكنه لم يكفّ عن التذكر والتثاؤب.

 كان يتذكر أمه هند، وينتظر رجوعها. ويتثاءب ويخطفه النوم فيرى، من فوق عربة يحرسها عبدان، ابنيه إدريس ويحيى شابين يتزوجان في ليلة واحدة. وأقيم الفرح في سرادق كبير خارج سور الدار التي أصبحت مثل قلعة.

 وفي الساحة أمام العروسين مغنون ومنشدون وأرباب مزامير وطبول، يضبطون إيقاع رقصات غوازي سنباط، والناس يحتفون بحفيدته زهور ابنة السنوات الست، أما أمها عائشة فتراقبها، وهي ترقص ابتهاجًا بزواج أخويها إدريس ويحيى.

 وحين تغيب زهور عن عينيه ينزعج؛ فتطمئنه جدتها زهرة المغربية قائلة إن الصغيرة تحت عينيها. ثم تشق العروسان طريقًا إلى باب الدار، في زفة كبيرة، وتصعد كل عروس مع عريسها، ويغلق باب حجرة على كل زوجين، في حين لاتزال الطبول والغناء، وتستمر الغوازي في جمع المال والإعجاب. ويزعجه الضجيج، والناس فرحون بحضوره بعد غياب، ويسرعون إلى رؤيته وتحيته وتهنئته، فيبعدهم منصور، ويأمر العبدين بإعادته إلى الدار. ويفتح عامر عينيه على صف من المهنئين العائدين، والحفيدة زهور تلوذ بحجره، وتنام.

***

الهرم (6/9/2003 ـ 1/5/2005)

 

للمؤلف:

 قصص:

(1) ـ مرافىء للرحيل. الهيئة العامة للكتاب (1993).

(2) ـ شجرة الخلد. الطبعة الأولى، مركز الحضارة العربية (1998). الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب (2008).

 روايات:

(1) حديث الجنود. الطبعة الأولى، هيئة قصور الثقافة (1996)، الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب (2001)، الطبعة الثالثة، الدار المصرية اللبنانية (2008).

(2) باب السفينة. دار البستاني (2002).

(3) ليل أوزير. الدار المصرية اللبنانية (2008). فازت بجائزة اتحاد كتاب مصر (2009).

(4) وشم وحيد. الدار المصرية اللبنانية (2011).

رحلات:

(1) سبع سماوات.. رحلات في الجزائر والعراق والهند والمغرب وهولندا ومصر. (2011). فاز بجائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة (2008-2009) من المركز العربي للأدب الجغرافي (ارتياد الآفاق).

شهادة:

(1) الثورة الآن.. يوميات من ميدان التحرير. الهيئة العامة لقصور الثقافة (2012)، طبعة ثانية (الكتب خان) 2012.

(2) أيام الفيسبوك.. مسائل واقعية في عالم افتراضي. الهيئة المصرية العامة للكتاب (2012).

 ــــــ

 البريد الإلكتروني: saadelqersh@hotmail.com