تكتب القاصة اليمنية نصاً يأخذ من الخاطرة شكلها لكن عمق التأمل في الموضوع الأبدي المتعلق بعلاقة الرجل والمرأة والحب المفتقد والغياب والسفر ولهفة الأنثى الموجعة للذكر لهفة تذكر بلهفة حواء عقب الطرد جعل من النص قطعة جميلة عن عطش الأنثى لحضن حنون.

عن زيارة الغريب

مريم القحطاني

 

“Who taught thee how to make me love thee more?”

Shakespeareز

 

الأيام والسنين لا تكفي أبداً لأن تكون حبيباً قريباً. يعلمك هذا الغريب الذي يعود في كل مرة من فقدان الأمل، وأجمل ما في الحب هو أن تفقد القدرة على التبوء. أن الغياب هو قمة الغواية وأكثر المعاناة شرعية. يعلمك أنه حتى الاقتراب ذاته لا يكفي للاقتراب. قد يكون الحبيب على بُعد رِمش، أو على بعد شفة. قد تتقاسم الأنفاس معه، وتتبادل الأرواح في لحظة انطفاء أو تنهيدة،   إلا أن كل ذلك لا يكفي. لا يكفي أن تضمن النجوم نجاح العلاقة، أو انفعال الأفئدة في مكاشفة أغنية عاطفية أو تواطؤ بيت شعر. ولا يكفي أن نتنهد أو نبتسم في ذات اللحظة. حتى اتساع أحضاننا وملائمة العناق وعمق القبل وفرحة اللقاء لا تكفي.

 لأن الحبيب عندما يكون مسلحاً بالشك والغموض والغياب، يكون الاقتراب ضرباً من المستحيل. يعلمك هذا الغريب متعة الاكتشاف البطيء والسير على نار الفقد مرة وعلى خيط أملٍ رفيع مرة.  يعلمك  كره التمني وخوف المنال. كيف للخيال أن يقسو عليك، وكيف للاحتمال أن يتعجرف.

يعلمك هذا الغريب، كيف بإمكان ساعة واحدة أن تشعرك برخص حياتك،  تماماً كمدمن. كيف بإمكانك أن تكون في منتهى السعادة  وأنت ترى أحدهم يسرقك من نفسك، ويجردك من كل أدوات النفي: لا وكلا ولن ولم...لتقول فقط نعم. دائماً نعم. كيف يكون الاستسلام للمجهول كل ما تطمح إليه، دون أن تضع أي حدود لتأمين سلامة قلبك.

أكثر ما قيل يومها هو الصمت، واشتياق يتخبط في التوخي. تحدثنا في كل شيء دون أن نستمع لما يقال، لأن ما قيل كان من قبيل الاعتيادي الذي لابد منه، وما لم نقل لم يكن من العادي في شيء. عن كل شيء تحدثنا  إلا ما كنا نريد أن نتحدث عنه حقاً. عن أمورٍ أكبر منا. عن العالم وكيف أصبح عبئاً علينا. عن اللغات وعجرفتها. عن زعماء حان قطافهم في هذا " الربيع". عن أرض كانت أرضي وأصبحت أرضه. يجوب فيها ليصلح حال الكون. هكذا يقول بابتسامة متكلفة تشوبها الخيبة.

"العالم ليس غلطتي لذلك لن أصلحه."  أوضح له..

"ولا غلطتي أيضاً" يقول بذات الابتسامة.

ما كان يريد أن يقوله حقاً هو: هل فعلاً تحبينني وحدي؟ أم هل يزدحم قلبك بالرجال؟ هل فعلاً ستنتظرين حتى أعود؟ ولماذا تنتظرين عودتي؟  هل حقاً أستحق كل هذا الحب؟ وكيف تعرفين؟ كيف تحبين؟

وما كنت أريد أن أقوله حقاً هو: كيف لرجل أن يكون كل ما أريد وكل ما أخاف هكذا وبمنتهى القدرية؟

كيف تكون صالحاً للحب جداً من نظرة واحدة؟ وكيف أكون ضعيفة جداً هكذا أمامك وطيبة ورائعة؟ كيف تغير دنيتي هكذا دون أن تفعل شيئاً؟ من أنت؟

ورغم أن المسافة بيننا سنة وقارة، يعود كل صيف، في يومٍ جميل. يحقنني به ويختفي. كان جذاباً، أكثر مما ينبغي هذه المرة.

 من الصعب أن تقف امرأة تهواه على عتبات ناره هكذا دون أن تطمع في أن تحترق .

 ومن الصعب أيضاً أن أقف دون أن أحزن إذ يبدو مستقبله منطقياً أكثر مع فتاة لا تشبهني.  فتاة طويلة نحيلة، شقراء قصيرة الشعر. هوايتها التنس والتطوع الخيري، تملك جمعية لإنقاذ العالم ربما. والدها من أصحاب البنوك ووالدتها من زوجاتهم. فتاة تتقن اللعب من الكلاب، وتحسن الطبخ في أعياد الشكر بما يليق بعائلة محافظة لا ينقصها المال. فتاة لا تضيع في متاهات الثقافة أو عادات الشعوب أو لغة معقدة، لأن كل ما تعرفه هو أيضاً كل ما يعرفه، ومن السهولة جداً أن تلقط نكته وتفهم سخريته وتبكي وتحب أيضاً تماماً مثله.

عندما امتد جسده المنهك عليّ وأطلقتُ يداي لتجوب أرجاءه، لا أعرف حينها لماذا تذكرت أوزوريس. تحديداً عندما ذهبت أيزيس بحثاً عن جسده لتخلده في عالم الأموات. لم تكن أيزيس تطمح لإعادة روحه، بل تخليده في عالم أخر لا تصله.

"أشعر بالحر"

أما أنا فلم أكن أشعر بأي شيء على الإطلاق. لم أعرف حينها إن كنت على قيد الحياة، أم أن موتاً رحيماً أخذني. كل ما كنت عليه كان خارج حيز الوجود، خارج استيعابي وخارج قدرتي على التحمل أو التصديق والتفكير. استلقى لينام، وكأنه قد ضمن العالم، نام.  كنت أريد أن أرتشف كل تفاصيله لأتأكد أن ما يحدث ليس حلماً آخر، أن أبقي عيني مفتوحتين قدر المستطاع حتى لا تفوتني أي لحظة من هذه الحقيقة.  إلا أن خوفي من انكشاف قلبي تماماً أوقفني. سألتُ:

 "ما هذا؟"

"لا تعرفين هذه؟ إنها العنقاء"

كان وشماً على كتفه. هل يحب هذه الأسطورة لأنه معجبٌ بمن يموت ويعود إلى الحياة؟ أم لأنه يموت ويبعث من جديد؟ أم كلاهما؟ أعرف مثلاً، أن كلاهما يحدث عندما يتعلق الأمر بهذا الرجل. أعرف أيضاً، أني معجبة بالعنقاء مثله. لكنني لم أقل، لأن المكاشفة والبوح ليس من صفات ما بيننا. نحن هنا لا نتعامل بمنطق المألوف والعادي. لهذا ربما نريد أن نستمر.

أعرف أيضاً، أن اللا منطقي قد يكون منطقياً جداً في بعض الأحيان، كالحب غير المشروط  وما يتعلق به.  أعرف أني مغرمة بهذا الغريب. مغرمة تماماً هكذا وبلا سبب، وسأنتظر من جديد كمراهقة لم تعرف من الرجال شيئاً. سأنتظر كأن الحب لا يعرفني. سأنتظر هكذا بلا ضمانات، وبلا شروط أو خوف.

"نحن نعيش مرة واحدة. أظن أن أفضل شيء بإمكانكِ فعله هو أن تتبعي قلبك"

قال لي ذات مرة، عندما احترت بين الصح والخطأ. قال لي هذا قبل أن أحبه.

 

مايو – الثالث عشر – لسببٍ ما

اليمن/ أمريكا