أمسى لافتا للانتباه اتجاه العديد من المفكرين والباحثين في المغرب الى كتابة الرواية، وقد خلق هذا الوضع نقاشا نقديا تسائل عن جدوائية هذا التوجه، وعن مرجعيات هذا الاختيار. هنا نموذج لرواية، صدرت حديثا لمفكر جرب لسنوات أطاريح التفكير المعرفي، يتقصى الأكاديمي المغربي خباياها من خلال مقاربة تسمو بخطابها النقدي الى حوار مفتوح مع الخطاب المضمر للنص الروائي الأساس..

«صيـف جليدي» أو "تمرين العزيمة على البقاء

عبدالفتاح الحجمري

1 ـــ رواية من أجل مقاومة الخيبة:
تُنتِجُ كلّ رواية أحداثها من خلال العلاقة، عبرها تضبطُ أحوال الوقت ومصائر الناس. وتنبني كل علاقة روائية على لحظات يفترض أن تكون منعطفات حاسمة في التاريخ والجغرافيا بمعناهما العامّ، يلتقطها الروائي مقلّبا الحروف والمعاني فتتعدّى العلاقة مداها وتقيم الدليل على أن عوالم الحكايات تصعد من الأرض ولا تنزل من السماء. ورغم ذلك، فما ترسمه العوالم هو افتراض كلام مباح. لكن، هل نعرف حقا معنى الكلام المباح؟ نتذكّر هنا أن شهرزاد سكتت عنه ذات ليال. لماذا كانت تفعل ذلك ؟ من المهمّ أن نفهم لماذا كانت تسكت، صمتها يخصنا أيضا رغم تبدّل الدهر. وهل صحيح أن كلام الليل يمحوه النهار؟ من شهرزاد إلى علي الزهراوي (بطل رواية صيف جليدي) حيوات عريضة وحكايات طويلة رصدت مصائر الناس ورهنتها،وكانت تعلمنا كيف ينبغي أن نحيا وسط الخوف والألم والقلق، وألا نمضي العمر كله فقط في تدبير الأحزان؛ ومهما كانت الحياة قاسية،فثمة كوة ضوء في الأفق هي ما تمنح للرواية جدواها وللأدب ضرورته... وإلا لأي شيء يصلح الأدب، ولماذا نقرؤه؟ كتب سارتر في "ما هو الأدب؟" هذه العبارات: إن المرء لا يصبح كاتبا لاختياره أن يقول أشياء معينة، بل لأنه اختار أن يقولها بأسلوب معين'؛ بهذا يمتلك الأدب يقينه، ويصفُ الكينونة والاحتمالية والتقنّع والشك....

حين أقرأ اليوم الرواية، أجعل من فهم العلاقة مدخلا لمساءلة ما تعبّر عنه من أفكار ومواقف؛ عبرها تتجلى مسالك من المُثل تعيد اكتشاف علاقات الشخصيات فيما بينها وبين العالم المحيط بها. العلاقات أفكارٌ تترجم الإغراء والامتحان والمحنة والمجد والنقص والوعي الشقي والندم والفشل. ولذلك، فالقارئ مدعو دوما "للقبض" على هذه الفكرة أو تلك لأنها موحّدة وساندة لمتخيل الحكاية، الأفكار هي ما يمكّن الرواية من التقاط ممكنات الوجود والتاريخ والواقع، وتسمح للمعتقدات والمشاعر والأحاسيس بالتوالد والانبعاث؛ فالرواية لا تحلل الواقع، بل الوجود ... والروائي ليس مؤرخا ولا نبيا: إنه مكتشف وجود، هكذا تكلّم ميلان كونديرا في 'فنّ الرواية'. في كلّ مرة أقرأ فيها قصة أو رواية أتساءل: ما الذي يدفعنا حين نقرأ حكاية ما إلى الاقتناع بواقعيتها وحقيقتها، ما الذي يجعل كلام القاصّ أو الروائي مقنعا؟ يحيل هذا السؤال على معضلة صعبة التفسير والحلّ، معضلة فلسفية ووجودية: علاقة الواقع بالخيال، أو علاقة الكلمات بالأشياء. الأدب لا ينقل الواقع، ولا يمكن أن ينقله أبدا. الأدب يوهمنا أنه ينقل الواقع بهذا المعنى، لا ترتاب رواية «صيف جليدي» لعبد الإله بلقزيز الواقع، لأنها رواية تنتصر للحلم وتقاوم الخيبة بالرغم من أن مواقف شخصياتها تظهر ميلا لافتا نحو الإحباط المسكون بمرارة الفشل.
2 ــــ الانتظار، نزوعٌ هجائي من اللحظة والتجربة والمرحلة؛
نتعرّف على علي الزهراوي في رواية 'صيف جليدي' لعبد الإله بلقزيز بعدما عاش تجربة اعتقال دامت عامين ونصف قضاها في عالم من الانتظار اللانهائي؛ ولأمر ما تنفتح الرواية بالانتظار وتختتم به. هو في البداية انتظار قاسّ وفي النهاية انتظار قاتل؛ وبينهما قلق وخوف وحزن وإحباط، كأن الرواية
"تمرين العزيمة على حبّ البقاء". كيف ولماذا؟

علي، موظف في فرع حديث النشأة من فروع البنك الشعبي بالقنيطرة، ينتمي إلى عائلة متواضعة تقطن بمراكش. والده موظف بإدارة الأحباس بوزارة الأوقاف، يودّ أن يلتحق ابنه بكلية الحقوق بينما هو يرغب دراسة اللغة الفرنسية قبل أن يغير اهتمامه إلى دراسة العلوم الاقتصادية. أخته كريمة متزوجة وكوّنت عائلة من ولد وبنت، أخته سميرة ذات الثمانية عشر ربيعا رقيقة وعاطفية، وأخوه إبراهيم محام تقاسم وإياه قساوة الوالد وإن كان على العموم لم يعرف الشعور بالأخوة، فقد كان إبراهيم متفتحا اجتماعيا،بينما هو ميال إلى العزلة . لعليّ ولعٌ بالاتحاد السوفياتي ومنحاز إلى سياساته ومتعطش إلى المزيد من انتصاراته...لكنه، في الآن ذاته، كان يحترم»محافظة' والده و'تقليديته' فقد عزّاه في وفاة علال الفاسي...
سيق علي الزهراوي إلى الأسر وزجّ به في مخفر سري لشهور من دون أن يدري مصيره أحد قبل تقديمه إلى المحاكمة وإدانته، والتهمة: اعتراف تحت التعذيب بأنه ينتمي إلى حزب الاتحاد الاشتراكي والكونفيدرالية الديموقراطية للشغل، والتحريض على الإضراب والشغب،وتوزيع منشورات في الأماكن العمومية وحيازة مطبوعات ممنوعة... اعتراف حرّر الأجساد من لسعة الموت. وفي المعتقل سيعرف من رفيقيه عبد الكريم وسعيد أن حملة الاعتقالات توسعت في المدن الكبرى والصغرى، وأن المئات من الاتحاديين والكونفيدراليين وعامّة الناس سيقوا إلى مراكز الشرطة منذ اندلاع حوادث وإضرابات 20 نونبر 1981. سيحمل علي الزهراوي العبء النفسي للاعتقال السري حين أخذ من بيته فجرا على حين غرة فيما كان والده يعيش النزع الأخير من حياته. ستة أشهر من الاعتقال رفقة آخرين كانت منفى موحشا؛ ماذا يتبقىّ له الآن ؟ تأمّلُ محنته ومواجهة مصيره : مناضل اتحادي حديث العهد بالسجن وناقم على السلطة والقمع. وضعٌ ملهمٌ ومشحون بالحسرة حدّ الانهيار الداخلي المتلاحق، لمّا قرّر علي الزهراوي لحظتها في نفسه أن يقتنع أن خطاب التشاؤم أقرب إلى الواقع والواقعية من خطاب التفاؤل؛ اختيار وجودي صعب وعليّ يعرف ذلك جيدا وآثر أن ينهي فكرة الحياد سريعا ويحسم الأمر: انتصر للتشاؤم عوض التفاؤل، فخطاب التشاؤم،بالنسبة إليه، مريح وكاذب وخدّاع، وكلفته في النهاية باهظة ... ثم لماذا يذهب بعيدا في حشد الأدلة على وجاهة التشاؤم من الجوّ السياسي القائم بينما لديه ما يكفيه من أدلة ذاتية، من وضعه هو ورفاقه: ما الجرم الذي اقترفوه حتى يزج بهم في معتقل سري ويعذبون ويُعاملون أسوأ مما يُعامل الحيوانات؟ (ص33}.

على امتداد الرواية يحكي عليّ بهدوء،ببطء غير متعجل لأنه لا يودّ أن يكون مجرّد سارد أو شخصية من ورق تروي أحزانا ملفقة أو مفتعلة مجلبة للشفقة أو لتعاطف مرتجل؛ لذلك اختار التشاؤم عن قصد، كان يعرف أنه سيخرج من سجن وسيدخل إلى سجن أكبر؛ لم يكن هذا سببا كافيا لإعلان التشاؤم على رؤوس الأشهاد، ثمة سبب آخر أهمّ وأعقد: الخوف من أن يلفّ النسيان هذه التجربة،أو تظلّ فقط صدى لحنين يصلحُ لتضميد الجراح.  

سيسعى عليّ الزهراوي في السجن أن يفهم ما جرى له لتخطّي الخيبة والحظ العاثر؛ يستعيد كلّ شيء وهو على يقين من أن الحاضر قد ضاع منه، والمستقبل لا أمل منه، ولم يبق له إلا الماضي ملاذا؛يعود إلى الماضي يحنّ ويقرّ"ما أقسى الذاكرة في مثل هذه اللحظات التي يعيشها،تصبح عبئا على الحياة ثقيلا تعتسِرُ معه أية محاولة للمصالحة ولو الاضطرارية- مع الأمر الواقع {ص63}"، المصالحة عسيرة إذن.

ثم إنه بعد أن يغادر السجن سيستعيد حرية منقوصة: لن يرى والده الذي تركه حيا، لن يجد حبيبته ليلى في انتظاره، ولن يجد أخته سميرة ولا أخاه إبراهيم. أي قدر هذا الذي غير العالم من حوله بهذه السرعة بالرغم من أنه لم يحتجب عنه في المعتقل السري والسجن سوى ثلاثين شهرا، فهل تكفي هذه الفترة القصيرة كي يتبدّل الناس،وتتبدل أفكارهم وأمزجتهم وقيمهم؟ {ص195}.انصرف الأصدقاء في الحزب عن العمل النضالي وآخرون غيروا انتماءاتهم وولاءاتهم كأنهم يغيرون ملابسهم وشاهد عددا منهم ينضمّ إلى أحزاب السلطة. كان عليّ يعرف أن أخاه إبراهيم محامي ناجح ورجل طيب، بينما هو في الحقيقة التي سيعلنها له صديقه مصطفى الفاروقي يمارس أدوارا غير أخلاقية ولا تليق بالمهنة، فهو منغمس في ارتكاب خطايا ثلاث: يبيع موكّليه لخصومهم فيرتشي من وراء ذلك؛ ويدافع عن أباطرة المخدرات حين يعزف عن ذلك زملاؤه في المهنة؛ ويتورّط في رشوة بعض القضاة للحصول على الأحكام التي تناسبه في القضايا التي يترافع فيها (ص212). بينما طرأت أمور كثيرة على سلوك سميرة، وباتت مواقفها حدّية وصارمة في أحكامها على نحو يجافي شخصيتها الوديعة والسمحة والمنفتحة؛ارتدت الحجاب وبدأت تتقمص دور شخصية أخرى بعدما كانت متعاطفة معه ومع أفكاره، أضحت متمرّدة على خياراته بينما هو يخشى عليها من الانضمام إلى جماعة سلفية أو جمعية من الجمعيات السياسية الإسلامية التي تنشط على نطاق واسع في الجامعات. سنوات قاسية أضاع فيها عليّ كل شيء: حرّيته وعمله، والده، ليلى، وبراءة سميرة، وصورة إبراهيم، وثقته بالحزب والأصدقاء.  

3 ــ الإحساس الغامر المحدّد للنبرة:
المحنة العاطفية،حالة من حالات التغيّر الذي طرأ على الأشياء والناس والعلاقات؛حين كان عليّ بالسجن غيرت ليلى بوصلة حياته ووضعت حدّا لعلاقة بينهما لم يكن يتخيّل يوما أن تنتهي بعد أن اشتدّ عودها وأينعت ثمارها أو على ذلك أوشكت.فكيف هان عليها أن تطوي سنوات من علاقة حارّة. لم يكن ليتجاهل ما كانت هي عرضة له من ضغوط من قبل الأهل،خاصة بعد أن عرف أمره كمعتقل،وما كان عليها أن تتحمله من أجل حماية حبّ نهايته الرومانسية الظافرة في حكم المستحيل ( ص197)."هي حادثة سير عادية في مجرى الحياة' قال عليّ محاولا أن يعزي نفسه الكليمة ويروضها على امتصاص الألم الدفين.
حين دعته صديقته عائشة هي وزوجها عبد الله لحفل عشاء سيتعرّف عليّ على وفاء،سيشتعل الحبّ في نفسه بعدما قامت العلاقة بينهما منذ ثلاثة أشهر، بل إنه سيتعبرها المكافأة الوحيدة التي تلقاها من السماء (ص228)؛ يحبّها لكنه يخشى من حبها إن ضاعت منه فرصة وفاء فلن تتكرّر، يعرف ذلك ولن يجحده.

يا للمفارقة: في الوقت الذي يحيا عليّ مع وفاء تجربة عاطفية بطنجة،وكان عليه أن يكون سعيدا سيتعكّر مزاجه بسبب استفحال الخلاف بين عائشة وعبد الله حدّ الشروع في إجراءات الطلاق؛ وتمادي سميرة في فرض إرادتها على الأسرة ورفع التحدّي في وجهه.

عليّ الآن في لحظة حرجة من حياته: يبحث من دون جدوى عن سلام مفقود، عن لحظة توازن نفسي... لا يستطيع التفكير ولا يرغب في التذكر ولا يطلب النسيان (ص267). ها هو الحبّ يزوره مرة أخرى: حارا وعنيفا وجنونيا ويستطيع أن يعيد النظر في كلّ شيء... حتى في انتسابه إلى الاتحاد الاشتراكي، (ص 296)، لكنه لا يملك أن يعيد النظر في يقينه بأن الحبّ وحده اليوم الحقيقة المطلقة، ووحده الذي يحتاجه الإنسان لتحقيق التوازن النفسي. ثم إنه بعد مناقشة أطروحته سيسوق له الحظ فرصة الحصول على منصب في الجامعة كأستاذ مساعد للاقتصاد في كلية الحقوق بمراكش؛ ويتخفف من أعباء العمل الحزبي بقرار منه بعد أن بدأ يتسرب إليه الشكّ في جدواه ، ثم خشية أن يأخذ منه وقتا لم يعد مستعدا لأن يهبه لمؤسسة توشك أن تفقد في نفسه بريقها {ص305}.

في فصل مدهش بالرغبة والتردّد العاطفي تحكي عائشة عن علاقتها بعليّ أيام الحيّ الجامعي: كانت هناك ليلى وجميلة ونجوى والأخريات؛شيّد عليّ مع ليلى علاقة متحررة بوئام وتفاهم، في الآن ذاته سيبدي عبد الله اهتماما بعائشة؛ لم تكن تتخيّل يوما أن عليّ الذي جمعها بعبد الله في بيته بصداقة تحوّلت إلى زواج،سيصبح سببا في نزاع مستمرّ بينها وبين زوجها ينتهي إلى الانفصال وإلى الطلاق.فقد كان عبد الله يغار من صديقه لأتفه الأسباب. لقد أدركت عائشة متأخرة أنها كانت تحبّ عليّ بعدما دفعتها شكوك عبد الله إلى التدقيق في نوع مشاعرها وعواطفها نحوه. المسافة التي تبعدها عن عبد الله كانت تقربها من عليّ؛ وكان هذا يقينها الذي يحقق لها التوازن في حياتها ويشعرها بحبّها لعليّ.  

آخر لقاء جمعهما كان قبل عامين ونصف حين أصبح عليّ أستاذا بكلية الحقوق، كان هو ووفاء في توديعها بالمطار لما قررت الذهاب لفرنسا لمتابعة دراستها الجامعية في العلوم الاقتصادية؛ لقد ظلّ الاتصال بينهما قائما حتى علمت عائشة من وفاء عبر الهاتف بتبدّل مزاج عليّ الذي أضحى متعكّرا بإعلانه جهرا عدم إيمانه بالزواج. كان هذا سببا لإنهاء العلاقة بينهما. ستسافر وفاء إلى بلجيكا لتحضير أطروحتها،وسيعيش عليّ مرة أخرى بعد فراقهما في دوامة من المشاعر المتناقضة والتيه القاسي. بخاطر مكسور ووجدان حزين ، وبهشاشة داخلية بادية في الشعور والكلام ، بحيرة شديدة تنتهي العلاقة بين عليّ ووفاء ... لكن الشعور بحزن الفراق يبقى دليلا على حب كامن في الأعماق.

قضى عليّ مع ليلى سبع سنوات ويزيد حتى فرّقت بينهما محنة الاعتقال. وقضى مع وفاء أربع سنوات ونصف حتى هاجرت إلى بلجيكا. لماذا لم يأخذه الحبّ إلى نهايته مع إحداهما، أي إلى الزواج؟ لعليّ جواب اجتماعي( طبقي)على هذا السؤال، حين يعترف: "لا أحد منا نحن الثلاثة، ليلى ووفاء وأنا، مسؤول عن هذه القسمة الطبقية التي قضت بأن تربطني بامرأتين من بيئة مترفة أنا ابن أسرة الحاج الزهراوي المتواضعة..لم أكن منصفا في حقّ الاثنتين حينما أردتهما أن يجارياني في نظرة إلى الحبّ ليست عامة ولا مألوفة،ودفعت ثمن ذلك إذ أضعتهما معا(ص 349-350)". هكذا، يعترف عليّ أنه أجحف في حقّ ليلى ووفاء وفي حقه كذلك... لتغدو العلاقة لديه مطلق غياب، ورجع حنين، ويبقى هو معلّقا كما خيوط العنكبوت في دار مهجورة. يقطع عليّ علاقته بليلى ووفاء، ويقطع في الآن ذاته علاقته بالحزب ويتوقف عن نشاطاته واجتماعاته؛ أصبحت العلاقة دالة على زمن آفل مثقل بالمرارة. لم يكن قطع العلاقة لهوا أو تزجية لوقت، كما أنها ليست شعورا خفيا أو انطواء...هي في الرواية لحظة مليئة بالأحلام والأخطاء والأخطار.  

ما الذي يجمع إذن بين الانكسار في الحبّ الذي رافق عليّ في علاقته بليلى ووفاء وتشييع القائد عبد الرحيم إلى مثواه الأخير؟ ألأن توديع الفقيد هو توديع لمرحلة من التاريخ الشخصي والجماعي؟ ورغم ذلك لا يبدو عليّ يائسا من التاريخ وإرادة الناس. نعم كان يحلم بالتغيير لكنه خسر الرهان. لا يبدو عليّ يائسا لكنه قلق ولا يملك الاطمئنان النفسي ورسوخ اليقين. أقرب المقربين يغيّرون المبادئ والمواقع: عبد الوهاب الذي تعرف عليه في شبيبة "حزب التقدم والاشتراكية" جادله ذات يوم في قرار مغادرة علي الحزب والالتحاق بالاتحاد الاشتراكي واعتبره خيانة؛ لكن عبد الوهاب الذي انضمّ لمنظمة 23 مارس أيضا سيجده عليّ بعد خروجه من السجن مؤمنا بفكرة الديموقراطية كما عهده، لكن هذه المرة مناضلا بحماسة وليبراليا بعدما ترك المنظمة ووجد ضالته في فكرة المجتمع المدني والاقتصاد الحرّ (ص354}.. بوقارٍ واقتناع صارم وصادم يسير عليّ وسط الحشود وراء نعش الفقيد ... أنهم يشيعون أنفسهم إلى دار البقاء، يشيعون يقينيات ذوت ووهن عظمها {ص354}.  

4 ـــ مرثية أم رواية سريرة؟
هل يحق لنا أن نقرأ رواية "صيف جليدي" لعبد الإله بلقزيز بوصفها مرثية؟ تحكي الرواية كما بينت سلفا سيرا متعانقة ومتقاطعة عن مصائر قاسية وعنيفة أحيانا. لذلك فإن حدّة الإحساس بالمصير تجعل خطاب الشخصية موغلا في الذاتية وهي تعبّر عن خاطر منكسر ووجدان حزين. عليّ بطل إشكالي لأن اقترابه من السعادة يكون دوما محفوفا بالألم والندم؛ وهذا حال باقي الشخصيات الروائية التي ينهشها التيه في العلاقة والموقف. رواية مرثية لأن بناءها المقفل ودائريتها تقود إلى الاجترار واليأس وإعلان الفشل وخيبة الأمل في الحبّ كما في السياسة. رواية سريرة،إذن، تسترجع مسار حياة عليّ من خلال ماض مثقل بالجراح وحاضر مقيد بالتردّد ومستقبل لا يعد بأي أمل. ورغم ذلك،لا يريد عليّ في الرواية أن ينتهي به المصير إلى الخيبة والإخفاق السياسي الذي يقود إلى سديمية معتمة، والإخفاق في الحبّ الذي يقود إلى كينونة ضائعة ومهزوزة. يبدو عليّ على امتداد الرواية كما لو أنه يفلسف قدره، والحال أنه يريد أن يستخلص الكلية من التفاصيل من أجل ترميم حياته وتجاوز محنته.

رواية "صيف جليدي" لعبد الإله بلقزيز جواب على سؤالين: هل يمكن استعادة حبّ أضعناه؟ ولماذا القيم في السياسة يكتنفها شعور باللاجدوى ؟ الحكاية حكايتان: واحدة عن الحبّ فيها قليل من الفرح ولحظات متلاحقة من الشجن؛ وواحدة عن السياسة من أجل وطن يفتقد إلى السكينة ولا زالت أوقاته داكنة.
في الرواية اختارت عائشة وليلى الرحيل والهجرة؛ اختار إبراهيم أقرب السبل وأتفهها للوصول إلى المال والجاه؛ اختار صديقه عبد الوهاب "قلب المعطف" والأفكار كذلك؛ اختارت سميرة معانقة أفكار الجماعة الإسلامية؛ واختار عليّ الانتظار: انتظار يحمل في الرواية شيئا من الحيرة والضيم، لأن علي أخذ الحياة كما أتت إليه، لا كما أرادها بالضرورة.

هو الآن في لحظة من حياته يحسّ بالضجر، ولم يجد لمقاومته إلا وصفة ناجعة اسمها الانتظار. من الأفضل له أن ينتظر. هل سيطول الانتظار؟ ربما نعم ، ربما..

"صيف جليدي" رواية مكتوبة بنبض القلب... وعلينا أن نقرأها كذلك بنبض القلب.

 
ناقد وأكاديمي من المغرب