يواصل مصطفى ذكرى في هذا النص الذي يستعصي على التصنيف السهل أرتياد آفاق جديدة في كتابة النص الواعي بنصيته، وطرح آليات عملية الكتابة باعتبارها موضوعا للتناول والاستقصاء.

يوميات

مصطفى ذكري

قرأتُ لدى كافكا بأن طفلاً يريد بلوغ شيء على منضدة أطول من قامته، لن تكفيه مُحَاوَلة واحدة مستحيلة، بل سيقوم بتكرارها عشر مرات، عشرين مرة، وبعِنَادٍ لا يلين. كانت مُحَاوَلتي مع قضاء كل يومٍ جديد كمُحَاوَلة الطفل مع لعبته، والفرق أن حالتي لا توجد بها منضدة، وإن وُجِدَتْ، فإنّ ما عليها ليس مجرد لعبة، بل هو شرط حياة، وتحقيق ذات، وبينما يكون الطفل بريئاً من ذكرى الإخفاق، أكون أنا مُثقلاً بعدد المُحَاوَلات، واستحالة البلوغ. أبدأ يومي في الثامنة صباحاً، وبنظرة عابرة، عابرة لكن لا يُمكن تحاشيها كما يقول بروست، على أفقه الممتد حتى الثانية عشرة ليلاً، أحصل على الرضى الذي تحصل عليه ربة بيت تعرف أن مطبخها مُزوَّد بخزين شهر كامل، من أرز وزيت ودقيق، إلى آخر القائمة، وأن هذا الخزين رهن لاقتصادها، ورهن أيضاً لإسرافها. ما زلتُ في السرير. أفكِّرُ في بيضتين نصف ناضجتين، وشريحة بسطرمة، وقطعة جبن برائحة الأقدام، وحبَّات زيتون أخضر، وعصير برتقال، وقهوة تركي. إذ يتوقف أحياناً الصمود الوجودي بأسمى معانيه على إفطار جيد. آه.. البرتقال؟ أيوه. اشتريتُ منذ يومين أربع كيلوَّات من البرتقال البلدي تكفي أسبوعاً على الأقل، ثلاث برتقالات كل يوم، لا أحب الكوب مليئاً للحافة، وكذلك القهوة والشاي. قال البائع: برتقال بدمُّه يا بيه. مملكة الحيوان في قلب مملكة النبات، اعتداء الدماء، وإن كان على سبيل المجاز، إلا أنه حامل لروح همجيَّة، همجيَّة الحيوان أم النبات؟ مَنْ يدري، لعل مملكة النبات كفرتْ بطهارتها، ولونها الأصفر السخيف، فاقتربتْ درجة من اللون الروماني البهيج، وشمَّاعة دارون قادرة في كام مليون سنة قادمة على جعل البرتقال كائناً أصيلاً في مملكة الحيوان. خطأ واحد في التفسير، لا يخضع التطور لترف التحولات الجمالية، يحركه فقط قانون البقاء والفناء، طريق مسدود، خطوة للوراء.

2

كان اختباراً للذاكرة، وكنتُ مُرغماً عليه، خائفاً من ضياع أحداث ووجوه وأسماءٍ كانت قبل عشرين أو ثلاثين سنة. أتراجعُ في الذاكرة، لأرى وجهاً لم يعن لي شيئاً، إلا أنه مادة صعبة للاختبار. أقول في نفسي: إذا تذكَّرتَ وجهاً كنتَ تراه مدة عشر سنوات منذ عشرين سنة، وبانتظامٍ يفرضه عليكَ مكان العمل، فأنتَ قادر على تذكُّر وجه كان يعني لكَ الكثير. تطول ساعات الاختبار. وبعد دفْعَة التحكُّم الأولى، تكتسبُ الذاكرة دفْعَاً ذاتياً لا سُلطَةَ لي عليه. تتجول الذاكرة بين الأحداث والوجوه والأسماء فارضةً على التافه والهام الدهشةَ نفسها. لكأنَّ الذاكرة تتعرفُ لأول مرة على الزمن. ومن زاوية الرؤية السلبية الممنوحة لي، تزداد الدهشةُ كلما بَعُدَ الزمن عن الحدث أو الوجه أو الاسم، وكلما كان الوجه عابراً.

3

قرأ صديق مهنة قصةً نُشرتْ لي في إحدى المجلات الأدبية. كانت عادة الصديق هي تصدير حديثه بمقدمة قبل إعلان رأيه الفنيّ. كانت المقدمة في الغالب ساخرة، تهكمية، تنفي في البداية كل قيمة فنية، وذلك عبر صور كاريكاتورية تصلح للنيل من الكاتب والكتابة معاً. وفجأة يستعيد الصديق في رأيه القيمة الفنية كاملةً بعد يأس المستمع في وجودها. كنتُ مجبراً على الانتظار، وطالما أن المقدمة في ثوب الكوميديا، فقد يأخذ عليّ الصديق نفاد صبري، واهتزاز ثقتي فيما أكتبُ، وكبت المرح، ونحن في حاجة إليه. وفات الصديق أن الثغرة تأتيه من حيث لا يعلم، وهي زمن المقدمة، وهو زمن طويل يفتقد للإيقاع، فتتحول الكوميديا على يديه إلى شيء ثقيل. وفات الصديق أيضاً أن مجموعة من أصدقاء المهنة لا حديث لهم سوى المقدمات والآراء، وهم أكثر شراسة مني في التعريض بالمقدمات والآراء. الحقيقة أن فصول الكوميديا كانت تجري في مكان آخر. كنتُ شاهد عيان على تقطيع لحم الصديق، وتمزيق مقدمته لا سيما عندما تُقرن برأيه، وتتم المضاهاة الوحشيَّة بين مضمون الرأي ومضمون المقدمة، مع إبراز الاختلافات الشكلية في نبرة الصوت، وحركة الرأس، وزمن الرأي القصير كثيراً عن زمن المقدمة. ورغم أنني أول مَنْ نبَّه الأصدقاء إلى المقدمات والآراء، وأول مَنْ أقام مائدة الضِبَاع على شرف جثته، إلا أنني كنتُ حريصاً على بقاء فصول الكوميديا المضادة، ولهذا كنتُ بين وقت وآخر أستقطرُ من ركام المقدمات والآراء التي أطلقها الصديق بسعادة على مدى سنوات، ما يكبح غضب الأصدقاء، ويضمن لي عدم مواجهته، وشيئاً فشيئاً، وتحت ضغط اللعبة، وبأثر القصور الذاتي للدَفْعَة الأولى، أمعنتُ النظر في أعمال الصديق الأدبية، ونسيتُ أهداف البحث والتنقيب، فإذا بي أمام أعمال متماسكة، قوية، تحمل جِدَّة وطرافة. أصابني ارتباكٌ، فأعدتُ مرات ومرات القراءة والتمحيص في القصص والروايات، بل في كل ما نطق به الصديق من كلمات، فكان معمار الذوق ينكشفُ لي من وراء الضباب الحاجب للرؤية. أدركتُ لماذا كان الصديق عندما يتحدث عن بروست أو كافكا أو جويس، كان لا يبدأ بمقدمات، بل يدخل في صميم ما أراد الحديث عنه، وهو أسلوب بروست وكافكا وجويس، وكان حديثه لا ينتهي. ألأن بروست وكافكا وجويس نجوم تلمع في السماء؟ كتَّاب خارج المُنافَسَة؟ وهو بحديثه عنهم، إنما يتحدث عن شيء مثالي في المهنة، لكنه في حديثه مع أصدقاء مهنة، عن أعمال لم تبرد دماؤها بعد، فهناك مُنافَسَة وغيرة وصراع. أليست المُنافَسَة والغيرة والصراع وكبت الآراء والهروب في المقدمات نواقص أخلاقية تُؤخذ على الصديق؟ إذا كانت الأخلاق شيئاً يُعتد به في مهنة؟ وفي النهاية لم يبق بذاكرتي سوى مقدماته الطويلة على أعمالي، وما تحمله تلك المقدمات من لياقة ومُجَامَلة. وكانت آراؤه على أعمالي، التي لا تتعدَّى عبارات قليلة، قيد النسيان. أذكرُ مرة لم يكن الصديق فيها تحت ضغط لياقة أو مُجَامَلة، فإذا به يقول حالماً: المقدمة هي الأسلوب الذي يأتي به الكاتب إلى العالم، إنها فرديته العميقة، وما يأتي بعدها فلا شيء، مجرد أوهام موضوعية. إن حديثه عن بروست وكافكا وجويس لم يكن سوى مقدمات، والله وحده يعلم هل وُجِدتْ حقاً آراء الصديق أم لا.