هذه قصة جديدة للقاص العراقي يكشف فيها عن آليات استقطار الحياة من بين براثن الموت والقهر الذي يتفشى في الواقع العراقي، ويبهظ كاهل الإنسان فيه.

الباب الشرقي

لؤي حمزة عباس

 

 مات صديقه، قبل حوالي الشهر، إتصل بلا تخطيط ببغداد ووجد نفسه ينشج حال سماعه الخبر، سافر بالقطار ليعيش يومين رماديين قضاهما بين باب المعظم وفندق ليالي طيبة في الميدان، إتكأ على الوسادة ومدّد ساقيه على اسفنج السرير في محاولة لنسيان ألم عظامه، أغمض عينيه تحت شعوره أن ظلاً يقاسمه الغرفة ثم فتحهما ملتفتاً إلى النافذة حيث كانت الستارة نصفَ مسحوبةٍ، وأخذ ينظر، ليلته، إلى المبنى الخالي لوزارة الدفاع ويرى الشارع في الضوء الأصفر الخفيف وقد بلله مطرُ ليل كانون، كان يتصوّر صديقه يسير في شوارع بغداد بمعطفه الطويل كحلي الصوف، إنتظر أن تقوده خطواته تحت نافذة الغرفة، ربما توقف قليلاً ليرفع رأسه وينظر إليه قبل أن يواصل سيره تحت المطر.

أغلق حنفية الماء وهو يحلق ذقنه صباحاً ليُنصت إلى منظفة الفندق تتحدث بصوت عالٍ كأنما تُعلن عن نفسها، فتح الحنفية وأكمل حلاقته، كان يفكر، خلال ذلك، بالوحشة التي يخلّفها غياب صديق، يتحسس ظلالها على ما حوله وينظرالى وجهه، من دون أن يراه، وقد غيّبه البخار من مرآة الحمّام.

مضى مع حيدر إلى الباب الشرقي، كان حيدر قد أنهى معاملة السفر وتسلّم الجواز، وتحت فكرة أن ليس هنالك طقس شديد البرودة أو الحرارة بل هنالك ثياب مناسبة وأخرى غير مناسبة، ذهبا للبحث بين الألبسة الأجنبية المستعملة عن معطف يواجه به بردَ عمّان الذي لم يكن بالنسبة لهما واقعاً، كان خبراً منقولاً عن تجارب آخرين من دون أن تغيب عن أعماقهما أطيافُ عراقيين قضوا، هناك، متجمدين. تحدثا، وتفحصا، خلال الجولة كأنما ليتناسيا وجه صديقهما وقد استحال قناعاً معروضاً بين أكوام البضاعة على الأرصفة، أو معلّقاً يتارجح بين الثياب، يواصل النظر في حركته، بعينين مجوفتين، نحوهما. توغلا بين الأجساد المتزاحمة فازدادت دهشته لكل هذه الأشياء: معاطف، وقبعات، دمى وقمصان، ألبسة داخلية منشورة وجوارب مكوّرة، شراشف، وجوه وسائد، ستائر، مناديل، دكاكين عميقة شبه معتمة، وعربات خشب وبسطات تغصُّ بكل ما هو مستعمل وملبوس.

اشترى ربطتي عنق، مستعملتين أيضاً، بسعر زهيد، واحدة رصاصية ذات خطوط رشيقة حنيّة، خضراء، وأخرى زرقاء بمربعات حمر فارغة ومفتوحة، إختارهما من بين أكوام وقت غداء الباعة، قال لحيدر إنهما يناسبان بمزيج ألوانهما بدلاته الحكومية جميعها، وكانت صحون الطعام قد أُخذت تترك خاليةً أمام الدكاكين، في عودته إلى البصرة كان يرتدي الربطة الأولى على الجاكيت الرصاصي والبنطلون الأسود، البدلة التي تمنحه شعوراً رياضياً نادراً يُخفي تحته ألم عظام ساقيه ومذاق كبسولات الببلكس وهو يتصاعد مرّاً إلى بلعومه كلما تجشأ ويملأ فمه بريح نتنة، انتبهت زوجته للربطة فحدّثها عن جولته في الباب الشرقي، وكان قناع صديقه يواصل تأرجحه في عتمة الدكاكين، فتحت فمها مستغربة وهي تسأل: ملابس داخلية أيضاً؟ فقال: كل شيء، حتى خفت أن أنظر إلى البالات العظيمة المركونة، كنت أخشى أن تمتد منها يدٌ عليلةٌ أو ساق فأتشاغل بالنظر إلى حيدر يخلع معطفاً ويرتدي آخر، ينظر إلى صورته في مرايا الدكاكين ثم يستدير ليسألني كيف يبدو، أرى السن الجديدة في مقدمة فكّه العلوي وأسأله متى سيركّب الثانية، يضحك وهو يقول أسألك عن المعطف فتسألني عن السن، عندها قلت: ربما وجدنا إذا أطلنا البحث، عقداً من أسنان طبيعية، أو فكّاً صناعياً مستعملاً. أخذ ينظر إلى المرآة، بجد هذه المرّة، فتح فمه ومسَّ بطرف لسانه السن ثم أغلق فمه وخلع المعطف، اقتربت منه ورأيتني داخل المرآة أعتذر بصوت واطيء، قلت إنني مندهش فحسب لكل هذه الأشياء، وربما أذهلتني رائحة الثياب قليلاً، قال لاتهتم، يبدو أن الرائحة لعبت بعقلي كذلك.