هذه قصة قد تكون القصة الأولى لكاتبها الشاب الذي لايزال طالبا في الجامعة الفرنسية بالقاهرة، بعث بها أستاذه للأدب في زمن ندر أن يهتم فيه الأستاذ باكتشاف مواهب طلابه، وخاصة في مصر المكلومة.

شرخ

أحمد حسن أبوطالب

 

{ورد خبر في جريدة المصري اليوم عن شرخ – في سقف محطة مترو التحرير- تتدفق منه المياه. و قد طمأن رئيس  المحطة الجموع القلقة التي طلبت إفادته مؤكدا أن المياه نظيفة و ليست مياه مجاري. و في هذا الشأن علق لافتة تقول: المياه نظيفة.}

سباعي ولد ذكي. وهو أخر العنقود في أبناء أسرته. و لكنه بالنسبة لوالديه الابن الوحيد. سباعي خفيف الظل وابن نكتة غير انه حين يكون مكتئبا يصبح ناقدا لاذعا. ينتمي سباعي لأسرة متوسطة الحال و هو يدرس بالثانوية العامة. رغم كونه الابن الوحيد، فانه تربي في ظل نظام القبضة الحديدية. فالوالدين دائما ما نظرا للتدليل علي انه يعزل الأبناء في برج عاجي يبعدهم عن كل ما يدور حولهم.

بعد يوم دراسي طويل وممل، استقل سباعي المترو عائدا إلى المنزل. و عند خروجه من محطة مترو التحرير فوجئ سباعي بلافتة تجاور شلال مياه يتدفق من شرخ في السقف. فاقترب ليقرأ اللافتة فوجد عليها: المياه نظيفة. انفقعت مرارته بعدما صعقته الكلمات. و ما زاد الطين بلة أن الناس تعبر بلا توقف أو اهتمام دافنين رؤوسهم في الرمال كالنعام.  فكلا من المسئول و الرعايا نائمان في العسل. خرج سباعي من المحطة ولكن المشهد لم يخرج من ذهنه. تسائل سباعي إن كان شرخ كبير بهذا الحجم موجودا في محطة أرضية فما حال الأنفاق العابرة تحت النيل التي تحيطها المياه من كل جانب؟ إن كانت بها شروخ فهل هي كبيرة؟ ما الذي قد يحدث إن غمرت المياه إحداها؟

ظلت هذه التساؤلات تدور في رأسه و هو في طريقه إلى المنزل. وصل سباعي إلى منزله، بدل ملابسه و فتح التلفاز. كانت القنوات الإخبارية هي الأكثر متابعة في هذا البيت. و لذا فقد تعود منذ صغره علي سماع النشرات و مشاهدة البرامج الحوارية ـ و لا سيما السياسية منها ـ و كذلك مشاهدة الأفلام الوثائقية. و بعد ساعة من مشاهدة برنامج حارق للأعصاب جاء وقت النشرة. فظهر مذيع بطلعة بهية و دم بارد و بدون لف أو دوران متحدثا عن كل حمامات الدم في كل بقاع الأرض، مبينا كيف أن العالم كله علي صفيح ساخن. فما قاله في خمس دقائق كان كفيلا بتبخير أحلام أي شاب يافع يأمل أن يعيش في عالم يتخذ غصن الزيتون شعارا له.  لكن في وسط هذه الأحداث جاء خبر عاجل يمس مصر. فقد انهارت إحدى محطات مترو القاهرة بعدما غمرتها مياه النيل اثر انهيار أحد الأنفاق العابرة في وسط النيل. "ما هذا الكلام الفارغ؟" كان هذا ما جال في ذهن سباعي للوهلة  الأولى. و لكن قفز إلى ذهنه ما رآه منذ اقل من ساعة. "اللعنة، لقد رأيت اللافتة بأم عيني". ما انفك سباعي يتخيل ما قد يحدث حتي اهتزت الأرض و بدا المبني يميل يمينا و يسارا كسفينة في عرض البحر. توقفت الهزة و لكن قلب سباعي لم يتوقف عن الدق بسرعة. "ما حال أبي و أمي؟ ما حال جدتي و كل أسرتي؟ ما حال مدرستي؟"  لقد أصبح لكل شئ قيمة الآن. هذا هو الحال في الأزمات. اهتزت الأرض مرة أخري. يا له من رعب يعيشه ذلك المسكين الذي توقف ذهنه عن العمل. انهمرت الأخبار بجنون و لكن واحدا منها كان هو المأساة بعينها. إن المياه التي غمرت المحطة تسربت بالطبع إلى جميع المحطات عبر الأنفاق و أثقلتها مما يهدد بتدمير الطبقات الضعيفة من الأرض. و علي هذا الأساس فكل المباني المحيطة بمحطات المترو هي الآن آيلة للسقوط. لم يكن بيت سباعي قريبا من مترو و لكن كم من بيت آخر يقع  قرب مترو؟ و للمرة الثالثة اهتزت الأرض  و لكن هذه المرة بعنف ملحوظ. لقد حدثت الكارثة.

سباعي قابع كالكتكوت المذعور يشاهد الأخبار و ينتظر مصيره. لقد بدأت المباني في الانهيار ووصلت بعض الشقوق إلي مئات الأمتار عمقا و عرضا. انخفض مستوي ارض القاهرة و اندكت المباني دكا ... عرضت القنوات صورا بالطائرات والأقمار الصناعية للقاهرة التي أصبحت جزراً متفرقة من المباني تحيطها الشقوق العميقة المليئة بالركام و الماء. تبعد كل جزيرة عن الأخرى مئات الأمتار ... أعمال الإغاثة لا تغطي مدينة الثماني عشر مليون نسمة و الألف مئذنة. و ها هو سباعي في جزيرته يفكر: يا الهي؛ لقد قُهرت القاهرة ... بيد النيل. إنها لكوميديا أن يقهر النيل هبته، في مسرحية يشارك فيها ثمانية عشر مليون مواطن، لا يعرفون مصير مدينتهم "المحروسة" و حكومتهم "الرشيدة"، أو حتي مصيرهم هم المواطنين "الصالحين". و لكنها ليست كوميديا مألوفة. إنها كوميديا سوداء.