يعد كتاب (ذكريات القدس) لسيرين الحسيني شهيد أحد أهم نصوص استنقاذ الذاكرة الفلسطينية من الطمس والضياع وطرح التاريخ الفلسطيني الحي في مواجهة أساطير الصهيونية وأكاذيبها العرجاء.

كاتبة تقرأ آثار الأقدام

ماجدة الجندي

هذا هو كتابها الاول .. وربما يكون الاخير .. ومع ذلك فقد رأي فيه ادوار سعيد قبيل رحيله عملا أدبيا فريدا، والاهم وثيقة تاريخية تسد فراغا حقيقيا وتخرج عما تعودته الوثائق التاريخية العربية. كتاب السيدة الفلسطينية سيرين الحسيني شهيد المولودة في القدس عام 1920 والذي يحمل عنوان 'ذكريات من القدس' أصدرته دار Fayard الفرنسية ونفدت طبعته الاولي تقريبا. قبل الدخول الي متن الكتاب لابد أن يعرف القاريء حكاية بسيطة ترد ربما علي سؤال بسيط: ما الذي يدفع امرأة جاوزت الثمانين الي الغوص في أعماق الذاكرة لتستخرج من كنزها الدفين مقاطع وأسماء وحكايات ومواقف وصورا جاهدت وقاومت بهتانها؟ السيدة سيرين التي عرفت المنافي حتي قبل أن تبلغ العشرين، عاشت في بيروت سنوات طويلة، وفي داخلها الشعور بان يوما 'سوف يأتي وتنتهي معه حياة الترحال المؤقت'. ومع اندلاع الحرب اللبنانية اضطرت للسفر الي لندن. هناك سألوها عن اسمها وتاريخ ميلادها. ومكان الميلاد. هنا ردت: ولدت في القدس ... بفلسطين. صحح لها الموظف وفق ما يعرف: القدس باسرائيل. وثار نقاش وجدل حاولت السيدة الفلسطينية ان تستند فيه الي المنطق أو حتي التاريخ: هل كانت هناك دولة اسمها اسرائيل فوق الخرائط عام 1920 لما ولدت بالقدس؟ لا التاريخ كان مجديا، ولا المنطق أفاد في حسم النقاش الذي كاد يتحول الي اشتباك في كل مرة كان أحدهم يسأل السيدة سيرين: أين ولدت؟ كم استغرقها التفكير في البحث لتهتدي لفكرة ان تثبت حقها في كونها ولدت بدولة فلسطين وأن أباها وجدودها امتلكوا مع الفلسطينيين هذه الارض؟ سنوات وسنوات والفكرة تعيش في داخلها حتي اهتدت الي فكرة تقديم كتاب عن طفولتها وشبابها والارض التي ولدت فوقها، والبيت الذي عاشت فيه في القدس بفلسطين. ألعابها والاغاني والمدارس، الأعمام والأخوال. الجبال والوديان وأزهار الحديقة. مذاقات العيش بالزعتر ومآذن الأقصي التي كانت تطل علي فناء مدرستها.


نقل الذكريات
بدأت السيدة سيرين في تدوين أسطرها باللغة الانجليزية، وبتلقائية لا تسعي الي الصراخ. لم يكن النشر ضمن ما تفكر فيه كانت تحس بذكريات ضاغطة، لكن من بين ثنايا الذكريات كانت تكمن 'براهين' فلسطينية القدس، لم يكن اجترارها لسنوات الطفولة والشباب مجرد متعة الاستعادة والعيش مرة أخري في زمان صاف. لكن المهم انه بين صور سنوات عمرها الأولي كانت الادلة: أدلة أن فوق أرض القدس عاش الفلسطينيون في دولة فلسطينية. لكن كيف انتقلت تلك الاوراق الشديدة الحميمية الي دار نشر انجليزية تم ترجمة فرنسية؟ هنا تكون الفرصة لأن يعرف القاريء أو أن نعرف القاريء أكثر بصاحبة كتاب: ذكريات من القدس. السيدة سيرين الحسيني شهيد، زوجة الدكتور طبيب منيب شهيد، والدة السفيرة ليلي شهيد سفيرة فلسطين في بروكسيل.

تقول ليلي .. عندما قرأت ما كتبته أمي فوجئت. وشعرت أن بين يدي وثيقة لكل الاجيال التي لم تشهد تلك السنوات. عرضت الاوراق علي ادوار سعيد، وكان رد فعله هو الاتصال مباشرة بأمي ومحاولة اقناعها بأن تزيد فيما كتبت وبضرورة نشره. كان لتشجيع ادوار سعيد أثره العميق في روح السيدة سيرين، راحت تستعيد عافية ذهنها وتقدم هذا العمل الذي تقول في مقدمته انني اكتب هذه الاوراق عن طفولتي لكل الاجيال التي تجهل كيف كانت الحياة في فلسطين، فمن المهم أن نحافظ علي ذاكرة أيامنا لأجل شحن أيامنا بالامل في المستقبل. اختار ادوار سعيد قبيل رحيله ان يكتب مقدمة لما رآه فريدا 'وغنيا' في توثيقه، فالسيدة سيرين التي ولدت عام 1920 بالقدس الفلسطينية تقدم صورة حية للحياة الفلسطينية تحت الانتداب البريطاني، وترسم ملامح للمجتمع قبل أن يدكه الصهاينة عام 1948 صحيح ان السيدة سيرين لم تكن كاتبة محترفة، ولا كانت يوما صاحبة صوت عال، لكنها وهي التي درست في الجامعة الامريكية في بيروت، استطاعت عبر بساطة ودفء وصدق ما كتبت أن تنتشل جزءا من الذاكرة الفلسطينية نحن في أمس الحاجة اليه.

انتسبت السيدة سيرين الحسيني الي عائلة تعد من صفوة المجتمع الفلسطيني. فجدها كان فادي العلمي عمدة القدس. ومن ناحية أبيها نشير للعم. الحاج أمين الحسيني،­ مفتي الديار الفلسطينية. إضافة الي خالها موسي العلمي، وهو رجل لمع اسمه وتلقي تعليمه في تلك الفترة المبكرة في جامعة كمبردج. تفتح وعي السيدة سيرين صاحبة الكتاب في مثل هذا المناخ المفعم بالثقافة. وأيضا بكثير من الوعي الوطني، حين كانت فلسطين ترزح تحت نيران الاحتلال البريطاني. وذاكرتها علي طول صفحات الكتاب كانت أشبه بالذاكرة المصورة القادرة علي النفاذ الي ثنايا الصورة اضافة الي قدرة علي الالمام بتفاصيل المكان وأصواته ودوائمه. وتلك خاصية توقف عندها الاستاذ الدكتور ادوار سعيد في تقديمه للكتاب واعتبرها نوعا من 'الحساسية' أو ملكة مكنت التعبير من الولوج الي مساحات المشاعر الانسانية فيما يتجاوز السطح. بل انه قد اعتبر ما كتبته السيدة سيرين تيارا لابد من زيادته وتشجيعه، لانه يقدم ذاكرة الأم والزوجة والابنة الفلسطينية في حقبة لم نسمع عنها أو منها الكثير، في تلك الفترة المتلاطمة من بدايات القرن العشرين التي عكست ارهاصات تقلقل الوضع الفلسطيني حتي قبل 1948.

قبل التعرض لتفاصيل ذلك التوثيق الانساني لابد من اشارة 'لملمح' الارادة في تكوين صاحبة الكتاب التي برغم صعوبة الظروف في ثلاثينات القرن  ـ من مطاردة والدها المقاوم للاحتلال البريطاني واضطرار الاسرة الي الارتحال خارج الاراضي الفلسطينية الي بيروت ثم الي بغداد ـ الا أن سيرين الحسيني قد استطاعت أن تستثمر أقل المتاح من الموارد والمنح لتكمل دراستها الجامعية بالجامعة الامريكية ببيروت. وهذا ما يري فيه ادوار سعيد جزءا من الندرة علي مستوي المرأة العربية في فترة ما بين الحربين، بل ويضيف انه يشكل مؤشرا علي الطاقة غير العادية للمرأة الفلسطينية التي سوف تبرز بعد ذلك الفترة بعقود طويلة ابان الانتفاضة والمقاومة والصمود الفلسطيني. علي مستوي تلك الشهادة التي نحتتها سيرين الحسيني شهيد سوف تنجلي تلك الارادة الذكية الراغبة في الحياة، رغم الفقد بالموت، أو الشتات بالمنافي. وسوف يستطيع القاريء أن يري ذلك واضحا في حياة البشر الفلسطينيين من خلال الحياة اليومية العادية. وهذا يقدم زادا تاريخيا للحالة الفلسطينية من خلال تاريخ مباشر يقلل من الاعتماد علي وثائق تاريخية غير عربية في مجملها. والسيدة سيرين تحفظ للذاكرة العربية، وللتاريخ الانساني مشاهد كان يمكن أن تطوي وتطمس لولا تلك القدرة علي حشد التفاصيل الانسانية: حيوات الاشقاء والشقيقات .. الأجداد .. الأهل الاشياء الصغيرة .. البيوت .. المدارس .. حتي النكات والأغاني. كل ذلك يقدم نوعا من 'الفسيفساء' أو المنمنمات المشغولة بالعصب الحي والدم واللحم.

سنوات القدس الأولي
في قلب سنوات الطفولة بالقدس وفي صدارتها يقع وجه الاب: جمال الحسيني، تقدمه لنا سيرين في مشهدين افتتاحيين يلخصان أو يفسران تلك الصدارة في الصباح بحديقة البيت.. والام مشغولة مع الصغار.. يصطحب الحسيني ابنته سيرين فيما تسميه رحلة المائة خطوة بالحديقة.. تلك النزهة الصباحية التي كان يتعين علي سيرين ان تسرع الخطو الي حد الجري لتلحق بخطي أبيها فوق عشب مندي يكاد يمتزج اخضراره اللامع بمسحة وردية هي انعكاس لطزاجة الصباح مع ألوان الزهر المتناثر وما ان تقبض علي يديه في عادته الصباحية حتي مشبثه به حتي وان تعبت قدماها الصغيرتان فهي تعرف كم يحب ذلك الصباح المبكر فوق عشب حديقته الاثيرة الي قلبه.. المشهد الثاني في نهاية اليوم وهي ما بين النعاس واليقظة مستسلمة لحكاياته ونوادره عن العابه مع شقيقته الكبري: فاطمة.

في مشهد ثالث غير بعيد تستشرف ملامح أخري في شخصية جمال الحسيني أو جوانب أساسية وهي اشتراكه في مقاومة الاحتلال البريطاني لفلسطين .. كانت سيرين لا تتجاوز السنوات الاربعة حين لمحته جالسا علي طرف الفراش في حجرته وقد ارتدي كامل ملابسه وتأهب للخروج، علي حين ظلت نظراته مستغرقة في نقطة ما من السقف.. كأي طفلة تشبثت به .. تريد لعبه وحكاياته ومسامرته ومع انطلاقة دموعها.. أخذها برفق وأجلسها فوق ركبته وضاحكها ثم سألته: لماذا تريد الخروج؟ هنا احالها الي مشهد يوما رأته وهي بصحبته في اريحا: قال 'اتذكرين تلك الاسر الارمنية النازحة التي يوما شاهدناها معا' والتي شرحت لك انها تبحث عن مأوي لأنها خرجت مطرودة من بلادها وبيوتها؟ ثم اضاف 'نحن الفلسطينيين اذا لم نعمل بكل قوتنا سوف نصير مثلهم.' ولم يكمل الاب عبارته تقول سيرين 'توقف أبي عن الكلام. وتماوجت المشاعر علي صفحة وجهه وأكاد أقول: لمحت الدموع معلقة بعينيه'.

عاشت سيرين عشرات السنين وهذه المشاهد الثلاثة في أوج مخيلتها.. حتي حين بلغ أبوها الثالثة والتسعين وكان فوق سرير المرض بالرياض' وهي في بيروت كلاهما منفي بعيدا عن اريحا وبيتهما القديم في القدس.. وهاتفته بدا لها صوته رغم المرض آتيا من تلك الصباحات الوردية في بيتهما في القدس.. مغموسا في شجن ذلك المساء الذي فسر لها ضرورة أن يعمل الفلسطينيون حتي لا يواجهوا نفس مصير أسر الارمن النازحين.. وما بين المشهدين كان عمر سيرين.. في سنة 1924 التحقت سيرين بدار حضانة: أمريكان كولوني American Colony في باب الزهراء . ذلك الحي الذي كان آل الحسيني يعيشون فيه ويملكون فيه بيوتا وعقارات، وهو نفس الحي الذي استوطنته عائلات الامريكان كولوني منذ زمن طويل حتي صاروا من أهل القدس واشتروا من آل الحسيني وتحديدا من «رباح أفندي» واحدا من أكبر بيوته.

ولعل القاريء للكتاب يبدأ في رصد 'حالة كوزموبوليتانية  أو وجها 'مفتوحا' في مسامه لمدينة القدس. ثم تتعدد خيوط نسيمة في كثير من ذكريات سيرين. كان جد سيرين لأمها: السيد فادي العلمي عمدة القدس، علي علاقة صداقة بهذه الجماعة الامريكية التي منها أسر: فاسنر وسبافورد ولارسون، وقد كان سبب التحاق سيرين بهذه الحضانة اقتراحا ولد بعد مقلب أو شقاوة طفولة أثناء تلقي أسرة العلمي العزاء في وفاة الجد .. كانت الام أم سيرين واسمها 'نعمتي' غارقة في حزنها علي وفاة أبيها، وكان من المعزين آل فاستر واقترحوا الحاق سيرين بدار حضانتهم. كانت السيستر Sister هانا هي أول وجه تعرفت عليه سيرين في حضانتها. معها كانت تمضي النهار وتشاطرها حجرتها في المساء وأيضا كان علي هانا مسئولية مراقبة سيرين وأن تحول بينها وبين أكل عناصر من التربة!! فقد كانت سيرين علي ما يبدو تعاني من نقص بعض المعادن أو الكالسيوم تحديدا وإلي أن توصل أهلها لاستشارة الطبيب ظلت المغامرات الصغيرة والمطاردة بين المدرسة هانا وسيرين وأيضا محاولات سيرين ذات الاعوام الاربعة التخفي في حجرة جدتها: زليخة الانصاري علها تحظي بقضمة أو 'لحسة' من طين الارض العالق بعصا الجد الذي توفي، التي تحتفظ بها الجدة في حجرتها.

طعم البدايات
كانت زليخة الانصاري جدة سيرين من ناحية الام، تعيش مع أسرة سيرين في الطابق الاول وسوف يستمر لقاء الفادي بها حتي بعد المنفي الاضطراري في بيروت ثم في بغداد.. في مرحلة المدرسة الاولي أو الحضانة تظل في اجواء القدس ومذاقات البدايات التي تحتفظ منها سيرين بطعم 'حلوي الجيلي' مع مذاق الارض.. لفترة استمرت ستة أشهر ظلت سيرين في تلك الحضانة الامريكية حتي جاء خالها موسي العلمي ليصطحبها في عربة تجرها الاحصنة عائدة لبيتها قبل أن تلتحق بمدرسة اولية أخري ولكن هذه المرة 'ايطالية'. جماعة من الراهبات الايطاليات أسسن مدرسة بالقدس والمدرسة أيضا كانت جزءا من أملاك العلمي ­ـ جد سيرين ـ­ أو هي بيته القديم الذي تركه وشيد بيتا أكبر الي جواره في الحي القديم بمدينة القدس. يلاحظ القاريء أن نعمتي والدة سيرين تتكلم العربية بالطبع كفلسطينية، لكنها تجيد الانجليزية والفرنسية والايطالية . وهذا يؤشر لامرأة فلسطينية مولودة في القرن التاسع عشر.

الدراسة الجادة في المرحلة الابتدائية تلقيها سيرين في سن الثامنة يعني بدءا من 1928 عندما التحقت بمدرسة البنات الاسلامية التي اقامها المجلس الاسلامي الاعلي. في هذه المدرسة كانت الدراسة تعتمد علي العلوم واللغات والموسيقي والاشغال اليدوية اللازمة لاعداد امرأة جيدة في المستقبل. ونلاحظ أن هذه المدرسة حققت شهرة واسعة وأن المدرسات العاملات فيها في ذلك الوقت لم تقتصرن علي المسلمات بل كانت هناك مدرسات دروز ومسيحيات وأن جزءا منهن كان قادما من لبنان مثل: وداد واحسان المحمصاني، زاهية مقعد. لعل من أجمل ما في الكتب ذلك الوصف لرحلة ابنة الثامنة في طرقات قدس العشرينات وشوارعها، في الطريق الي مدرستها. «كانت المدرسة في قلب القدس القديمة .. علي بعد عشرين دقيقة اقطعها سائرة علي الاقدام.. اعبر التلال القريبة من البيت في 'مسورة' أصل الي 'باب العامود' حيث مدخل القدس القديمة تحت قبتها العالية. يبدو السائرون كأنهم ذاهبون أو عائدون بين عالمين».

مداخل الي السحر

كانت أبواب القدس بالنسبة الي سيرين أشبه بمداخل ليس الي التاريخ كما قد يحس راشد بالغ، ولكن الي مسحة سحرية عجائبية، لكن الصغيرة التي تقودها أقدامها في قلب القدس العتيقة يستوقفها تآكل مربعات البلاط الممسوح تحت وقع أقدام السائرين لمئات السنين. الزمن نفسه مر من هنا. كانت المدينة القديمة دائما في حالة زحام. رهبان وحاخامات في الزي الاسود وأغطية الرءوس تتباين حسب الدين وحسب الدرجة الدينية لرجل الدين. فلاحات من القري المجاورة الاقفاص فوق الرءوس وتعرضن الفاكهة النضرة والخضرة في مشية رشيقة: يد تسند الحمل فوق الرأس: ويد فوق الوسط لاتزان المشية في أثوابهن الطويلة ذات التنورات السوداء المطرزة بالاحمر والاخضر والوردي في الساحة كل الازياء وكل الالوان. البدل العزبية والكوفية الفلسطينية والطلبة في زي لونه أزرق. موظفون .. تجار .. نساء .. رجال ومن وسط الجميع يبرز باعة عصير العنب الطازج وقد امسك كل واحد منهم 'بصاجات معدنية' يدق بها لشد الانتباه: 'كليك.. كلاك.. كليك كلاك.. ويختلط ذلك الايقاع بصوت الحمار المستخدم كوسيلة انتقال وحيدة داخل الطرقات المبلطة في القدس القديمة. علي بعد دقائق من الزحام كانت المدرسة في شارع علي أطرافه يبدو المسجد الاقصي مغمورا في الشمس، تحيط به بنايات قديمة يعود تاريخها لأيام المماليك.

باب المدرسة الضخم من الحشب المطعم بالنحاس والمسامير المعدنية. الباب مغلق. لا يفتح الا بالدق بكرة الحديد المعلقة حتي اذا ما انفتح لا ينفتح الا جزء منه يسمح بالعبور الي الفضاء الواسع الذي يضج بأصوات الزهرات في كل الاعمار .. ضحكات .. وغمغمات وصراخ لا يوقفه الا صوت جرس المدرسة معلنا بداية اليوم الدراسي. لعامين كاملين كان مكان سيرين في فصلها يطل علي الاقصي. في واحد من العامين تحولت الي الدراسة الداخلية. في نهاية كل يوم كانت تصطف مع زميلاتها في طريقهن بعد الدراسة الي مبني الاعاشة والسكن بحي مدرستها الاولي خارج القدس القديمة. المبني أيضا كان ملكا لأحد أفراد أسرتها سعيد الحسيني الذي أجده للمدرسة. في الطريق من مبني المدرسة بالقدس القديمة الي مبني الاعاشة في هذا الحي الآخر تقول سيرين. كان الانتقال بين زمنين وعالمين، حيث تمر بواحدة من أشهر مدارس القدس في ذلك الوقت: مدرسة سان جورج ذات الصيت والتي هي مقصد كل الصفوة وملاعبها. فيما بعد عرفت أن اسم ابيها وأعمامها وأخوالها كان في قائمة شرف معلقة علي جدار هذه المدرسة.

كانت سيرين هي الشقيقة الكبري لثلاث فتيات وصبي. 'حسن' يصغرها بعام ثم "ملك' و'هالة' و'جمانة'.. وشقيقة توفيت هي 'وجدان' وجدان وموتها هو أول مذاقات الحزن فيما قبل الوعي والادراك في تلك 'السني البيضاء' كانت وجدان تشاطرها نفس الحجرة وأصيبت الفتاتان بالحصبة.. وجدان في الثانية من عمرها رحلت.. لكن كيف تعلم 'سيرين' الفلسطينية أن يجتر هذه المساحة الدقدقة من قاع الذكريات ويتحول الي أطياف من الشجن الملون بأزهار شقائق النعمان النابتة في حديقة البيت؟ الفقد هنا مشوب بعدم الفهم لكنه موصول بتلك النظرة التي صوبتها شيرين الطفلة من نافذة الحجرة الي حيث استقرت ثلاث زهرات شقائق النعمان في ركن قصي من الحديقة في مشهد في أرق وأكثر المشاهد حميمية ورهافة.. مشهد يسجل بداية لحزن طويل ربما لكنه علي أية حالة جزء من وجع أعماق سوف تتلون أشكاله بفقد بيت القدس وطعم المنافي وقطع الاوصال مع سنوات القدس الأولي.

من شقائق النعمان.. إلي شجرة عمرها ألف عام

الأوراق الحميمة للسيدة الفلسطينية سيرين الحسيني شهيد المولودة 1920 والتي ضمنها كتابها 'ذكريات من القدس'. هذه الاوراق لا تخضع لفكرة سرد زمني متراتب زمنيا بقدر ما تعتمد علي استحضار الوجوه والمواقف والأسماء والحكايات التي في مجملها ترسم مشهدا 'حياتيا حيا' لأسرة فلسطينية تضرب جذورها في هذه الأرض التي لم يشأ أن يعترف موظف انجليزي بوجودها علي الخريطة السياسية يوما .. ولهذا يستشعر القاريء في الكتاب شحذا 'لذاكرة وجيشانا لجزئيات من هذه الحياة الفلسطينية التي قوضها الاحتلال البريطاني ثم دكها الصهاينة عام 1948 تكاد صفحات الكتاب تقدم حيوات أربعة أجيال آخرها جيل سيرين نفسها وهذا ما سوف تلخصه في نهاية الكتاب صورة فوتوغرافية ضمت أربعة أجيال أو نساء أربعة أجيال سيرين الحسيني وأمها نعمتي وجدتها لأمها زليخة الأنصاري ثم جدة أمها أسماء وتقدم سيرين قراءتها لهذه الصورة. لكن لم يحن بعد موعد القاريء مع هذه القراءة.

كانت عائلة الحسيني والموسيرين من الأسر المنجية علي عكس عائلة أمها ­ العلمي التي لم تكن تضم سوي ابنة وابن خالها موسي.. وكانت سيرين وأشقاؤها هم الاحفاد الوحيدين وموضع الحفاوة والحنان للجدين: فادي الأنصاري وزليخة الانصاري ويضم الجميع بيت واسع من طابقين وحديقة لكن مسارح الذكريات تتنوع بين القدس في الربيع والشرافات صيفا وأريحا شتاء. في كل من البقاع الثلاثة كان هناك بيت لهذه الاسرة. والمكان في هذا الكتاب كما تقول صاحبته هو المثير والحافظ والحاضن للذكريات. فالبشر يرحلون أما المكان حقيقي محتفظا بطبقة من الذين عاشوا فوقه. كان يعيش القدس في 'المسودة' علي قمة الجانب المطل علي ما كان يسمي بالحي الروسي في البلدة القديمة.. وكانت أجراس الكنيسة الأورذوكسي تختلط بالآذان القادم من المساجد المجاورة.

أما البيت فمثل كل بيوت القدس أسلحتان تقودان لحديقة فيها الصنوبر وشقائق النعماني وبساط من الخضرة ظل بالنسبة للكاتبة موئلا 'للحلم'. بيت القدس أو بيت 'المسردة' مرتبط بشقائق النعمان أما بيت الشرافات مدخلها 'شجرة البلوط' ووراءها حكاية.. كان الجد فادي العلمي قبل أن يصبح عمدة للقدس موظفا حكوميا أثناء ماكانت فلسطين جزء من الامبراطورية العثمانية. كان من مهام وظيفته تفقد القري التي كان يذوب ولها وعشقا لأجوائها، متنقلا فوق حصانه من قرية لأخري، عابرا 'الوديان والتلال' يوما كان يعبر تلا واقعا بين بيت صفافة وشرافات' بالقرب من القدس. في يوم قائظ سمسه مسلطة، بحث الجد عن مس من الظل يحتمي به ويرتاح تحته قليلا.. لمح فوق شجرة عتيقة ضخمة.. شجرة بلوط تفوش أوراقها دائرة رطبة ظليلة.. كعادة أهل القري اقترب منه البعض وقد كان بصحبة موظف آخر، عارضين المعاونة هذه الواقعة الصغيرة ستشكل منعطفا في حياة الاسرة كلها لان الجد وقع في غرام شجرة البلوط، وبعد القهوة وضيافة أهل المنطقة طلب من صاحب الشجرة أن يشتريها. وبالفعل اشتري فادي أفندي العلمي مساحة من الارض بني عليها بيتا وفوق الارض كانت شجرة البلوط التي توارثتها أجيال وقيل من متخصصين أن عمرها يقارب الألف وخمسمائة عام.. هذه الشجرة ستكون مرتعا لألعاب الطفولة وهي التي كبرت سيرين في ظلها والصيف لا يكتمل بدونها.. بيت المشرفات سوف يفسح حكايات صيفية يتخللها صوت 'الحكواتي' بربانية وأغنياته ودوائر الصغار ووجوه 'عابد' ابن الجنايني أو البستاني ومذاق العيش بالذعتر والبيض المسلوق، والعيش الساخن علي 'الطابون' أو العزف الريفي وعلاقة سيرين 'بميريام' الريفية التي صادقتها وظلت تتابعها حتي بعد النفي عام 1936 ولعشرات السنين حتي سمعت يوما خبر مقتلها هي وصغيرتها في غارة صهيونية علي الشرافات 'غرب القدس".

كانت 'ميريام' وهل كما ينطق الريفيون اسم مريم ­ صديقة العاب الصيف فوق شجرة البلوط.. تتبادلان النداء 'ميريام' هيه.. وترد ميريام 'أوميش' 'أو أين أنت؟! ميريام وشجرة البلوط ودائمة الطبح في القرية، وزيارات آل ميشيل ­ أسرة ميريام ­ مع أسرة سيرين واستقبالات الجدة في الصباح عند أشجار الصنوبر التي اقترح الخال موسي احاطة شجرة البلوط لها.. وسيكشف الكتاب فيما بعد كما نبه دكتور ادوار سعيد، كيف جمع هذا الخال موسي بين ولع بالزراعة وولع بالسياسة وولعه بالزراعة سوف يمثل خيطا أشبه بالتشبث بالحياة حتي بعد أحداث وحرب 1948 واختياره مساحة صحراوية يعيد استصلاحها في الضفة الغربية. كانت ميريام تكبر سيرين بعدة سنوات ونحن نعيش مع ميريام من خلال سيرين لحظة خطبتها.. ومشغولاتها وأيضا مشغولياتها والفكاسات الشمس فوق الحرير الذي تطرزه في حديقة البيت.
بعد الحرب والتقسيم استمرت عائلة ميريام وذات يوم وكانت سيرين في بيروت.. قتلت ميريام ومازالت أصداء نداء سنوات الطفولة يرن داخل سيرين:

ميريام.. وينك يا ميريام.. تحولات المكان

تستمر الوجوه تطل عبر الذكريات تثير السؤال عن المصير.. وتحولات المكان بما جره الزمان .. ميريام.. هالة.. هند.. العمة فاطمة أو كما تطلق عليها صاحبة الكتاب: طنط أم برهان التي هي الشقيقة الكبري لوالدها.. كانت العمة تعيش في بلدة علي مقربة من 'يافا' تبعد عشرين كيلو مترا عن رام الله، بينما تعيش أولادها مع الجد والجدة في 'القدس' حيث المدارس التي يتعلمون بها.. تزوجت العمة طاهر الحسيني عضو البرلمان العثماني عن القدس وعاش في اسطنبول ورزقا بخمسة أبناء وفتاة، في الحرب العالمية الأولي عين زوج العمة حاكما علي طرابلس/ شمال لبنان. وعادت أسرته الي القدس لكن مات بوباء التيفود في طرابلس.. 'هند' الابنة الوحيدة لأم برهان والصديقة التوءم لسيرين وليس فقط ابنة عمتها.

ومع هند يطل جانب من سنوات سيرين المفعمة بالحياة وتحكي رحلة بالسيارة في رحلة الي حيث العمة في صيف أمضته هناك.. صيف تقطر منه السعادة بالانطلاق لكن نعرف ان هذه العمة التي عاشت حتي سن التسعين احتل الاسرائيليون ضيعتها وفقدت بيتها وكل الاراضي التي كانت تملكها وأنها في عام 1967 بعد احتلال اسرائيل للقدس بينما كانت تعيش في بيت أبيها، فوجئت بجنديين اسرائيليين يقتربان من حديقة البيت ويقولان انهما جزء من جيش اسرائيل وانهما سوف يصحبانها الي حيث يصطحبون غيرها من الفلسطينيين ودفعتها المفاجأة لضحك كالبكاء، حين ماتت عام 1980 كان بيتها الواقع علي مقربة من يافا قد تحول الي جزء من كيبوتز اسرئيلي وسكنة يهود قادمين من أوروبا. عندما تكتب السيدة سيرين هذا الجزء تضع له عنوان 'أسوار الصبار' مشيرة الي تلك الاسوار التي تحيط بحدائق البيوت الفلسطينية لحمايتها والتي لم تستطع أن تحمي هذه البيوت مع الزمن.وتتساءل.. هل مازالت أسوار الصبار تزهو.

وبينما كانت 'الشرافات' صيفا، كان الاتجاه شتاء في اجازات الي 'أريحا' .. أريحا التي ترسم لها صورة تقترب من الجنة ملخصة المعني في عبارة 'كان يخيل الي في أريحا أن العالم سلسلة لا تنتهي من الحدائق.. والسعادة كنت اعشق حقول أريحا حين تتفجر بالالوان بعد المطر.. وكانت ازهاري المفضلة شقائق النعمان بأحمرها المضي، والمارجريت الابيض وزهور البنفسج وأشجار السنط الصفراء تحيط بالمكان تكاد تتمايل تحت أصوات غناء العصافير. وفي الافق تتلون الجبال تحت خيوط الشمس من اللون الوردي للبنفسجي للأصفر المذهب بعد الظهر، وعلي البعد تمتد مياه البحر الميت بأزرق سماوي ساكن.

رحلة صعود

كانت أحب االاوقات في اجازات شتاء 'اريحا' هي تلك الرحلات مع الاب سيرا علي الأقدام أو بمعني أصح صعودا علي الاقدام لبلوغ قمة الجبل المطل علي اريحا.. جبل 'القرنطل' الذي كانت قمته تلوح لسيرين من نافذة الحجرة وكأنها تلامس السماء.. رحلة الصعود ولم تكن قد تجاوزت العاشرة في أغلب الأحيان لم تكن تعبر حتي الوصول الي القمة، عدا مرة كان فيها الحماس للوصول الي حيث دير رهبان الارسوذوكسي وكنيسة التي تحتل ذروة الجبل نفس الجبل الذي استولت عليه اسرائيل فيما بعد لتحكم سيطرتها علي كل المنطقة.

استقبل الرهبان سيرين وأبيها ولم تصدق عيناها وهي تتفحص أريحا من نافذة الرهبان وهي تري بينهم يبدو كنقطة وسط حقول البرتقال والموز والنخيل والزهور والبحر الميت كبساط من فضة تحت الفطاس الشمس.. كانت تسمع أجراس الكنيسة بألفة.. تصلها وهي في حجرتها لكنها الآن تجاور تلك الاجراس. فيرا' و'تاتيانا' وجهان للقدس الكوزموليتانية كما تتعرف عليها في كتاب سيرين الحسيني.. كان بالقدس حي للروس.. وبينما كان بيت أسرتها في 'المسردة' يقبع عند بداية التل.. كان حي الروس.. تتوسطه كنيسة ومجتمعا كهنوتيا. بعض النسوة الروس كن يعشن كجزء من المجتمع الكهنوتي وبعضهن يشتغلن كخادمات في القدس كما هو الحال مع 'فيرا' فيرا كانت تسكن 'عين الكوم' وكثيرا ما زارت سيرين 'فيرا' ورأت كنوزها الصغيرة.. بعض النصح المرسوم والمشغولات المطرزة والصور.. 'تاتيانا' صديقتها كانت تخدم لدي أسرة الحسين سالم وهي أسرة مات عائلها، تاركا أربعة أبناء وأرملة وبيت واسع تاتيانا تفانت في خدمة البيت والابناء والام.. درس الابناء في جامعات بيروت واسطنبول والتحقوا بالمقارنة عام ..1936 واصطحب الابن الاكبر أمه الي بيروت مع أصغر الاشقاء وعاد للمقاومة.. أحدهم قتل.. بعدها بسنوات وبعد انتهاء الحرب العالمية اتيح لسيرين وأسرتها العودة من منفي بيروت وبغداد.

منافي بلا نهاية

التقت سيرين 'بتاتيانا' كانت عجوزا متفائلة الخطي لكن مد بؤرقها هو مصير الابن ­ علي ­ هل سيذهب المنار لانه لم يكن ارثوذكسي؟! كانت تراه طيبا وبارا بها الي درجة انشغلت بمصيره بعد الموت ووفق ادراكها الديني خشيت عليه من النار! عندما تقدم لنا سيرين الحسيني الحياة الفلسطينية في القدس في الثلث الاول من القرن العشرين وتداخلا لعناصر الانسانية وتشابك العلاقات الانسانية، وتجاور أصحاب الديانات يجد هادي نفسه أمام حالة انسانية شديدة الثراء والتسامح يعز عليه أن يجدها مثلما كانت في القدس في ذلك الوقت. مع بداية أعوام الثلاثينات بدأ تفتح وعي سيرين الحسيني السياسي بدرجة مبكرة عن رفيقاتها في المدرسة الاسلامية التي كانت ملتحقة بها أغلقت أبوابها عام 1930 وبدأ البحث عن مدرسة أخري راح الاهل يفاضلون بين بعثات للتعليم ايطالية أو المانية أو بريطانية أو فرنسية ثم اختاروا مدرسة عليا في رام الله هي الهاي سكول أمريكان، ما سوف يستوقفك عند انتقال الفتاة بين محيطين محيط اسلامي مدرسي ومحيط بروتستانتي هو ما تقول عنه سيرين 'لا فرق في الروح' في تلك المدرسة تولت سيرين مسئوليتها ومسئولية أشقاء أصغر.. وفي منتصف الثلاثينات بدأ انحسار الزمان الصافي.. وبدأت المظاهرات والاضرابات واستقطبت السياسة وعي الكل بما فيهم ابنة الخامسة عشر.

في عام 1935 تراس والدها الحزب العربي الفلسطيني وكان مسئولا عن جريدته 'اللواء' تلك الجريدة التي كانت ترسل الي سيرين علي عنوانها لانها حملت خبر اعتقال والدها في السجن كان علي وعيها الناشيء أن يستغرق عدة أيام قبل أن يدرك معني الاعتقال السياسي ويدرك معه انسحاب الزمن الآمن وبداية نضوج ومسئولية مختلفة.. أخذت الحياة منعطفا جديدا وصار علي سيرين ان تحفظ مسئولية البحث وأشقاء وأبيها في المعتقل. والشوارع تفيض بالمظاهرات والاضرابات لانه أمها السيدة نعمتي كانت لا تكف عن الحركة وسط النساء ليرين ما يمكن عمله، ستة أشهر من الاضرابات شلت الحياة عام 1936 وفلسطين تحت الانتداب البريطاني تستشعر ما يدبر لها عبر هجرة يهودية متزايدة وحضور يهودي يقوي يوما بعد آخر.

كانت الاضرابات والمظاهرات والمشاحنات مع البوليس والاجتماعات في الكنائس والمساجد هي محاولة للابطال والحد من تأثير وعد بلفور. كانت 'نعمتي' واحدة من المنظمات لتظاهرات نسوية تنجه نحو القيادة البريطانية رافضة الهجرة اليهودية حتي 'تلك' السفينة الصغيرة كانت تقف في مواجهة الصور الفوتوغرافية المعلقة بصالة البنت والتي هي لشخصيات سياسية عربية وتهتف في مظاهرتها الخاصة 'حسن' صبي الاعوام التسعة انتزعته الجارة 'الست ايلين' من ايدي العسكر الانجليز.. كان يقود مظاهرة من الفتية في تلك الفترة برز اسم الضابط البريطاني Sickrust سيكرست الذي عرف بحشدنته في معاملته للسجناء العرب كان ما يستهدفه أكبر من مجرد مواجهة المتظاهرين بالضرب أو التعدي علي المعتقلين، كان يريد كسد الادارة في تلك الفترة سقط أول شهيد فلسطيني من أسرة سيرين وكان سامي الانصاري. وفي نفس الفترة أيضا تشكلنا ما عرف باسم اللجنة أو الوفد الفلسطيني الذي مثل الاحزاب الفلسطينية وسافر الي لندن عله يجد حلا 'لوعد بلفور'. وأيضا في نفس الفترة كانت عيشة.. أم عبد.. كانت عيشة تعيش في قرية قريبة من 'البيرة' التي لا يفصلها الكثير عن القدس.. أرملة توني زوجها تاركا ابنه ومساحة من الارض تزرعها بالخضر الذي تبيعه في سوق القدس القديمة.

تعلم عبد بضع سنوات ثم اشتغل في تقطيع حجارة البناء لم تكن أم عبد تتابع السياسة أو تعرف عنها شيئا حتي التجمعات أو المظاهرات كانت تفسدها علي انها تظاهرات دينية.. ولم تتوقف عند الامر الا عندما بدأت تلحظ اجتماعات مسائية عند المختار وكان من المجتمعين ابنها 'عبد' .. سيناقش بدأ يتسرب اليها كلام عن العرب واليهود والاسلحة لكنها أيضا لم تتوقف.. فاليهود جيران موجودون في كل القري.. هم يهود فلسطينيون.. جاءت ليلة 'عزومة' عشاء عند 'المختار' لاحظت ان المختار قدم لكل مدعو صندوق فاكهة وصاحب ذلك كلام عن سلاح ومواجهات وكفاح مسلح.. يوما سمعت عيشة بمواجهة بين العسكر الانجليز وبين الفلسطينيين في قرية قريبة.. ولم يمر وقت الا وراح الانجليز يعرضون علي أهل القري جثة الشاب الفلسطيني حتي ماتم التعرف عليه دكوا القرية التي ينتمي اليها.. لاحظت عيشة ان رجال القرية ينتظرون نجاحها.. واكتشفت السبب عندما وقفت في طابور الامهات ووجدت نفسها في مواجهة جثة عارية لابنها عبد .. مادت بها الارض، وسالت دموعها وتحولت الدموع الصادقة الي نشيج وعويل. كلبة' صاح الضابط الانجليزي .. انت تبكين لانك ولدت هذا الكلب ... أمه؟

قالت عيشة: أمه؟ من قال ذلك؟ انه ابن كل هؤلاء الامهات .. وأنا ابكي شبابه الذي ضاع. ابكي علي أمه وابكي لأجلها. ولم تتسلم عيشة جثة ابنه.. لانها ارادت انقاذ القرية كلها، بينما حمل البريطانيون الجثمان يطوفون به. ثم ليدفنوه وحيدا. كانت حكاية عيشة أم عبد ابلغ تعبير عن ذلك الفترة وأكبر مؤشر لما سوف يجري. وما سوف يجري لم تتحير طويلا. ولم يبدأ بحرب 1948 علي الاقل بالنسبة لسيرين الحسيني شهيد، ففي نفس العام عام 1936 كانت بداية 'المنافي' تلك المنافي التي لن يكون لها آخر.