يقدم الناقد المصري المرموق هنا قراءة نقدية في واحدة من روايات الثورة العربية التي نشرتها (الكلمة) قبل عام ونيف. تكشف عن تحولات السرد في هذه الرواية، وعن قدرتها على استشراف المستقبل وتمهيد الطريق إليه، أو التعبئة له، بتكثيف ثورة الغضب الداخلي، الذي نفث دخانه وخرج إلي الوجود بعدها بنحو عشر سنوات.

أيها العربي ... «لماذا أنت هنا؟»

شوقي عبدالحميد يحيى

الأصل في الإنسان، أن يقيم حيث يجد سبل العيش الكريم المريح. ولما كان الخلاف والاختلاف أحد أسباب تكدير هذا العيش، كانت الهجرة. ولنا في كتاب الله أسوة كما ورد في الاية 97 من سورة النساء: «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا». وكما أن الهجرة إختيارية في بعض الأحيان لتحسين سبل المعيشة، فإنها ضرورة تفرضها الظروف المعيشية في كثير من الأحايين، بل ربما كانت هي الحل الأوحد في حالات الاضطرابات السياسية والاطهاد العرقي والاختلاف السياسي. وقد تصاعد الحديث عن الهجرات غير الشرعية في الفترة الأخيرة، بعد أن أصبحت الهجرات الشرعية غير مكفولة في كثير من الأحيان. حيث فرضت الدول المضيفة استقبال الكثيرين من البلاد الأخري وقننت أعداد ونوعيات الهجرة المطلوبة. ورغم ما يتردد عن غرق العشرات من تلك المحاولات. إلا أنها لم تتوقف. حتي أنها – الهجرة غير الشرعية – باتت نوع من الانتحار الجماعي في كثير من الأحيان. فأن يفاضل المرء بين الانتحار في البحر، والمعيشة في بلاده، لهو إذن قد وصل لحالة الاستحالة العيش فيها، حتي أنه فضل الموت عليه.

ولاشك أن الاضطهاد السياسي من أهم أسباب الهجرة، إلى الحد الذي حدا بدولة مثل ألمانيا الاتحادية الموحدة وصل عدد المتقدمين بطلبات اللجوء إلى ذروته فيها في العام 1992، حتي زاد عن 440000 إنسان. وقد كان هذا الرقم الهائل هو الدافع الأساسي لتحديد وتعديل حق طلب اللجوء، حيث تم ذلك في العام 1993. ومنذ هذا التعديل لم يعد من الممكن مثلا الحصول على حق اللجوء لمن يتحدر من بلد لا تسود فيه حالات الملاحقة السياسية، أو من يدخل ألمانيا عن طريق بلد ثالث "آمن" لا يتعرض فيه للملاحقة. ومنذ نهاية التسعينيات استمر عدد طالبي اللجوء بالانخفاض سنويا، حتى أنه لم يتجاوز 19000 في العام 2007. الأمر الذي يعد معه الاضطهاد السياسي هو السبب الوحيد الذي تسمح معه بقبول الهجرة. وهو أيضا ما كان تجربة رواية الكاتب الليبي فرج العشة (لماذا أنت هنا؟)(1) ذلك السؤال الاستنكاري الذي يحمل معني الرفض والاستنكار لوجود السارد في ألمانيا مهاجرا من ليبيا، لماذا أنت لست حيثما يجب أن تكون .. في بلادك؟ في ليبيا؟ جاعلا من تجربة الهجرة موضوعا حاملا للمعاناة التي دفعت به لهذه التجربة المريرة التي انتهت بالموت – المادي والمعنوي معا – متخذا من تلك الوسيلة القابعة علي أرض الواقع، مستندا غير قابل لرفض الهجرة {عليك أن تروي تفاصيلها كما هي، كي لا ترسب في اختبارات التحقيقات المخصصة لمراجعة مصداقية معلوماتك. والأهم أن تتزود بسيناريو اضطهاد سياسي ملموس الوقائع، مُحكَم الصياغة مستوفي الشروط، من حيث توفره على تعرضكً للاضطهاد السياسي في سياق حبكة ملاحقة أمنية وتحقيق واعتقال. ويا حبذا تعذيب}.

كتاب الانتهاكات
تبدأ الرواية بالحديث عن معاناة فقر أهل ليبيا الملكية. حتي تصبح أدوات دورة المياه من عجائب الزمن التي لم يعرفها أهل ليبيا. وينتقل صاحبنا في منتصف ستينيات القرن العشرين من صدمة اكتشاف أدوات المرحاض - بعد أن كان يقضي حاجته في مراحيض الخلاء، حيث ورق التواليت عشب الأرض، أو أوراق الشجر المتساقط، أو حصوات الحجر الصغيرة- إلي صدمة اكتشاف السينما. ولم يكن بعد قد سمع عن اختراع التليفزيون. فضلا عن استخدام عبوات المعونة الأمريكية كأقمشة تيتر عورات الناس، وما يحدثه من أثر نتيجة ظهور الكتابة الصريحة عن تلك المعونة علي أجساد البشر.

ويتفجر البترول في البلاد، ولم يعد الفقر هو الهم في طريق المعيشة، وإنما تستحيل الحياة جحيما في ظل فرعون يحكم دون معقب لحكمه { سيدتي المحققة الجرمانية لست لاجئا اقتصاديا، فأنا من تلك البلاد حيث لتر البنزين أرخص مرتين من سعر لتر الماء. أنا هنا لأنه هناك: حاكماً بأمر مزاجه الإلهي}.

ففي فجر عادي . استولى ملازم أول مع عشرات من الضباط الصغار وحفنة ضباط أعلى منه رتبة ومئات الجنود التبع، على الراديو الملكي. كانوا قد تشبعوا بصوت عبد الناصر الذي رفع شعار "إرفع رأسك أيها العربي {فأفرزت تلك "القرحة المتقيحة" بالبؤس والأحلام مضروباً في خلاط تصورات تاريخية، تخلط صلاح الدين بعبد الناصر بأبي ذر بماو} - والكاتب هنا يسخر من شعار عبد الناصر الذي يراه شعار يحلق في الفضاء بعيدا عن الواقع، خاصة أنه يعود في موضع آخر ولا يذكر لعبد الناصر إلي واقعة تنحيه بعد هزيمة العرب المؤلمة في يونيو 1967 وكأنه يؤكد علي بعد المسافة بين الشعار والواقع، وكأن الكاتب يريد توحيد التجربة العربية ويوسع دائرة الموضوع، وهو ما يؤكده مسيرة الأخ القائد ورفاقه – تلامذة عبد الناصر- بثورتهم، فقد أذاعوا بيان استيلائهم علي السلطة {كنت قد بلغتَ الحلم لتوك عندما زعق ذلك الملازم أول في ميكرفون الإذاعة ببيانه الانقلابي: «تنفيذا لإرادتك الحرة وتحقيقا لأمانيك الغالية، واستجابة صادقة لندائك المتكرر الذي يطالب بالتغيير والتطهير، ويحث على العمل والمبادرة، ويحرض على الثورة والانقضاض، قامت قواتك المسلحة بالإطاحة بالنظام الرجعي المتخلف المتعفن الذي أزكمت رائحته النتنة الأنوف، واقشعرت من رؤية معالمه الأبدان، وبضربة واحدة من جيشك البطل تهاوت الأصنام وتحطمت الأوثان فانقشع في لحظة واحدة من لحظات القدر الرهيبة ظلام العصور}. وبرغبة في التخلص من الفقر والفرحة بالجديد، يقابل البيان بالترحيب، والإنسان دائما يبتهج ويأمل في الجديد {كنتَ مراهقا ابن محصل ضرائب يحب عبد الناصر حبا جما. أنخرطت مع بني سنك في مسيرات التأييد التي عمت المدينة كغيرها من المدن والبلدات ابتهاجاً بالانقلاب حتى قبل أن تُعرف هوية القائمين به}

إلا أن هذه الصيحة لم تلبث أن تحولت إلي كابوس يجثم علي أنفاس الليبيين، ويتحول الملازم أول إلي فرعون يقول أنا ربكم الأعلي، ويخرس كل من يفكر في انتقاده، حتي ذاك الأستاذ الذي تعلم بالخارج ورفض البقاء هناك، مفضلا العودة لخدمة بلاده. وما { كان يدرك أن الأخ القائد بات في منزلة "أنا ربكم الأعلى". لكنه لم يكن ليتصور أن ملاحظاته الانتقادية العابرة سوف تؤدي به أن يكون في دفعة أوائل ضحايا شعيرة قتل جماعي، تُقام لعبادة شخصه في أحرام الجامعة أو ساحات المدن والقرى أو الملاعب الرياضية، إحتفاء بالمناسبات الثورية المُبجَّلة، التي كادت أن تكون أكثر من ايام السنة}.وليصبح بعدها القتل الجماعي شيئا مألوفا.

وحول الحاكم دائما ما تقوم الجماعات. تلك التي تسهم في صنع الديكتاتورية والطغاة، والتي تهتف باسمه وبأفعاله الإلهية التي لا يأتيها الباطل، والتي يعطي أصحابها الكلمة في كل مؤتمر، ويمنح الوقت الكافي: {تجاهل "الأمين" طلبها، وأعطى الكلمة لأحد جلاس الصف الأمامي، الجاهز دائما للتعقيب الثوري الفوري على كل ما يمكن أن يُطرح، في شتى الندوات المتوفرة في أي مكان في المدينة، سواء تعلق موضوعها بقضايا الفكر والأدب والفن، أو غلاء المهور وحوادث المرور. وكعادته أخذ راحته في الوقت بحسبانه من أبناء عمومة القائد، وهو مجرد شاعر عامي ردئ. ألقى بما لديه من مدائح "شعرية" باللغة الدارجة، رغم أن الأمسية مخصصة للشعر الفصيح. ثم أطنب في تبجيل عظمة الثورة وعبقرية قائدها العظيم، متوعدا أعداءها في الخارج والداخل بالويل والثبور، وعظائم الأمور. وكان على "الأخ الأمين" أن يتوجه إليه على إثر انتهائه من كلمته بالشكر لشخصه الثوري الأصيل، فهو من رائحة أصالة القائد. ويثني على مداخلته تبجيلاً في موهبته، التي تتألق ندوة بعد ندوة، أسطع فأسطع}

وفي مقابل تلك المجموعة هناك دائما من يحملون أرواحهم علي أكفهم، مستعدين دائما للتضحية في سبيل قولة الحق في وجه سلطان جائر. ففي إحدي اجتماعات القائد بطلاب الجامعة يقف أحد الطلبة – صديق الراوي، وأحد مجموعته الرافضة ليقول له: {تكلم غيث في وجه رسول الصحراء مباشرة كما لا يجرؤ أحد على مواجهته منذ استولى على ميكرفون الإذاعة الرسمية. قال في وجهه مباشرة:

ـ دعنى اسألك. لماذا لا تنزل إلى الواقع. لقد انقرضت خرافة فرعون الرب الأعلى. أتعرف من هو الذي بصق على ستالين عندما تأكد من موته. إنه تابعه بيريا. ثم لنقس المسافة بين الاذاعة و"معسكر قاريونس التي جئت منها ورفاقك. كم تبلغ المسافة بينهما. كيلومتر، اثنان، ثلاثة، أربعة، أربعة ونصف، ليكن، يمكن ان تعودوا اليها، بالآليات التي أتت بك وجماعتك في ظرف عشر أو عشرين دقيقة بالكثير، مع الشكر الجزيل. بعدما تسلموا السلطة إلى المدنيين".} فيكون مصيره التصفية الجسدية، ويبدأ صاحبنا في البحث عن الهجرة، هروبا من جحيم الملاحقة.

وفي الهجرة لم يكن الطريق معبدا، إلا أنه يستنشق رحيق الحياة في " مارتا" الألمانية التي أحبها، والتي تصبح لبن الحياة بالنسبة له. غير أن النظام القمعي الذي لم يكن قد سقط بعد – حيث تقع الأحداث مع نهاية القرن العشرين – لم يكن ليتركه يهرب بمعارضته.

كتاب النهايات
علي الرغم من أن الليبي فرج العشة أراد يزفر زفرة الألم الليبي مما فعله الملازم أول الأخ القائد معمر القذافي بالإنسان الليبي، إلا أنه وسع الدائرة في كثير من مواضع الرواية ليشمل الألم العديد من البلدان العربية التي رأي فيها ذات المناخ الليبي. ووصل لقمة نجاحه الروائي فيما سماه " كتاب النهايات "، موفقا لحد بعيد في اختيار كلمة كتاب، التي توحي بسجل التاريخ المقروء. وكان نجاحه أكثر توفيقا في فرتها الأولي والتي سماها "زفرة المغربي الأخيرة" والتي أرجح أن بها خطأ كتابيا صحيحه "زفرة العربي الأخيرة".

فقد انتقل السارد بنا من ألمانيا حيث تم قبول هجرته إليها. انتقل بصحبة "مارتا" الألمانية إلي قصر الحمرا بأسبانيا، تقوده "مارتا" عبر دهاليزه رائيا ذلك الجمال البديع والإحكام في توزيعات المياه من أفواه الأسود عبر اليوم بطوله، وكأنها تتطلعه علي مجد العرب في الأندلس في القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي – وكيف أن المسلمين – العرب – استطاعوا أن يشيدوا هذا الجمال في هذا الوقت المبكر من عمر الزمن. ويسير بنا السارد في دهاليز القصر ليصل إلي " التلة". ذلك الطريق الذي سار فيه الملك المهزوم. وكأنها يسير بالتاريخ من الصعود إلي الأفول، حيث انطفأت جذوة الفتح العربي الإسلامي: ٍٍ

{ قالتها بالأسبانية. وتعني في الترجمة العربية: "هضبة الدموع". حيث بكى عندها جدك أبو عبد الله الصغير على ضياع ملكه. فصعدت ومارتا عبر طريق متعرج. كانت ولا شك ذات وحشة محمولة على روح تلك الوحشة التاريخية الغابرة ،في مسار ذلك الملك المهزوم في سيره إلى منفاه خارج تاريخ الأندلس. بحيث كان ولا يزال مضربا للضياع. أمها خنساء الحضارة الذواية. ودموعه هضبة وزفرته قمة التلة. التلة التي صارت منذ قرون تعرف بـ"زفرة العربي الأخيرة"، حيث زفر أبو عبد الله الصغير حسرته الأخيرة، على ضياع مملكته. حسرة المهزوم المهان المكتومة وهو يتقدم إلى هازمه الجالس على العرش الغرناطي الذي كان له، ويمد إليه بمفاتيح مملكته قائلا: إن هذه المفاتيح هي الأثر الأخير لدولة العرب في إسبانيا}. وكأن فرج العشة أراد أن يضعنا في مقارنة بين هجرة العربي قبل عشرة قرون ، وهجراتنا الآن.

وإذا كانت "مارتا" – الألمانية، الغربية، هي التي قادته عبر رحلة التاريخ، تاريخه هو، فهي أيضا التي وقع في حبها. هي التي تذوق معها طعم الحياة، واستنشق رحيق المتعة. إلا أن الغربي هو أيضا الذي امتص دماءه. هو الذي جاء لبلاده ليسرق الذهب الأسود الذي بدلا من أن يكون نعمة للبلاد كان نقمة عليها. وهذا الغربي هو الذي يرفض وجود العربي في بلاده.

ففي النهاية الثانية، والمعنونة " الاحتفاء بمولد الفوهر" يتجمع محموعة من الشباب الألماني الكاره للمهجرين من خارج ليبيا ويحرقون المبني الذي كانت "مارتا" تنتظر فيه الليبي المهاجر. وكأنهم يقطعون شريان الحياة ونسمة الهواء الذي يتنفسه العربي المهاجر، ليبدأ في الاختناق، والموت.

وفي النهاية الثالثة والمعنون " ظهور الشايزا" . تضيق الحلقة أكثر ويزداد شد الحبل حول رقبة المهاجر. فيتتبعه "الشايزا" {"الشايزا" الأسم الحركي لبوعجيلة حمد الترهوني، الذي هو في الواقع "شايزا" ليبي بكل ما تعنيه حمولة "الشايزا" بالألمانية في أصلها الجذري. أي "خَرْيه" بالليبي الصريح} ذلك الشخص الذي احترف عمليات التصفية الجسدية لمعارضي النظام. فيحتك به، ويطعنه طعنة نافذة. ليصير الموت هنا شخصي، الليبي يقتل الليبي. فيا لها من مأساة.

الصور الشخصية
علي الرغم من استخدام الكاتب لكثير من التفاصيل والاستطرادات، إلا أنه دائما يذكرنا بعد التوقف عند تلك التفاصيل، وأن نذهب إلي الرؤية الكلية. فعندما يتحدث مثلا عن تناول شئ، يؤكد أن ذلك تم باليد اليمني، وربما كانت اليسري. أي أنه يضعنا دائما في شك عدم اليقين الواقعي، لكنه بالتأكيد يضعنا في قلب وظيفة الأدب المتسائلة المتشككة، والداعية إلي الذهاب لأبعد مما تقوله الحروف المرسومة.

وهذا ما فعله أيضا في رسم شخوصه الروائي، فلن نستطيع أن نحدد معالم شخصية بعينها، بقدر ما هي وسائل تعين علي رسم صورة كلية متحركة تشي بشئ ما. فنحن مثر لا نستطيع تجاهل دور "سلمي" في مسيرة حياة الشخصية الرئيسة (المحكي إليه) وما لعبته في الحركة الوطنية عبر تاريخ تلك الشخصية. وأيضا لا نستطيع تجاهل دور "عيسوي" وما زرعه منذ بدايات ثورة القذافي من كره ورفض لتلك الثورة. وهو ما دعاني لاستخدام تعبير "صور شخصية".

إلا أن صورتين اثنتين أعتقد أنهما يرقيان لمرحلة الشخصية الروائية، رغم أن إحداهما لم تحتل نصيبا كبيرا من مساحة الكتابة، لكنها تحتل نصيبا أساسيا من مساحة التأويل والرمز، وهي شخصية الجد. ذلك الجد المتقاعد من سنين. لكنه الجد الذي حارب إلي جانب عمرو المختار، في إشارة إلي التاريخ. إشارة إلي عهد كانت فيه بطولات علي أرض الواقع. رغم انتشار الخرافة والحكايات المروية في الحواديت علي لسان الجدة، خاصة حكاية أبو زيد الهلالي، والتي يعتبرها السارد إلياذة العرب، ليؤكد علي إعتماد العرب علي المجد الغابر، إعتمادهم علي الماضي، إعتمادهم علي البطولات الخيالية، خاصة إذا ما ربطنا ذلك بالإشارة إلي ما ورد عن إعجاب القائد الديكتاور "القذافي" بعبد الناصر وما ورد في ذكره وإقتصاره علي القول "إرفع رأسك أيها العربي" وفعله المتمثل في واقعة تنحيه بعد يونيو 1967 . ذلك الجد [هو جدك المشلول طريح فراش القش كأنه قد حارب مع "سي عمر" من فراشه ‍في فراشه. وُلد وتزوج وأنجب أبيك واعمامك وعماتك في فراشه. جاء الطليان ودُحِر الطليان، جاء الانجليز بالتحرير والملك. عاش الملك مات الملك، عاش العقيد؛ وهو هو في فراشه مطروح كوجود لا يريد ان ينقضي] وكأن الكاتب يستحث مخاطبه علي النهوض من الرقدة التي طالت منذ عمر المختار.

أما الصورة الشخصية الأخري، فهي الشخصية الرئيسة في العمل، شخصية المروي إليه. والذي يسط البساط تحت أعمدة الرواية وما جاء بعد ذلك في " كتاب النهايات" مرورا ب"كتاب الانتهاكات. تابعنا كيفية ولادته العجيبة (وغير العجيبة في البيئة البدوية) ثم عملية (طهوره) التي ربط بينها وبين حكم القذافي {الا تضحك اللحظة بعد ثلاثة عقود ونيف مرت على ما جرى يوم حفل استئصال غلفتك الرامضة!} ثم الهجرة إلي الحضر حيث يلتقي بتلك الأجنبية التي شعر معها بالدفء – بينما خاف الآخرون وهربوا – تلك التي عبثت في شعره بأصابعها الطويلة، والتقطت له الصورة التي تذكرها عند هجرته لدول صاحبة اللمسة السحرية {أتراك ههنا لاجئا إلى قارتها بعد عقود تبحث عن تلك اللقطة، المُجمَّدة على خلفية ضريح ولي صالح، بين أنقاض قورينا الاغريقية، المتناثرة أحجار قصورها ومعابدها وأسوارها وأعمدتها وتماثيلها، برؤوسها المقطوعة وأطرافها المهشمة، في زمن العقيد.} وكأنه يعود إلي حيث ابتدأ لحظة الولادة التي عبرت له عنها "سلمي" معبرة عن السر الدفين وراء الهجرة، السر الدفين لما افتقده في بلاده وراح يبحث عنه: {قالت لك سلمى بعد نحو ثلاثة عقود من بروز رأسك اللعين، فيما كنت تدسه بين نهديها طلبا للذة والدفّ كجرو مقرور

ـ أكيد أمك ولدتك في الخلاء وفي الشتاء كيف ما تولد الحملان والعجول

ولم تكن بعد قد رويت لها حكاية مولدك.

ضحكتَ من قلبك مندهشا لاستبصارها:

ـ كيف عرفتي

ـ لأنك تبحث عن الدفّ قبل اللذة}. وكأنها تجسد بؤرة العمل بأكمله. الدفء والأمان المفتقدين.

الحبكة والسمات العامة
انتهج الكاتب الإسلوب التقليدي في روايته، وهو مالا يعني عيبا أو قصورا ما، وإنما يعني إسلوب كتابة. حيث تبدأ الرواية باستعراض طولي لحياة السار، أو إن شئنا الدقة، المسرود عنه، عاكسا في ذات الوقت الحياة الاجتماعية الليبية بدءا بالعهد الملكي السنوسي، مرورا ببدايات الانقلاب الثورة القذافي. وكأنه يرسم بعضا من الخطوط المتوازية التي لا تلبث أن تتشابك وتتداخل وتتعقد، حتي يصعب تحديد أي منها، في كتاب الانتهاكات، فيتداخل التاريخ، بالواقع المعاش، ويتداخل الواقع المعاش مع ما تنسجه المخيلة، وكأنه يوقع قارئه في دوامة التصديق وعدم التصديق لما ساقه في بداية الرواية {هذه الرواية ليست سيرة شخصية. وشخصياتها ليست حقيقية}، وهو النفي المؤكد للحقيقة، حيث نتبين العديد من الأسماء الحقيقية، خاصة في مجال الإبداع، متداخلة مع ما تصنعه المخيلة. ثم تتجمع الخيوط جميعها في كتاب النهايات في ثلاثة مخارج واضحة المعالم محددة الأبعاد، لا تلبث أن تبين عن مخرج وحيد، هو استنكار تواجد العربي خارج أرضه، أو بالأصح رفض الظروف التي أدت بالعربي للتواجد خارج أرضه.

اعتمد الكاتب، إلي جانب سلاسة الأسلوب، لغة السخرية المريرة التي تكشف عمق المأساة ومرارة الواقع. ففي حديثه – علي سبيل المثال – عن الغربي الذي جاء إلي بلاده مستوليا علي النفط في مقابل الوهم، نقرأ: { قال "لورنس النفط" بعربية فصحى في لكنة خواجة، فيما كان يفرك كفيّه كحاوٍ: ـ عندي ثورة عربية على مقاس هاشمييكم . . وإتيكيت فكتوري مبسط . . باروكة قاضٍ مع قانون وضعي . . سبورة وطباشير وسماعة . . مظلة لفيء متنقل . . وهنا تلفون للاتصال ببدالة "العشرة دوانغ ستريت". . . وهناك راديو للاستماع إلى سيرة بوزيد الهلالي دون أن ترى الراوي . . وكذا ورق ناعم لمؤاخراتكم الأسطورية الكريمة}.

 استخدم الكاتب ضمير المخاطَب (أنت)، ساردا عليه وقائع حياته، واستخدامه لهذا الضمير تحديدا يوسع من دائرة الموجه إليه خطاب الراوي. فنحن في حالة استخدام ضمير المتكلم، يتجه انتباها إلي الراوي بصفته الشخصية الرئيسة. وباستخدام ضمير الغائب نبحث عن شخص بعينه يدور الحديث حوله. أي أننا في الحالتين أمام مفرد، علي خلاف استخدام ضمير المخاطب، الذي يعد أكثر التباسا، وقد يحتمل أن يكون (الأنت) المخاطب هو نحن القراء، وكأنه يوجه الحديث مباشرة إلينا، وبما أنه يتحدث العربية، فهو يعنينا نحن العرب، فنحن أمام أكثر من احتمال محدد، أي أننا أمام عديدين، وهو ما يجعلنا نتصور أن السارد جمع الإنسان العربي في ذاك الشخص، وراح يروي عليه كل تلك المآسي. وكأنه يسأل : وبعد ما عرفت ما ذكرته ورويته عليك. ماذا أنت فاعل؟ فهو لم يدعو للثورة - التي لم تكن قد بانت معالمها بعد - وما كان يجرؤ أحد الحديث عنها، وإنما كان يمهد الطريق إليها، بالتعبئة لها، بتكثيف ثورة الغضب الداخلي، الذي نفث دخانه وخرج إلي الوجود بعدها بنحو عشر سنوات.

 

EM: SHYEHIA@YAHOO.COM

 

(1) - فرج العشة – لماذا أنت هنا – رواية – مجلة الكلمة، العدد 51 يوليو 2011