سليم بركات من أكبر المواهب الأدبية السورية "الكردية" إن لم يكن أهمها جميعا، وتقدم الكلمة هنا قراءة لروايته الجديدة (موتى مبتدئون) احتفاءا منها بإبداع هذا الكاتب الكبير.

وقائع بطيئة ولغة متدفقة

إبراهيم حاج عبدي

في كل مرة ينجز فيها الشاعر والروائي الكردي السوري سليم بركات رواية جديدة، يضع القارئ أمام معضلة التلقي وتعدد التأويلات. ولئن اجتهد هذا القارئ وحاول ولوج غابة السرد المتشعبة والمغوية التي يشذبها بركات ويعتني بها، وخصوصاً في رواياته الأخيرة، فلن يصل إلا إلى متاهة مربكة ترهق الذهن الكسول. وقد يتساءل المرء هنا: لماذا يجشم القارئ نفسه عناء السير في هذه الغابة السردية الماكرة؟ الجواب، ببساطة، يكمن في لغة هذا الروائي الساحرة، فهو "افضل من كتب بالعربية منذ عقدين من الزمان" بتعبير محمود درويش. هذه اللغة الوعرة، الجميلة تضمر جاذبية لاستمالة مزاج القارئ الذي يخضع لسطوة تلك اللغة المسبوكة في قالب فريد. في روايته الجديدة "موتى مبتدئون" الصادرة أخيراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت، 2006)، نجد أنفسنا مرة أخرى أمام نص، محكم السبك، لا يعير اهتماماً لشيء مقدار اهتمامه باللغة. فالوقائع بطيئة، واللغة متدفقة، بل ان هذه الرواية ـ بدءاً من العنوان، مروراً بالعنوان الفرعي "كل شيء افتراض حين يكون الموتى مبتدئين"، وصولاً إلى التاريخ الذي يوقع به النهاية "القرن الثاني عشر الميلادي" ـ تغلق باب التخمينات، والاحتمالات، وتؤكد المنحى التخييلي الذي يتبعه بركات، ويبني عبره عالمه الروائي الافتراضي كما فعل، أيضاً، في روايتيه اللتين سبقتا هذه: "كهوف هايدرا هوداهوس"، و"ثادريميس".

ولئن كان التخييل سمة روائية بامتياز، لكن تجربة بركات الروائية تفيد بأنه بات يغرق، أكثر، في هذا الجانب، ويستثمره إلى الحدود القصوى. فبعد أن أسهب في الكتابة عن المسرح الكردي الذي خرج منه في الجزيرة السورية حيث قضى طفولته وصباه، وبعد أن روى، بنهم، في رواياته الأول: "الجندب الحديدي"، "هاته عالياً، هات النفير على آخره"، "الريش"، "فقهاء الظلام"، "معسكرات الأبد"... وسواها، محنة هذا المكان ومرحه، ووثق لبشره وطيره وحجره وحيوانه ونباته بغنائية عذبة، تمزج الواقع بالمتخيل، وتصوغ لوحات طازجة عن شكل الحياة على تلك التضاريس، وجد نفسه إزاء ذاكرة بدأت بالنضوب. اتسعت مسافات الغياب عن المكان، ولم يعد الكاتب قادراً على ترميم اللوعة بالسرد، فراح يستعين بطبائع الخيال، ويستجلي ملامح الحياة في أمكنة سكناه الجديدة في قبرص أولاً، ثم في السويد كما في روايته الجديدة.

ترسم الرواية ملامح شخصيات لا نعرف منها سوى الاسم الأول، يليه الوصف الذي ينعت به بركات شخصياته: ماسيلدي، شبح الزنبق. غيرموهالي، نفس الأيّل في المغيب. جيماتيرك، محيِّر شجر القيقب. راموسيراسمو، نكهة طحين الأرز. داهناليدا، المعصوبة العينين. نيديداد، الغيمة في الشروق. هؤلاء الرفاق الستة الذين يبحثون عن غريب لتسليته، وعن خليج أودن، هم أحفاد لستة أزواج مسنين يبحثون كذلك عن الخليج ذاته. في الحوارات نقرأ صفة الأزواج المسبوقة دائماً بأداة النداء "يا": يا قناع الذئب ـ يوها النبيل، قناع السنجاب ـ سيل العالم، قناع العقعق ـ لو المهذب، قناع الثور ـ راكوف الباسل، قناع الإوز ـ فيناكو الرائع، قناع الوعل ـ بولبون الصاخب، فيما يمنح بركات زوجاتهم الاسم الأول مع ما شاء من الصفات: النحيفة الشاحبة، البيضاء الشعر، القوية القوام، النائمة العينين، ذات الوجه المنفرج الأسارير، الشديدة البياض، المنتفخة الأجفان برغبة لم تروَّ بعد، المنتفخة الوجه.

وعلى رغم حضور هذه الشخصيات في صفحات الرواية، غير أن الشخصية الرئيسة هي شخصية المرهق العينين، "الجالس على جذع شجرة مهشم، قبالة المياه في خليج أُوْدِنْ"، يشحذ مديته العريضة الشفرة على مبرد حجر مضلع، لينتحر بها في نهاية الرواية بهذا الشكل المؤثر: "مرر شفرة المدية على لسانه يتذوق طباع المعدن في توابلها العريقة. رفع يده اليسرى أمام عينيه. هزها في حركة شَمَّرت كُمَّ المعطف قليلاً عن معصمه. وضع الشفرة على اللحم: حز العصب والوريد. نفر الدم حراً من دورته الرتيبة. انقذف متنفساً". هذه الشخصية المجهولة الاسم هي التي تنسج خيوط الرواية، وهي شخصية متفردة صامتة، قادمة من ارض "دوكون" يجر بالحبال سفينة عبر البر مع مئتين آخرين، يعبرون بها سهول "دوسخو" وصولاً إلى أرض "سكوغوس" إقليم العبث المعتدل، وإذ يبحرون في البر يسمعون استهجاناً من أهل المكان الجديد: "أي يقين شربتم مع الماء كي تجروا سفينة عبر بوابات غابات القيقب، وكهوف ظلال الصنوبر، وحصون شجر البتولا والزنزلخت؟"

لا أحد قادر على المجازفة باستخلاص مقولة محددة للرواية الصغيرة الحجم (121 صفحة)، لكن أسماء الطير والحيوان والنبات التي يدرجها بركات في متن الرواية تحيلنا إلى السويد "أرض الخلجان الكثيرة، المترعرعة في كنف السماء المهجورة"، التي هاجر إليها الروائي بحثاً عن طمأنينة مفتقدة، وعن فرح مؤجل أرهق عينيه. هذا يشجعنا على التأويل بأن شخصية المرهق العينين، الأبيض الشعر، ما هي إلا شخصية سليم بركات نفسه، مع اختلاف أن الشخصية الروائية قد انتحرت بينما لا يزال الروائي حياً يعيش بين صفوف "الموتى المبتدئين" يشحذ مديته، و"يستعرض على نفسه المكان تفصيلاً بعد آخر: الجذوع العتيقة الهرمة، والثلج المتغلغل، بجسارة، في المياه، والغابة المؤتلفة من خلفه، بأمم أشجارها العارية منها والمكتسية". وهو يعاني من الوحدة: "الوحدة كما هي، بتمامها، مكتملة في شحذ مدية على مبرد بلا نهاية"، وهو غريب "مبتل بالوحشة. بلل دافئ، أيها الغريب، تحت معطفك - بلل الوحشة" كما يخاطبه الضيوف الطارئون على عزلته الأبدية.

وما يمنح الرواية مذاقاً أليفاً، على رغم غرابة أجوائها، وكآبة شخصياتها، هو أن بركات اعتاد أن يؤنسن كائنات الطبيعة ومفرداتها، وخصائصها. هذه الأنسنة لا تقتصر على استنطاقها، فحسب، بل هو يذهب، بحنان مفرداته، إلى ابعد من ذلك إذ يصغي إلى صوت أوجاعها، ومكرها، ومرحها. يبادلها النظرات. يواسيها، ويقرأ سطور الحنين في أنفاسها، كأن يقول، على سبيل المثال: "استأذن السنجاب شجرة الكستنة..."، أو "شحارير سود حطت، متفرقة... كلّمت التراب الرطب..."، أو "اغتلى الذعر في الزبد"، أو "تراخى البحر الكهل، مستريحاً في مقعده العريق"، وهو يخاطب البرد على هذا النحو: "سيدي، أيها البرد، خذ من ذاكرتي ما تشاء، خذ خواءها"، بينما يصف البياض على هذا الشكل: "هذا البياض الذي حولي متردد، زاهد..."، الطيور توصف بجمل: "تصايحت طيور القُرقُف الصغيرة، لاهية، في أعالي الغصون. طارت شموساً، صغيرة، خفيفة..أعارت الشجرَ خيالها، واستعارت خيال الشجر..."، ويقول في موضع آخر: "تنفس البرد. تنفست المياه"، أو "نبض الدم، في وريدي، نبض مرح"، وغير ذلك من العبارات التي تمزج، في استعارات محببة، بين البلاغة وروح الطبيعة بكل حيواتها، وكائناتها التي تكاد تتنفس من بين سطور النص.

وبركات الذي يلقن شخصياته الأدوار والحوار خصوصاً، بحيث تكاد تتشابه، والمتقشف في تحريك الحدث، والواقعة، هو كريم، بالمقابل، في الوصف، مولع به، يدع القلم على سجيته، فيكتب، على سبيل المثال: "رقيقةً تمايلت ندف الثلج في نزولها. أُسدِل الحجاب الشفيف بإيماءة البياض إلى مريده الخفي. رفع الرجل وجهه ناظراً إلى البط المفتت الصور وراء الحجاب. ذابت جسومها في سطر متصل من حروف بلا فواصل"، أو يقول: "انحسر الضباب، رويداً رويداً. اتضحت سطور الزبد الرقيق متلاحقة، بلا اكتمال، في اندفاعها الهانئ بمراوح من أقلام الهواء، إلى الشاطئ المتفجر زهراً اصفر، ماجنَ الصفرة، زهر لغوِ الربيع".

يتداخل في رواية سليم بركات الوصف والحوار والحدث، كما في معظم أعماله، وينغلق الزمن في شكل دائري، بينما تشترك الغزلان والسناجب والشحارير والقرقف والعقعق والأشجار بأنواعها المختلفة، والثلوج والخلجان والضباب وغيرها من عناصر الطبيعة وكائناتها في تحديد شكل المكان. ويمكن القول هنا إن روح سليم بركات ريفية، فهو يميل، دائماً، إلى كتابة الرواية المنصهرة مع مشاهد الطبيعة، وأصواتها وتفاصيلها، من دون أن يعير لصراعات المدينة اهتماماً، باستثناء روايته "أرواح هندسية"، التي روت حصار بيروت مطلع ثمانينات القرن المنصرم، وباستثناء بعض الإشارات في ثلاثيته "الفلكيون في ثلاثاء الموت" التي لامست بخفة شكل الحياة في مدن قبرص. بركات، يتجه، دائماً، نحو براءة الطبيعة. يدون نبضها وحيويتها وسكونها. يقتحم الأوكار والأخاديد والمنعرجات. يصغي إلى أصوات الطفولة في قريته "موسيسانا"، التي حاول أن "يبعثرها"، بحسب قوله، فوجدها، أبداً غافية في الذاكرة، تستيقظ كزهرة دوار الشمس إذ يباغتها الضوء، كلما هم سليم بركات بتوثيق فجيعة جديدة، أو غربة أدمت القلب.

"موتى مبتدئون" تستريح، على رغم أجوائها المخاتلة، على كتف تلك القرية الوديعة بينما يدرب الروائي ـ الراوي خياله، وذاكرته لأن تتجرع صخب غابة البتولا قبالة خليج أودن البعيد، فلا يعثر إلا على حنين مقيم يعيده، أبداً، إلى تلك القرية المنسية الغائبة عن الخرائط، لكنها والحاضرة بكل بؤسها وبساطتها وحزنها في دفاتر طفلها الروائي سليم بركات.