توشك جدلية الزمن السردي في هذه القصة أن تكون مفتاح تراكب طبقات الزمن/ القهر/ الانتهاك التي دمرت الذات العراقية عبر تراكم صيغ القهر من الأب إلى حارس المدرسة إلى الحرب الطائشة والسلطة السياسية الغاشمة. وتردفها جماليات اللغة التي تزداد كثافة وشعرية كلما غاص النص في دياجير الذات البشرية المعذبة.

رؤيا الحفيد

سلام إبراهيم

انسل في ثوب السكون السائح على الأزقة الهامدة في العتمة بعدما خف الضجيج قائلاً:

ـ سأرجع..

وانسرح قاصداً الباب الموصد في نهاية المدخل الطويل. تسلل بين خرائب بيوت المدينة العتيقة حتى بلغ بناية قديمة. ولج دهليزاً ضيقاً تتكاثف في جوفه الحلكة فاتحة بخليط من روائح البخور وماء الورد يفضي إلى فناء مرقد فقير.

استكن مصغياً إلى بقايا وقع خطى أحذية ثقيلة يتلاشى صداها في السكون. الصمت مطبق على النوافذ المحطمة والجدران وأشلاء الطابوق المتناثرة على وحل الأزقة. انكمش لصق الجدار ووقع أقدام تخبط الأرض تبعتها صرخة مكتومة. خطف وميض برق، فأضاء الإسفلت المحفّر جراء القصف المدفعي جالباً خلفه هزيم رعد متواصل رجّ الأرض الزلقة تحت قدميه، فتشبثت أصابعه بنتوءات الطابوق الصلب. سال السكون الأجوف مرة أخرى مانحاً مزق البيوت المشبوحة وحشة موغلة في قسوتها. لبث في جموده وجلاً، يشعر بإرهاق وعجز شديدين. حاول التماسك. شد أطرافه المهدودة قبل أن يخطو في عماء الدهليز، متلمساً براحة كفه المنتفضة آجره الرطب. ألقاه في فسحة مسورة بجدران بيوت خلفية من جهات ثلاث، أما الرابعة فمسدودة بسور طيني خفيض يتوسطه باب. قطع الفسحة الموحلة مستدلاً بذاكرته نحو الباب الخشبي المخّلع. كاد أن يرتطم بعتبته البارزة. استوقفته هسهسة مخنوقة من خلفه. لامست قفا عنقه وعبرت، فلاحقها مشرئباً ليطل عبر السور إلى حيث توارت بأحشاء الفناء الذي أنغمر بشلال برق انهمر للحظة من السماء المدلهمة.

... إنه نفس المكان.. يتذكره جيداً، فطالما احتواه ببارد ظلاله في سني طفولته المضطربة، حينما كان يلجأ هارباً من عصا أبيه في ظهائر الصيف القائظة، وحيداً، مهجوراً، بائساً. يفكر في محنة المساء، ويتأمل من جلسته المنعزلة بشرود أقدام الزوار الداخلين والخارجين، القائمين القاعدين مخدراً بلغط أدعيتهم الخاشعة، المنسكبة من شفاه أيبستها شؤون الدنيا، والمندغمة بنعاس عينيه الذابلتين، بالورع المترقرق في غضون قسماتهم الصلبة وطقطقة مسابحهم السوداء المفرودة بأطراف أصابعهم الخشنة حبة .. حبة. يتأمل مبحراً في قوارب من غبار تنساب إلى أقاصي عوالمهم الغامضة. كان يعتقد وقتذاك أن إنصاته الخاشع إلى ترديد الأفواه اللاهجة بالبسملة والمتذاوية بذليل الأدعية سيستجلب البرد والهدوء إلى روح أبيه الملتهبة، فيغفر الذنب الذي اقترفه دون قصد في الصباح.. فيستقبله بذراعين حنونتين حينما يؤوب إلى الدار وقت الغروب..

تحسس عضادتي الباب المنزوعتين. مسح الخشب القديم بكفه، وتجمد على أصوات احتكاك حديد بنادق بأردية خشنة أعقبه صياح:

ـ امسكوه!.

خبطات أقدام تنهب الوحل. أنفاس تفح. جسد يرتطم بجدار. لهاث مذبوح انطفأ بصرخة استنجاد عارية يائسة:

ـ دخيلكم .. لا .. لا .. آ آ آ آ آ آ آ آه!!

غيبتها رفسات بساطيل عسكرية ثقيلة لا تخطئها أذناه اللتان خبرتاها في شساعة قفار الجبهة الداخنة بلهيب حرائقها، ورعد انفجاراتها، وعويل جنودها، والتي لفظ صخبها وضجيج بشرها هامداً في عتمة أرسي عمته المهجور. أدكنتهُ حيطان مخبأه، ونهارات متشابهة يقضيها بين رعدة ورجفة من صوت محرك سيارة يبطئ قرب الباب، وقع أقدام تركض، وخواء ليل أجوف طويل يفرزه إلى ضيق الغبش منهكاً من أخيلته وكوابيسه وأصواته المبهمة. تلاشت الأصوات مخلفة صداها يرن في رأسه. دفع الباب. أجفله الأزيز وجعله يرمي بصره المتوثب خلل الشق متفرساً بأرجاء الفناء. كان بلل الصمت ولمعة الظلام يطليان غرفة الضريح وغرفة السادن المنزوية في طرفها القصي. ولج الفناء الموحل، وانتحى جانباً جالساً القرفصاء، يلامس ظهره الناقع الحائط المتآكل. طفق يراقب بعينين متوثبتين همود الغرفتين المظلمتين. لاحق فص ضوء فانوس أنار غرفة السادن، وتابع من بابها المفتوح رجلاً قصير القامة، يهتز بين يديه فانوس ويلقي ظلاله على قسمات وجهه المضاءة أطرافها من الأسفل. لم يبذل جهداً إذ سرعان ما تعرف عليه رغم تشبح الأشكال بالضوء الشاحب، وخطوط الرذاذ المائلة، فذكره بنوائبه الماضية المتلاحقة، والتي ألفته في باحات رعب شريداً، مذلولاً. انكمش مرة أخرى على ضجة أقدام تجري، ولعلعة إطلاقات نارية، أعقبها صرخات مكتومة، حشرجات، لغط تناد، وذيل استغاثات تلاشت في السكون الذي حل لهنيهة، لينغمر بعدها بزخات رصاص متواصلة، مخلوطة بسباب بذيء، شالته وحطته في وحل عراء الجبهة الفسيح، الضائق بسدود النيران المنصبة من كل الجهات، وجثث الجنود المطحونة المتروكة لنهش الشظايا. كان يحفر بأم رأسه في طين الحفرة، المكبوسة بأجساد الجنود الموحلة المعروقة، مرتعداً بكثافة رعبه الأخرس القديم، الذي ساكنهُ منذ تلك الظهيرة اللاهبة، في العاشر من عاشوراء. أهلكه نحيب حشود النسوة النادبات المشفقة النازفة، والرؤوس الحليقة المضروبة بحد السيوف الناصلة، وأحشاء القتلى المهروسة المخلوطة بتراب البرية. أحس بنفسه وحيداً تحت شمس الظهيرة الراكزة في قبة السماء، وحيداً بمواجهة صريخ الجند الضائعين في لجة الحشود المائجة، المسورة ساحة الوغى، وحيداً في الغبرة التي تثيرها الخيول الذاهبة، الغادية الرائحة، الدائسة على الأذرع المقطوعة، والرؤوس المجزوزة الأعناق. أبأسته أشلاء الجنود والأئمة المنثورة، السابحة بدمها الساخن، المسفوح على التراب، انصباب سعير جهنم المندلق من كرة السماء. ترمد في ذروة الظهيرة المختنقة بكتل الأدخنة المتطايرة، من تفحم ركام خيم السبايا المعولات، اللاطمات، الخامشات صدورهن العارية، ووجناتهن الشاحبة، حائراً ببهمة السؤال:

ـ لم يحدث كل هذا؟.

مسح جبهته المعروقة بكمه الناقع، وتطلع إلى قامة الرجل المتشبحة بارتعاش ضوء الفانوس الذليل، وأغشية الماء المنهمر من بحر السماء، والذي انهمك بفرش سجادة وتسوية حوافها قبالة الباب المفتوح. تطلع بشرود مفكراً بتذاوي حلمه الموهوم، الذي كان يعتقد أن في إمساكه ستتفسر بهمة كينونته، لكن في زنزانة رطبة أروه الويل، وفي وحشة لياليها استكشف هشاشة روحه.

خاض الشيخ الناحل في ذرات غبار الضوء المتحدرة إلى أطراف الغرفة ببطء شديد. أدخل يده في تجويف مربع يتغور أسفل النافذة المغلقة، واستخرج كتاباً ملفوفاً بقماشة خضراء. عاد إلى ساحل سجادته وهبط بروية ليطفو متربعاً وسط حافتها البعيدة. تناول حاملاً خشبياً قصيراً من جواره المعتم، وضبطه أمامه في نقطة يسقط عليها ضوء الفانوس. فل عقدة الرداء معرياً جسد الكتاب، قبل أن يضعه على سطح الحامل المائل نحوه قليلاً. بسمل بهمس مسموع، وراح يقلب صفحاته بأناة إلى أن استقر مسبلاً ذراعيه إلى الجانبين. استكتف. مسح قسماته، ثم شرع في التجويد. انتشر في هدأة الفناء الماطر ترنيم الكلمات الخافتة، المسجوعة، أنصت إلى صبيب المعاني المتغلغلة في ثنايا النفس الضائقة. اختنق شجناً وهو يطل على انغمار المقرئ في وجده. صعدت القشعريرة وراحت تجوب بأنحائه صعوداً هبوطاً، ثم توارت مخلفة خدراً عميقاً، خدر تلك الظهيرة ذاته، حينما توغل في تفاصيل المشهد المتجسد تحت دكة عزلته التي يطل منها على أوصال القتيل الممدد في البرية، والذي تظلل في غفلة من الجموع المولولة، النادبة، اللاطمة على الأفئدة والجباه المطينة، بمستطيل رخامي مغطى بإزار فاقع الخضرة، وقبة عالية مكسوة بكسر المرايا المتقابلة المتراصفة، الهابطة حتى تيجان الأعمدة، التي تسند كتلة القبة، والمدفونة بجدران الرخام السميك، المفتوحة بأربعة أبواب كبيرة عالية متقابلة مزججة الأجساد، مطعمة بالفيروز والعقيق. أرعشه رفيف أجنحة طيور بيض، تنتفض في قعر سائل البيبان العميق الزرقة. ضمّخه طيب خفي يفوح من صفوف أزهار تحتشد في صفوف متداخلة، تغور في سماء الرخام والأحجار والمرايا، ومن أجساد الكلمات الملتوية، النافثة خلاصاتها على ملامح النسوة المحزونة، الخائبة، المجللة بسود العباءات، وقامات الرجال المعاندة، الخاوية، والتماع المصابيح المحاطة بكرستال المسارج الضخمة، المتدلية من نهايات سلاسل نحاسية، تنزلق من السقف المزخرف، ومن مركز القبة. كانت روحه تنسكب مع نورها الساقط على الحواف الناتئة لحجرة الضريح، وهو يمسك براحة أمه الساخنة. كانا يدوران في سورة الكتلة اللحمية، المائجة حول سور الضريح. كانت تكابد للإمساك بمشبكات نوافذ السور المذهبة، فتدفعها موجات اللحم البشري الهائجة. تحاول المرة تلو المرة جاهدة، إلى أن تقبض كراتها المنضودة، فتنتحب خشوعاً، وتدعو متضرعة كي يحميه من مصائب الدنيا وعسرها، ويحفظه ولداً صالحاً يلم شيخوختها. لحظتها كان واثقاً من استجابة حضرة الإمام الراقد خلف النافذة، لتوسلاتها المتهدجة، وصبيب نحيبها الذي تكفكفه بطرف وشاحها الأبيض. كان يذوب برعشة صوتها، باهتزاز جسدها، بدفء راحتها، بتمتمة الأدعية المتداخلة.

* * *

تشبث بفجوات السياج، وأنهض جسده المبلول. خاض بوحل الفناء مقلصاً المسافة التي تفصله عن جوف الغرفة. أصبح بمقدوره تمييز أشياءها القائمة بأشباح ظلالها المرتسمة في مساحات الضوء المعلولة، والمغبرة بستائر الماء المسدلة. تقدم خطوة أخرى .. وأخرى. هاجمته الرائحة القديمة ذاتها، فسمرته في الوحل. الرائحة ذاتها حينما فزّ مذعوراً، مختنقاً في ذلك النهار البعيد. الأشياء المرتبة في تبعثرها تشغل نفس الأمكنة، المسابح السوداء الطويلة المتدلية من مسامير غليظة تثبت أركان رسوم أئمة صالحين، بلحاهم الشيباء الوقورة المنسرحة أسفل صدورهم، وقسماتهم الورعة الرانية من عيون سوداء واسعة إلى المقرئ المهتز في أغبرة الضوء الكابي، والسادر مع آياته التي يرتلها بصوت شجي أصبح شديد الخفوت. الصندوق الخشبي المرصع بخرز ملون يسمك قرب الرتاج، وينتشر خطوطاً تنمحي في الحواف. الإبريق وفوهة عنقه المعتمة. طاسة الماء النحاسية المدورة. بقايا أصابع شمع قائمة، ساقطة على سطح صينية علاها الغبار. ثقوب الحصير الحائل المسلت الأطراف. فراش القطن الذي شهد عذابه. أيقظته من شروده ريشات المروحة السقفية، بظلالها الميتة، الملقاة على جص السقف الخفيض، فاستذكر اصطفاقها القديم الذي شظى كيانه، وبعثره أشلاء ضائعة في تراب ذلك النهار الحزين. شعر بالضآلة والعجز. لفه شجن المعاني المتدفقة من الشفاه المنشغلة بفك طلاسم الحروف المغزولة في اصطفافها الأبدي. اشتد المطر وأصبح لتساقط قطراته المتلاحقة على السقوف والجدران وبرك الفناء ضجة غيبت وقع بساطيل العسكر الجائبة في جوف الليل، بحثاً عن بقايا حيوانات مذعورة تنحشر مثله في شقوق الجدران المهدمة، الفجوات، السراديب، الحفر، الدهاليز والأركان المهجورة. تحسس مقبض السكين الملتصق بخاصرته حينما تسرب إلى سمعه خشخشة تصدر من الدهليز وتقترب مصحوبة بلهاث بشري، فذكرته برعب خشخشة أعواد القصب في حلكة ليل مستنقعات وأهوار الجبهة التي توقد فزع النفس الكامن، وتميت الأطراف شأنها شأن عصا أبيه والمعلم والضابط والسجان والدنيا والسماوات.

ـ أي عمر هذا الذي عشته؟!!!.

همدت الضجة متلاشية في خرس سكون دوار ساد للحظات، ثم هبت ريح عاصفة أطارت الصفائح المدلاة من بقايا السقوف، وأسقطتْ الجدران المترنحة، فتعالى صريخ بشر يدفنون تحت الأنقاض. استدار عكس مسار الريح. لف حول حائط الغرفة محتمياً بتطليعة السقف المهتز. وقف لصق النافذة، وتطلع عبر زجاجها المضبب. الغرفة غائمة، وظلال المقرئ تتموج طافية في حركة هلامية وكأنها تنفث أدخنة تتكاثف حول حواف رسوم الجدران والروازين وريشات المروحة. استطال الترنيم وتنغم، فجرفه إلى مسافات الخدر العابقة بأبخرة تعرق آباط النسوة، اللواتي يرفعن صواني نحاسية مدورة رتبت على أسطحها أصابع السمع الضاوية، فوق رؤوس الحشود المرصوفة، ويبثثن من الجنة الكامنة تحت العباءات فوح الأنوثة والأمومة. أسكره عبق أنفاسهن الممزوج بعطور الصندل والآس وماء الورد والحناء. فانزلق على بلاط ممر ناعم، شديد الانحدار، وهوم بانزوائه في ركن رواق مدرسة التهذيب الابتدائية الظليلة، مجهداً من سهر ليلة العاشر حتى تباشير الصبيحة الدامية. تعفر بغبار البلاط غائباً عن احتدامات وقعة النهار الضاج بالعويل والحرائق والذبح. ترسب في قعر الغفوة .. فأبصر القتيل ينام جنبه على البلاط وقد برئت جروحه، واستنار وجهه الحافل في غفوته بغموض الجلالة. ورغم عمق نومته، أحس بذراعين تحملانه من أسفل كتفيه ووسط ساقيه. للذراعين حنو ذراعي أبيه، ورائحة جسده العابقة برائحة نشارة الخشب. جهد لمباعدة أجفانه كي يرى الوجه الصارم في لحظة حنان فريدة. حرك أجفانه الخدرة، فرشقته هبة أخرى من ضوع الخشب. استسلم ذائباً بعطر الإبط الساخن ليفز مرعوباً أشد الرعب. كان منبطحاً على فراش من القطن، وجسد ثقيل الوطأة يخنق أنفاسه، ويشعل مؤخرته بألم لا يطاق. أنخرس صراخه وهو يعتقد لحظتها، أنه في غرفة بيتهم. بعثره الهول متيقناً في تلك اللحظة الملقاة خارج الزمن بأن الذي ينوء تحت ثقله لم يكن سوى والده الحبيب. صوت ريشات المروحة السقفية يضرب انسحاقه برتابة، تتناوب مع سعير اللهاث المنصب من فوقه، واللافح قفا عنقه. انطحن. انصهر. استنجد بقتيل الوقعة:

ـ دخيلك.. خلصني من هذي الشدة!!!.

طر.. طر.. طر... ظل يدور، ويدور في فراغ أجوف محبوس الصراخ... ذات الفراغ وهو يتدلى مقطوع الأنفاس من ساقيه المربوطتين ببكرة مروحة مديرية أمن الديوانية.. طر...طر... ها... ها... دوران رتيب لا يني يكبس أنفاسه المكتومة، انزلاق أبدي في هاوية لا قرار لها. لهاث دنس يوقد يباس بشرته المنكمشة.. اختناق... قرف.. رعب.. لسع ألم يصلي الروح. رأسه ينتفض في انزلاقه المريع، جبهته تحفر في القطن، أصابعه تتشنج متشبثة بحافتي الفراش... بهوة الفراغ. تَحَمّلَ السحق إلى أن تخافت لهاث أبيه الذي انتحى بثقله جانباً. لبثَ جامداً في تمدده المنتهك على بطنه. يطبق أجفانه، وينصت لتلاحق ريشات المروحة النافثة سعير هوائها الكابوسي إلى أن أتاه صوت غريب جعله أكثر اضطراباً:

ـ قم اغتسل!.

رجته الدعوة رجاً. أخذ يختض في لبوثه، فاركاً جبهته المدفونة بالتراب. هدأ قليلاً. فرَّ عنقه فأبصره.. كان يعدل لباسه الداخلي ويرمقه بعينين غير مباليتين، يسكن في فتورهما استرخاء لذة مشبعة، ذات الفتور المختلط بالاحتقار المائر بعيني المحقق القاسيتين، وهو يهتك سر رفاقه، ذات العينين الفاترتين المتوحدتين، السائحتين بطلاسم وأحجبة معاني الحروف المتصلة، المتفارقة، الملمومة، الممدودة، المنغلقة، المفتوحة، المنحنية، المقعرة. نفس القسمات لكنها شائخة الآن. من استلقاءته المباحة، حملق مذهولاً بالسقف الخفيض، بالنوافذ المربعة وزجاجها الأغبر. أجفله بريق عيون الأئمة الرانية بحياد أبدي إلى طوله المسفوح المتلظي بسعير الفراش. لم يستطع حراكاً. لم يستوعب بعد معنى وجوده بهذا المكان.

ـ قم اغتسل يا بني!.

احتدمت بنفسه الرغبة في سحق قسمات الرجل المنتشية، الرامحة صوبه، في تحطيم العالم. وانكظمت محسورة كسيرة. قفز مغطياً بارتباك جسده العاري، المنهوب برداء الحداد الأسود، المتكور حول عنقه، وهرع راكضاً نحو الفناء الفائر بمرجل السماء. راح يجري ويجري لاهثاً، يائساً، ينتحب بمرارة ويصفر في رأسه دوي غير مفهوم ظل يرافقه طوال العمر.

أفلت قدميه الطامستين في سبائك الطين، وانسحب إلى عرض الفناء، لينتقي موضعاً يشرف منه بوضوح على ما يجري في الغرفة. لم يزل الشيخ هامداً في جلسته الخانعة، يحدق في حلكة الفناء، وقد كف عن التجويد.

تابعه وهو يطبق الكتاب، ويلفه في حلته الخضراء، ثم ينهض متكئاً على ساعديه ليتراجع إلى عمق الغرفة ويضعه بأناة داخل تجويف الرازونة. استدار عائداً. طوى السجادة. أقامها في الزاوية القريبة لموضع جلسته. تناول إبريقاً خزفياً، وطلع إلى الفناء. استلقت ظلال الجدران المهتزة بأجسادها الموحلة، وانتشر الضوء الكابي. استشعر بقوة الخطر القادم من ضجيج العساكر الذي بات أكثر قرباً. انشق السكون بعويل طفل وولولة امرأة نادبة. تسمر الشيخ في منتصف المسافة بين الغرفتين. تباطأ اهتزاز الفانوس المتدلي قرب فخذيه، فاستضاء محيط الساقين العاريتين المغمورتين حد الكاحل بالماء العكر. تلفت رامياً شتات بصره، يلاحق ذيول الولولات المتلاشيات الغائرات في قرار السكون. عاود المسير قاصداً حجرة الضريح. يشغل وقع خطاه فراغ الصمت المتخلف، بين وقع بساطيل الجند المقتربة. علق الفانوس بمسمار يغور بأحشاء الأعمدة، فاستنارت الأجزاء العليا من أجساد الأعمدة، وبقع متفرقة من جدار الطارمة. شمر أكمامه، وسرب الماء من عنق الإبريق المائل، غاسلاً قدميه على دكة إسمنتية تقوم بجوار الطارمة. ملأ باطن راحتيه الملمومتين ومررها من الكوع حتى ظاهر الكف. بل جبهته بوشل الراحة. برقت السماء. أرعدت، ثم عم الهدوء، فتغور الصمت. أنصت لخرير الماء المنسكب من عتمة الخزف، لنشيج الماء المندلق من ميازيب السطوح، لطبة بساطيل العساكر المطبقة على مخارج الدهليز. اندفن في هشيم السكون، منشغلاً بطقوس الوضوء، بتلويات زخارف الجدران المنارة بالضوء المسلول، بآثار رصاص شوه جسد الحائط القديم. اندمجت الأشكال ضائعة في العتمة لحظة دلوف الشيخ بفانوسه المتأرجح خلال الباب المفتوح. قطع الفناء خائضاً في وحل البرك، يلاحقه لغط العسكر الواضح وكأنه خلف سور الفناء الخفيض. لغط وصدى صريخ، نشيج وعويل، ندب وتوسلات، استغاثات يائسة لنسوة وشبان وشيوخ وأطفال يذبحون في ضجيج الأمطار، في عتمات الأقبية والزنازين، في زوايا الغرف المظلمة، في الوديان والسهوب والبساتين، على ضفاف الأنهار، وفي الصحاري الآن ومنذ أقدم الأزمنة. صفر برأسه ذلك الدوي غير المفهوم الذي رافقه منذ بكورة صباه في صبيحة الذبح المعادة كل عام في العاشر من عاشوراء. أربكته خيوط الغبش المنسلة، فأمسك العامود المجرح بالرصاص. حضنه لاهثاً، وعيناه تطلان على جوف المرقد الغائم بضوء الفانوس المحتضر. جنب قفص الضريح المغبر، فرش الشيخ سجادة، وهبط عليها مرتكزاً بركبتيه، ومدّ جذعه إلى الأمام ضابطاً موضع التربة وسط حافتها البعيدة، المواجهة للباب جهة القبلة. تصفح قسمات الشيخ التي شاخت تضاريسها، وأكسبتها فجاعة السنين الدامية وطول العزلة، المرتحلة في شجون الذنوب نصاعة متفردة، أشعرته بمزيد من الاضطراب الممزوج بالرهبة. تعالت الجلبة خلف السور، فالتفت، ارتج هلعاً.. فمن فم الدهليز الحالك، تدفقتْ العساكر إلى فضة الفسحة الخلفية المعتمة ببقايا الليل. تدفقوا بعيونهم اللامعة، وصخب تزاحمهم. ها هم يتوجهون نحو السور بخوذهم الحديدية المتراصفة. حضرته القيامة بصمتها الأجوف.

ينتحبُ في ضيق الزنزانة وليلها الطويل .. يضرب رأسه بالجدار الملطخ بالدم .. يحفر في تراب الملجأ .. يختنق في عفن الأجساد المتحللة .. يتبعثر مع اصطفاق ريشات المروحة الدائرة بجنون .. يحس بساقيه تنخلعان من الورك .. فحيح يكوي عنقه .. ينسحق .. يتبعثر تحت اللحم الآدمي الدنس، بين الحشود المائجة بلحمها اللزج المعروق في باحة الحضرة وهي تكبر بيأس. في الوجوه الخائبة، المروعة، المستسلمة .. يحتضر في قبر الفراش، في عتمة الأنفاق، في رطوبة السراديب، في رمل الملجأ، بين آجر جدران إرسي عمته المتآكل، بين صخور الجبال الصلدة وأفخاذ النخيل وخواء القصب .. مهجوراً .. شاحباً .. يضمره الرعب .. يضمره .. يضمره.

ـ ألا من مغيث يغيثني؟. ألا من معين؟.. ألا من ناصر؟.

وقع أقدام، صرخات استغاثة، صفير ريح هوجاء. رفسات بساطيل العساكر تحطم الباب المخلع، ولولة نادبة، ضجة سور يتهدم. تفور السماء بروقاً ورعوداً. يهدر السيل، يكتسح البرك. يسيح في غبشة الضوء. يغمر قدميه.

اقتحم العساكر الفناء في اللحظة التي تعالت فيها أصوات المؤذنين تنشر الشهادة، من مكبرات صوت معلقة في فجوات تتدور حول أعناق المآذن العالية، المطلة قاماتها الناحلة على سطوح البيوت الخربة، الغارقة، المحاطة ببساتين النخيل المحروقة، والممتدة إلى حافات الصحراء المترامية حتى الآماد السحيقة. ترانيم التكبير طغتْ على لغط الجنود المتدافعين، وطقطقات حديد بنادقهم المنزوعة من الأكتاف. كان الشيخ مستكيناً، غير مبال بما يجري في الخارج، دائباً على القيام والقعود، الركوع والسجود، والتمتمة الخافتة المتهدجة. اندفع مع أولى دفقات الماء الذي اكتسح حجرة المرقد. أصابعه تلتحم وتكاد تندمج في نحول خشب القبضة المنقوع. تصارخ الجند ساحبين أقسام بنادقهم. في هدير الرعد الراج أركان الأرض قفز نحو ساحل السجادة، التي بدأت تطفو فوق موج الماء. أصبح الجسد الهزيل تحته تماماً. ارتجفتْ يده الشارعة بطعن الظهر. لوى الشيخ رقبته، ورمقه بعينين بارقتين تسكبان فيضاً من حنان قديم. النصل الدقيق يلمع في جموده لصق التواء العنق. العينان التعبتان المؤطرتان بالغضون .. أليفتان، عارفتان، تفصحان ما خفى من الأمور. انحلتْ مفاصله، فسقط السكين واختفى في الماء المتدفق من الباب. تهالك جواره على السجادة.

وحيدان على سطح البساط الطافي .. وحيدان بين الأمواج الفائرة التي أغرقت قفص الضريح. مد الشيخ يده، ومسح بأنامله الناحلة جبهته المتفصدة بساخنها. خدره ملمس الأصابع الحانية، فهوم نائداً برأسه الداوي بفوران الماء، وصخب العساكر المتنادين في هدير الطوفان، منسحراً بتقاطيع جده الذي مات منذ آلاف السنين.

أراد أن يسأله كيف قدم إلى هذا المكان؟.

أراد أن يسأله لم حلَّ محلّ حارس المدرسة الذي اغتصبه في أول صباه بالعاشر من محرم؟

أراد أن يسأله إلى أين سافر كل تلك السنين؟

أراد أن يروي له ما جرى أثناء غيابه الطويل؟

أراد أن يبوح له بأسرار نفسه الدفينة؟

أراد أن يلومه على...

لكن الجد هز رأسه هزة العارف، وأفرد ذراعيه الضعيفتين بعناء ليحتوي جسده الخدر، فولج مستكيناً بين أحشائه الساخنة، غائباً عن ضوضاء العساكر ورعود السماء الهائجة ورحلة العمر وهدير الماء الذي طفق يجرف أشلاء الفجر الكابي.