يضع الكاتب عيناً على الواقع وعيناً على السرد، ليخلص إلى أن "مزرعة الحيوانات" تسرد ثورة صار ماؤها غيْـضـــاً، بعد أن انفرد بالسلطة فصيلٌ واحدٌ، نجح في تصدير الأوهام، إعتماداً على ضعف الذاكرة لدى الشعوبُ، لتفلتُ من أياديها خيوطُ الحاضر، وتعجز عن رؤية المستقبل.

ثورةٌ تســتبدلُ طُغياناً بطُغيــان!

في رواية جورج أورويل «مزرعة الحيوانات»

رجب سعد السيّد

صدرت "مزرعة الحيوانات"، للكاتب الإنجليزي "جورج أورويل"، بالعام 1964، أي قبل مولدي بسنتين، وعثرتُ على نسخة منها، باللغة الإنجليزية، في مكتبة المدرسة العباسية الثانوية(*)، وكنت بالصف الثالث فيها، عام 1966، فاستعرتُها واجتهدتُ في قراءتها، بمساعدة مدرس اللغة الإنجليزية، الذي نقل إليَّ انطباعاً بأن مؤلفها تأثر بكتاب "كليلة ودمنة". ثم اقتنيتُ عام 1995 نسخةً مترجمة للعربية، وضعتُها بين مجموعة الكتب والمراجع المهمة، التي تعرفُ يدي الطريقَ إليها من وقتٍ لآخر.

ومنذ أيامٍ قليلة أحسستُ بحاجة شديدة لمعاودة قراءة هذه الرواية، فأقبلتُ عليها، وكنتُ طول الوقت أتعجبُ من حال قراءتي لها هذه المرة، فكأنني أقرأها للمرة الأولى، كما أنها – الرواية – كانت تبدو وكأنها تأخذُ بيدي إلى مواطن بها، تكشفُها لي، فيتأكدُ ليَ الإحساسُ بأن القراءة، هذه المرة، مختلفةٌ.

وبإمكاننا الاعترافُ بأن هذه الرواية، التي وردت في قائمة مجلة "تايم" لأعظم الكتب التي صدرت في القرن العشرين، "تصلح" للناشئة، فهي مسليةٌ، حقاً؛ كما يمكن اعتبارها – بصورة أو بأخرى – في عِـدادِ قصص الخيال العلمي، إذ تقومُ على أنسنة الحيوانات واستلهام سلوكياتها وخصيصاتها لتنعكسَ عليها صورُ كيانات بشرية لشخصيات عامة، تاريخية ومعاصرة. ذلك كله ممكن، ولكنه لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن حقيقة أننا أمام رواية ذات طابع سياسي، بالدرجة الأولى، تحكي عن انقلاب سياسي، أو ثورة فجرتها مجموعة من الحيوانات، فرضت سيطرتها على مزرعة "مانـور" التي تقيم بها، بعد أن شعرت بحلقات الفساد والمحسوبية والديكتاتورية تضيِّقُ عليها الخناقَ لتوردها مورد الهلاك. وتتمكن حيوانات المزرعة الثائرة من الإطاحة بمالك المزرعة السكير "السيد جونز" ورجاله، وتغير اسم المزرعة إلى "مزرعة الحيوانات"، وتشرع في التأسيس ليوتوبيا، من خلال ضوابط وضمانات من شأنها المحافظة على حرية الحيوانات وسعادتها، تطلعاً لمستقبل أكثر عدلاً ومساواة.

ولعل الحيوانات الثائرة قد استشعرت حاجتها للقيادة، فالنموذج الاعتيادي للثورة لا يقبل ثورةً بدون رأس؛ وهنا، يتقدم خنزيران، هما "نابليون" و"سنوبول، أو كرة الثلج"، فيتصديان لمهمة قيادة مجتمع حيوانات مزرعة مانور بعد الثورة، إلاَّ أنَّ خلافاً سرعان ما دبَّ بينهما، فيطيحُ نابليون بكرة الثلج، وينفردُ بالقيادة. ولم يمض وقتٌ طويل حتى تبدَّتْ سوءاتُ نابليون؛ ففي ظل قيادته انتشر الفسادُ بين جماعته من خنازير المزرعة، الذين استأثروا(**) بامتيازات حرموا منها بقية الحيوانات، التي خيَّمَ الجهلُ على عقولها، وعميتْ أعينُها عن تبين ألاعيب طاقم القيادة الخنازيرية، ورضيتْ بالقعود، رافضةً التصدي للاستبداد المتزايد الذي تفرضه عليها جماعة الخنازير الحاكمة.

وهكذا، يضعنا "أورويل" في هذه الروايةُ القصيرة، أمام حقيقتين بينتين: الأولى، أن للسلطة والنفوذ تأثيراً مُفسداً؛ والثانية، استعداد الشعوب لقبول الضيم والتعايش مع التعسف في استخدام السلطة. وقد كان أورويل حريصاً على إبراز حقيقة أن السلطة مَفسَـــدة، سرعان ما تُطبق على البشر، حتى الفضلاء الأنقياء منهم، وتحقنهم بميكروب الفساد. فما أسرع ما يكون تنكرهم للدوافع الطيبة التي كانت توجههم في أيام الثورة، وقبل أن يتبوأوا سًــدَّة الحكم؛ وفي ذلك تصدقُ مقولةُ فرانز كافكا : "تتبخرُ الثوراتُ مُخلِّـفةً وراءها أوحالَ بيروقراطيةٍ جديدة!"

وقد بدأ تخبط خنازير المزرعة، بعد أن تولوا السلطة، بتصفية كرة الثلج، إذ تصوروا أن له نفوذاً سحرياً يسري في الهواء، وأن في ذلك خطراً عليهم. وكان الخنزير الرفيق كرة الثلح قد أعد مشروعاً لإنشاء طاحونة هوائية، قوبل بالرفض، وأزيح من موقعه، وأصبح (ملطشة) المزرعة، يُنسبُ إليه أيُّ حادثٍ يعكرُ صفو فرقائه الخنازير! ذلك ما كان من أمر "كرة الثلج"، الذي أكلته الثورة؛ فماذا عن الرفيق "نابليون"؟ لم يكن يهمه إلا توطيد أركان حكمه، والأخذ بأسباب راحته وسلامته الشخصية؛ وهو لا يكف عن ترديد: لا تتصوروا أن الرئاسة مبعثٌ للسرور، فهي مسؤولية صعبة وثقيلة. كما أنه لا يكف عن انتقاد حيوانات المزرعة وحضهم على العمل، بينما هو لا يكاد يفعل شيئاً؛ كما أنه أوحى لأعوانه بالعبث في تاريخ الثورة، لإبرازه في صورة البطل المخلِّـص، الذي أبعد اشر عن الثورة لتمضى في مسارها.

ويصطفي نابليون فئةً من الزاعقين، هم جهازه الإعلامي الخاص الذي يقوم بالدعاية له، دائم الإلحاح على أذهان حيوانات المزرعة بأن الثورة خلصتهم من الأحوال السيئة السائدة خارج المزرعة، خالقاً عالماً خارجياً مخيفاً، ليرضى الجميعُ بنعمة الحياة الآمنة المستقرة داخل المزرعة. ومن مهام جوقة الزاعقين، أيضاً، إخفاءُ حقيقة التغييرات التي تطرأُ على نظام إدارة المزرعة، في ظل الثورة، والدعوةُ إلى إعادة النظر في السياسات القائمة. وكان الزاعقون يتصدون لحيوانات المزرعة عندما كانت، في أعقاب الثورة، ولمرات قليلة، تنتهك القواعد والقوانين وتطلب تعديلها، لإقناعها بأن الأفضل هو أن تمضي الأمورُ والأوضاعُ على ما هي عليه.

ويقررُ نابليون أنه، من الآن فصاعداً، سوف تُسوَّى كلُّ المسائل المتصلة بتشغيل المزرعة بمعرفة لجنة خاصة تقتصرُ عضويتُها على الخنازير، ويترأسها هو ذاته، وتجتمعُ خِفيَــةً، ثم تخرجُ لتعلنَ قراراتها! وكانت المزرعةُ تدار بعد الثورة مباشرة بتوافق الآراء، فكانت الحيوانات تجتمعُ في كل يوم أحد لتطرح مختلف وجهات النظر حول كيفية إدارة المزرعة، وتناقش في صراحة تامة، ثم يجري التصويتُ، ليستقرَّ الجميعُ على ما يجبُ تنفيذُه. وبمرور الوقت، ومع انفراد نابليون بالسلطة، توقفت اجتماعات الأحد، ليحلَّ محلها مجموعة من النخبة، تتخذُ القرارات وتفرضها على الجميع.

وكان الخنازيرُ يتمتعون، والحقُّ يُقالُ، بقدرٍ من الذكاء يفوقُ ما توفر لغيرهم من حيوانات المزرعة، وقد علموا أنفسهم القراءة والكتابة، وأوجدوا فيما بينهم شيئاً من التنظيم يجعلهم يجتمعون على كلمة واحدة، مع التزام تام بالسمع والطاعة. وقد أتاح لهم ذلك كله أن يضعوا للحياة في المزرعة دستوراً يشتملُ على سبعة بنود، هي:

1– العدوُّ المشتركُ لكل حيوانات المزرعة هو كلُّ من يمشي على قدمين.

2– يُعدُّ صديقاً لكل حيوانات المزرعة كلُّ من يمشي على أربع، أو من له جناحان.

3– لا يجوز لأيٍّ من الحيوانات ارتداءُ الملابس.

4– لا يجوزُ لأيٍّ من الحيوانات النومُ في سرير.

5– لا يصحُّ أن تشرب الحيوانات كحولاً.

6– لا يقتلُ الحيوانُ حيواناً.

7– المساواة حق لكل الحيوانات.

ذلك جانبٌ من الوقائع المتصلة بطائفة الخنازير في المزرعة، فماذا عن الطوائف الأخرى التي تكابدُ استبداد الخنازير وطغيانهم؟

لنبدأ بالخراف. تقول الرواية إن الخروفَ خروفٌ! فخرافُ المزرعة تستسلمُ للخنازير، يسوقونها كيف شاءوا، ولا تحاول – حتى – أن تفكر فيما يجري لها، وما يحدثُ من حولها، بل إن ثغاءها يصنع ما يشبه الجوقة التي تحجب أصوات الحيوانات الأخرى إن اجتمعت للتشاور بشأن حياتها في المزرعة، وتغطي على الانتقادات الموجهة للخنازير.

ويمثلُ خيولَ المزرعة الحصانُ (بوكسار)، أو الملاكم، وهو اسمٌ على غير مُسمى؛ فهو محل إعجاب كل سكان المزرعة، وقد عهدوا فيه الإخلاصَ والجدَّ في العمل، حتى في عهد مالكها القديم السيد جونز، فكان يبذل جهد ثلاثة أحصنة؛ وقد شهدت المزرعةُ أوقاتاً أُلقيتْ فيها كلُّ أشغال المزرعة على عاتق الحصان بوكسار، الذي لم يكن يواجه أي مشكلة إلا بقول واحد: (سأبذلُ مزيداً من الجهد)!. ويفجعُ القارئ في خنوع هذا الحصان الذي ينتظم في العمل بلا كلل، بينما ولاؤه للزعيم نابليون منقوص. وينسحبً نموذج بوكسار الخانع على شريحة كبيرة من حيوانات المزرعة، تتفانى في أداء أعمالها، آملةً أن تتوزعَ المردودات على جميع الحيوانات بالتساوي، إلاَّ أن طائفة الخنازير أصبحتْ تستأثرُ بأكثر من حصصها، الأمرُ الذي ترك إحساساً عاماً بأن ثورة المزرعة لم تثمر المرجوَّ منها. وقد أقدم بعضُ الحيوانات على الشكوى من هذه الأوضاع، فواجهتهم الخنازير بـ"فـزَّاعــة" عودة السيد جونز، وقالوا لهم: "إننا معشر خنازير المزرعة نصِـلُ الليلَ بالنهار ساهرين على رعايتكم؛ ولكي نتمكن من ذلك، نشربُ ما نشربه من الحليب، ونأكلُ ما نأكلُه من ثمار التفاح. هل أنتم واعون لما يمكن أن يلحقَ بكم إن أخفقنا نحن الخنازير ولم نحسن عملنا؟! نعم .. سيعودُ السيد جونز!

وهكذا، يستمر نابليون في حكم المزرعة، مرتكباً كل أنواع الأخطاء؛ وتتوزعُ الحيوانات بين لا مبالٍ به ولا مكترثٍ لأخطائه، ومُسبِّحٍ بحمده، حسب الاعتياد، وتنظمُ الأبقارُ مسيرة إلى النهر، غرضها الظاهر الشربُ، بينما هي للهتاف: "الشكرُ، كل الشكر، للرفيق نابليون، فبفضله طـابَ مـذاقُ الميـــاه"!

لقد وضع أورويل حداً لمحاولات "القراءة القسرية" لروايته البديعة "مزرعة الحيوانات"، في ضوء أيديولوجيات وتوجهات سياسية، فجاء في خطابٍ له، كتبه بعد إصدار الرواية بسنة واحدة، يقولُ فيه: "المغزى الذي رميتُ إليه هو أن الثورات لا تؤتي أُكُلَهـا تغييراتٍ جذرية إلاَّ عندما تكونُ الجماهيرُ متأهبةٌ لمثل هذه التغييرات، وتعرفُ كيف ومتى تقولُ لقادتها: شكراً، قمتم بالواجب، فاذهبوا، صحبتكم السلامة!". ويضيفُ قائلاً: "لقد حاولتُ أن أنبه إلى أنك لا يمكنك أن تصنع ثورة إلا إن قمتَ بها لنفسك أنت، فلا وجود لما يسمى بالديكتاتورية الخيِّــرَة!".

لقد وقعتْ حيواناتُ المزرعة في المحظور عندما التزمت الصمتَ بعد أن انتُهِكـتْ حرياتُها الصغيرة، ولم تلبث حقيقة الخنزير نابليون أن انكشفت عندما راح "يمشي على قدمين اثنين"، لكن أحداً لم يجرؤ على مواجهته، فقد فات الأوانُ، وأصبح الجميعُ عاجزين عن مجرد التفوه بكلمة واحدة.

وقد يثور، في هذا السياق، سؤالٌ: هل كانت خيانةُ الخنزير نابليون لثورة حيوانات المزرعة محتومةً؟ إن الإجابة بنعم تعنى، ضمناً، تغاضياً عن كل ما مارسه من طغيان. فهي، إذن، إجابة خاطئة. وعلى الدرجة ذاتها من الخطأ يأتي القولُ بأن الوضعَ كان يمكن أن يصير مختلفاً لو أن فرداً آخر من حيوانات المزرعة قد فاز في الصراع على السلطة وانفرد بها. وإنما يُردُّ الأمرُ كلُّه إلى البيئة المتخاذلة التي تفرز الطاغية، كما تفرز الأغشية المخاطية المخاط. ويمكن القول بأن "خيانة نابليون" هي نتيجة طبيعية لما يمكن تسميته بالسلوكيات "الحيوانية" في فترة ما بعد الثورة.

وخلاصةُ القول، أن مزرعة الحيوانات هي قصة ثورة صار ماؤها غيْـضـــاً، وحفَّــتْ بها المخاطرُ، بعد أن انفرد بالسلطة فصيلٌ واحدٌ، نجح في تصدير الأوهام لحيوانات المزرعة، إعتماداً على ضعف ذاكرتها. والشعوبُ التي تنسى الماضي، تفلتُ من أياديها خيوطُ الحاضر، وتعجز عن رؤية المستقبل.

(*) لا غرابة في ذلك، فقد كانت مكتبات المدارس الثانوية في ذلك الوقت تؤدي وظيفة حقيقية، وتقتني كنوزاً متجددة من عيون الأدب والفكر العالميين. ومن جهة أخرى، فقد كان بعض الناشرين يصنف "مزرعة الحيوانات" في أدب الناشئة، وربما كان ذلك وراء مجيئها إلى أرفف مكتبة مدرستي. وقد صدرت طبعة منها ضمن مجموعة الأدب العالمي للناشئين – مشروع القراءة للجميع، 1997.

(**) يعتذر الكاتب عن الخلط الذي قد يلاحظه القارئ عند استخدام ضمير العاقل في موقع غير العاقل، فالحقيقة أن "الأنسنة" في الرواية شديدة الإحكام!

 

أهم المصادر:

1 - The tyranny of pigs, by Amir Muhammad. New Straits Times, March 31, 1999.

2 - Dangers in Animal Farm: Pigs, Tyranny & Oversimplified Ideologies. http://voices.yahoo.com/dangers-animal-farm-pigs-tyranny-oversimplified-1437635.html

3 - George Orwell and the Politics of Animal Farm. http://www.his.com/~phe/farm.html

4 - Animal Farm, Dictatorships and Mormonism. http://www.wheatandtares.org/2011/12/09/animal-farm-dictatorships-and-mormonism/