يقدم محرر الكلمة هنا مجموعة قصصية تتناول جزءا من تاريخ العراقي الدموي حيث صار فيه القتل مجانيا سالبا للحياة. وهي مجموعة لافتة في بنائها القصصي تبدو كسجل حسي وفني لسياق تاريخي عرف بزمن الحرب الطائفية وهو ما جعل نصوص المجموعة تلتقط ملامح أساسية لمرحلة معتمة من تاريخ العراق الحديث.

تجليات العنف زمن سيادة الميلشيات الطائفية

سلام إبراهيم

منذ مجموعته القصصية الأولى (على دراجة في الليل) الصادرة عن دار أزمنة 1997 لفت القاص – لؤي حمزة عباس – الأنظار اليه ككتاب قصة له طريقة مميزة في السرد والبناء الفني، إذ تميزت نصوصه بقصرها وأقترابها من نمط الأقصوصة أو ما سمى لاحقا بالقصة القصيرة جدا. والنمط الذي يكتب فيه – لؤي حمزة عباس – نمط القصة المعتمدة على رصد التفاصيل الصغيرة الموحية لموضوع كبير ذو ثيمة عميقة تتعلق بلب الوجود ومحنتة لا على طريقة القصة القصيرة جدا المعتمدة على المفارقة والضربة والتي أرساها القاص الستيني – إبراهيم أحمد – التي ظهرت في الصحافة الأدبية أوائل سبيعنات القرن الماضي. فمثلا في إحدى قصصه العاري في الظل - المنشورة في مجموعته الأولى -  على دراجة في الليل - يرصد لحظة أغتصاب جندي سجين في وحدته العسكرية من قبل زملائه السجناء، مصوراً هذا الفعل الدرامي الحاسم في حياة الإنسان بلغة هادئة تهمس رغم كل الصراخ الذي يتضمنه حدث النص التراجيدي – لحظة سحق الإنسان وتكميم فمه وأغتصابه في عتمة زنزانة وحدة عسكرية - .

منذ قراءتي لهذه المجموعة قبل أكثر من عشر سنوات رسخ في ذهني هذا القاص واحدا من جيل قصصي عراقي ظهر بعد جيلنا الذي تبلور في المنفى . جيلٌ أخذ القصة القصيرة العراقية إلى مناحٍ جديدة كونه يشتغل على واقع صرنا نحن كتاب المنفى بعيدين عنه. مما جعلني أذكره في استفتاء أعدته إحدى المجلات عن منجز القصة القصيرة العراقية منذ النشأة مع القاصين – نعيم شريف – و – جلال نعيم -، فأثار ذلك سخط جمعٌ من كتاب القصة العراقيين المغمورين وقتها. فقاموا بالرد العنيف على مقالتي تلك في الصحف الورقية والمواقع الألكترونية.

توالت بعدها إصدارت الكاتب فأصدر كتابا قصصياً أسماه – العبيد – عن نفس الدار 2000 ثم ملاعبة الخيول 2003 ليتوج جهده القصصي بكتاب – إغماض العينين – 2008 موضع قرائتي الحالية.

في – العبيد – و – ملاعبة الخيول – يختط نهجاً تجريبياً في الكتابة مبتعداً قليلا عن مناخ قصص – على دراجة في الليل – الواقعية الحادة، فنجده يحاور لوحات فنية عالمية يصفها يداخلها في الحدث الواقعي لحدود يبدو النص متغربا عن ثيمته حتى أنه في كتاب - ملاعبة الخيول - يقدم كولاجا قصصا في النص الأخير ممنتجاً مقاطع سردية من جميع النصوص والقارئ غير الفاحص سينطلي عليه النص، في معادلة تجريبية هي في نظري في غير صالح التطور الفني للكاتب. مع محاولتين روائيتين – الفريسة – وهو كتاب لم أطلع عليه و – المراحيض – وهو نص تجريببي وجدت به مناخاً لا يتناسب مع موهبة الكاتب الواضحة التي ظهرت جليه في كتابه الأول – على دراجة في الليل -.

بصدور – إغماضة العينين – يكون القاص قد أمسك بمسار تطوره المتناسب مع أسلوبه المميز الذي أشرت إليه سابقا. إذ عاد إلى بنية نصوص معنية بالوقائع الجارية في زمن حرب الطوائف التي قامت في العراق بعد الإحتلال 2003 وتجلي بنية العنف في مفاصل المجتمع العراقي وشخصية العراقي الذي تحول حال سقوط الدولة شديدة المركزية – الدكتاتورية – إلى شخص عنيف يقتل ببرودة دم لأسباب شتى تبدو غامضة كما عرضته النصوص المكثفة شديدة التماسك بالغة الهمس، وهي تجوب بعينين حياديتين لكنهما تنحازان للإنسان في معادلة خفية تبوح بها اللغة ونسيج حياة الشخوص في جو السرد الآسر. ففي القصة التي أعطاها الكاتب – أسم المجموعة – وفي سرد مكثف يرصد يومٍ عادي لموظف – قاطع تذاكر -  في مستوصف صحي في البصرة يذهب إلى مكان عمله في دراجة هوائية صباح كل يوم، فيبدو السرد شديد البراءة يصور شأن الإنسان في يومه هكذا:

«ربع ساعة او أقل هو الوقت الذي يقطعه كل صباح على دراجته الهوائية للوصول إلى المركز الصحي، جربّ أن يقطع المسافة على قدميه ولم يزد الوقت كثيراً، مع ذلك فقد ظل مصراً على ركوب الدراجة» ص 35.

هذا المفتتح لنص لا يتجاوز الصفحتين يبدو شديد البراءة وغير مهم، لا سيما حينما يتواصل في وصف تفاصيل اليوم وخلو المستوصف من المرضى وتأملات قاطع التذاكر في كوب الشاي وساحة كرة القدم الخالية الممتدة تحت ناظره من النافذة. كل شيء هادئ وكأننا في حضرة يوم عادي جدا لكن بغتة ومن خلال النافذة عبر السياج، وفي وسط ساحة كرة القدم الفارغة يرى هذا الموظف البسيط عملية إعدام رجل معصوب العينين ينزله القتلة بعنف. والسرد يواصل ضخ عادية اليوم وبراءة عيني وروح العراقي قاطع التذاكر هكذا:

«رأى سيارة بيضاء تندفع متباطئة لتقف وسط الساحة، تصور عطلا ما أصابها وأنتظر أن ينزل السائق ليفتح غطاء المحرك، نزل بالفعل لكنه لم يتوجه إلى الغطاء، إتكأ على الباب وأخرج علبة سكائر من جيب قمصلته، إستل سيكارة، أشعلها، وبدأ يدخن، نزل بعده رجلان أحداهما وضع يده على كتف رجل معصوب العينين وهو يدفعه تجاه السائق، تلقاه الآخر وأجلسه بعنف على ركبتيه. في تلك اللحظة أحس قاطع التذاكر بحرارة كوب الشاي، وضعه على الطاولة وسحب يده مستغرباً لارتجافها وعاود النظر، سحب أحد الرجلين مسدسه وأطلق ثلاث رصاصات متتاليات على رأس الرجل معصوب العينين.» ص 37

أوردت هذا المقطع الطويل نسبيا كي أبين أسلوب القاص الذي يحيل اليوم العادي إلى يوم مأساة. بالطبع هذا النص مكتوب بالضبط عن فترة سيادة المليشات في البصرة، لكن القاص لم يشر إلى ذلك صراحةً سواء في بنية النص الفنية من خلال الإشارة إلى زمنه أو ذكر تاريخ كتابة النص. جميع القصص مغفل تاريخ كتابتها. في حوار لي مع – لؤي حمزة عباس – أثناء زيارتي للبصرة في مربد عام 2009 أخبرني بحرقة بأنه شخصياً تعرض لتهديد تلك الميليشات بحيث أضطر إلى ترك البصرة هو وعائلته لسنوات عدة كانت قاسية. وهذا بالضبط ما صوره في نص – عينا رجل المترو – يرصد النص الشخصية المهددة وهي تنتقل من بيت إلى أخر  «أسبوعان قضاهما متنقلا من بيت لبيت، لم يكن ينام خلالهما» ص 45.

وهذا الزوج المحب لعائلته؛ زوجته وطفليه المنشغل بشأن الحياة التي تعنى الأمل في التالي يتذكر في هروبه كيف أشترى وروداً على شكل قلب مضموم في نفس اليوم الذي تلقى فيه التهديد بواسطة ظرف فيه رصاصة وهي الطريقة التي كان تهدد فيها المليشيات كل من تعتقد به خطراً عليها. ويستمر النص القصير جدا في رصد لهفة المهدد المذعور وتداعيات الذاكرة الدامية حيث يشهد هو وصديق له عملية تصفيه جرت قبل لحظات من وصولهم إلى مكان ما على كورنيش شط العرب.

في نص أخر قصير جدا – رجل كثير الأسفار – يستهل النص بحيرة الكاتب إزاء سؤال عما يفكر فيه في تلك الأيام وهي أيام القتل على الهوية في محيط بغداد:

«سألني بماذا تفكر هذه الأيام؟، كان بودي أن أقول له إنني أفكر بكتابة قصة عن رجل يسافر كثيرا بين البصرة وبغداد» ص 39.

وهذه هي نفس حالة الكاتب أو أي عراقي هُدد في البصرة، فيتخيل الرواي الحالم بكتابة قصة عن شخص يذبح في الطريق بلغة فيها آسف شديد على ذلك الموت العبثي الذي لا معنى له حيث يقتل الأبرياء على الهوية فيتابع القتيل بعد موته وحلمه قبيل الذبح الذي يحققه له السارد فيدعه يعود إلى عش الزوجية سابحاً بدمه باغياً الأمان في حضن العائلة التي كانت المحطة الوحيدة رمزيا ايام الأحتراب الطائفي، حيث يجسد النص مدى عبثية موت غير مفهوم لا علاقة له بالمنطق. النص مسرود بنمط القصة القصيرة جدا المعتمدة على السرد البطيء القريب من مدرسة القاص والروائي المصري - إبراهيم أصلان -  و القاص العراقي- محمد خضير - الأسلوبية لكن تفترق عن الأخير بحيوية الموضوعات التي تتناولها واللصيقة بهموم العراقي في زمن الرعب المركب في فترة من أشد الفترات إضطرابا في تاريخ العراق، حيث الإحتلال المباشر وهلامية المشهد الذي تعبر عنه نصوص لؤي حمزة عباس.

تبحث نصوص لؤي حمزة عباس في تيمة جوهرية تكاد تكون القاسم المشترك لنصوص (إغماض العينين) المهتمة بما يجري في العراق زمن سيادة مليلشيات الطوائف في بيئة ومكان القاص البصرة وهي تضاعيف العنف المستشري في بيئة المجتمع العراقي المتجلية في كل مظاهر الحياة ومفاصلها. العنف في فترةٍ خشيَّ الكاتب من الإشارة إليها.. عنف لا معنى له تماماً يجسده في نص من مهم من النصوص المجموعة – العدسة – يصور فيه حالة قتل جرت في كراج بالبصرة. عملية قتل جرت بأعصاب باردة لراكب من ركاب الباص لا يعرف الجميع هوية القاتل أو القتيل. يصف السارد المشهد بتفصيل دقيق كيف أتى المسلحون وانزلوا راكبا عنوة وأطلقوا على رأسه النار وغادروا دون توضيح. ليأتي بعد ساعات أخ القتيل لإتمام طقوس الميت. كل ذلك جري أمام الأنظار والناس والوقت والرواي يعلنه للجميع وللعالم وهو خائفا وجلا لكن بلا تواريخ.

نصوص (إغماض العينين) لا تأتى أهميتها من حرفية بنية قصصها القصيرة جدا فحسب، بل لكونها سجلاً حسياً وفنياً مهماً لمرحلةٍ قد تبدو أفلت الآن. النصوص صورت العراق في زمن صار فيه القتل مجانيا أفدح من زمن الدكتاتور، فالقتل على الهوية الطائفية التي تحمل في طياتها تفاصيل ثأر مجتمع عشائري شبه بدوي كالمجتمع العراقي، وما كان خلف هذه البنية الثأرية من مأساة وتفاصيل رصدتها (إغماضة العينين) برهافة الفن الرفيع التي تشكل تصحيحا لمسار الكاتب فنيا حيث رجع لمسار – على دراجة في الليل – مجموعته الأولى الجميلة.

ركزت في مقالتي على تيمة رئيسية في نصوص – لؤي حمزة عباس – لكن في بعض نصوص (أغماض العينين)  تناول تيم مهمة في بيئة العراقي المحروم البيئة الضاغطة والمغلقة حيث في نص يشير إلى تلك الرغبات الممنوعة والمحرمة – قطرة دم لاكتشاف جسد - والطفل يشتهي خالته  التي تتسلل لمركب وترقص وسط النوتية العبيد، وتمارس حريتها فوق الماء، والتي تبقى شرخا في روح الراوي الذي يستعيد تلك الحادثة التي قد تكون جرت بطريقة مختلفة عن واقعها لكنها في مخيلة الرواي جرت مثلما روى.

في أغماض عينين – لؤي حمزة عباس – الكثير من تاريخ العراق الدموي الذي خشي الكاتب الإشارة الصريحة إليه سواء في متن النص أو خارجه وذلك بأغفال زمن كتابته، لكن الكتاب يعد سجلا فنيا لمرحلة معتمة من التاريخ العراقي القريب زمن الاحتلال وصراع الطوائف.

كتابات لؤي – إغماض العينين -  الأخيرة تعد من وجهة نظري  إضافة نوعية للنص القصصي العراقي.


* دار أزمنة للنشر والتوزيع عمان 2008

* كاتب من العراق