من زاوية نظرية ما بعد الكولونيالية يحاول الناقد قراءة رواية المبدعة المغربية عبر مداخل أساسية هي المناقضة وعبرها يحاول المقال الكشف عن أشكال التناص في النص الروائي كإحالة ضمنية صريحة. كما يقترب من فضاءات ملتبسة الى جانب رصد وضعية السراد وموقع الكتاب.

عزوزة: التناص والمناقضة

خالد العارف

هناك مداخل عديدة لمقاربة رواية عزوزة للزهرة رميج الصادرة سنة 2012 عن دار النايا ومحاكاة  بسوريا. هذا المقال محاولة لقراءة هذه الرواية اعتماداً على نظرية ما بعد الكولونيالية التي نظر لها منظرون عديدون على رأسهم إدوارد سعيد، هومي بابا وغيا تري سبيفاك. من بين المفاهيم العديدة التي تأسست عليها هذه النظرية هناك مفهوم المناقضة. يتبنى هذا المقال منهجية بسيطة، إذ يحاول الكشف عن أشكال التناص  في عزوزة دون الدخول في نقاش مستفيض لهذا المفهوم. يكفي أن نقول إن هذا المقال يعتبر التناص إحالة أو إحالات ضمنية أو صريحة بوعي أو بدونه  إلى نصوص أخرى عن طريق التلميح أو التضمين أو الأقتباس أو الإشارة. وقد تتخذ هذه الإحالة أو الإحالات شكلا لغوياً صريحاً (حالة مجنون الحكم لبنسالم حميش على سبيل المثال لا الحصر) أو رمزياً، على شكل ترابطات و صورو خطابات متشابكة كما سنحاول أن نبين في حالة عزوزة.  

إن رواية عزوزة تربط علاقات صريحة وأخرى ضمنية مع المنجز الروائي المغربي بطرق متعددة. فالعنوان، المثير للدهشة، هو اسم شخصية مركزية في الرواية. إن  إسم هذه الشخصية يذكرنا بروايتي حرودة (1973)[1] للطاهر بنجلون ومسعودة (1983)[2] لعبد الحق سرحان. وإن كانت هاتان الرواياتان قد كتبتا باللغة الفرنسية، فإن ذلك لا يغير في الأمر شيئاً لأن نظرية ما بعد الكولونيالة تصنف كل هذه الروايات في خانة واحدة هي الأدب ما بعد الكولو نيالي.

المناقضة
عُرّفت المناقضة باعتبارها "تموقعا سياسيا مهما يُفضي إلى التملك الفعلي للغة، سواء كان معبراُ عنه أم لا، واعيا أم غير واع." [3] وقد تم تطوير هذا المفهوم ارتباطا بالسيرورة التاريخية للغة المستعمر (بالكسر)التي أصبحت أداة في يد المستعمر من أجل تملكها، لذلك أصبحت المناقضة مرتبطة  بالتملك. بالإضافة إلى ذلك، فإن المناقضة تنبني على الرفض المطلق لأي "معيار صحيح" في اللغة أو الخطاب لتذهب في اتجاه التهجين وخلخلة المركز كيفما كان نوعه، على اعتبار أن المناقضة موقف سياسي قبل كل شيء.   

إعادة الكتابة، أو الكتابة الضدية:
طور هذا المفهوم من طرف بيل آشكروفت و غاريث غريفيثس وهيلين تيفين.[4] وهو يندرج ضمن نظرية ما بعد الكولونيالية، الذي يعتبر أن الكتابة، وبالتالي الثمثيل، كان حكراً على المركز المتمركز على ذاته، أي بكلمات أخرى المركز الاستعماري، الذي استعمل الكتابة لثمثيل الآخر الفاقد للقدرة على القول والكتابة. فغياتري سبيفاك مثلا، تتساءل في مقالها الذي أسال مداداً كثيراً، "هل بمُكنة التابع أن يتكلم؟"[5]، حول الشروط الإجتماعية والسياسية التي تكبح هذا التابع. في سياق هذه الدراسة، يمكن النظر إلى موقع التابع (subaltern)  من منظورين اثنين. الأول هو لحظة نشر حرودة، في سبعينيات القرن العشرين. إذ أن هذه الرواية هي محاولة لإيصال صوت التابع/المهمش (حرودة، أم السارد، المرأة) إلى المركز الذي هو الغرب عن طريق لغة المستعمِر نفسه. أما مسعودة، فهي محاولة لزحزحة فضاء المهمش/التابع عن طريق الإنزياح نحو هامش الفضاء الروائي في حرودة، الذي هو آزرو. في مثالي حرودة ومسعودة، يبقى التابع/المهمش مشمولا بلغة الآخر، الآخر المضاعف، أي تحديداً لغة المستعمِر وصوت الرجل.

الفضاء: العلاقة الملتبسة بين الهامش والمركز.
تحيل رواية حرودة على فضاءين مخصوصين هما فاس (Fass)  وطنجة. ورغم أن رواية حرودة هي في الواقع إخراج يكاد يكون ممسرحاً للرغبة في أخذ القول، الذي يتساوق مع رغبة السارد في التأكيد على العلاقة بين المركز (الأب بكل معانيه) والهامش (المرأة)، التي يُرمز إليها في الوقت نفسه بحرودة من جهة وأم السارد من جهة أخرى، فإن بؤرة الحكي تتمحور حول المرأة والكتابة وأخذ القول. أما مسعودة، فهي تأخذنا إلى فضاء آزرو، وهي بذلك تشير من طرف خفي إلى العلاقة بين هوية الفضاء وفضاء الهوية، معيدة طرح التابع/ الهامش من الهامش. الملاحظة الأساسية هنا، هي أن اللاحق(مسعودة) يحاول خلخلة المركز السابق (فاس، طنجة). فمدينة آزرو هي، من كثير من النواحي، هامش بالنسبة لفاس وطنجة. في رواية عزوزة، نجد أنفسنا في فضاء البادية المغربية. إن عزوزة، بعودتها إلى فضاء البادية، تشير إلى روايتي حرودة ومسعودة في تحد للتصور الذكوري للمرأة. إن الهامش يطوي المركز ويعيد كتابته، وبذلك  يصبو أن يصبح هو المركز. عزوزة بهذا المعنى هي محاولة لتملّك التابع/ الهامش (صوت المرأة) من وجهة نظر المرأة التي تكاد تكون معبرة عن نوع من أخذ القول بالمعنى الفعلي وليس بالمعنى الرمزي كما هو الحال في رواية حرودة. تحاول عزوزة أن تميط اللثام عن مسألة أخذ القول هاته عن طريق العودة إلى فضاء البادية، فضاء الهامش بامتياز. فهل البادية هي المركز في عزوزة؟

 الفضاء في عزوزة يتشكل بين المدينة (الفصول: 1، 23، 34، 45، 46) والبادية (الفصول: 2-22؛ 35-44). لكن عملية الحكي تعتمد على تقنية الفلاشباك الذي يهدف إلى إرجاء عملية الفصل و/أو الترابط بين هذين الفضائين. هذا الإرجاء لا يقود إلى التشويق بقدرما يعمل على توتير العلاقة بين  فضاءي المدينة والبادية. ذلك أن مخاتلة الحكي توهم القارئ أن المركز هو شخصية عزوزة إلى أن يكشف الحوار بين حليمة والطبيب (الفصل 45) جزءاً من أسراره. عندها، نعرف أن عزوزة ماتت بعد موت زوجها أحمد بعشر سنوات، وهو ما يطرح أخيراُ إشكالية الارتباط بين الحكي والذاكرة من جهتين اثنتين. ترتبط الأولى بحالة عزوزة خلال العشر سنوات التي قضتها بعد موت زوجها، وهو الجانب الذي يسكت عنه الحكي. أما الثانية فترتبط بإشكالية الشخصية المركزية. إن كانت الشخصية المركزية هي عزوزة التي تعبر  قبل دخولها إلى غرفة العمليات عن شوقها للقاء الحبيب، كان أحرى بالحكي أن يركز على هذه السنوات العشر، التي هي سنوات الغياب بامتياز (الموت الرمزي) غير أن الرواية تذهب في اتجاه آخر؛ إنه اتجاه الإيهام.

  بين التذكير والتأنيث.
إن غرابة اسم عزوزة يهدف أولا إلى شد القارئ إلى الرواية. إنه ينسج علاقات سرية مع نصوص روائية سابقة كما أسلفنا. لنعد إلى هذه العلاقات السرية بشيء من التفصيل والتعمق.

بالإضافة إلى العلاقة الوطيدة بين عزوزة و حرودة ومسعودة، هناك أيضاً ارتباط آخر بين شخصية عزوزة وشخصية أخرى في رواية للطاهر بنجلون هي طفل الرمال.[6]

في رواية طفل الرمال، يريد الأب ليّ عنق قانون الميراث كي يمنع إخوانه من وراثته. لذلك حين يأتي المولود الثامن أنثى، يعمد إلى تسميته "أحمد"، فتمضي الفتاة حياتها منقسمة الوجدان. أما في عزوزة، فإن العكس هو ما يحصل على مستوى التسمية، رغم أن المولود أنثى في كلتا الحالتين. يتمنى علي الجعايدي "أن يكون المولود ذكراً ليسميه على إسم أبيه عزوز ويحافظ بذلك على ذكراه حية إلى الأبد." (ص. 42). يأتي المولود أنثى فلا "يتردد في تأنيث  الاسم الذي لا يؤنث." (نفس الصفحة). إذن، رغم تشابه الحالتين، فإن الروايتين تعمدان إلى شكلين مختلفين في التعاطي معهما. في رواية طفل الرمال، هناك تذكير للمؤنث على مستوى الهوية، أما في حالة عزوزة، فهناك تأنيث  للمذكرعلى مستوى الإسم. إن هذا الغمز التناصي يهدف إلى استعادة أحقية القول والتملك. بالإضافة إلى ذلك، هناك إحالة مبطنة (قد تكون مقصودة) عن طريق الإسم إلى رواية مسعودة لعبد الحق سرحان. لنلق نظرة على هذا المقطع:

عاب عليه (علي الجعايدي) الناس هذه التسمية الشاذة...لكن رغبته القوية في تخليد اسم والده جعلته  يصر على الاسم. أليست أسماء مثل الكبيرة ومسعودة وما شابههما تأنيثا للأسماء الذكورية الكبير ومسعود...؟ (ص. 42).

 نكاد نجزم أن الإسمين في المثال ليسا اعتباطيان أبداً. هما في تقديرنا يحيلان على الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، خصوصاً إذا عرفنا أن زهرة رميج ترجمت أعمال روائية لكاتبات مغربيات يكتبن باللغة الفرنسية. فهل تكون الإحالة محض صدفة إذن؟

لنترك السؤال معلقا، ولنمر إلى شيء آخر.

وضعية السراد، موقع الكتابة.
لقد بيّن الباحث عَمر روث، أن رواية حرودة هي "قصيدة طويلة"[7] تمسرح العلاقة الوطيدة بين الكتابة والهامش

 إذ أن الراوي يتذكر الأحداث عن طريق تذكره لحرودة. الكتابة في حرودة نوع من الانكتاب من خلال الاستيهامات المسترجعة، حيث حرودة نقطة تلاقي  بين المهمش، المرأة والجنس. لكن حرودة هي أيضا تخبيل لخيوط الحكي إلى درجة أنها تكشف أيضا عن العلاقة الملتبسة بين الأنا (الفرد)، الذي ثمثله الأنا الساردة من جهة، وبين "نحن" التي تمثلها حرودة المرأة-الشخصية (المجتمع). حرودة هي أيضا أخذ للكلمة من طرف المهمشين ومحاكمة أو اتهام للأب. في حرودة،  يموت الزوج وتتحرر الزوجة/الأم. حرودة، الصورة الثائرة للمرأة التي تتملك فضاء فاس المقدس، بالإضافة إلى الفضاء النفسي للأطفال، سابقة على تقدّم الأم نحو أخذ الكلمة. إن هذا السبق يبيئ العنف الكامن في النزعة التحررية للمرأة الأم.

نجد نفس الحالة في عزوزة. فالرواية هي فلاشباك طويل يبدأ من المصحة، أي في فضاء المدينة، ويعود إليها في أربعة فصول، كما سبق أن أسلفنا. الفصل الأخير، يلتقي بالفصل الأول لتكتمل الدورة. لنلاحظ الترابط الحاصل بين الفصلين عن طريق الإحالة على اللون الأسود: "تمددت فوق فراش أمها وراحت تبحث عن بصيص من النور قد يضيء لها بعض جوانب تلك الغرفة السوداء الراسية في أعماقها." (ص. 7)؛ "الغرفة التي ترقد فيها حليمة تحمل رقم 10. غير أن العاملين بالمصحة يطلقون عليها اسم 'الغرفة السوداء'." (ص. 460). بالإضافة إلى ذلك، هناك اللعب على كلمة النور. ففي الفصل 46، نقرأ ما يلي: " بدأت  حليمة تسترجع وعيها تدريجيا...فتحت عينيها المثقلتين. الظلام مطبق. منافذ النور مغلقة. الستائر مسدلة. السكون سيد المكان(...) بدأ الشريط يعود إلى الوراء بطيئا... مضنيا ... تتوسطه خطوط بيضاء عريضة تهتز محولة الصور إلى لوحات سوريالية لا ملامح لها." (ص. 454).

بعد أن ربطنا بين الفصلين الأول والأخير في عزوزة، علينا أن نتلمس طريقنا من أجل الربط بين عزوزة والكتابة. لنطرح هذا السؤال البسيط: من يكتب/ يحكي عزوزة؟ للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نبحث عن طريقنا ذهاباُ وإياباُ بين الفصلين 1 و 46 من جديد. نقرأ في الصفحة 7: "كآلاف الأسماك الصاعدة من أعماق البحر، انطلقت قطع البوزل المتناثرة في ذاكرتها (ذاكرة حليمة)، تتجمع بشكل غريب." أما في الصفحة 454، فإننا نقرأ: "أخيرا ها هي تنجح في القبض على نقطة البداية ! " كلا الاستشهادين يعلنان عن البداية، بداية الحكي والكتابة. يتوضح الارتباط بين حليمة والكتابة في الصفحة 457، حين يأمر الطبيب المعالج أختَها شميشة: "هيا، اذهبي واحضري لها مجموعة من الأوراق البيضاء والأقلام" لأنها "هي من طلب ذلك." الكاتبة/الساردة هي حليمة، وهو ما يتأكد في الصفحة 461، حيث نقرأ: "ما إن أغلقت الممرضة الباب وراءها، حتى أمسكت حليمة بالقلم. أزالت غطاءه وبأصابع مرتعشة، كتبت بحروف بارزة وسط الورقة العذراء: عزوزة."

هناك إذن علاقة وطيدة بين عزوزة والكتابة التي هي لحظة أخذ للقول. إن عزوزة تحاكي حرودة، لكنها محاكاة ليست مجانية أبداً. إنها محاكاة تروم إعادة كتابة حرودة من وجهة نظر نسوية. إنها أخذ للكلمة من فم/قلم الكتابة الذكورية عن المرأة. بهذا المعنى تكون عزوزة محاكاة مناقضة تتلاعب بالمنجز الأدبي المغربي وهي تتأرجح بين النقض والتملك وكذا الملاءمة.  

 



[1][1] Tahar Benjelloun, Harrouda (Paris: Denoel, 1973).

[2] Abdelhak Serhane, Messaouda (Paris: Seuil, 1983).

[3] Bill Ashcroft et al, Post-Colonial Studies: the Key Concepts (London: Routledge, 2000), p. 5.

[4] Bill Ashcroft et al, The Empire Writes back (London: Routledge, 1989).

[5] Gayatri chakravorty Spivak, « Can the Subaltern Speak ? » in Colonial Discourse and Postcolonial Theory: A Reader, (eds) Patrick Williams and Laura Chrisman (New York: Harvester, 1994), pp. 66-111.

[6] Tahar Benjelloun, L’enfant de sable (Paris : Seuil, 1985).

[7] Amar Ruth, « Le postmodernisme de Tahar Benjelloun » http://www.limag.com/Textes/Amar/BenJelloun.pdf