مع أخونة مؤسسات الدولة المصرية، يشير الباحث لمحاولة التيارات الدينية عقد مصالحة بين الديني والسياسي، والتخفيف من حدة خطابها العقائدي ليصبح أكثر سياسيّة. إضافة للحديث عن الديموقراطية والتنوع السياسي وضرورة الشراكة السياسية والمجتمعية.

الدِّينُ والدَّولَةُ

لَمَاذا تتناول التَّيَّاراتُ الدِّينِيَّةُ حُبُوبَ الدِّيمُوقرَاطِية وَقتَ الاستبعاد؟

بليغ حمدي إسماعيل

المصريون لا يقرأون تاريخهم السياسي بعمق وروية، هذه حقيقة لا يمكن مواراتها أو حجبها عن المتخصصين أو حتى أولئك المهمشين الذين لا يعتنون أصلاً بقضية قراءة التاريخ وأهميتها، والحقيقة الأكثر إيلاماً أن الكتب الأكثر رواجاً في القراءة، لا البيع والشراء، هي الكتب ذات التاريخ الضارب في ثقافة المصريين مثل كتب الحياة الجنسية والحياة الزوجية ورغم ذلك فمعدلات الفشل الزوجي عالية تكاد تحطم كافة الأرقام القياسية، وكذلك كتب التنمية البشرية أو الكذب الحياتي تجتاح ذاكرة المصريين رغم أن البشرية لا تحتاج إلى تنمية ولا التنمية نفسها بحاجة إلى بشر فكلاهما مثل العلاقة بين القطار والسمكة .. أي لا علاقة.

وكلما جلست مع معظم الطلاب الجامعيين الذين يحسبون أنفسهم ضمن مكتسبات الثورة التي لم يشاركوا في إحداثياتها، أجدهم لا يزالوا رهن قراءة الكتب السريعة التي تشبه الوجبات السريعة، التي تسبب عسر الهضم وزيادة دخل الأطباء أيضاً، وهؤلاء يتمردون تارة، ويتجردون تارة أخرى، ويتقردون تارة ثالة، وهذه الكتب لا تخرج عن فلك الحديث عن التكفير والحلال والحرام، والرقائق، والفضائل السطحية غير الجوهرية، ناهيك عن كتيبات الحب والغرام والأبراج والأفلاك والأغلبية أصبحوا من رواد اللهاث وراء المجلات الاجتماعية التي تخاطب العين أكثر مما تخاطب عقل القارئ، فهل هؤلاء يصلحون من الوجهة الإنسانية لقيادة الأمة في ظروفها الآنية الحالكة؟

هذه المقدمة الحتمية كانت بداية الافتتاح للحديث عن التأويل الديني للثورة، أو بصورة أخرى تأويل وتفسير بعض التيارات الدينية الراهنة للثورة المصرية، التي أسهمت في ظهور تلك التيارات والفصائل والجماعات من جديد بعد عقود طويلة من الحظر والاحتجاب والعمل السري ضد الأنظمة الحاكمة. فمعظم التيارات الدينية رأت أن سقوط النظام السابق كان مفاده حضور السلطة التقليدية القهرية التي كانت تفصل بين الدين والدولة، وجعلت من التربية الدينية عبر مؤسساتها التعليمية حقيقة مستقلة تماماً عن السياسة وكان هذا كفيلاً بالسقوط والاندثار التاريخي. وشباب التيارات الدينية الذين وجدوا في الثورة ضالتهم المنشودة من حيث الظهور الشرعي وسط الحشد الشعبي للمتظاهرين علقوا فشل النظام السابق على تقاعسه في تنمية الحقوق السياسية للفصائل الدينية لاسيما داخل الجامعات المصرية، وكذلك إصرار هذا النظام من وجهة نظرهم على عدم تعيين التكاليف والواجبات الدينية كما ينبغي.

وعقب نجاح الثورة سياسياً لا من حيث مطالبها الرئيسة عادت هذه التيارات لتؤكد أن نجاح الثورة واستمراره لا يتأتى إلا عن طريق العودة إلى الإسلام، فهم يعتقدون أن الدولة رغم أزهرها ومساجدها ووسائطها الدينية الضاربة بعمق مصر بعيدة تمام البعد عن الإسلام حكومة وشريعة، ومن الأحرى العودة إلى القيم الروحية والتراثية التي تقف حائط صد قوي ضد غلو السلطة وفحشها وفسادها، وهم يصرون أن مصر عاشت عقوداً بعيدة في كنف العلمانيّة مما أفسد حياة المصريين وأخفق حضارتهم العريقة.

وراح كل فصيل ديني يدخل مضطراً لعبة السياسة بفضل الثورة يعدد المكاسب من وراء تصالح السياسة مع الدين، وأن الإسلام في تصالح مستمر مع المعاصرة رغم تأكيدهم على الاقتداء النصي بالسلف الصالح، ولكن الظروف الاستثنائية التي أعقبت ثورة يناير دفعتهم لاعتماد صفة المعاصرة بصورة طارئة سرعان ما تم التخلي عنها. وجاءت الثورة الشعبية لتمنح الفصائل الدينية المحظورة في عهود سلطة العسكر قبلة الحياة ومن ثم البزوغ والظهور بصفة شرعية جمعية بعد حالات من العداء المستدامة مع الدولة ككيان رسمي يفتقر الهوية الإسلامية من وجهة نظرهم.

الغريب أن بعض المحسوبين على التيار الديني كانوا يعيشون حالات متباينة غير متسقة من التصرف إزاء الدولة ومؤسساتها الرسمية ؛ بين فصائل وعشائر رفضت التعامل مع الدولة بشكل كامل وتام ودفعوا ضريبة هذا الرفض عن طريق الزج بهم في السجون اللهم سوى من قام بتطهير أفكاره وتطوير أيديولوجياته بما عرف بفقه المراجعات التي انتشرت في فترة التسعينيات، والحالة الثانية هي حالة أولئك الذين قرروا الانخراط في المجتمع عن طريق إقامة مشروعات استثمارية صغيرة وكبيرة خاصة مكتفين بإقامة العبادات والشعائر بغير تطرف في الرأي أو الممارسة، أما الحالة الثالثة فهي حالة فريدة، فنفر منهم ظل قابعاً في الظل منتظراً فرصة للاقتناص والفوز بمكتسب ثوري أو طبيعي يأتي على غفلة وهذا حدث لكثير ووما يفسره ظهور عشرات الأحزاب السياسية ذات الصبغة الدينية، والتي تخسر كل يوم وليلة أرضاً جديدة في الوطن نتيجة التخبط وقلة الحيلة السياسية أو اعتناق أفكار دينية مذهبية تخالف الرأي المصري الخاص.

وظن كثير من فصائل الإسلام السياسي أن الثورة هي فرصة العمر التاريخية لتحقيق الأحلام القديمة وفق منظورهم وأفكار شيوخهم أو استنساخ أنظمة آسيوية أو إفريقية عرفت بالحكم الإسلامي لأنهم يصرون أن أنظمة الحكم والحياة في مصر بعيدة كل البعد عن الشريعة والإسلام، وهذا ما دفع كافة هذه التيارات إلى التخلي عن مطالب الثورة عقب سقوط نظام مبارك ورفع شعارات تمييزية مثل تطبيق الشريعة، وشرع الله، وإسلامية الدولة، وغير ذلك من الشعارات التي لم تكن حاضرة وقت الثورة .

والمستقرئ لتاريخ التيارات الدينية وقت الثورة وما بعدها من فعاليات سياسية محضة كانتخابات مجلس الشعب المنحل أو عند تأسيس الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور أو حينما أعلن المجلس العسكري عن قيامه بتدشين المجلس الاستشاري يرى أنها كانت الداعم الأول لمفهوم الديموقراطية، هذه الكلمة التي ظلت لسنوات بعيدة مرفوضة ولها صفة النهي والتحريم والكراهية لديهم لأنها فكرة تتعارض مع الإسلام عملاً بمبدأ الشورى الذي أقره الإسلام الحنيف، لكن كان لزاماً عليهم أن يتصالحوا نسبياً مع متغيرات الأغلبية التي صنعت الحدث العظيم في تاريخ مصر المعاصر وهو الثورة، وكانت ملامح هذا التصالح هو إجراءات انتخابات داخلية لكل حزب ديني، وتعالي الصيحات والدعوات بضرورة أن يصبح المجلس الذي صار منحلاً بقوة القانون معبراً عن الديموقراطية، وهذا الزحف المقدس نحو صناديق الاقتراع كان أبرز تلك الملامح.

وبعد أن كانت التيارات الدينية قبل الثورة، التائهة بين الانتفاضة والوقفة الاحتجاجية، تسترعي وجود أمير يحكم تياره ويتصرف في شئونها وهو الآمر الناهي لها، تأثرت تلك التيارات بحمى الثورة وما تلتها من أحداث سريعة فعمدت إلى وجود متحدث رسمي لها، ومسئول إعلامي وثمة قياديين بارزين تكون مهمتهم الرئيسة إدارة الملفات الإعلامية والاجتماعية والسياسية، ثم أفرزت الثورة نجاحها حينما بدأنا نسمع مصطلح الذراع السياسي وهو مصطلح تم تداوله وقت الحرب الأهلية في لبنان حيث كان لكل تيار أو فصيل سياسي هناك أو ديني حزب يعبر عن وجوده ومطامحه وأحلامه. لذا سعت معظم الفصائل الدينية عقب خروجها لبؤرة الضوء في أثناء الثورة إلى تكوين ما عرف بالقيادة الاجتماعية باعتبارها الشرط الأول لممارسة السياسة الشرعية غير المحظورة، واختيار عناصر متميزة تستطيع أن تعيد ظهور هذه التيارات للشارع المصري بصورة محمودة.

وأبرز ما ميز فترة ظهور التيارات الدينية للمجتمع الثائر هو إعادة صياغة الخطاب العقائدي لديها والذي صار أكثر سياسياً وأقل دينياً، واستهل هذا الخطاب حديثه عن بدايات الإصلاح السياسي، والحتمية الديموقراطية وتداول السلطة، بجانب الصفة اللازمة في تكوين ومعتقد هذه الجماعات والفصائل وهي تعبئة القوى وحشد الجماعات وتوجيه حركتها نحو أهداف الفصيل أو التيار. ورغم هذا التوجه الديموقراطي قامت تلك الحركات بإعادة تنظيمها وفق تيار الديموقراطية الذي اجتاح البلاد والعباد عقب الثورة، وبدأت في ترتيب سلمها باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي تتمتع ببناء هرمي تنظيمي محكم ودقيق فلم تحتاج إلى تلك الإعادة الهيكلية، وبدأت معظم الحركات الدينية التي جنحت للسياسة مضطرة من أجل البقاء إلى ترتيب مفاهيمها وتوجيه قلقها إزاء السلطة الحاكمة.

المدهش حقاً أن كافة التيارات الدينية التي حشدت جموعها تجاه صناديق الاقتراع وقت انتخابات رئاسة الجمهورية الثانية والتي فاز بها الدكتور المنتخب الشرعي بإرادة شعبية محمد مرسي ووقفت بجواره تؤازره وتدعمه وتقوي أركان حملته وتؤيد قراراته لجأت مؤخراً إلى تناول حبوب الديموقراطية من جديد، ولكن هذه المرة بعد أن ارتأت أن الرئيس وجماعته تسيدت المشهد العام في مصر، أما الرئيس فبحكم وظيفته رئيساً للبلاد، لكن الجماعة هي التي ألجأت تلك التيارات إلى ملجأ الديموقراطية التي كثيرا ما اتهمت بالعلمانية والخروج على الشرعية الإسلامية، ولكن هذا اللجوء الاستثنائي كان مفاده أخونة مؤسسات الدولة وسيطرة الجماعة على معظم مفاصل البلاد، الأمر الذي دفع حركات الإسلام السياسي الأخرى إلى الحديث عن الديموقراطية والتنوع السياسي وضرورة الشراكة السياسية والمجتمعية.