أسئلة شائكة يثيرها القاص العراقي المقيم في الدنمارك عن العلاقة بين الأب وابنه الذي ولد بعد سنتين من الحرب مع إيران، وعاش مخاض الحرب الأخيرة، وأوجاع الحصار وكيف كشف اغترابهما عن بلدهما الالتباسات التي تحكم علاقتهما وتهدد مستقبلهما معا.

طفلان ضائعان

سلام إبراهيم

لم يمض على انتقاله في سكن مستقل غير فترة وجيزة حتى جاء إلى أمه في مكان عملها ناحلا جائعا مفلسا مريضا، بالكاد يستطيع التنفس حيث عاودته نوبات الربو الذي لازم طفولته. جاء وأفضى لها بكل قصته والتي لم تخبرني بتفاصيلها إلا بالتقسيط المحسوب فهي خير من تعرفني بعد أعوام حبنا العشرين. كنت متضايقا جدا من إعادته إلى البيت. إذ انه اشتكانا مرارا إلي الكومون مدعياً أنني أضربه وأرعبه كي يفوز بسكن مستقل فتشبثتُ به وأقنعت الكومون بأنه سينال مراده حالما يبلغ الثامنة عشرة. عاتبته:

ـ ليش يا بوي؟
ـ كنت أريدهم يعطونني شقة بسرعة!!
ـ وتتهمني بالعنف العائلي!

أطعَمَتهُ... اشترت له الأدوية وعاملته بحنان مما جعله يعترف لها أنه كان يدخن الحشيش منذ الأشهر الأولى التي وصل فيها، ويريد التوقف. ظل معنا قرابة شهرين لنكتشف أنهُ يسحب من حسابه المصرفي بالناقص مبالغ كبيرة حتى أنه عجز عن تسديد الإيجار. كنتُ ألزم الصمت المطعون في حديقة بيتنا الصغيرة شارداً من وجه زوجتي المتقد، المتكسر، المخذول، والمتماسك بغضبه من لحظة الانهيار التي أراها بعمق عينيها السوداوين الواسعتين، ومن وجهه المتبلد المحطم بنظراته الكسيرة، المستنجدة، والمصوبة نحو حياد ملامحي المحدقة بسماء الغروب الشاحبة. انفصلت عن المشهد تماماً رائياً نفسي في حوش دار أهلي الكبير في غروب مثل هذا وأبي ينهال عليّ بعصاه الغليظة وصراخي الموجوع المستنجد بأمي التي تهرع نحونا لتحميني من عصاه وتبتعد بيّ إلى طرف الحوش متلمسةً أنحاء جسمي كي تتوثق من عدم إصابتي مرددة بمرارة:

ـ ألف مرة لتُلك صير آدمي، ولا تجيب الإهانة لنفسك.

وقتها كنتُ أشعر بين ذراعيها وكأنها انتشلتني من الجحيم إلى فسحة حضنها الآمنة. فألزم الصمت مسترخياً بين ذراعيها بكل ما بجسدي من ود راغباً في النوم ونسيان كل شيء.. كل شيء.. الدنيا والغروب، أبي واللعب والذنوب. النوم والذوبان في حضنها الحميم.. ها هي عيناي تطل عليّ من عينيه المتوسلتين.. ها أنذا أجدني محاصراً بفيزيقية هذا الجسد الطالع من جسدي الجالس قبالتي. كانت زوجتي تصرخ وقد أعماها الدور الذي مثله وجعلها تمنحه الأمان وتمده بحاجته من متطلبات يومه.

ـ تشرب قهوتك وتذهب إلى شقتك ولا تدوس عتبة بيتي!.

ركز نظراته الذليلة بعيني اللتين عادتا من غور حوش أهلي المندثر الساطع هذي اللحظة بكل تفاصيله الدارسة. اعتنقته برمش عيني وقلتُ:

ـ هاك المفتاح وأذهب.. سأمر عليك!

ليلتها تسممنا. غادرنا النوم والصحو، الكلام والصمت. بقينا نتضور ألماً في صمت الليل. هربتُ من غرفة النوم. غصتُ في حيرتي مستعيداً كل ما حكاه لها في عودته الأخيرة الكسيرة، والذي كان يخشى أن يبوح به لي لسببٍ بسيط هو أنني أبحتُ له كل شيء، الخمرة والدين، النساء والعفة، هو من يختار وحذرته من العنف والمخدرات والجريمة، ودعوته كي يكون صديقاً لي.

وجدته ينتظرني بقسماتٍ ذابلة وعينين حمراوين متورمتين. عانقني بعنف وحرارة كمن يريد الالتصاق بيّ والبقاء هكذا. شمني وطبع على وجنتيّ المرتجفتين قبلاته الحميمة، فقدرت أي ليلة صعبة قضاها وحيداً. تأرجحتُ على حافة الانهيار بين ذراعيه الفتيتين الملتفتين حولي. تماسكت بعناء وضوعه القادم من طراوة ملمسه العاري وهو أبن السنتين يغفو بحضني على صوتي الرتيب

المتغزاله غزلوك.. بالماي دعبلوكِ...

تماسكتُ متغلباً على خدري القادم من عطر جسده الغافي في حضني. نفس الجسد الطفلي الذي كان يقف أمامي بملامحه الجدية المحتدمة، وهو يحاول ثني عن الالتحاق بالجبهة مردداً:

ـ بابا.. بابا.. لا تروح تره يكتلوك!

حازاً بكفه المنبسطة رقبته. ظللتُ طوال السنين الخمس عشرة التي تركناه فيها ملتحقين بثوار الجبل أتذكر تلك اللحظات التي تجعلني أبكي فراقه سراً. تماسكتُ فالاً ذراعيه برفق، نافضاً عن كياني فيض الحنين المكبوت. حاورته بعقل. كان يلزم الصمت وملامحه حائرةً بين إغراء ليلتي نهاية الأسبوع وكلامي الواضح القاطع. كان يحدق بعيداً. يغادرني إلى حيث لا أدري وأنا أدعوه للخلاص نهائياً من رغبته المريضة في ضرب الآخرين التي أباح لي بها حال وصولنا إلى الشام، وكان يمارسها كل نهاية أسبوع ويلوذ بالفرار من الشرطة معتبراً نجاته نصراً وفخراً. كان لا يرد على أسئلتي. يخوض في صمته الذي يجعلني للحظات خاطفة أكاد أسقط في اليأس مستسلماً ليقين خرابه الراسخ، فهو ابن الحروب حقاً ولد بعد سنتين من الحرب مع إيران، وعاش مخاض الحرب الأخيرة والحصار، ولكن أعاود ثباتي بالغور في ثناياه القديمة، بجسده الحامل كل صفاتي.. قامته الطويلة، لون بشرته، صوته الذي يوهم العديد من الأصدقاء فيحدثونه في التلفون معتقدين أنهم يتحدثون إليّ. أعيد الكلام رغم إحساسي بثقله عليه، مدفوعاً بشعور عميق بالذنب لتركنا إياه وعمره ثلاث سنين فقط فقلت:

ـ بابا.. اسمع.. قم.. انهض بحالك وأنا معك. أحمل حالي وأترك أمك وأخويك ونعيش معاً إلى أن تجد جادة الصواب.

تكسر في جلسته وأنا أفيض في رسم سيناريو حياته المقبلة فيما لو اختار درب الظلام.. سيفقد عمله وسكنه، سيكون نزيل أمكنة المشردين الوسخة. رأيته ينسرح في جلسته على سريره تحت لوحة لسلفادور دالي أهديتها له عند انتقاله حتى أصبح رأسه محصوراً بين الجدار وفراش السرير. أحسسته يكاد يندمل بالجدار بالفراش بالكلام باللحظة بالأمكنة التي أتخيله فيها وأنا أسرد مخيال تفاصيل مأساوية وضعه المحتمل. نهض من رماد هيكله بعناء ليقول بصوت وجلٍ، فاقد اليقين:

ـ ما المطلوب مني؟
ـ الأمر بسيط. تترك كل شيء. لا خروج في نهاية الأسبوع. ومن العمل إلى مكتبة المدينة. اجعلني صديقك الأوحد فنحن لم نعش معاً.
ـ بابا.. هذه الشروط صعبة!
ـ ليس لدي سواها وإلا أحمل حالي وأعود إلى أهلك. ولك ما تشاء من درب تختاره!.
ـ...
ـ لا تعطني جواباً متسرعاً.. فكر عميقاً.. وطويلاً!.

وخطوت عبر فسحة المطبخ الضيقة. فتحت الباب المفضي إلى ممر مسيّج يطل على حديقة تتوسط الأبنية. اتكأتُ بكوعي على السياج الحديدي مبحراً في الغروب، في العشب، في النسمات الخفيفة، في القصة.. كل القصة.. فأوجعني قلبي. وخلفي في عتمة السرير قطعة من ذاتي تحمل كل سماتي تخوض في عذاب روحها، محاصرةً بين رغائبها المعطلة بالشر.. وبين تهديد بالنبذ من أشد الناس قرباً. انحدرتُ في خواء اللحظة، ذلك الخواء الذي أضيع فيه كلما أهجس بفقد حبيب، وهذا الحبيب ليس أي حبيب.

هبط المساء بشحوبه الحزين. هوت عزيمتي إلى الصفر حال عبوري العتبة ثانيةً. جاوزتُ فسحة المدخل.. مسافة المطبخ. أطللتُ على استلقاءته المخذولة على سريره القديم الذي اشترته له أمه حال وصوله. رأيته هيكلاً من رماد، همس بصوتٍ مخذول:

ـ بابا.. موافق!.

احتشد الصمت بأنفاسنا. خطوتُ نحو الكرسي. جلست بمواجهة طوله الممدد بشكلٍ مائل على السرير. كنتُ أتكسر بأعماقي ومشهد ضعفه وانكساره واستسلامه يوجع كل ذرة مني. من أين لي الثقة بكلامه؟.. من أين وهو منذُ التحاقه بنا يفعل عكس ما يقول. كنتُ أستبطنه بعيني اللتين تخضلتا بغتةً فسارعت إلى مغادرة الكرسي نحو المغسلة القريبة. مسحت وجهي بحفنة ماء بارد قبل أن أعود إلى جلستي والصمت المربك، الذي جعله يحدق نحو النافذة متحاشياً النظر صوبي.. وددتُ لو أغور في أعماقه.. لو أحيطه بنفسي وجسدي.. احميه من الهوة التي يتأرجح على حافتها والتي ستفضي به إلى الخواء والضياع.. أوشكتُ على القيام ورمي جسدي نحوه.. أعانقه.. أقبله.. أشمه.. أنهضه.. أحمله عالياً.. عالياً.. أرميه في فضاء الغرفة وأتلقفه بذراعي مثلما عودته في طفولته.. أضمه بجسدي.. أعيد خلقه من جديد. وتوازنتُ بمشقة قائلاً:

ـ تسلمني كارت حسابك والرقم.. ونتلازم كل الوقت عدا وقت عملك!.

*    *    *

أتأرجح على حافة الانهيار. انفصل تماماً عمن حولي. أحصر بصري عبر نوافذ مكتبة Roskilde الزجاجية المطلة على فناء محصورٍ بين أبنيتها يؤدي إلى مدخل الرواد الوحيد. أتموج بوقدة روحي حال رؤيتي لشكلٍ يشبهه، وتموت قواي حينما لا يكون هو. ساعة من الجحيم أتلظى بنارها لا تشبه أي ساعة من ساعاته التي عشتها في ليل خنادق الحرب مع إيران، في ليل حرب العصابات، في ساعات الفقد الفيزيقي لرفاق الخنادق وثوار الجبل الذين جادوا بأرواحهم قبل أن تفيض نحو المجهول تحت ناظري. هذا جحيم مختلف تماما. عذاب لحظاته غير مباركة. جحيم ساعة تقبض الروح التي أمعنت في رمادها وهي تكتشف منذ انتقالي قبل أسبوعين مدى الخراب في روح ولدي. أسبوعان لم أذق فيهما حلاوة النوم. أسبوعان أسهر جواره جالساً على الكرسي محدقاً بغفوته العميقة وقسماته التي تشتد براءتها وهو يغور في مناحي النوم والأحلام مطمئناً لوجودي بعد أن كان في الأيام الأولى يرهف السمع متوتراً لأي حفيف يأتي من الممر الخارجي. وكان ذلك لا يخفي علي.. كنت أحدق في عالمه السري الذي نسجه في غفلة عني عبر حذره وقلقه غير المبرر إطلاقاً في بلدٍ مثل الدنمارك. قلق وخشية تصيب من يخرج على القانون.. قلقه ذات قلقي في العراق وأنا أسهر الليل كله خشيةً من رجال الأمن الذين يختارون وجه الفجر.. كنتُ مثله أرهف السمع مستعداً للهروب المطلق.. وقتها كنتُ لا أدري إلى أين، هلعاً من هول التعذيب الذي ذقته مراراً في تلك الأمكنة المعتمة الرطبة الغامضة التي تصيب نزيلها باليأس المشرف على حافة الجنون. أسهر مغموراً بضوء مخبوء تحت إناء ماء زجاجي، أسطواني الشكل تترسب في قعره كتلة دم وتنتشر في أنحائه قطرات حمراء كأنها نزفت لتوها من جسدٍ مجروح.. سألته بعد ليلتين:

ـ بابا.. من أين جلبت هذا الضوء؟
ـ اشتريته.. ومن دونه لا أستطيع النوم!.

لم أبح له بهول الأخيلة التي تعيشني فيها بقع الدم المنثورة بأنحاء الماء والذي يذكرني بإصابة ـ مظهر عبد طه ـ الجندي الجالس جواري على قارب وسط هور الحويزة بشظايا قذيفة أسقطته من الزورق فبقع دمه لون الماء المضطرب في تشكيلٍ يشبه هذا. أسهر جواره مقلباً وضعنا الجديد، واضطراره إلى مصاحبتي طوال اليوم. كان لابد أن يحكي تفاصيل عابرة سريعة، تفاصيل هو لا يدرك ما تخلفه في سهري تحت نزيف الماء وكأنني في حضرة مذبحة لا تنتهي. أتلظى بليلي الطويل رائياً هذه القطعة الحية الفتية الطالعة من جسدي في طريقها إلى عالم الجريمة والضياع. يقلبني جمر حكاياه عن ضربه لكل من ينظر إليه ويطيل التحديق.. عن مجد هروبه وعدم وقوعه بأيدي الشرطة، عن تفاصيل الكيفية التي تسرق بها العصابات.. كيفية كسر قفل باب مثلاً. كان يؤكد بأنه لم يكن معهم، لكنه يمثل أمامي العملية في مسرح الغرفة،.. عن أمكنة بيع المخدرات وأنواعها. أتجمد رعباً مستعيداً قصة ملابسه الممزقة بأسنان كلبٍ أدعى أنه هاجمه وهو في حديقة المدينة بحفل كل ثلاثاء.. وذلك مستحيل فبإشارة من صاحب الكلب يكف. ثمة أسرار خلف كل الحكايات، فالكلب الذي مزق بنطاله وقمصلته لا بد أن يكون كلب حراسة. ليس أمامي خيار سوى الإنصات وتصنع البلاهة والتصديق كي أكسب استمرارية هذا الوصال الشاذ الغريب. أسبوعان من السهد والظنون والجلوس العاجز تحت فيض الدم العائم خلف زجاج الأسطوانة.. أسبوعان في خواء حضوري وسط عالمه الراسخ بالشر، والذي بناه بطريقة لا أستطيع فهمها مطلقاً.. فهو يلبس أجمل وأغلى الملابس التي لا نستطيع رغم عملنا أن نوفرها له. كان يدعي أنه يشتريها بأسعار زهيدة من الأجانب الذين احترفوا السرقة.. لم تنفعه قصص جوعنا أنا وأمه في كردستان ومعسكرات اللجوء في تركيا وإيران حيث اضطررنا إلى النوم على التراب دون غطاء.. ونكون سعداء وقتها عندما نحصل على قطعة خبز وحبات زيتون نقاوم بها جسامة يومنا الصعب. كنت أحسه بتقادم الأيام يزدري قصتنا.. كل قصتنا.. من المؤكد أنه يعتبرنا معتوهين.. غبيين.. متعلقين بمثل لا تحقق واقعي لها. كيف لا يستخف وهو ما أن انتقل إلى شقته حتى جلبوا له تلفزيون وفيديو ومبلغ من المال مكنه من شراء أثاثٍ غالٍ. أراه في غمرة نثار الدم السابح بأسطوانة الماء الساكن يغفو بسكينة.. نفس سكينة غفوته بحضني قبل ستة عشر عاماً. يغفو ملء جفنيه تاركاً خفقي الساهر الحائر، المبحر بذهول في عمق سفره الغامض في عالم النوم والأحلام.. أسهر معطوب الروح. أسبوعان في غمرة الماء المذبوح النازف في صمت ليلي الطويل. أسبوعان رسخّتْ في نفسي خواء المصاحبة اليومية المفروضة في حوار، الطرف الأخر فيه لا حول له ولا قوة حيث لا يستطيع دفع أجرة سكنه وقوت يومه. أسهر إلى أن تنتشلني زقزقة عصافير الغبشة.. اسهر معانقاً تباشير فجر النافذة الغاسل نزيف ماء الظلمة المبقعة ببقايا أجساد قتلى المحن والمواقف والعصور.. حالماً به يستقيم عائداً إلى حضني والمعنى بحيث أزوره في عطلة الأسبوع في سكنه وليس في السجن.

أنهض من جلستي الساهرة جوار سريره. استقيم بعناء مسلولاً بشجني، بسيل حبي المكبوت ورغبتي في عناقه، في حضنه وأذابته بجسدي، في الغور فيه. أخطو مترنحاً صوب الباب المفضي إلى الفجر، تغمرني الفضة الشفيفة المتدفقة من غور السماء. أهبط درجات السلم الحديدي إلى الحديقة وضجيج العصافير. أيمم شطر الحقول المجاورة والغابة. أنصت لحفيف خطوي، لهسيس الأعشاب، لعويل الريح، لنبضي الضاج في عمقها وبين سيقان أشجارها الشاهقة المحتشدة ببقايا العتمة:

ـ لم يحدث لنا هذا؟.. لِمَ أختار درب الشر؟ أثمت لعنة حلت علينا ورثناها من الأسلاف؟!!!.

أتوغل في غابة نفسي، في مناحيها البعيدة، في لون الفجر والأشجار الباسقة، في العشب والدغل والألم باحثاً عن قشة جواب.. أية قشة تفسر لي وضعي البشري البائس، محروماً من فراش بهجتي جوار رفيقة عمري، من ذلك التغبيش الجميل بوجه طفليّ، من طقوس إعدادي لوجبة الفطور وعلب طعام غذائهم، وقبلة الصباح وهما يخرجان إلى المدرسة، محروماً وكأنني في عالمٍ أخر. عالم ناء.. عالم لا يعرف الأمان والسلام.. عالم متوتر وفي كل يوم أكتشف حبوب مخدرة وأوراق لف الحشيش مخبوءة بأدراج المطبخ وتحت السرير، في الحقائب والوسائد. سكاكين وهراوات وأقنعة سوداء لا تُظهر سوى العينين تستعمل عند السطو. أهيم في فجر الغابة.. فجر القصة. أتهدج مختنقاً بشجني، وتمنيتُ في تيه الغابة لو كنتُ في حميمية أمكنتي الأولى.. لو كنتُ في مدينتي الجنوبية.. حيث كنتُ أهرع وقت اشتداد محنة روحي إلى الفرات.

ـ أين مني شبابيك الذهب التي بمعانقة أصابعي لجسدها كنتُ اعثر على الطمأنينة وقت اشتداد المحنة.

.. محنتي فريدة يا سماء..
محنتي عارية يا فضة..
محنتي في جسدي يا أشجار.. محنتي محنة.

كدت أختنق بلهاثي، فانفجرت في صراخٍ أجوف.. صراخ مجنون مزق سكون حيوات الغابة والفجر.. صرختُ.. صرختُ بكل ما بيَّ من طاقة. صرختُ راكضاً نحو أقرب شجرة. انهلتُ نطحاً ولكماً على ساقها المتين الأخرس حتى أدميتُ وجهي وظاهر كفي. أستكنت منهكاً.. تأملتُ خواء لحظتي.

ـ يا حبيبي.. مدد.. يا حاضر الشدات.. مدد.. مدد يا داحي باب خيبر.. مدد.. ودفنتُ وجهي بعشب الغابة الندي الذي أختلط بفيضي. تحول نحيبي إلى بكاءٍ خافتٍ مهضوم. ومن فيض دمعي رأيته يستقيم منبثقاً من لهاثي.. من قلف الشجرة الملون بنزفي.. من غور نفسي.. من طفولتي.. جاءني بلحيته البيضاء الكريمة وأعتنق جسدي البائس.. التففتُ به وغبت في أتون عشب لحيته الفضي.. أردت أن أبصره بحالي.. أردت أن أبوح له بكل شيء.. شجني، بؤسي، ألمي، خواء لحظتي وضياعها، صبرني.. صبرني بهزة من رأسه المقدسة.. ونفث في وجهي نفسه الحميم.. يا حبيبي يا بن أبي طالب.. يا حبيبي.. يا شفيعي في الغربة.. أشار بذراعه الموشحة برداء أبيض صوب شقة ولدي.

استقبلني مذعوراً وهو يتلمس قسماتي النازفة ويردد لاهثاً:

ـ من الذي فعل بك هذا يا بابا.. من؟.. سأمزقه!.

نطقت بصوتٍ واهن:

ـ أنتَ!.
ـ بابا.. بابا.. يا بابا!.

اعتنقته بحنان فذهب الكلام.

أتأرجح في انتظاري ورقاص ساعة المكتبة الجدارية يشير إلى السادسة والنصف. تمنيت عودته وعناقه بأي شكلٍ يكون، لحظة فيزيقية مجردة يستدعي فيها الجسد فرعه. أحملق في الساعة والنافذة، في حركة أجساد البشر المغادرة قبيل موعد الإغلاق. أحملق في ذاتي البائسة التي بدأت تتدلى في وهن عجزها اليومي. أتوقد وأترمد في لحظة واحدة والدقائق تكبس عليّ معريةً انخذالي. لو يأتي.. لو يأتي في اللحظات الأخيرة.. ولا يعيشني هواجس ليلة الخميس الفائت التي اختفى بها وتركني وحيداً في شقته، ساهراً محتدماً بين الغضب الماحق والخذلان الساحق. كان هو لا يدري أين قضى ليلته تلك؟. لو يأتي يا رب الكون والمعرفة والخلق.. لو يأتي.. لم يبق سوى خمس دقائق. تلفتُ حوالي فوجدتني الوحيد بين أدراج الكتب والكمبيوترات والموظفات المتململات من أخر لحظات يومهن المكرور. ترسخت في الخذلان. ترسخت في ذل لحظتي الخاوية. تعطلتُ غير قادرٍ على النهوض مثل حالي تماماً في عتمة الزنزانة وغبشة الملاجئ وبيت طفولتي التي كنتُ فيها مذنباً كل الوقت. تعطلتُ منهاراً في بهمة السؤال الذي حيرني منذُ الطفولة وإلى لحظتي المشرفة على الشيخوخة:

ـ لِمَ يحدث لي كل هذا؟

أشرفتُ على الخمود في توتر الدقائق الثلاث الأخيرة، وأنهضتُ جسدي بمشقة تحت عيون الموظفات المستعجلات خروجي. خطوت بجسدي الخائر نحو الباب المفضي إلى فناء مسائي الحزين.. فناء طفولتي حينما أنفرد بنفسي تحت النجوم في حوش بيت أهلي القديم. أخطو مخدراً نحو باب المكتبة. أخطو كمن يتماهى في خرس جدار. أرمي خطواتي الحجرية تحت مرأى الحارس قبالة الباب لمنع من يبغي الدخول بعد السابعة. تنفتح باب الدخول آلياً.. أجتازها وكأنني أعبر نحو حتفي. صرت في الفناء. تذكرتُ صديقي الشاعر وحزنه الدفين وهو ينشد في باحة مسجد الحاجم قبل ثلاثين عاماً:

أموتن سكته قلبي كتاب... واليقره القلب يعمه!(*).

وبغتة ظهر من خلف حافة الجدار فصرختُ به ناسياً كل تفاصيل انتظاري:

ـ وين كنت يا بابا.. وين؟!.

كان يترنح، وبالكاد يستطيع الكلام، ويحدق إلي بعينين مستنجدتين يزيد من براءتهما الخدر ونصاعة انشداده لي.

لم يستطع سوى أفراد ذراعيه مثل جناحي طائر اعتنقته بشغف شاماً من جسده الفتي الهش خليطاً من روائح الدخان والخمرة والحشيش. كسرني عناقه المخذول في صمت فناء المكتبة الخاوي.

انحدرنا في صمت الشارع متلاصقين.. حبيبين.. ضائعين.. مثل طفلين يتيمين

تموز ـ يوليو ـ 2000
الدنمارك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) ـ من مجموعة قصصية ـ عشتاري العراقية ـ معدة للطبع
(*) ـ من قصيدة للشاعر العراقي علي الشباني