قليلا ما يتناول النقد العربي الأعمال الأوبرالية بالدرس والتحليل، وهذا ما دفع الكاتب لتناول أوبرا فيردي «ماكبت» التي شاهدها مؤخرا في انتاج بريطاني باذخ للكشف عما فعله الموسيقي الإيطالي الكبير بمأساة شكسبير الخالدة.

جلايندبورن: و"مكبت" بين شكسبير وفيردي

صبري حافظ

أصبح موسم جلايندبورن الأوبرالي Glyndebourne Festival Opera من الأحداث الفنية التي ينتظرها الجمهور البريطاني، بل والجمهور الأوروبي الأعرض كل عام. فقد استطاعت هذه التجربة الفريدة والمبادرة الفردية الجميلة أن تتحول ـ بفضل الدأب والإخلاص والالتزام بالمعايير الفنية الراقية ـ إلى واحدة من أكبر المؤسسات الثقافية والفنية في بريطانيا، وأن تجعل من أنتاجها الأوبرالي الضخم أحد أهم معالم النشاط الأوبرالي العالمي. ومن الضروري قبل الحديث عن هذا الإخراج الجديد لأوبرا فيردي Giuseppe Verdi (1813-1901) الشهيرة (ماكبث Macbeth) التي شاهدتها في جلايندبورن هذا الشهر، فقد كانت الأوبرا التي افتتحت بها موسمها هذا العام، أن نقدم تجربة جلايندبورن للقارئ العربي.
فهي تجربة فريدة لاتضاهيها إلا تجربة مدينة بايرويث الألمانية التي ارتبطت بالموسيقار الألماني الكبير ريتشارد فاجنر (1813-1883) وأوبراته، وإن كانت تجربة فاجنر هي تجربة موسيقي موهوب فيها شيء من التقليدية، فقد أغدق عليه أحد رعاة الفنون الكبار في القرن التاسع عشر من ماله ما مكنه من تحقيق حلمه في بناء دار للأوبرا يعرض بها أعماله. وقد تحول المشروع إلى مؤسسة فنية بعده لاتزال تنظم كل عام موسمها الأوبرالي هناك والمعروف بـ Bayreuth Festival وقد تخصصت في أعمال فاجنر دون غيره. ولكن تجربة جلايندبورن تجربة جد مختلفة، فهي أوسع أفقا وأعرض مدى من تجربة بايرويث. لاينجبها في رأيي إلا الاستقرار الطويل، وإحساس الفرد بأنه في مجتمع يمكن أن يحقق فيه حلمه من خلال الدأب والتراكم ـ على عكس مجتمعاتنا التي لايأمن فيها الفرد على نفسه ناهيك عن التخطيط لمستقبله. لأن تجربة جلايندبورن التي تحولت الآن إلى مؤسسة ثقافية كبيرة بدأت بسبب أهتمام أحد الأثرياء، وهو "جون كريستي"، بالموسيقى ورغبته في أن يمتع ضيوفه وأصدقاءه بها بشكل دوري. فهو من أسرة كريسي Christie العريقة التي تعود شجرة عائلتها في هذا البيت الإقطاعي الكبير إلى القرن الثامن عشر. وكما هو الحال في النظام الانجليزي الذي يورث الإبن الأكبر كل الثروة كي لا تتفتت الثروات، ورث عن أبيه هذا البيت العريق الذي يقع وسط مزرعة خصيبة واسعة من مئات الأفدنة.

ويقع البيت في قرية صغيرة هي قرية جلايندبورن Glyndebourne الواقعة في أحضان الطبيعة الانجليزية الساحرة في الجنوب الشرقي من انجلترا بالقرب من مدينة برايتون وشواطئها الشهيرة. وكان ملحقا بالبيت مبنى صغير أحاله "جون كريستي" في بدايات القرن العشرين إلى غرفة للأورغن كان يعزف فيها بعض المقطوعات لضيوفه بعد العشاء. وتم توسيعها بعد ذلك لتصبح أقرب إلى صالة واسعة يتدرب فيها الموسيقيين، ثم يعزفون فيها للضيوف الذين أخذت أعدادهم في الازدياد مع تنامي صيت حفلاته. ولأنه كان ذا ذوق موسيقي رفيع، فقد بلغت شهرة حفلاته أسماع الكثيرين، وأعرب كثير منهم عن رغبته في حضورها، بصورة لم يعد ممكنا معها أن يقتصر الأمر فيه على أصدقائه وضيوفه، ولا أن يقدم العشاء لكل من يجيء للاستمتاع بحفلاته الموسيقية. فاقترح عليهم أن يجلب كل منهم معه عشاءه على شكل وجبة نزهة Picnic أي العشاء الذي يؤكل في الهواء الطلق. ولأن معظم الضيوف كانوا من الطبقات الأرستوقراطية، فقد أخذوا يتبارون في إعداد هذه النزهة حتى أصبح لها تقاليدها التي لاتضحي بأي من تفاصيل العشاء الاحتفالي الذي كان يقدمه لضيوفه على ضوء الشموع بمشروباته الفاخرة وأطباقه المتعددة وعنايته بالتفاصيل الدقيقة. وسرعان ما تطور الأمر ليصبح مؤسسة صغيرة بسب الإقبال على الحفلات الموسيقية والغنائية التي كان يعقدها، والتي تطورت بالتدريج لتقديم أشهر الأوبرات على نطاق ضيق. فقرر "جون كريستي" توسيع هذه الغرفة إلى مسرح أوبرالي يسع ثلاثمئة متفرج عام 1934 كي تعرض فيه الأبرات الكبرى بشكل لائق. ولما أصبح الأمر نوعا من المؤسسة الصغيرة وضع لها من البداية تقاليدها الصارمة، وكأن كل من يأتي إلى حفلاته ضيفا عليه أن يحترم البيت، وأن يرتدي ملابس السهرة الرسمية، كما كانت الحال في الأوبرات القديمة العريقة، وألا يترك كأي ضيف محترم أي مخلفات في حديقته الغناء التي يتناول فيها نزهته. حتى سدادات زجاجات الشمبانيا التي قد تتطاير أحيانا، لابد من أن يجمعها الضيف مع كل "زبالته" وأن يضعها في سلة "البكنيك" التي جاء بها فيها ويعيدها معه.

ماكبث مع الساحرات في تشكيل بصري دال

في هذا المسرح الصغير تخلقت سمعة جلايندبورن وصاغها ذوق كريستي الموسيقي والأوبرالي الراقي وانفتاحه على مختلف التجارب الأوبرالية، وبذخه في الإنفاق عليها كي تخرج في أكمل صورة. فقد كان عاشقا للموسيقى الكلاسيكية بشكل عام، والأوبرا بشكل خاص. ونمت المؤسسة حتى أصبحت مؤسسة مزدهرة لم يعد ممكنا أن تستمر ـ بسبب تنامي أنتاجها وضخامته ـ في هذا المسرح الصغير. ولذلك كان ضروريا أن يبني ابنه الأكبر الذي ورث المؤسسة وأدارها بمهارة رجال الأعمال مسرحا جديدا. وهكذا تم بناء الأوبرا الجديدة التي افتتحت عام 1994، والتي تتسع الآن لثمانمئة متفرج دون أن تفقد شيئا من حميمية مبناها القديم، فقد استفادت في تصميمها من تقنيات التصميم المسرحي الحديثة التي تحرص على تقصير الخط المباشر بين عين المشاهد والخشبة. وإذا كان الموقع الذي بنيت فيه ـ كمواقع القصور الإقطاعية الباذخة في أغلب أنحاء بريطانيا ـ من المواقع الساحرة من حيث الطبيعة وجمال تموجات الأرض وتضاريسها، فإن التصميم المعماري الذي أعده المعماري الانجليزي مايكل هوبكنز وحرص فيه على التساوق بين المبنى الجديد والبيت التقليدي القديم، واستخدم فيه لمسات من العمارة السويدية التي تلجأ إلى الاستفادة بجماليات الخشب الطبيعية، وما يضفيه على قاعة المشاهدين من دفء وحميمية جاء في صورة لاتقل جمالا وروعة عن المشهد الطبيعي خارجها. والواقع أن مبنى جلايندبورن الجديد هو أول مبنى خاص لأوبرا في بريطانيا منذ قرن تقريبا، وقد تكلف هذا المبنى الجديد ثلاثة وثلاثين مليونا من الجنيهات، وأصبح واحدة من الإنجازات المعمارية المرموقة في العقد الأخير من القرن العشرين. وأظن أن نجاح هذا المبنى الجديد وإمكانياته الصوتية والبصرية المدهشة كان وراء عملية تجديد أكبر الأوبرات البريطانية في "كوفنت جاردن" لأنه جعلها، وهي الأوبرا البريطانية القومية، تبدو وكأنها شيئا متخلفا عفى عليه الزمن، فإغلقت أبوابها وخضعت لعملية تجديد بعد هذا التاريخ بعامين استغرقت أكثر من خمس سنوات. إلى الحد الذي يقول معه كثيرون من عشاق الأوبرا أن جلايندبورن لم تقدم لبريطانيا مسرحا أوبراليا جديدا واحدا، وإنما مسرحين!

طقوس الاحتفاء الأرستوقراطي بالحياة
وبالرغم من التوسع في المبنى، وتضاعف طاقته على استيعاب المشاهدين ثلاث مرات تقريبا، فإن طقوس جلايندبورن ـ والعهدة على مضيفي الذي أخذني لها لأول مرة قبل عشرة أعوام، فقد ولد أصلا في المنطقة وترددت أسرته على أوبراها لعشرات السنين ـ لم تفقد شيئا من حميميتها. صحيح أن هناك الآن أكثر من مطعم ومشرب في حديقة هذا البيت الإقطاعي الكبير، إلا أن الأغلبية العظمى لاتزال تحافظ على تقاليد النزهة picnic التقليدية لجلايندبورن، وتناول ما يجلبونه معهم من طعام وشراب في حديقتها الفيحاء. ولهذه النزهة طقوس يرهف كل منها من عملية الاحتفاء بالحياة والاستمتاع بأطايبها، ويحيلها إلى عيد لذيذ للحواس الخمس جميعها. بصورة تبدو معها عناية المشاهدين بملابسهم وبتفاصيل وجبة النزهة تلك وكأنها ترجيع لعناية الانتاج الأوبرالي نفسه بالتفاصيل، وسخائه في الإنفاق عليها. فقد نجحت جلايندبورن في تحويل الأوبرا، وهي فن تفاعل الفنون السمعية والبصرية كلها، إلى طقس شامل للاستمتاع بالحياة.

إذ تتسم زيارة جلايندبورن بالمقارنة بأي زيارة لدار أوبرا حديثة أو قديمة ومشاهدة إحدى الأوبرات فيها، بأن جلايندبورن قد حولت الذهاب إلى الأوبرا إلى طقس كامل للاحتفاء المرفة بأجمل ما توفره الحياة لمن أنعم الله عليه بالثراء فيها. فالأوبرا هي الفن الذي نشأ في أحضان القصور الملكية إبان فترة البذخ الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وظل بسبب فداحة تكاليف انتاجه فن السراة الذين يجمعون إلى الثروة الثقافة وحب الفنون أو يريدون التفاخر بهما. وأصبح رواد الأوبرا الآن من الأغنياء أو الناجحين مهنيا بسبب ارتفاع ثمن تذاكرها في كل مكان. فالأوبرا أكثر الفنون المعاصرة بذخا وتكلفة في الانتاج لأنها تضم المسرح والموسيقى والرقص والغناء، أي فنون العرض جميعا في تفاعل خلاق. ولا تفعل هذا بقدر من التقتير ـ كما تفعل الآن معظم المسرحيات إذ تحرص على ألا يزيد عدد الشخصيات فيها عن حد معين، وإن تجاوزه لابد أن تكون بها فرصة قيام الممثل الواحد بأكثر من دور، حتي لا تتجاوز تكاليف انتاجها الحد المعقول ـ وإنما بقدر كبير من الكرم أو البذخ في استحدام الممثلين والجموع، وفي الإنفاق بسخاء على المناظر والملابس وإعداد الحركة والرقصات. وتستخدم بالإضافة إلى هذا كله أوركسترا كاملة تعزف موسيقاها الحية تحت الخشبة مباشرة وفي مقدمة المسرح، فضلا عن عدد كبير من كبار المغنين الأوبراليين والكورس. ولهذا فأن مخرج العرض الأوبرالي عليه أن يعمل في تساوق مع قائد الأوركسترا الذي يقود معه أيقاع العمل، ويقوم بتخليق التفاعل بين العرض من جهة والغناء والموسيقى من جهة ثانية.

الساحرات وعرباتهن وقد تحولن إلى كورس الأوبرا

وقد أحالت جلايندبورن مناسبة الذهاب إلى الأوبرا ـ والتي تقع كما ذكرت في أحد البيوت الإقطاعية الضخمة في قلب الريف، لا في وسط المدينة كمعظم دور الأوبرا ـ إلى مناسبة للاحتفاء بكل طيبات الحياة من مأكل ومشرب فضلا عن تشنيف الآذان بأعذب الأصوات والألحان. حيث يفد المشاهدون إليها بعد الغذاء بقليل، وتختار كل مجموعة موقعها في الحديقة وتجلب له المقاعد والموائد وتغطيها بالمفارش الجميلة، إذا كان اليوم صحوا، أو في الخيمة الضخمة المعدة لذلك، أو تحت الشرفات المغطاة في المبنى الجديد إن كان مطيرا أو عاصفا. ثم تفرد كل مجموعة ما أحضرته معها من أدوات وطعام وشراب. فأول طقوس النزهة هي تناول الشراب والطعام في الهواء الطلق وبين أحضان الطبيعة. ولكن على العكس من طعام النزهة المعهود من السندويتشات البسيطة، أو المشروبات الغازية فإن الحضارة الحديثة بما وفرته من صناديق التثليج التي تحتفظ بالأشياء المثلجة في نفس درجة حرارتها، وكأنها خارجة لتوها من الثلاجة أو المبردة، والترامس التي تحتفظ بالمشروبات أو الأطعمة الساخنة في الدرجة المرغوبة، نقلت وجبة النزهة إلى متسوى مغاير، وأتاحت لها أن تنطوي على أشهى ما يقدم في المنازل أو المطاعم من أكل وشراب.

وتبدأ طقوس الاحتفاء عادة بتناول القهوة المثلجة أو الشاي المثلج مع الفطائر والكعك، تعويضا عن شاي مابعد الظهر الإنجليزي الشهير. وإذا كنا نعرف في شرقنا الشاي المثلج، فإن القهوة المثلجة فن خاص يجعلها واحدة من ألذ المشروبات وأكثرها خصوصية، بما يطفو على سطحها من قشدة "كريمة" وشيكولاتة مبشورة ومكسرات. بعد ذلك يجيئ دور التمشي في الحديقة حتى يغذي المشاهد عينية بما تتفتق عنه عبقرية الطبيعة من زهور، ويمتع أنفه بما يفوح منها من أريج وشذى. وبستاني الحديقة فنان أخر يعرف أنها يتنافس مع فنانين آخرين في تقديم ما لديه من جمال. ثم يأتي بعد ذلك دور تناول كأس من الشمبانيا الباردة ومعها بعض المقبلات الخفيفة قبل العرض الذي يبدأ عادة حوالي الساعة السادسة: قبلها بقليل أو بعدها بقليل حسب طول الأوبرا. وبعد الفصلين الأولين من الأوبرا يأتي دور استراحة العشاء الطويلة ومدتها خمس وثمانين دقيقة. وطقس العشاء أقرب إلى الطقوس الدينوسية القديمة حيث تسيل فيه الشمبانيا والأنبذة المعتقة بلا حساب، ويصحبها عادة أكلات خاصة أعدت بعناية بالغة، تنطوي أطباقها المختلفة على ما تتباهى به كل مجموعة على الأخريات، وما يتفتق عنه ذهنها من عناية بالغة بالتفاصيل. فالحضارة هي فن الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة بعد أن تحققت كل الأمور الكبيرة. وقد لاحظت أن كل مائدة تأتي بأفخر مفارشها، وبأفخم كؤوسها من الكريستال الصافي، وبأطباق وملاعق وشوك وسكاكين، وكأنها تتناول الغذاء في إحدى البيوتات الفاخرة، وقد لاحظت كذلك أن كثيرا من الموائد لم تنس حتى الشمعدان والشموع حتى تتناول عشاءها على ضوء الشموع البهيج، وأن البعض أتي بالزهور، وحتى بنباتات صغيرة كتلك التي تزين بها ربات البيوتات الراقية موائدهن. وتنتهي أدوارالعشاء المختلفة بالجبن ثم الفراولة المترعة بالقشدة، وكوب من القهوة الساخنة التي أتت بها كل مجموعة في الترامس، قبل أن يعود الجميع إلى قاعة المسرح من جديد للاستمتاع ببقية الأوبرا.

فما أن ينتهي العشاء حتى تكون كل الحواس قد أشبعت: الشم بما يعبق في الحديقة من أريج، وما تفوح به الأطعمة من أبخرة ونكهات. والتذوق بما توفره المشروبات والمأكولات المختلفة من طعوم يتبارى المحتفلون بأن تكون لها مذاقات متميزة، وحاسة اللمس بما تتمتع به الأيدي من لمسات وما تشعر به وهي تنزلق علي ملمس الكؤوس الفخمة، وهي تتبادل رنين الأنخاب، أوتتحسس الملابس الحريرة الباذخة للنساء، ناهيك عن ملمس الجلد البشري في طقس الاحتفال الحميم ذاك والمترع عادة ببهجة القرب من الأصدقاء أو الأحباء والاستمتاع معهم بالحياة. أما حاستا السمع والنظر فحدث عنهما بلا حرج، فبعد أن اغترفتا من جمال الطبيعة الخلاب الذي تتميز به هذه البقعة الرائعة من بريطانيا بروعة أزهارها وزقزقة طيورها وخرير مائها، ها هي الأوبرا تتيح لهما الاغتراف من منابع الإبداع البشري الخلاقة بما تفتقت عنه قريحة مخرج الأوبرا من عناصر بصرية وسمعية وحركية بهيجة. فالأوبرا هي بالطبع هدف الرحلة، وغايتها وذروة ما تنطوي عليه من مباهج حسية. وما كل هذه الخطوات الممتعة إلا الأعراف التي تمهد لذروة هذا الحجيج إلى كعبة الفن الأوبرالي وغاية عشاقه. ولذلك فإن فرقة جلايندبورن من أشهر الفرق الأوبرالية في بريطانيا، ومن أكثرها اهتماما بكمال العرض والإنفاق عليه ببذخ حتى يصبح متعة للعين والأذن على السواء.

مهرجان جلايندبورن هذا العام
وبسب علاقة الأوبرا بالطبيعة في جلايندبورن، ومتغيرات الطقس الانجليزي، فإن موسمها السنوي لا يتجاوز عادة الشهور الثلاثة إلا قليلا. إذ بدأ موسم هذا العام 2007 في 19 مايو / آيار ويستمر حتى 26 أغسطس / آب. ولكنه مع ذلك يضم ست أوبرات كبيرة هي بالإضافة لأوبرا الافتتاح (ماكبث) لفيردي، (كوزي فان يتيي) لموتسارت و(سينيرينتولا) لروسيني (عذابات القديس ماثيو) لباخ و(تريستيان وإيزولدة) لفاجنر و(دورة اللولب) لبريتين. وبرغم قصر الموسم فإن فرقة جلايندبورن الشهيرة تقضي شطرا كبيرا من العام في الإعداد له، لأن برنامج جلايندبورن يعتمد على المراوحة بين بين هذه الأوبرات وليس تقديم كل منها لفترة ثم الانتقال للأخرى. وذلك حتى يتاح لعشاق الأوبرا الذين يفدون إلى انجلترا خاصة للاستمتاع بموسم جلايندبورن مشاهدة أكثر من أوبرا في الزيارة الواحدة مهما كان قصر هذه الزيارة. كما أن ضخامة تكاليف الانتاج تجعلها تراوح بين إنتاج هذا العام الجديد والذي لايزيد عادة عن ثلاث أوبرات في السنة، وثلاث أحرى من إنتاج العام أو الأعوام القليلة السابقة فيما يعرف بنظام الريبورتوار. ومن بين الأوبرات الست التي تعرض في موسم هذا العام هناك أثنان فقط هما (ماكبث) و(عذابات القديس ماثيو) أنتجا خصيصا لهذا العام، أما أوبرا موتسارت ـ التي تعتبر جلايندبورن نفسها متخصصة في أوبراته، ولا يخلو موسم من إحداها ـ فهي من إنتاج العام الماضي، وروسيني من إنتاج عام 2005 وفاجنر هي إعادة إحياء للإنتاج عام 2003 وبريتين من العام الماضي.

وقد أردت أن أبدأ تقديم جلايندبورن في (الكلمة) لأول مرة بأوبرا الافتتاح، ليس فقط لأنها عادة ما تنطوي على أفضل ما في الموسم من جديد، ولكن أيضا لتلك العلاقة القديمة بيننا وبين هذا الموسيقار الإيطالي الكببير فيردي (1813-1901) التي كلما استرجعت تفاصيلها، كلما شعرت في القلب بغصة. فقد كان فيردي في أوج سمته الموسيقي حينما طلب منه الخديوي إسماعيل ـ باني أول أوبرا في الشرق الأوسط، وكانت وقت افتتاحها عام 1968 أجمل أوبرا في العالم فقد كسبت المسابقة بينها وبين أوبرا فيينا ـ أن يعد أوبرا الافتتاح لأوبرا القاهرة الجديدة. وقد اكتمل بناء الأوبرا في موعده، فقد كان مرتبطا بحفل افتتاح قناة السويس، ولكن فيردي لم يكمل أوبراه في الموعد المطلوب، فبعث لمصر بأحد أشهر أوبراته وقتها، وهي (ريجوليتو) لتعرض في لحفل الافتتاح، ثم قدم (عايدة) التي كان يكتبها خصيصا لهذا الغرض في العام التالي. وظلت نوتات فيردي الأصلية لكل منهما ـ ريجوليتو وعايدة ـ في متحف أوبرا القاهرة حتى سرقت وحرقت الأوبرا للتغطية على تلك السرقة الدنيئة، ثم بعد سنوات بيعت هذه النوتات الأصلية في صالة مزادات لندن الشهيرة "كريستي"، ومن يريد أن يعرف من الذي حرق دار الأوبرا المصرية الجميلة، ما عليه إلا أن يكشف في سجلات صالة المزادات الشهيرة عمن بيعت هذه النوتات لحسابه بالملايين. فسرقة نوتات فيردي ثم حرق الأوبرا للتستر عليها مرتبط في ذهني ببدايات مسلسل الدمار ونهب مصر الذي لم يتوقف منذ حينها، والذي أوصلنا إلى ما نعاني منه من ترد وهوان في هذا الزمن العربي الردئ. وحرق الأوبرا للتستر على السرقة يكشف لنا عن طبيعة النهب الجديد لمصر وقد تجرد من كل شعور بالوطن، بالرغم من أن النهاب من أبناء هذا الوطن المكلوم. إذن فلفيردي صله ما، ولو بالترابط، بنهضتنا وانحداراتنا معا، لا استمع إلى موسيقاه دون أن أشعر بتلك الغصة التي يذكرني بها هذا الحرق الوحشي لأحد معالم القاهرة المعمارية البارزة في العصر الحديث. لكن تلك قضية أخرى كما يقولون. لابد أن نتجاوزها لنتناول هذا العرض الجديد لأوبراه.

وفيردي الذي ارتبط بشكل ما بمشروع التحديث المصري في عصر إسماعيل، له صلات أعمق بمشروع التحديث الإيطالي، حيث تتسم أعماله بالوطنية وحب إيطاليا والمساهمة في مشروع وحدتها. وتهتم أوبراته بتلك الموضوعات الوطنية من ناحية، ولها شغف خاص بدور الفرد في التاريخ، وتأثيره على مجموعة واسعة من البشر المحيطين به وصياغة أقدارهم. وقد مارس التأليف الموسيقي لمدة تتجاوز نصف القرن فأول أوبراته (روسيستر) كتبت عام 1836 بينما كتب آخرها (فولستاف) عام 1893 وهو في الثمانين من عمره. كما أن فيردي موسيقي مثالي بالنسبة للمتردد الجديد على الأوبرا بسبب وضوح نغماته، وإشباعه لها والتزام شخصياته ومعقولية حبكاته. ويقسم دارسوه مسيرته الموسيقية إلى ثلاث مراحل. حقق في أولاها التي رافقت حركة توحيد إيطاليا بزعامة فيتوريو إيمانيويل أول نجاحاته الكبيرة من خلال أوبرا (نابوكو) 1842 التي عبر فيها عبر رغبة الكورس العبراني في التحرر من العبودية عن مشاعر إيطاليا الوطنية. ومن أبرز أوبرات هذه المرحلة (إيرناني) 1844، و(ماكبث) 1847 و(لويزا ميلر) 1849. أما المرحلة الوسطى فقد أنجبت أهم أعماله الدرامية التي يستمتع بها الجمهور كثيرا مثل (ريجوليتو) 1851 و(التروفاتوري) 1853 و(لاترافياتا) 1854. أما المرحلة الثالثة فإنها تضم أكبر إنجازاته الأوبرالية من (سيمون بوكانيجرا) إلى دون كارلوس) و(عايدة) وحتى (عطيل) و(فولستاف). أما بالنسبة للإنجليز فإن تحويل موسيقار إيطالي لأحد أعمل شكسبير الخالدة إلى أوبرا عمل يستحق منهم الاهتمام، صحيح أنه كتب في أخريات أيامه أوبرا شكسبيرية ثانية هي (عطيل) لكن (ماكبث) ظلت علامة فارقة في تاريخ الأوبرات الشكسبيرية.

ماكبث والليدي ماكبث وهي تحثه على القتل

والواقع أن أوبرا (ماكبث) لها تاريخها الطويل مع جلايندبورن. فقد أنتجتها لأول مرة عام 1938 بعد أعوام ثلاثة من تأسيس مسرحها الصغير، وكان هذا هو أول عرض احترافي لها في بريطانيا، كما اتسم بقدر كبير من التجديد. وقد لاقى نجاحا كبيرا إلى الحد الذي استخدم هذا الانتاج مرة أخرى في افتتاح مهرجان إدنبره المسرحي الشهير للمسرح التجريبي حينما بدأ دورته الأولى عام 1947. ثم أعادت جلايندبورن انتاج (ماكبث) فيردي مرة ثانية عام 1964 بمناسبة الاحتفال بالعيد المئوي الرابع لشكسبير، وبمرور مئة وخمسين عاماعلى ميلاد فيردي. وهذا هو الإنتاج الثالث بعد مضي أكثر من أربعين عاما على آخر انتاج لها. وفرت له جلايندبورن أحد أبرز المخرجين المعاصرين: ريتشارد جونز، وقائد الأوركسترا: فيلاديمير جيروفسكي ليقود له أوركسترا لندن السيمفوني، ومصمم مرموق للمناظر وأخر للإضاءة وثالثة لتصميم الرقصات "كوريوجرافيا"، كما جلبت له الباريتون البولندي أندريه دوبار ليقوم بدور ماكبث، والسوبرانوا الفرنسية سيلفيا فاليرا لتلعب أمامه دور ليدي ماكبث، بالإضافة إلى مجموعة من المغنيين والكورس الشهير لفرقة جلايندبورن. وقد التزم هذا الإنتاج بآخر النسخ التي نقحها فيردي للأوبرا وهي نسخة عام 1865 التي عدل فيها فيردي عند عرض الأوبرا في باريس وراجع كثيرا من ألحانها وأغانيها.

ويحذر فيردي منتجي هذه الأوبرا من "أنها أصعب من أوبراتي الأخرى، ومن الضروري العناية بشكل لخاص بالحركة الإخراجية فيها، ولابد من أن أعترف من أنني أضعها في مكانة أعلى من أوبراتي الأخرى، ولابد من مراعاة أنها تنتمي إلى جنس أوبرالي صعب، الجنس الفانتازي، لذلك لابد من عناية خاصة في إعدادها للعرض". وفي عام 1875، وبعد مايقرب من ثلاثين عاما من كتابته لها، وبعدما كان قد أنجز كل أوبراته ماعدا الأخيرتين، وبينما كان عالم الأوبرا قد جن بفاجنر، صرح فيردي في فيينا بأن "عبقرية فاجنر قد قدمت خدمات جليلة لفن الأوبرا ـ حيث تمتع فاجنر بالشجاعة التي مكنته من المغامرة بتحرير نفسه من الصيغ الأوبرالية التقليدية ومن مبالغاتها. وقد حاولت أنا من قبل مزج الموسيقى بالدراما في (ماكبث) ولكني لم أكن قادرا على كتابة كلمات الأوبرا بنفسي كما يفعل فاجنر. والواقع أن محاولة مزج الموسيقى بالدراما هي محاولة جريئة بحق". في هذين المقتطفين المهمين من فيردي يقدم لنا الموسيقار الإيطالي مفاتيح التعامل مع أوبراه تلك. فهي أوبرا صعبة تحتاج إلى عناية إخراجية بالغة. وهي أيضا محاولة في مزج الموسيقى بالدراما سابقة على إنجازات فاجنر المهمة في هذا المضمار. فقد كان فيردي يسعى فيها إلى تقديم بديل للأوبرات الميلودرامية الإيطالية التي شاعت في عصره، وإلى خلق دراما موسيقية بحق تسعى فيها الموسيقى إلى بلورة بناها المشاركة بفعالية في تطوير الدراما وإرهاف دلالاتها، وليس إلى التعليق عليها أو مصاحبة أحداثها. ولذلك نزع فيها هذا المنحى الفانتازي الذي كان قد أخذ يحظى بقدر من الذيوع بين موسيقيي عصره بعد النجاح الكبير لسيمفونية بيرليوز (1803-1869) الفانتازية عام 1830. وهكذا قدم لنا فيردي شكسبيرا مختلفا تتضافر رؤيته المأساوية مع شكل الأوبرا الفانتازية التي أترعها فيردي بلمسة دانتية تبرز الجوانب الروحية وضرورة الخلاص من خداع الدنيا وغوايتها، التي تتمثل في نبوءات الساحرات التي تبدو صادقة في ظاهرها، ولكنها تخفي في باطنها الدمار، وهو ما يعكس مفهوم ازدواجية الرحلة في (كوميديا) دانتي.

وقد وعي هذا الإخراج الجديد لـ(ماكبث) أهمية هذا البعد الفانتازي في هذه الأوبرا، وأن قلب الفانتازيا موسيقيا ينتمي في أوبرا فيردي إلى الساحرات والكورس خاصة، حيث أولاهما عناية موسيقية شديدة، وقدم لهما ـ وخاصة في مفتتح الفصلين الأول والثالث ـ مجموعة من الإيقاعات المتغايرة التي تتبدل بشكل مفاجئ ويتغير معها النسيج الموسيقي، وسرعة الإقاعات، والجمل الموسيقية أو "النوتات" بصورة تحلق بنا معها الموسيقى في فضاء النبوءات وأجواز الخيال، بينما ترتد بنا الأحداث في الأغاني الفردية إلى جهامة الواقع. ويظل هناك توترا مستمرا طوال الأوبرا بين هذين المستويين: المستوى الفانتازي الذي ينطوي على أبعاد دانتيه ترهف الخيال وتتصاعد بوعودها الجحيمية وخاصة مع القسم الثاني من الأوبرا، والمستوى الدرامي الذي تتحول فيه الموسيقى إلى التجسيد النغمي لدراما الأحداث ومشاعر الشخصيات في أن. بحيث يبدو العرض وكأنه يتخلق بشكل عضوي من الموسيقى، يبرز دورها المهم في الدراما ويؤطرها في الوقت نفسه بتأويل إخراجي يجلب الدراما إلى واقعنا المعاصر، ويستخدم فيها الملابس القومية الاسكتلندية مثل "الكيلت" وألوان التارتار بمربعاتها اللونية المشهورة. ولا أظن بداءة أننا بحاجة إلى تلخيص حبكة هذه الأوبرا التي أخلصت لجوهر المأساة الشكسبيرية، من حيث تركيزها في البداية، ومع بداية الفصل الثالث مرة أخرى، على مشهد الساحرات الثلاث ونبوءاتهن لماكبث، وكيف أن بداية تحقق النبوءات كانت من ضمن دوافع ماكبث للتمادى في مخططه لقتل الملك والاستيلاء على الحكم. وكذلك من حيث إخلاصها لعذابات الضمير وتقريعه لماكبث بعد ارتكاب الجريمة، ومطاردته بأشباح القتل وصور الأيدي الملوثة بالدم له ولزوجته التي لا تبدو في معالجة فيردي لها بنفس قوة شخصية المأساة الشكسبيرية وشرها. فهذا كله من الأمور المعروفة لكل من له قدر من المعرفة بحبكات المأساة الشكسبيرية المعروفة. لذلك سأكتفي هنا في هذه التناول لعرض الأوبرا الجديد بتقديم بعض ملامح الإخراج والتعرف على تأويلاته المختلفة للأوبرا.

فقد بدأ العرض بمشهد رمزي يوشك أن يكون تلخيصا للمسرحية كلها، وهو يؤطر البلطة التي يستخدمها العرض بدلا من الخنجر الشكسبيري الشهير، ليبرز بشاعة الجريمة، ويعزز وقع الانتقام بالقتل بالبلطة أيضا في نهاية الأوبرا. قبل أن تنفتح الستارة على المشهد الأول للساحرات، وقد التقين ماكبث وتنبأن له بنبوءات ثلاث بانه سيصبح حاكما لجلاميس، وحاكما لكاودور وملكا لأسكتلندا، فإذا نحن أمام ساحرات معاصرات، أقرب إلى الغجر الأوروبيين المعاصرين، يطلون علينا من ثلاث كرافانات أو بيوت كسيارات متنقلة أحسن العرض استخدامها في أكثر من وظيفة. فبعد أن تطل كل ساحرة من باب كرافانها، وقد انتقى العرض الساحرات ـ وهن لاعمر محدد لهن في امأساة الشكسبيرية ـ ليمثلن مراحل العمر الثلاثة: إحداهن في شرح الشباب، والأخرى في سمت النضج، والثالثة عجوز، وقد ارتدين ملابس تتناسب مع تلك الأعمار المختلفة. وسرعان ما ينفتح الشباك الخلفي العريض للكرفان لتتحول كل ساحرة إلى حفنة من الساحرات من نفس عمرها وبنفس ملابسها وكأننا في عملية استنساخ لهن، أو بالأحرى يتحولن ثلاثتهن إلى كورس الأوبرا بتنويعاته العمرية المختلفة، والذي يضم ما يقرب من عشرين ساحرة. هذه البداية الجديدة والتي كشفت عن مدى حيوية موسيقى فيردي وفانتازياتها معا في تلك المشاهد، سرعان من تتغير بشكل جذري حينما ننتقل لمشاهد الدراما الداخلية في القصر الذي ستعمره الأشباح عما قريب. ففي المشهد الثاني لليدي ماكبث التي وصلها خطاب ماكبث يخبرها فيه بنبوءة الساحرات وتحقق أولاها، فتقرر أن تشجعه على المضي في طريق تحقيق أهم هذه النبوءات جميعا، وهي قتل الملك دانكان واعتلاء العرش بدلا منه. وتتابع المشاهد الدرامية من حثها لماكبث على ارتكاب الجريمة، وتشجيعها له على المضي قدما ليصبح بحق ملك اسكتلندا. حتى ارتكاب الجريمة وتلطيخ أيديهما معا بدم دنكان المقتول، وبداية التوتر بينهما بسبب تبكيت الضمير.

في هذه المشاهد الدرامية التي تنتقل فيها الدراما من فانتازيا النبوءات إلى أوجاع الندم وأشباح تقريع الضمير يتغير دور الموسيقى الدرامي. ففي أغنية ماكبث أو مناجاته "لقد انتهى كل شيء" بعد إنهاء فعل القتل وقبل "دويتو" ثنائي الإغنية التالية مع ليدي ماكبث تستشرف الموسيقى الأحداث بتغيرات السلم الموسيقي التي ترهف دلالات المشهد المتعددة. في استخدام درامي للموسيقى يستخدم غناها وجدتها ووفرة تنويعاتها ليخلق بها تجسيدا نغميا لدراما الحدث وتوترات الأعماق معا. وما أن يأتي مفتتح الفصل الثالث، بعد استراحة العشاء، وتدلق الساحرات خليطهن المسموم في القدور في مشهد بلغت فيه الأوبرا ذروة جمالياتها البصرية الحركية، حتى تجيء الموسيقى في أغنية الكورس الثانية لتصوغ لنا لعنات الساحرات المترعة بالغل والعنفوان وكأنها طالعة من جحيم دانتي. حيث تتوهج الموسيقى بصورة تتغير معها طبيعة المأساة الشكسبرية لتكتسي بقدر من حدة الانفعال الدانتية والإيطالية أو اللاتينية عموما. وقد راعى الإخراج الذي وظف كثيرا من العناصر البصرية والحركية في تحقيق التوازن بين العناصر المأساوية والعناصر الفانتازية في العمل، أن تكون الحركة متساوقة مع كل من الموسيقى والحدث بحيث يغني كل منها العناصر الباقية ويثريها بالدلالات. وخاصة في مشاهد عذابات الضمير، سواء في مطاردة البلطة لماكبث أو مشهد الليدي ماكبث وهي تسير في نومها تخلع قفازاتها البيضاء الملوثة بالدم، أو مشاهد الجثث التي تتابع واحدة بعد الأخرى على أسرة كأسرة المستشفيات، والتي امتزج فيها الحلمي بالواقعي في مزيج بصري حركي جميل.

جنون الليدي ماكبث، هل يمكن غسل الأيدي الملطخة بالدم؟

والواقع أن الأوبرا أحالت قسمها الأخير إلى استعارة جميلة وداله لبعض قسمات واقعنا المعاصر، حيث استحال ماكبث ـ الذي يفتقر ككثير من الحكام المعاصرين للشرعية ـ إلى حاكم فردي مستبد، تطارده الأشباح والمخاوف من الانتقام منه، وتدفعه إلى مزيد من القتل والقهر والاغتيالات. وأصبح تحرير اسكتلندا من جبروته نوعا من الثورة الشعبية على هذا الحاكم المستبد، لعبت جموع الكورس وموسيقى فيردي المتوهجة دورا واضحا في توسيع أفق دلالاتها المتراكبة. وما أرهف من هذه الاستعارة وعزز من فاعليتها أن مخرج العرض اهتم في بنيته الإخراجية بالدورة التكرارية ـ حيث يظهر كل مشهد مرتين وبتنويعين مختلفين ـ لكن التكرار في المرة الثانية ليس تجليا جديدا للأول،ى ولكنه حلقة مختلفة وعلى مستوى زمني وتأويلي مغاير في تلك الدورة الحلزونية التي تبني فيها الحلقات بعضها فوق البعض الآخر. في نوع من التراكم الجدلي الذي يطالب المشاهد باستمرار بإعادة اكتشاف ما سبق له أن رأه والتفكير فيه من جديد. فأوبرا فيردي هي انتاج عقل موسيقي حر لا يتوقف عن النمو والمغامرة مع الجديد، ولكنه يريد في الوقت نفسه أن يحتضن الماضي في حركته الدائبة صوب المستقبل.

تعود حقوق نشر الصور التي التقطها Mike Hoban إلى المصور ولا يعاد نشرها بغير إذن مسبق من مؤسسة Glyndebourne Festival Opera