في مقالته هنا يؤكد الباحث السوري المرموق أن النقد الماركسي، الذي تناول أعمال الناقد الفلسطيني الكبير إدوار سعيد بالغ الخصوبة بالنسبة لكلا الطرفين، لأنه عمل على تغيير نص سعيد، سواء أقرّ بذلك أو لم يقرّ، وكان فرصة لكي تتطور عدّة الفكر والنقد الماركسيين، سواء اعترف النقّاد الماركسيون بذلك أو لم يعترفوا.

إدوارد سعيد ونقّاده الماركسيون

ثائر علي ديب

بخلاف نبرات التقديس التي راحت تتصاعد بعد وفاة إدوارد سعيد، حاملة معها خطر تحويله إلى أيقونة وإضفاء طابع العصمة عليه، أرى أن عمل سعيد لم يعد من الممكن أن يُفْهم حق الفهم من غير ذلك النقد الذي انهمر سيولاً من كل فجّ وصوب، من اليمين واليسار، ما إن ظهر كتابه «الاستشراق» في العام 1978. كان من الواضح أننا إزاء كتاب أخذ يزعزع القناعات القارّة ويزلزل التعريفات الوطيدة، غير أنه كان من الواضح أيضًا أننا حيال عمل يستثير النقد ويقتضيه، ليس لما يمكن أن يكون قد انطوى عليه من خطأ فحسب، بل لقدرته على أن يكون بالنقد بؤرة جدل وموقعًا إشكاليًا يمكن أن يُطل منه على تناقضات العصر وكروبه.

لأن النقد هو الأساس في إنتاج معرفة بجهد سعيد، مثلما هو الأساس في إنتاج كل معرفة وإعادة إنتاجها، فإنه ينبغي ألا تُشهر في وجه التناول النقدي لسعيد أي حجة مهما تكن، بما في ذلك أنه لم يُقرأ بعد في عالمنا العربي ولم يُترجم تلك الترجمة اللائقة، خاصة أن النقد الحقيقي البنّاء لا يذهب بالتضامن ولا يقلل من العظمة التي تجدر بسعيد، بالطبع، أشدّ الجدارة.

وما أزعمه هنا هو أن النقد الماركسي، من بين النقد الكثير الذي طال سعيد، قد كان، على الرغم من عنفه، نقدًا بالغ الخصوبة بالنسبة لكلا الطرفين، فعمل على تغيير سعيد، سواء أقرّ بذلك أو لم يقرّ، وكان فرصة لكي تتطور عدّة الفكر والنقد الماركسيين، سواء اعترف النقّاد الماركسيون بذلك أو لم يعترفوا. لقد كان نقد سعيد فرصة لمهدي عامل كي يقدّم نقدًا لنظرية فوكو وأصلها النيتشوي من خلال آثارها المعرفية لدى سعيد، وكي يقوم، من ثمّ بخطوة مهمّة في تحليل آلية إنتاج المعرفة وإعادة إنتاجها. وكان نقد سعيد فرصة لصادق جلال العظم كي يقدّم، مستخدمًا بعض المدد من سعيد نفسه، نقدًا مهمًا للاستشراق المعكوس كما يتجلى لدى وجوه بارزة في الفكر العربي، مثل أدونيس، وأنور عبدالملك، ورضوان السيد وسواهم. كما كان نقد سعيد فرصة للماركسي الهندي إعجاز أحمد كي يقدّم واحدة من أهم المساهمات الماركسية في النقد الثقافي المعاصر. لقد دفعت الضغوط الفوكوية إدوارد سعيد لأن يضع ظاهرة الاستشراق في سياق تاريخي معين هو حركة توسّع أوربا البرجوازية الحديثة على حساب بقية العالم، الأمر الذي يردّ بدايات الخطاب الاستشراقي إلى القرن الثامن عشر أو نحوه، غير أن سعيدًا لا يلبث، بدفع من الضغوط الأورباخية، نسبة إلى إريك أورباخ صاحب كتاب «المحاكاة» الشهير، أن يرجع أصول الاستشراق والخطاب الاستشراقي إلى اليونان القديمة، إلى هوميروس وأسخيلوس ويوربيدس، مفترضًا، مثل إريك أورباخ، أن ثمة خطابًا أو بناء إبستيميًا يطول كامل التاريخ الغربي ونصوصه، على هيئة خط مستمر من اليونان القديمة إلى أوربا وأمريكا الحديثتين. هكذا يقدم سعيد تعريفين متضاربين للاستشراق يمكّنانه من أن يجنّد كلا الموقفين، الفوكوي والأورباخي، في آن معًا، وذلك في ضرب من التسوية المستحيلة، كما يصفها إعجاز أحمد، بين الإنسانوية الرفيعة كما يمثّل لها أورباخ واللاإنسانوية في أعتى أشكالها كما يمثّل لها فوكو.

وإذ يصوّر سعيد «غربًا» هو نفسه من فجّر التاريخ إلى الآن، على هيئة كيان متطابق مع ذاته، ومتجانس، وثابت، وعابر للتاريخ والنصوص، فإنه يعود بنا من الباب الخلفي، كما يقول صادق العظم، إلى أسطورة الطبائع الثابتة وميتافيزيقا الاستشراق اللتين كان سعيد قد انطلق في الأصل للإجهاز عليهما بفصلهما ذلك الفصل المطلق بين الشرق والغرب، وزعمهما أن لكلّ من الشرق والغرب طبيعته الجوهرية المختلفة وخصائصه المغايرة كل المغايرة. هكذا لا تعود ظاهرة الاستشراق وليدة شروط تاريخية معينة أو استجابة لمصلحة وحاجات حيوية ناشئة وصاعدة، بل إفرازًا طبيعيًا عتيقًا ومستمرًا يولّده «العقل الغربي» الذي يبدو، لسعيد، مضطرًا بطبيعته لإنتاج وإعادة إنتاج تصوّرات مشوّهة عن واقع الشعوب الأخرى محقّرة لمجتمعاتها وثقافاتها بغية تأكيد ذاته والإعلاء من شأن تفوّقه.

بل إن سعيدًا، الذي يميّز بين الاستشراق الثقافي-الأكاديمي، بوصفه حقلاً معرفيًا وتصورًا متكاملاً بنته أوربا عن الشرق، وبين مؤسسة الاستشراق، بوصفها أداة توسّع أوربي نحو الشرق وقوة مادية فاعلة في هذا الاتجاه، إنما يجعل الاستشراق الثقافي-الأكاديمي ذلك المصدر الذي نبعت منه مؤسسة الاستشراق وليس العكس. وهذا ما يدفع سعيد، كما يذكّرنا العظم، لأن يرى أن «فكرة قناة السويس»، على سبيل المثال، هي نتيجة منطقية لفكر الاستشراق وجهوده أكثر بكثير من كونها نتيجة طبيعية للتنافس الفرنسي-الإنجليزي على بناء الإمبراطورية والحفاظ عليها عبر الهيمنة على الشرق. وبالمقابل، فإن هذا ما يدفع إعجاز أحمد إلى التذكير بالبدهية القائلة إن تواريخ الاستغلال الاقتصادي، والقهر السياسي، والفتح العسكري، هي التي تلعب الدور الأساسي التكويني في خلق الشروط التي تمكّن من قيام ما يدعوه سعيد بـ«الخطاب الاستشراقي» وليس العكس.

وكما كانت لافتة محاولة الجمع بين فوكو وأورباخ، فإن تناول سعيد لمسألة التمثيل representation ومدى اقترابه من الحقيقة أو ابتعاده عنها هو لافت بالمثل. فنحن نقرأ في لحظة أن كتاب «الاستشراق» حاول أن يبين أن «الإسلام قد أسيء تمثيله في الغرب..»، لكننا نقرأ في الصفحة التالية مباشرة أن فكرة سعيد بأكملها عن منظومة الاستشراق «ليست أنها إساءة تمثيل لضرب من الجوهر الشرقي..». غير أن الأخطر هو السؤال الأساسي الذي يطرحه سعيد بين هاتين الجملتين عمّا «إذا كان يمكن أن يوجد تمثيل حقيقي لأي شيء على الإطلاق، أم أن جميع التمثيلات بلا استثناء، وبسبب من كونها تمثيلات، تغور بعمق في لغة الممثل أولاً، ثم في ثقافته ومؤسساته وجوّه السياسي. وإذا ما كان البديل الثاني هو الصحيح (كما أومن) فإن علينا أن نكون على استعداد لقبول حقيقة أن أي تمثيل هو، بحكم طبيعته، متورّط، متشابك، منسوج مع عدد كبير جدًا من الأشياء الأخرى، إلى جانب «الحقيقة» التي هي بدورها، مجرد تمثيل». هكذا يدخل سعيد العالم النيتشوي الذي ينفي إمكانية قيام أيّ تمثيل حقيقي أو التفوّه بأي أقوال صادقة، بل حيث يسود الشك بوقائعية الوقائع ذاتها. وهذا ما قيّض لسعيد أن يكون مثالاً يدفع عددًا كبيرًا من المؤرخين والنقّاد والباحثين حول العالم لوضع كلمة «واقعة» بين قوسين يشكّكان بوجودها في ضرب من اللاعقلانية الحديثة التي استشرت وغدت موضة رائجة.

وإذ يأتي سعيد إلى علاقة العقل الفردي باللغة المؤسسية الرسمية التي هي لغة جمعية أو لغة الجمع، نجد أنه يصوغ للفكر ما يبدو كأنه قانون عام مفاده أن «ليس في وسع أي باحث (...) أن يقاوم ضغوط أمته، أو ضغوط التقليد البحثي الذي يعمل في سياقه». فحتى لو تمكّنت عبقرية فردية، مثل ماسينيون أو ماركس، من الخروج على الثقافة السائدة، التي يراها سعيد على أنها ثقافة الأمة التي تحتل كامل الفضاء الثقافي دون أن تتيح مجالاً لوجود ثقافة نقيضة، فإن الفرد لا يلبث أن يعود لينسحق في الأمة التي تظل باقية في استمراريتها كأنها مطلق يتجدد. ألسنا أمام تنويع من تنويعات الفكر القومي الذي يتعزّز بواقعة أن كتاب «الاستشراق» لا يتفوّه بكلمة عن أي خطأ من طرفنا، حيث تبدو جميع آثامنا وجرائمنا أمرًا باهتًا بالمقارنة مع تلك القوى التي جعلتنا ضحايا ودفعت بنا إلى الدرك الأسفل، نحن أصحاب البراءة الأصلية الدائمة كما يروق لتلك الأشكال العاطفية المتطرفة من قوميات العالم الثالث أن تصوّرنا؟

تبعًا لهذا المنطق الأخير، وبعد أن أعطى سعيد «الخطاب الاستشراقي» كلّ هذا المدى التاريخي وكلّ هذا التسيّد، ربما كان من تحصيل الحاصل، عند تعامله مع دانتي وجحيمه، أن ينتزع تمثيلات دانتي من سياق إنتاجها، ضمن خطاب الثنائيات المسيحية التي تقابل بين الإيمان والبدعة وضمن بدايات النهضة التي راحت تترك أثرها على هذه الثنائيات، ليعيد وضع هذه التمثيلات في خطاب الاستشراق المختلف تمامًا، مهملاً أن دانتي يضع ابن رشد على قدم المساواة مع سقراط، وأن المعاملة التي يلقاها ابن رشد في خيال دانتي لم تكن أسوأ من المعاملة التي لقيها في الحياة العادية من قِبل سلطات زمنه العربية المسلمة التي أمرت بنفيه وحرق كتبه.

أما ماسينون، وعلى الرغم من عجزه في النهاية عن مقاومة ضغوط أمته بحسب منطق سعيد، فإنه يظل «بطل» كتاب «الاستشراق»، حيث يصف سعيد إسهامه بأنه «الأعظم» في مجال الدراسات الشرقية، نظرًا لمقاربته الشرق تلك المقاربة التي تقوم على «حدس فردي ذي أبعاد روحية» مما تفرّد به ماسينون فتماهى مع روح الشرق وأمكن له أن يتجاوز بنية الفكر الاستشراقي. مع أن سعيدا نفسه يعلم أن ماسينون كان قد حمل معه بضاعة الاستشراق التقليدية الفاسدة كلها، وكان يطابق الشرق مع عالم أهل الكهف والأدعية الإبراهيمية وينظر إلى القضية الفلسطينية على أنّها نزاع بين إسحق وإسماعيل، فضلاً عن أن مشورته كانت مطلوبة على نطاق واسع كخبير في الشئون الإسلامية، من جانب الحكومات الاستعمارية. لعل الذي أراح سعيد لتأويلات ماسينون الميتافيزيقية الصوفية هو انسجامها، كما يقول العظم، مع نزعات سعيد المثالية عمومًا على المستوى الأيديولوجي والذاتية النسبية على المستوى الإبستمولوجي.

والحال، أن هذه الرؤية التي تجد أن المقاربة الوحيدة التي يمكن أن تنجو من خطر الوقوع في منطق الفكر الغربي الاستشراقي هي مقاربة روحية تأتي للشرق من جهة القلب والحدس دون العقل، هي الرؤية التي يذهب ماركس ضحيتها عند سعيد، حيث يرسم له صورة كاريكاتورية تمثله خارجاً على بنية الفكر الاستشراقي من جهة القلب وعائداً ليندرج فيه مدافعاً عن الاستعمار من جهة العقل. وبهذا يشطّر ماركس شطرين لا سبيل إلى اجتماعهما. كل ذلك من خلال مقطع صحفي واحد عن الحكم البريطاني في الهند يتأوله سعيد على أنه تعبير عن اضمحلال ما أبداه ماركس في البداية من تعاطف مع «آسيا البائسة» وتلاشيه أمام تقدّم لغة الاستشراق التي تتمكن من القضاء على تجربة إنسانية تلقائية حيوية والحلول محلها.

وبالمقابل، فإن مهدي عامل كان قد أخضع المقطع ذاته لقراءة أخرى مناقضة تماماً لقراءة سعيد التي وصفها عامل بأنها مشوهة تتسم بالخفة وتستبدل بالسؤال المادي التاريخي الذي يطرحه ماركس -«هل يستطيع الإنسان أن يحقق مصيره دون ثورة جذرية في الوضع الاجتماعي لآسيا؟»- سؤالاً أخلاقياً يرفضه ماركس في نصه ويرفض أن يكون هو السؤال الحق. أما إعجاز أحمد فقد بيّن أن سعيد يبتسر بشدة ضروب التعقيد في فكر ماركس. فشجب ماركس للمجتمع ما قبل الاستعماري في الهند ليس أعنف من شجبه ماضي أوربا الإقطاعي، وضروب الحكم المطلق، والفلاحين الأوربيين الغارقين في «بلاهة الحياة الريفية»، والبرجوازية الألمانية التي أبدى حيالها أشد الاشمئزاز. أما تصور ماركس أن تلعب الكولونيالية دوراً تقدمياً معيناً فهو تصور لا يرتبط بالخطاب الاستشراقي بل بتصوره للدور التقدمي الذي يمكن أن تلعبه الرأسمالية ذاتها، بالمقارنة مع ما سبقها، سواء داخل أوربا أو خارجها. وإذا ما كان قد ثبت خطأ هذه الفكرة في ما بعد، فإن ماركس في حينه لم تكن بعد أمامه تجربة الاستعمار الناضج لكل من آسيا وإفريقيا. وما كان أمامه هو التجربة الشمالية، حيث راح ينبثق مجتمع رأسمالي قوي انطلاقا من دينامية كولونيالية متوحشة.

كل هذا في «الاستشراق»، فما هو الحال بعده؟

يكاد أن يكون من المؤكد أن سعيداً لم يتراجع عن رده الخطاب الاستشراقي إلى اليونان القديمة. وعلى الأقل، فإننا لا نجد عكس ذلك في مقالته «إعادة النظر في الاستشراق» عام 1984 ولا في تذييله للطبعة الجديدة من «الاستشراق» عام 1995. غير أن سعيدا أبدى، بالمقابل، ابتعادًا لافتًا عن فوكو، حيث نجد في مقالته «ارتحال النظرية» نقدًا لفوكو يكاد ينطبق تمامًا على سعيد نفسه في الاستشراق: «إن توق فوكو لئلا يقع في شراك الاقتصادوية الماركسية إنما يسوقه إلى طمس دور الطبقات، دور الاقتصاد، دور التمرد والثورة في المجتمعات التي يتناولها .. المشكلة هي أن استخدام فوكو لمصطلح القوة يفرط في تنقله من مكان إلى آخر مبتلعًا كل عقبة في طريقه، طامساً التغيير ومعمياً على سيادته المادية الدقيقة .. تاريخ فوكو هو في النهاية تاريخ نصي أو مضفى عليه الطابع النصي بالأحرى، وصيغته هي تلك الصيغة التي يمكن لبورخيس أن يجدها مألوفة .. فهي (أي حفريات فوكو) لا تترك أدنى مجال للحركات الصاعدة، أو الثورات أو الهيمنة المضادة أو الكتل التاريخيّة». ولقد ترافق هذا الابتعاد عن فوكو بتراجع عن الموقف النيتشوي الذي يرى التمثيلات جميعًا على أنها ضروب من سوء التمثيل. كما ترافق باعتراف بوجود المقاومة، وبإفساح المجال أمام مواجهة تاريخية بين صوت «المستشرق» والأصوات الكثيرة التي سبق القول إن الاستشراق قد أخمدها تمامًا. وهذا ما نجد أفضل تعبير عنه في كتاب سعيد «الثقافة الإمبريالية».

وفي حين كان يصعب، في «الاستشراق» و«تغطية الإسلام»، أن نميّز موقف سعيد من موقف الفكر القومي الصريح، حيث سرديات الإثم الأوربي والبراءة غير الأوربية، فإن ذلك قد تغيّر بصورة دراماتيكية بدءًا من العام 1984 تقريبًا، ليغدو رفضًا متزايد الحدة للقومية، والحدود القومية، والأمم ذاتها، على نحو يبلغ حد التطرف في بعض الأحيان ويدعو إلى الاحتراس شأن الموقف المتطرف السابق. ومن مبالغات سعيد في هذا الشأن جزمه الذي كاد أن يكون مطلقًا بأن العمل الموثوق الوحيد الذي يمكن إنجازه في أيامنا هو عمل يجب أن يكون من أصل عالم ثالثي متضافر مع موقع في المتروبول الغربي. وهذا واحد من أسباب تلك الأهمية التي يحظى بها المنفيون والمهاجرون لدى سعيد، ربما في إساءة بعض الشيء للمثقفين الذين يعيشون ويعملون في بلدانهم.

أما موقف سعيد من الماركسية، فيمكن القول إنه قد ظل ملتبسًا وغريبًا على الأقل، وأمام هذا الموقف، ربما كان علينا أن نبذل جهدًا كبيرًا لنذكّر أنفسنا بأن أهم مرجعيات سعيد، مثل غرامشي، لوكاش، وفانون، وإيميه سيزار، وريموند وليامز، وسي.ل.ر.جيمس، والعروي، وراناجيت جحا وكثيرين آخرين، كانوا ماركسيين بكل ما لهذه الكلمة من معنى. هكذا يبدو غريباً، على سبيل المثال، قول سعيد في كتابه «العالم، النص، الناقد»: «إن وصف نقد ما بأنه ماركسي هو نوع من الإرداف الخلفي الذي يجمع بين لفظتين متناقضتين، وإن النتيجة النهائية لهذا الجمع تتمثل لا بالإعلان عن انحياز سياسي وحسب، بل أيضاً بوضع المرء نفسه خارج قدر كبير من الأشياء الجارية في هذه الدنيا وفي ضروب النقد الأخرى». فسعيد لا يشير لنا ما هي الأشياء التي حرم كل من غرامشي أو لوكاش أو ريموند وليامز أنفسهم منها بقيامهم بما قاموا به من نقد ماركسي صريح. وهو لا يقول لنا أيضًا ما إذا كان من الممكن لأحد أن يضع نفسه داخل كل الأشياء الجارية وفي هذه الدنيا وفي ضروب النقد الأخرى، دون أن يختار أو ينطلق من موقع.

غير أنه ينبغي أن يكون واضحاً كل الوضوح أن ما يمكن أن ندعوه «أخطاء» سعيد تبقى من ذلك النوع الذي يقال إن فرويد وماركس، على سبيل المثال، قد ارتكباه. فمبالغة فرويد بدور الجنس قادته إلى اكتشاف قارة اللاوعي. وتركيز ماركس على دور الاقتصاد قاده إلى كشف آلية عمل الرأسمالية. هكذا فتح «الاستشراق» عهدًا جديدًا وميدانًا كاملاً من البحث الذي يعيد قراءة الأعمال الثقافية المعتمدة والمكرّسة بقصد الإسهام في حل أزمات عالمنا وتناقضاته ومظالمه، عبر تحليل الآراء والأساطير والصور النمطية القارّة التي تمثل عرضا من أعراض هذه الأزمات وسبباً من أسباب دوامها.

 

(باحث ومترجم من سورية)

(عن مجلة العربي)