نقترب مع الناقد المغربي المرموق من الرواية المتوجة بجائزة البوكر هذه السنة، والتي من خلالها نتعرف على نص كويتي مفعم بالحكمة والحِكم لكاتب شاب في الثانية والثلاثين من عمره، وهي رواية الذكاء، والحكمة، والكلام الرصين، من خلال تقابلين بين عنصري الفقر لدى عائلة وقد أكسبها الحكمة وغنى أسرة اختارت روح عد الاعتراف، الى جانب أن النص الروائي يقدم لنا جزءا من الحراك الروائي الجديد اليوم في الكويت.

حِكمة «ساق البامبو»

محمد أنقار

رواية "ساق البامبو" للكاتب الكويتي سعود السنعوسي؛ راويها الرئيسي ابن الفلبينية جوزافين والكويتي راشد. هو في مانيلا هوسيه أو خوسيه، وفي الكويت عيسى، وعندنا عيسى/هوسيه. هو هناك مسيحي وهنا مسلم. استولده أبوه راشدُ الطاروف من الخادمة الفلبينية جوزافين قبل أن يبني بها بعقد زواج عرفي. لكن عائلة راشد الغنية رفضت الاعتراف بالزوجة والابن فعادا إلى مانيلا. وتصف الرواية بتفصيل معاناتهما بعد ذلك ومعاناة أسرتهما الفلبينية الفقيرة. غير أن عيسى/هوسيه بعد أن كبر عاد من جديد إلى أرض والده لعله يجد هناك اعترافاً. وعلى الرغم من حصوله في الكويت على المال، فشل في خاتمة المطاف في الحصول على الاعتراف من لدن أسرة أبيه: جدته ماما غنيمة، عماته نورية، وهند، وعواطف، وخولة أخته من أبيه. أما الأصدقاء الذين تعرف إليهم في الكويت فلم يرفضوه؛ لكن الكتابة الدرامية للرواية جعلت كل واحد منهم ينشغل بأشيائه أو أفكاره، وتحاشت تطوير علاقتهم به. حتى السلحفاة الصغيرة التي كانت آخر ملاذه ماتت هي الأخرى في خاتمة الرواية. إثر ذلك لم يبق للشباب المنشطر سوى العودة إلى وطن أمه ليبني هناك عشه مع ميرلا ابنة خالته التي كان قد تعلق بها في مناسبات سابقة.

رواية السنعوسي الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) سنة 2013 مفعمة بالحكمة والحِكم. والطريف أن صاحبها شاب في الثانية والثلاثين من عمره (من مواليد 1981). ومع ذلك حين تقرأ "ساق البامبو" تتوهم خطأ أن مؤلفها شيخ صال وجال في هذه الدنيا حتى استطاع أن يجترح لنفسه تلك الرؤى العميقة في الكون، وفي الحياة. والحق أن الحِكم تحاصرك منذ أول صفحة في الرواية لترافقك إثر ذلك في معظم صفحاتها. هكذا يفتتح الراوية سرده بــ"كلمة" إسماعيل فهد إسماعيل:"علاقتك بالأشياء مرهونة بمدى فهمك لها"(الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة السادسة، بيروت 2013،ص5).

وإسماعيل هذا كاتب معروف، جعل منه صاحب "ساق البامبو" شخصية روائية رجع إليها أكثر من مرة، وقدمه في هامش صفحة 97 بهذه الكلمات:

«الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل، استقر في الفلبـين بعد تحرير بلاده لحوالي ست سنوات، أنجز خلالها روايته السباعية التي تؤرخ لزمن الاحتلال "إحداثيات زمن العزلة".كان يعكف على مراجعتها أثناء زيارتنا له».

أما سبب زيارة عيسى/هوسيه وأمه فللسؤال عن مصير راشد. على إثره أخبرهما إسماعيل بأنه كان مع راشد وآخرين يشكلون مجموعة مقاومة، إلى أن وقع والد الفتى في أسر قوات الاحتلال.

تتشكل رواية "ساق البامبو" من خمسة أجزاء معنونة ومقسمة من لدن الراوي. كل جزء تتصدره مقولة حكيمة لخوسي ريزال، إضافة إلى فصل آخر مصدَّر بحكمة للراوي نفسه هوزيه ميندوزا. وحسب هامش للمؤلف فإن خوسي ريزال 1896-1862 Jose Rizal يعد "أبرز الأبطال القوميين في الفلبـين وأشهر من قاوم الاستعمار الإسباني" (ص 114). أما حِكم ريزال فذات طابع سياسي:

"لا يوجد مستبدون حيث لا يوجد عبيد" (ص 15).

"تسلُّط البعض لا يمكن حدوثه إلا عن طريق جبن الآخرين" ص (183).

أو هي تبحث عن الجذور:

"إن الذي لا يستطيع النظر وراءه، إلى المكان الذي جاء منه، لن يصل إلى وجهته أبدأ" (ص 53).

أو ذات طابع ديني:

"الشك في الله يعني الشك في ضمير المرء، وهذا يؤدي إلى الشك في كل شيء" (ص129)

أو توجيهي:

"حياة ليست مكرسة لهدف، حياة لا طائل من ورائها، هي كصخرة مهملة في حقل بدلا من أن تكون جزءاً من صرح" ص (291).

وواضح أن هذه الحِكم وغيرها لريزال لا تنطبق مباشرة على الراوي عيسى/هوسيه وباقي الشخصيات إلا من حيث هي وعاء واسع ومهيمن، يُضفي شاراته من بعيد، من دون أن يتطابق معها كل التطابق. لكن على الرغم من ذلك تُترجم حكمةُ "البحث عن الجذور" جوهر مأساة عيسى/هوسيه. وكذلك الشأن في تلك "الحكمة الدينية" التي تُشخص هي الأخرى جانباً من صراع الشاب مع نفسه في سبيل البحث عن اليقين.

أما الحكمة التي صدر بها عيسى/هوسيه الفصل الأخير من الرواية فتقتضي وقفة متأنية. يقول:

"إن لفظت الديار أجسادنا... قلوب الأصدقاء لأرواحنا أوطان" (ص391)

وقبل ذلك كتب عيسى/هوسيه إهداء للرواية في سياق الصداقة ذاته:

"إلى مجانين لا يشبهون المجانين... مجانين لا يشبهون إلا أنفسهم... مشعل... تركي... جابر... عبد الله ومهدي

إليهم وحدهم" (ص 13)

هؤلاء المجانين هم تلك الجماعة الكويتية التي زارت الفلبـين في رحلة سياحية فتعرفهم هناك عيسى/هوسيه. في مانيلا لم يدركوا أنه كويتي، لكن خفة دمه ودمائهم جمعتهم من دون أن يعطوا أهمية لإشكال الجنسية. وبعدما عاد عيسى/هوسيه إلى الاستقرار في الكويت عثر عليهم مصادفة فذُهلوا لما عرفوا أنه ابن عائلة الطاروف التي يرتبط بها أحدهم المسمى جابر بعلاقة جوار قوية. وعلى الرغم من أن ذلك الاكتشاف سيكون وبالاً على عيسى/هوسيه حيث عُد سبباً رئيساً لعودته النهائية إلى الفلبيـن؛ ظل هؤلاء الأصدقاء بمنـزلة الجزيرة التي لاذ بها بعد أن ضيقت عليه عائلته الكويتية الخناق، ورفضت الاعتراف به رفضاً قاطعاً. وعندما كنت بصدد مطالعة رواية السنعوسي كتبت تعليقاً شخصياً على الفصل العاشر من الجزء الخامس. قلت فيه:

"أجمل فصل قرأته في هذه الرواية 344-351"

ويعود سر الإعجاب إلى قدرة الراوي على تصوير فورة "الصداقة" اعتماداً على جزئيات سردية دالة، مفعمة بالعمق، وتطلعه إلى الارتقاء بها إلى جوهر القيمة الإنسانية ذاتها.إن الصداقة من حيث هي قيمة قد تتجاوز في كثير من الأحيان صلة القرابة. ذاك ما حصل لعيسى/هوسيه الذي استطاع أن يهتدي مصادفة في الكويت إلى جماعة هؤلاء "المجانين" الذين  كانت لأحدهم ديوانية يجتمعون فيها ليمرحوا ويتناقشوا، ويلعبوا، فانضم إليهم، ومرح معهم؛ ثم اعترف:

"هل أقول إنها المرة الأولى التي ضحكت بها في الكويت ضحكة حقيقية؟" (ص345).

إثر ذلك راح يتطلع إلى ترجمة فرحه العظيم بهذه الصحبة الغالية اعتماداً على صيغ سردية تفيض بالرزانة الحكيمة:

"كم هي رائعة بعض الصدف، تظهر كالمنعطفات فجأة في طريق ذات اتجاه واحد يفضي إلى المجهول". (ص 346).

"السعادة المفرطة كالحزن تماماً، تضيق بها النفس إن لم تشارك بها أحداً" (ص 347).

"لا فرق بين أن تشرك الآخر سعادتك أو حزنك، فالمهم هو المشاركة وحسب" (ص 348).

"بعض المشاعر تضيق بها الكلمات" (ص 350).

   لقد قصد عيسى أن ينقل إلى أخته خولة فرحته العظيمة بهذه الصحبة الجديدة فلم يفلح. أو قل إن كابوس التقاليد الذي ران على قلبها منعها من أن تُعدى بفرحة أخيها. أما هو فقد استشعر بصدق كبير فرحة الصحبة بعد أن فشل في كسب اعتراف عائلته الكويتية. لذلك لم يبق هذا الاستشعار محصوراً في حدود الاستثمار الموضوعي لقيمة الصداقة وإنما تجاوزه إلى التكوين الدرامي للرواية. والنتيجة أن عيسى/هوسيه بعد أن فشل في إقناع خولة بفرحه العظيم بحث في بيته عن صديقته السلحفاة ليبثها عاطفته الجياشة.

"خمني !من رأيت اليوم عند باب المصعد !...". كعادتها، كانت تصغي باهتمام، أخبرتها:

"مشعل.. بعد سنتين.. صدفة.. شباب بوراكاي..مجانين.. سنجتمع ثانية، أصدقائي...كويتيون كويتيون..كويتيون!...". (ص 351).

                  ***                                             

"ساق البامبو" رواية " الذكاء، والحكمة، والكلام الرصين. ليست فيها شخصيات عبيطة. والظاهر أن كلام عائلة عيسى/هوسيه الفلبينية أكثر رصانة وعمقاً من كلام عائلته الكويتية. ذاك تخريج ناتج عن التكوين الدرامي للرواية التي تطلعت إلى تزكية كفة الحب على كفة الحقد. صحيح أن في العائلة الفلبينية لعيسى أخاه من أمه الصغير أدريان الذي أصابه العته على إثر حادثة. وصحيح أن آيدا خالة عيسى/هوسيه كانت عاهرة، وأن ميندوزا جد العائلة العجوز كان مدمناً فظاً وسفيهاً، ومع ذلك يقول عنه الراوي "هو رواية بحد ذاته". ومع كل تلك العناصر السلبية يبدو أن فقر العائلة الفلبينية قد أكسبها الحكمة وعمق الكلام، في حين أكسب الغنى العائلةَ الكويتية روح الرفض وعدم الاعتراف. حتى أصدقاء عيسى/هوسيه من "المجانين" لا يصورهم الراوي سوى شخصيات تمرح، وتشرب، وتصلي أيضاً. في حين جعل من غسان، صديق راشد ثم صديق ابنه عيسى/هوسيه شخصية تسخر، وتعزف على أوتار العود. يقول غسان مازحاً:

"لا يمكنني الحديث من دون أن يصاحب الدخان كلماتي" (ص 195/196).

 لكن غسان رجل حزين، هو من فئة "البِدون" التي تعني عدم اعتراف العائلة به. قال عنه عيسى/هوسيه:

 "لو سئلت يوماً، كيف يبدو الحزن؟ سأجيب:"وجه غسان" (ص187).

أما جوزافين وأختها آيدا وابنة هذه الأخيرة ميرلا فكلامهن جميعاً مضمخ بالحكمة والحكم. إنما الذي يحصل في بعض الأحيان أن حجم الحكمة في الرواية يفيض على حجم الشخصية فيجد القارئ نفسه حينذاك إزاء كلام موسوم بالتعالم. بمعنى آخر إن القارئ قد يتساءل قائلاً:

- إن العناصر الموضوعية التي سبق للراوي أن بثها هنا وهناك لن تسمح لي بالاقتناع بالكلام العميق الذي يرد على لسان هذه الشخصية أو تلك.

خذ على سبيل المثال عيسى/هوسيه الذي لم نسمع أنه درس في الثانوي أو الجامعة، ومع ذلك يتخذ عدد هائل من أقواله وتدخلاته صورة الحكمة:

"ليس المؤلم أن يكون للإنسان ثمن بخس، بل الألم، كل الألم، أن يكون للإنسان ثمن" (ص2).

 "لا أحد في هذا الكون يمكنه أن يأخذ مكان الآخر" (ص 108).

أما جوزافين فيقول عنها ابنها عيسى/هوسيه:

«كانت فتاة حالمة. تطمح لأن تنهي دراستها لتعمل في وظيفة محترمة (...) كانت أمي لا تحلم بأكثر من أن تقتني كتاباً بين وقت وآخر، تشتريه أو تستعيره من إحدى زميلاتها في الفصل. تقول: "قرأتُ الكثير من الروايات، الخيالية منها والواقعية. أحببت سندريللا وكوزيت بطلة البؤساء، حتى أصبحت مثلهما، خادمة، إلا أنني لم أحظ بنهاية سعيدة كما حدث معهما» (ص 19).

وحتى لو أخذنا بعين الاعتبار كل هذه العناصر الثقافية والفنية سيبدو من الصعب الاقتناع بعمق الفلسفة التي يتضمنها قول جوزافين بصدد والدها ميندوزا المدمن:

"إذا ما صادفتَ رجلاً بأكثر من شخصية، فاعلم أنه يبحث عن نفسه في إحداها، لأنه بلا شخصية". (ص 61).

بيد أن أكثر الشخصيات نطقاً بالحكمة بعد الراوي عيسى/هوسيه هي ميرلا ابنة خالته آيدا. ولا تقدم الرواية معلومات عن المستوى التعليمي لميرلا، وإن صورتْها بوصفها فتاة تتعاطى الماريخوانا، متمردة، وعلى جانب من الثقافة في نفس الآن. إذ هي التي تقدم لعيسى/ هوسيه حقائق ومعلومات عن تواريخ الأمكنة التي يزورانها، وتروي عن ريزال بعض أقواله الحكيمة. غير أن كل ذلك يتجاوز، فيما يبدو، حدود شخصيتها الروائية إلى درجة التعالم. انظر إليها على سبيل المثال وهي تقول لعيسى/هوسيه:

"أريت؟! تمنحنا الطبيعة سعادة مجانية" (ص 111).

وقولها: "لا ذنب للطبيعة إن فرض البشرُ رسوماً مقابل ما لا يملكون" (ص 111).

وقولها: "نحن لا نكافئ الآخرين بغفراننا ذنوبهم، نحن نكافئ أنفسنا، ونتطهر من الداخل" (ص 167).

                    ***                                                     

يحضر ساق البامبو في الرواية كما لو هو لازمة موسيقية يـبرز في مناسبات مخصوصة، ثم يختفي. واضح أن عنوان الرواية يعد بمنـزلة المنارة التي يتحكم ضوؤها في ذلك الظهور والاختفاء. غير أن حدي كل ذلك تضبطهما صورتان روائيتان بينهما مسافة شاسعة تكاد تصل إلى حوالي ثلاثمائة صفحة؛ واحدة في صفحة 94، وأخرى في صفحة 383. يقول عيسى/هوسيه وهو في أجواء منـزلهم الفلبيني:

«لماذا كان جلوسي تحت الشجرة يزعج أمي؟ أتراها كانت تخشى أن تنبت لي جذور تضرب في عمق الأرض ما يجعل عودتي إلى بلاد أبي أمراً مستحيلاً؟... ربما، ولكن، حتى الجذور لا تعني شيئاً أحياناً.

لو كنتُ مثل شجرة البامبو، لا انتماء لها. نقتطع جزءاً من ساقها... نغرسه، بلا جذور، في أي أرض. لا يلبث الساق طويلاً حتى تبنت له جذور جديدة.. تنمو من جديد.. في أرض جديدة... بلا ماض .. بلا ذكرة.. لا يلتفت إلى اختلاف الناس حول تسميته.. كاوايان في الفلبين... خيزران في الكويت..أو بامبو في أماكن أخرى»

ثم يقول بعد ذلك وهو في أجوائه الكويتية:

«شعرت فجأة أن هذا المكان ليس مكاني، وأنني كنت مخطئاً لا بد حين حسبت ساق البامبو يضرب جذوره في كل مكان». (ص 383).

لا داعي لأن نبحث بلاغياً إن كان ساق البامبو هو من قبيل الاستعارة أم من قبيل الكناية. لكن المهم أن نستخلص من الرواية مدى قدرته على ترجمة وضع إنساني يتجاوز في شموليته محدودة أداة بلاغية أو حتى أداتين. ذلك أن رواية السنعوسي ترقى بالساق إلى ما يتجاوز إشعاع الحكمة ذاتها، ثم تحاول بذلك أن تضع بعض عناصر الطبيعة موضع السؤال والشك. ذاك في الحقيقة هو عمق الحكمة الدرامية؛ عدم الاطمئنان إلى المألوف حتى وإن كان إفرازاً من إفرازات الطبيعة ذاتها. إن الأمر لا يتعلق إذن بدلالة مفردة، أو حتى بكتلة من الدلالات، بل بكثافة إحساس إنساني هيهات للأداة البلاغية اليتيمة أن تخترقها. لذلك أفترض، نقدياً، أن أسلوب الحكمة بقدر ما كان يفيض على الشخصيات في بعض الصور إلى درجة عدم الإقناع؛ فإنه قد أفلح في ذات الآن في أن يجعل من رواية "ساق البامبو" عملاً كونياً؛ أي ذاك الذي يضبط تشكيلَه تكوينٌ محكم، وتَحْبِــيكٌ متعال.