يفتح الباحث التونسي هنا رواية كمال الرياحي الجديدة على أسئلة عديدة، ليست كلها معلقة في السماء كما يقول العنوان، ولكنها مرتبطة بعملية التحليل النصي والقراءة المتفحصة التي تكشف لنا عن تغلغل القهر في بنية الرواية وفي نفسية كل شخصياتها التي تطاردها كوابيس الواقع الذي انفجر في تونس، وفجر معه الربيع العربي.

«الغوريلا» .. أسئلة معلقة في السماء

يوسف حطيني

عندما انتهيت من قراءة رواية (الغوريلا) لكمال الرياحي انتابني إحساس غاب عني منذ كنت على مقاعد الدرس قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً. أذكر أن مثل هذا الإحساس قد انتابني مرتين: عندما قرأت رواية (الغريب) لألبير كامو، وعندما قرأت رواية (المسخ) لكافكا؛ إذ تلبسني، مع الغريب، إحساس بالعزلة والتوحد لم يفارقني أياماً، وسارت إلي عدوى (المَسخ) مع كافكا، ونقلتني إلى عالم غريغور سامسا الكئيب.

ها أنا ذا أشعر اليوم أن شخصية الغوريلا تتلبسني، الغوريلا الذي عانى من أصناف الظلم والهوان، ورفض قدره الذي رسمه الطغاة، فارتقى شهيداً على مذبح رفضه، وفجّر من خلال موته حقداً، وثورة عارمة.

والغوريلا ها هنا ليس حيواناً.. إنه لقب لإنسان اسمه صالح، عاش في تونس، طفلاً غير شرعي، في أسرة تبنته، ولم تعطه سوى حصته من فقرها وعدميتها وخيباتها. وخيبة إثر خيبة لا يجد صالح أمامه إلا رفض الزمن الحالي، ممثلاً بالساعة العملاقة التي تقوم وسط العاصمة، فيتسلّقها على رؤوس الأشهاد، تاركاً لكلّ أصدقائه فرصة الغوص في ذاكراتهم، كي يضيئوا جوانب من شخصيته، قبل أن يسقط بعد ساعات جثة متفحمة من أعلى برج الساعة، متاثراً بصعقات الكهرباء السرية التي يتعرض لها من قبل علي كلاب، وكلابه، ليصير من ثمّ عاصفة من التظاهرات التي تطالب برحيل الزعيم.

*   *   *

يبدأ الروائي، على نحو يوهم القارئ برواية تقليدية، بداية تأطيرية، سرعان ما تصبح مسرحاً للحدث الرئيسي، غير أنّ هذا التأطير يكتسب مشروعيته من قدرته على تأثيث تفاصيل الإطار الروائي بما يجعل الزمان والمكان مؤهلين لاستقبال الغوريلا: «عند الساعة الواحدة بعد الظهر تقريباً، كانت الريح تدحرج علبة جعة منهوبة الروح في الشارع المقفر. سكون كبير يصل قوس باب بحر ببرج الساعة(1) العملاقة عند تقاطع شارع محمد الخامس وشارع الحبيب بورقيبة». ص7.

إذ ثمة شارع مقفر، وسكون يسبق العاصفة، وثمة تفاصيل كثيرة يلحظها القارئ تسهم إسهاماً كبيراً في رسم صورة أكثر قتامة لأمكنة تشهد أحداث عنف متوالية، آخرها قتل الغوريلا في أعلى ساحة برج الساعة. من هنا نجد أنّ السلم أفعى، والساعة جثة، وبياض الجدار يشبه لون الكفن، وغير ذلك من الأوصاف التي تنتقل في بعض الأحيان من الرصد الحسّي إلى الوصف الكابوسي الذي يجسّد عذابات الشخصيات. وإذ يكون الغوريلا معلّقاً بين السماء والأرض يقدّم السارد الوصف التالي: «السماء الفسيحة مثل صدر أرملة عجوز. قشرة سميكة من الجلد الميت. النجوم كانت تأكل نفسها والقمر جثة مشنوقة في الظلام، واشجار الطريق غانيات في ماخور ضيّق يصطدن التائهين. وحده كان يتدلّى في يتمه لا يشبه أحداً غير جروٍ عارٍ». ص12.

إنّ الجطّ الذي سرد جزءاً من تاريخ الغوريلا، وكان على علاقة غير طيبة معه، كان شاهداً آخر على الزمن الرديء، بعد أنّ شارك في تظهير رداءته، منتقلاً من محاولة اغتصاب سعدية (أخت الغوريلا) إلى تهريب قطع السيارات إلى البطرنة، ليحاصر من ثمّ بزمن الموت، وتحيط به الجثث، ولا يبقى حوله من الأحياء سوى مذياعه وأنين سريره ولوحة أهداه إياها صديقه ماركو: «امتلأت الغرفة بالجثث: ساعة، عنكبوت، قوارير وجوارب وأحذية وقبعات لم يعتمرها. أشياء صغيرة فقط تذكره بالحياة: أصوات مذياعه المحتضر وانين سريره المسنّ، واللوحة التي تكسر بياض حائط مثل الكفن». ص81

إنّ كل الأوصاف في السياقين السرديين السابقين، وفي سياقات سردية متعددة ومشابهة، تحيل على النهايات، لتتضافر مع الزمن الذي تبدو الساعة حاملاً من أهم حوامله. تلك الساعة التي ارتبطت بالموت في عدد من المحطات. فهي تحيل على مرحلة ما بعد بورقيبة التي أرسى دعائمها الجنرال زين العابدين بن علي، وهي تمثّل موتاً مؤجلاً ينتظره سردوك وينبه عليه. لقد كان سردوك في مراحل دراسته المختلفة عبقرياً وكان زملاؤه يتوقعون أن يكون له شأن عظيم، ولكنه غدا (مجنون الساعة) الذي يطوف حولها مثيراً الغصة في قلوب الذين عرفوه، وها هو ذا أحد أصدقائه يقول عنه: «لا يمكن أن أستوعب بسهولة رؤيته منكوش الشعر بلحية طويلة قذرة وثياب بالية ممزقة، يركض معتوهاً يطارد المتحلّقين حول الساعة محذّراً من خطر يتهددهم» ص48.

لقد أدرك سردوك المعتوه خطر تلك الساعة، أو لنقل خطر مرحلة زين العابدين بن علي، على حياة التونسيين، فصار يحرس الساعة، أو يحرس الناس من الساعة، مهتاجاً، فيبعدهم عنها بقسوة وعنف، محذّراً إياهم "من سم عقاربها العالية(2)" ص7، وهو يصرخ فيهم: «ابتعدوا، ابتعدوا، ستسممون، لا تلمسوها، إنها قاتلة» ص49.

*   *   *

في التكنيك الروائي يعتمد كمال الرياحي على تقديم الحدث الرئيسي (صعود الغوريلا إلى برج ساعة العملاقة)، ثم يضيء لنا ماضي الغوريلا، مترافقاً مع تطور الحدث، من خلال مجموعة من الاستذكارات التي يقدّمها عدد من الساردين، كانوا على علاقة، أو على دراية بمرحلة ما من مراحل حياته، تاركاً لنا مهمة مثيرة تتلخص بملء الفراغات، وترتيب زمن الأحداث واقعياً.
إن هذا التكنيك، يشابه إلى حد ما، التكنيك الذي استخدمه الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، في روايته الشهيرة (البحث عن وليد مسعود)، فاختفاء وليد مسعود عند جبرا يقابل صعود برج الساعة عند الرياحي، والاستذكارات التي تضيئها الشخصيات في الروايتين تسلك مناح متماثلة في رصد مراحل مختلفة، ومواقف مختلفة، من حياة البطلين: الغوريلا ووليد مسعود
. إلا أن الرياحي ها هنا يضيف إلى ما أنجزه جبرا فكرة تطوّر الحدث بالتوازي مع إضاءة الشخصية؛ إذ إن جبرا قدّم بطله في حال من الاكتمال الحكائي الذي يبحث عن تسويغه، بينما وضع الرياحي الغوريلا في ذروة توتّره، وفي تعدد احتمالاته. وإن استثمار مثل هذا التكنيك، قاد الرياحي مثلما قاد غيره إلى مجموعة من الاستذكارات(3)، إذ يغدو الاستذكار ضرورة لا بدّ منها، لملء فراغ السرد الذي لا يمكن ملؤه بالحديث عن الزمن الواقعي الذي لم يتجاوز ساعات قليلة، تمتد من الظهيرة إلى المساء.

يدهمنا الحدث الرئيسي في الرواية دون تأخير، بعد تمهيد تأطيري قصير، ابتداء من الصفحة الثانية من المتن الروائي؛ إذ ثمة «كائن صغير بحجم الإصبع، يتراءى للجميع من بعيد، يتسلّق بسرعة الصرصور الساعة أمام دهشتهم ليعلن القيامة» ص8. وبمرور الوقت تتكاثر الجماهير في أسفل برج الساعة، وتتوالد الشرطة في المكان توالداً شيطانياً، وتطلب منه النزول، بينما هو «يغمغم بكلام تتمزق أحشاؤه في الأجواء فلا يصل منه إلا فتات كبعر الأكباش. تشي حركة يده اليسرى التي يلوّح بها يميناً وشمالاً بأنه يرفض النزول» ص8. ومع إصرار الغوريلا على عدم النزول تلجأ السلطة، ممثلةً بعدوه القديم الحاقد علي كلاب، بلسعه لسعات كهربائية مواترة، من وراء السياج، بعد قطع الكهرباء، وتغطية قاعدة الساعة السفلى بغطاء بلاستيكي أسود: «وعادت الأنوار من جديد وظهر الغوريلا في الأعلى يزمجر مثل أسد جريح، ولكنهم رأوه بعد ذلك يترنّح ويعوي مثل كلب ملسوع. كانت الخطة قد بدأت تنفّذ من وراء السياج». ص85.

وحين يسقط الغوريلا جثة هامدة متفحمة، عليها دم متخثّر، تتقدم الجماهير ثائرة على قدرها الذي ظنه علي كلاب قدراً محتوماً، ويلوذ علي كلاب بسيارة صغيرة، مغادراً الساحة: «تتقدّم فجأة مجموعة من الجماهير نحو برج الساعة. نتقدم وراءها. نصرخ بلسان واحد: قتلة .. قتلة... تهجم الشرطة علينا بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع. نتقدم أكثر، نحاول تمزيق الغطاء البلاستيكي الأسود حيث نفّذت الجريمة». ص178. بعدها يتسلّق أحد المتظاهرين سلم عربة الحماية، ويسقط رأس الساعة القبيحة، و«تتطاير عقاربها في كل مكان (...) وبدأت الأناشيد تتوحد منادية بإسقاط الرئيس الدكتاتور». ص179. ولا ينسى السارد خلال تطور الحدث الرئيس، على الرغم من فظاعة المشهد، أن يشير إلى أمور غريبة حدثت في الزحام؛ إذ «نشطت السرقة ونشل الهواتف المحمولة والعقود من جيود النساء وامتدت الأيدي إلى النهود المشدوهة والعجيزات المنسية» ص10.

هكذا باختصار يتحوّل موت الغوريلا إلى محفّز للثورة، وما بين صعود الغوريلا وموته، تغطي الاستذكارات التي تقدّم للغوريلا وأصدقائه حياة حافلة بالبؤس والعنف والقهر والخيبة، تلك الحياة التي لم تفتح ذراعيها للغوريلا، فقرر هو أن يفتح ساقيها، بكل ما أوتي من قدرة على المواجهة، قبل أن يفرّ من قدر محتوم يصنعه الآخرون إلى قدر محتوم يصنعه بنفسه. وفي أثناء هذا العرض السردي، وفي خلاله، يقدّم السارد مجموعة من الاستذكارات، ويبدأ الاستذكار الأول (واقعياً لا سردياً) بذكر حكاية أخذ الغوريلا من الملجأ من قبل (ساسية وعيّاد)، وهي حكاية يرويها أحد الشيوخ الواقفين في الصفوف الخلفية في ساحة برج الساعة، لصديقه المسنّ، بعد أن يأخذه إلى مقهى تونس، مشيراً إلى أنّ الغوريلا كان يعيش، قبل ثلاثين عاماً، في دار الأطفال التي يتردد عليها الأزواج الذين فقدوا الأمل في الإنجاب، مشيراً إلى أن لون بشرته الأسود لم يكن مرغوباً به من الزبائن (الآباء)، إذ كان «المسكين يُحشر في تلك الزاوية مثل المعطف الشتوي بينما القمصان البيضاء تتطاير من حوله مسافرة مع الزبائن» ص38. غير أنّ عيّاد/ زوج ساسية يأخذه، على الرغم من أنّ المديرة لم تكن تريد أن تعرض عليه هذا الغلام: «خليقة ربي. قالت المديرة غاضبة وهي تأمر الممرضة أن تعيد الطفل من حيث جاءت به. تدخّل عيّاد متوسلاً: نعم الخلق يا بنتي. بلال المؤذن كان أسود، الله يبارك فيه وفيك يا لالا.» ص39.

هكذا ظهر الغوريلا منذ البداية منبوذاً في الملجأ، كأنه بضاعة غير رائجة، ويرافقه هذا النبذ من قبل الآخرين ردحاً طويلاً من حياته، بسبب سواد لونه وضياع نسبه، حيث يلاقي صنوف الهوان في ملعب كرة القدم، ولا يسمح له باللعب إلا في حراسة المرمى، حيث يعطى ذلك المكان في ألعاب الأطفال لمن لا يجيد أياً من مهارات اللعبة.

وفي استذكار آخر يورد السارد مشهداً من مشاهد طفولة الغوريلا ضمن السياق التالي «"عندما عيّره أطفال القرية لأول مرة بأنه من "أطفال بورقيبة" ابتسم ابتسامة عريضة مثل ابتسامة بورقيبة تماماً وكأنه يؤكّد النسب. لكنه لم يبتسم بعدها أبداً عندما انهالت عليه مترادفات العبارة: كبّول، ولد حرام، ملقوط، batard، فرخ. رأى ساعتها أسنان بورقيبة مثل قواطع وحش يتقدّم نحوه ليكسر عظامه.» ص28 وهكذا تتوالى الاستذكارات، ويتوالى كشف التفاصيل التي تحيط بهذا المتسلّق ألعى برج الساعة، بينما يجد السارد في كلّ مرة طريقة مختلفة لإعطاء فرصة السرد لهذا أو ذاك، لهذه أو تلك، مجتهداً في كل مرة بتنويع شكل الانتقال بين زمني الماضي الاستذكاري والحاضر الحدثي، فحين يتذكر الغوريلا عن بدء هروبه قبل سنتين ينتهي الاستذكار ويبدأ الحاضر في النسق اللغوي التالي: «رمت به السكة عند المساء أمام سياج عال لمزرعة مجهولة، ظل ساعات يطوف بها منتظراً حلول الظلام. ها هو الغوريلا فوق برج الساعة. مكان تمثال بورقيبة تماماً. يلقي بقميصه ليلوذ بالعري». ص25

وإذ تتذكر حبيبة يوم رآها الغوريلا مصادفة أمام المبولة العمومية، وطلب منها أن تنزل طرف فستانها العالق في حزام سروالها الداخلي. تعود للحاضر عند قولها: «لكن ماذا يفعل هنا؟ ما الذي دفعه لأن يتسلّق الساعة». وإذ تزحف إلى ذاكرتها لقاءاته الجنسية الحميمة الماضية تعيدها صديقتها إلى الحاضر عندما تسألها عن الغوريلا/ رجل الساعة: "أو تعرفينه؟". بينما يستعين السارد برجل عجوز يعيش في حاضر الحدث، ليقدّم لنا استذكاراً موغلاً في الماضي عن طفولة الغوريلا المبكرة، وإذ يريد الروائي أن ينقل تبعة كشف الماضي من العجوز إلى شكيرا يلجأ إلى الحيلة السردية التي تبدأ بتعثر العجوز الذي تأخذه يد شكيرا المخنث، فيقدّم حصته من الذكريات، ثم يعود إلى الزمن الحاضر، كما توضّح السياقات السردية التالية:

«تعثّر بحافة الرصيف وسقط على وجهه. لعن الظلام والزمان. أضاءت عيناه فجأة عندما امتدت له يدٌ ناعمة تساعده على النهوض». ص40

«ماذا سيفعل ذلك العجوز لو علم بحقيقة تلك الكف التي كان يتمسك بها؟ وهل سيصدقني لو رويت له ما أعرفه عن الغوريلا». ص42.

«ذلك كان قدري في تلك الليلة المرعبة. من سيصدّق ما حصل لي وليس من شاهد على الأمر سوى ذلك المعلّق في السماء» ص46.

وهكذا يتعاون الرجل العجوز مع السارد والغوريلا وشاكيرا والجط وحبيبة وغيرهم، ليقدموا لنا ماضي الحكاية، بالموازاة مع حاضرها. وإذا كانت المرء يشعر أنّ أحداث هذه الرواية تشبه كابوساً مرعباً، فإنّ كمال الرياحي يعزز لنا هذا الشعور عبر الاستعانة بكوابيس الشخصيات، ليكون الكابوس، بوصفه تقنية سردية من تقنيات تقديم الحدث، واحداً من تلك التقنيات البارزة التي وظفها الروائي لتسهم في تعزيز انسجام النص رؤية وأداة. فالغوريلا يرى في كوابيسه بورقيبة الذي منحه اسمه، فهو من أبناء بورقيبة (أي من الذين لا نسب لهم)، ويظهر بورقيبة وحشاً لا رحمة فيه، عندما يكتشف أن التسمية لا تغيّر من واقع كونه (ابن حرام) وهذا واحد من الكوابيس: «يذكر تلك الليلة التي رآه فيها مرتدياً جبته الحريرية. تقدّم منه وسحب من كمّه برتقالة كبيرة. كان الغوريلا يشعر بالجوع الشديد. قضم منها فسال ماؤها بين أصابعه التي شعر بأنها قد التحمت بعضها ببعض. حاول أن يفكها دون جدوى. رمى بالبرتقالة التي انقلبت إلى كرة سوداء» ص131.

وفي كابوس آخر يرى الغوريلا نفسه مصدراً من مصادر القسوة والعنف، من خلال الصور التي تهاجمه خلال نومه بضراوة: «أشياء غريبة تحدث لي منذ مدة. أراني في الظلام أتسلق جبالاً وعرة خلف رجال غلاظ. نهجم على قرى. نطارد بسيوفنا الحادة أناساً عرايا. نكتم أفواهاً ونبقر بطوناً. نضاجع نساء نائحات. نترك أصواتاً ودماء كثيرة» ص170. ولأنّ الحياة نفسها تمثّل كابوساً طويلاً مستمراً للغوريلا، بدليل أنه يرى حين ينهض من نومه الوجوه "التي رآها في المنام كانت تحيط به" ص131، فإنّ الحياة ذاتها تمتزج بالكابوس، وتضيع المسافة بالنسبة له بين الحلم والواقع، إذ يزحف أحد كوابيسه نحو مخيلته، ليحتلّ مكان الواقع نفسه، إذ إننا نكاد نصدّق أنّ سبب فرار الغوريلا هو إطلاقه النار في مرقد بورقيبة إذ يقول: «لم أكن، في تلك الليلة قبل سنتين، أتوقّع أن يحدث معي ما حدث، فالهستيريا التي انتابتني وجعلتني أطلق كل رصاص رشّاشي في مرقد بورقيبة، سرعان ما انقشعت مثل سحابة سوداء، لأندفع إلى رحلة الفرار». ص22.

وكيف لنا ألا نصدّق، إذا كان الغوريلا نفسه قد صدّق ذلك، واندفع في رحلة فرار انتهت باختطافه من قبل ذوي الثياب القصيرة البيضاء، لينتقل من ثمّ في رحلة فرار أخرى، نحو مصيره الأخير. وقد كشف لنا السارد هذا التفصيل المهم الذي ينأى بالغوريلا عن تلويث سيرته بقتل الأبرياء، من خلال ما قاله له الساموراي: «أنت تخلط الخيال بالواقع يا غوريلا، أتذكر قصة هروبك من قبر بورقيبة. أنت لم تقتل أحداً. كنت حارس ليل .. وفي الليل ليس هناك زوار أصلاً، ولكن تهيّأ لك أنك قتلت أجانب وورطت نفسك». ص ص170-171.

الجط، أحد الذين عرفوا الغوريلا، واسهموا في رسم خيبات حياته، عرضة للكوابيس التي تستند إلى جذورها الواقعية، إذ يطارده كابوس، بعد أن حاول اغتصاب سعدية أخت الغوريلا، يرى فيه نفسه جثة، يبول عليها رجال القرية: «رأى والده يدفنه إلى جانب إخوته الخمسة، ويتقدّم رجال القرية واحداً واحداً ليبولوا على قبره. بينما سعدية والغوريلا هناك في أعلى الجبل يطيران بأجنحة بيضاء حول الخروبة». ص65 وإذ تواجه حبيبةُ الجطَّ بحقيقته، فهو ليس سوى بطرون، يتجدد كابوس قديم في مخيلته، مرسّخاً إحساس القارئ بإيقاع العنف والقسوة والموت التي تصبغ أحداث هذا النص الروائي ولغته وأحداثه وشخصياته، وهل هناك أكثر تعبيراً عن هذه الحالة من رجل يودع جثته الوداع الأخير: «اعترضته جثة عارية على قطعة خشبية بين يدي رجل يغسّلانها، تقدّم منها، كانت حقّاً جثته، عرفها من آثار الطعنة التي تعرض لها منذ سنوات (...) تقدّم من جثته ليودعها الوداع الأخير، عندما اقترب منها لفحته رائحة خمرته الرخيصة المفضلة» ص83.

هذا الجو الكابوسي الغرائبي تدعمه أحداث غرائبية، من مثل لوحة القارورة الخضراء التي أهداها الفنان الإيطالي ماركو للجط عندما كان سجيناً في إيطاليا، إذ تقدّم زجاجة اللوحة له خمراً يذكرنا بمدامة ابن الفارض(4)، مما يجعله يشعر بأنه ثمل طوال الوقت، لا يصحو من سكره إلا لماماً، كان الجميع يؤكدون له «أنّ رائحة الخمرة تسبقه صباحاً، بعضهم لعنه، وبعضهم ترجّاه ان يدلّه على المكان الذي ابتاع منه الخمر». ص81.

*   *   *

على الرغم من أنّ الرواية تقدّم عدداً من الشخصيات الرئيسية والمساعدة والمعوّقة والطيفية العابرة، فإنها تتمحور حول شخصيتين رئيسيتين، تسيران في اتجاهين متضادين، هما شخصة الغوريلا الذي يريد أن يحقق لذاته شيئاً، ولو من خلال موته، وشخصية علي كلاب الذي يطارد الغوريلا وأحلامه في عيش كريم. شخصية الغوريلا، تلك الشخصية التي تحتل مساحة كبيرة من السرد، سواءٌ أكان ذلك من خلال رصد أفعالها، أم من خلال حديث الشخصيات الأخرى عنها: صالح/ الغوريلا الذي اكتسب لقبه، أو حمله على كتفيه من ملعب كرة القدم، حيث «ما زال الجط يذكر نظرته الغريبة التي رمقه بها يوم وقف أمامه يريد أن ينتزع منه الكرة. لاحظ أن ذراعيه قد طالتا بشكل غريب حتى أدركت كفّاه الركبتين. قال الجط: غوريلا. صالح ولّيت غوريلا. شوف إيديك» ص29. غير أنّ هذا اللقب الغريب لم يكن يغضبه أو يستفزّه؛ لأنه رأى فيه تعبيراً عن مهابة لا سخرية «فهو اليوم الغوريلا المهيب والمرعب، لا الغوريلا الغبي والمعتوه» ص102.

غير أنّ هذه المهابة التي يفرضها شكله، خلق له مجموعة كبرى من الأعداء الذين لم يسمحوا له بتحقيق ذاته عن طريق العمل، ولا بالمحافظة على عرضه وشرفه، فعاش مجموعة من الخيبات التي جعلت حياته لا تطاق، ودفعته دفعاً إلى أن يقدّم اعتراضه على رؤوس الأشهاد، وفي أعلى ساحة برج الساعة. فمن خيباته أن علي كلاب لن يسمح له بأي عمل دون ان يشاركه فيه، فحين يبدأ العمل في موقف السيارات يسأل علي كلاب أحد أعوانه عن القادم الجديد فيقول:

«ـ مجهول جديد وضع يده على الموقف.

يومها أمر علي كلاب بإحضاره فوراً. داخل سيارة "الشاماد" قال الغوريلا:

ـ لن أدفع شيئاً. ما أحصل عليه هو من عرق جبيني.

ـ أنت تعمل دون رخصة.

ـ لا أحد يعمل برخصة، وهل مشاركتك لي في عرقي هي الرخصة؟» ص18.

ولأنه يرفض الدفع يخسر العمل مرة بعد أخرى، وإذ نزل الغوريلا «نهج مرسيليا يبيع اليقطين على عربة. التفت حوله مجموعة من المجرمين التابعين لعلي كلاب وحطموا عربته وأشبعوه ضرباً» ص88. ولأّن رفض الذل الذي يختزنه الغوريلا في صدره يهدد أمن علي كلاب الذي يقوم أساساً على إذلال الآخرين، راح حقد علي كلاب يتنامى على الغوريلا فيزج باسمه بين أسماء المطاردين المتهمين في أحداث عنف. وإذ تظهر براءته يجُمّد علي كلاب في درجته الوظيفية، فيزداد حقده نمواً على الغوريلا، مما يزيد الغوريلا الذي لا يجد طريقة للعمل إحساساً بالخيبة.

وثمة حادثة أخرى أثّرت في حياة الغوريلا وزادت خيباته، هي محاولة اغتصاب سعدية/ أخت الغوريلا/ صالح (بالتبني أيضاً)، إذ حاول الجط اغتصابها، وحين صرخت سمعها الغوريلا، عاد إلى البيت مسرعاً، وهرب الجط بعد ذلك إلى إيطاليا، أما سعدية فقد انتحرت لأنها «لم تحتمل أن يراها صالح عارية أمامه فرمت نفسها في البئر» ص63. وقد زاد تلك الخيبات إحساسه بالرجولة الزائفة حين كان يضاجع النساء الثريات اللواتي يستأجرنه للمتعة، فالأرملة الثرية كانت تستأجره وتدفع له ليضاجعها، وتطلب منه أن يستحم ويضع العطر الذي تريد. ص ص 132 و133. من هنا تصبح حياة صالح المالح بولاً وعرقاً ودمعاً لا معنى لها، بعد أن خسر عمله وأسرته وأصدقاءه، ويصبح إنهاء حياته خياراً مقبولاً، خاصة بعد خطفه من قبل أصحاب الثياب البيضاء القصيرة. ولعلّ تفكيره في الانتحار في البئر كان بداية هذا الطريق إلى النهاية ص ص73-74، ولعله كان يعلم أن صعوده إلى برج الساعة هو صعوده الأخير، غير أنه أراد أن يجعل لموته معنى وصدى.

على النقيض من صالح/ الغوريلا يقف علي كلاب الذي ورث لقبه هذا من اصطياد الكلاب، فحين أعلنت بلدية العاصمة عن حملة مطاردة الكلاب، ووعدت بمنحة مالية عن كل كلب يجري صيده استطاع علي الذيب أن يصطاد سبعين كلباً، وفي حوار له مع رئيس البلدية:

«ـ لم تخبرني ما اسمك.

ـ علي.. علي الذيب.

ـ أنت علي كلاب. هاها... امش للقابض». ص92.

وقد أعرب علي كلاب عندها عن استعداده للتخلي عن المكافأة، وأن يكون في الشرطة، وكان له ما أراد، إذ شوهد بالزي العسكري بعد أسبوع من تلك الحادثة.

لقد كان علي منذ بداياته المبكرة عنيفاً، وفيه نزوع مبكّر لاضطهاد الآخرين، وقد وجد في اللباس العسكري فرصة سانحة لقهر جميع خصومه، ولقهر المساكين الذين يمرون بين يديه بالمصادفة، وقد أسس حوله مجموعة من الكلاليب الذين يأتمرون بأمره من مثل بوخا الذي عينه علي كلاب حارساً لموقف سوق الملّاسين، وقد كان بوخا قادراً بفضل علي «على أن يدير الملّاسين كلّها. يحيي ويميت. يغني ويفقر؛ إنّه إله صغير في فلك إله اكبر اسمه علي كلاب. وهو يعلم أنّ قدرته محدودة، وهي مثل الاستقلال الذاتي، أو حكم البايات؛ شيء يشبه العرش وليس بعرش» ص20.

ولعلنا نشير هنا (للدلالة على قسوة علي كلاب وتوقه للعنف) إلى حادثة جلب الحارس الذي يتناوب مع حراسة قبر بورقيبة مع الغوريلا؛ إذ يحقق علي كلاب معه بقسوة شديدة، ويصفعه صفعتين، ويعلّقه على الجدار، ويقبض بعنف على خصيتيه، مع أنه مجرد شاهد:

«ـ هل كان هناك من يتردد عليه؟

ـ لا أذكر أني رأيت أحداً يزوره.

ـ بل عليك أن تتذكر

قال علي كلاب جملته وصفع الحارس فتناثر من فمه خيط دم خاثر، ليرسم على الحائط طريقاً إلى الرعب.

ـ يبدو أنك لم تسمع عني ... علي كلاب لا أحد يخرج من بين يديه كامل الأعضاء» ص17.

ومثلما حرم علي كلاب الغوريلا من تحقيق حلمه بعمل شريف، فقد حرم بوخا (الذي ألحقه بخدمته فيما بعد) من حلمه في أم يكون حارس مرمى: «كان يمكن أن أكون حارس الملاسين الأول لولا علي كلاب الذي دهسني يوماً بسيارته وكسر ركبتي». ص120.

من هنا فإن علي يكون متوتراً جداً عند وصول الغوريلا إلى أعلى البرج، لأنه شعر أنه يتحدّاه، لذلك يزمجر عندما يصل إلى الساحة:

«كل هذا العدد من الشرطة، ولم تقدروا على إنزال هذا الخنفس؟» ص85.

وإذ يحاول إنزاله عن طريق لسعه بالكهرباء التي تمتد إلى الساعة، يشعر برعب شديد يهدد مستقبله. وعلى الرغم من موت الغوريلا في النهاية فإنه قد حقق/ من خلال هذا الموت، انتصاراً ساحقاً على علي كلاب الذي مضغ هزيمته وغادر الساحة راغماً للمتعاطفين مع الغوريلا.

*   *   *

يقدّم الرياحي روايته من خلال لغة فصيحة مجازية، مطعّمة بعامية لا تثقل السرد، وتعطيه نكهته الواقعية، وتناسب آفاق شخصياته الفكرية، في رقّتها أو عنفها، في مكرها أو في سذاجتها. ومن الحوارات اللطيفة التي يقدّمها السرد، ذلك السياق الذي يستلّه السرد من ذكريات الرجل العجوز ويقدّمه عياد وزوجته في حضرة مديرة الملجأ الذي أخذوا منه الغوريلا، واتخذوه ابناً لهم: فساسية تقول لمديرة الملجأ بسذاجة «عيّش بنتي! نحبّ على وليّد نلقاشي عندكم؟» أما عيّاد فهو يرجوها أن تبحث جيداً عن ابن لهم: «عيّش بنتي خوذي بخاطري شوفي يمكن تلقى! حلّفتك بالغالي» ص39. غير أن أكثر ما يلفت النظر في لغة الرواية هو ترسيخ إيقاع موضوعات بعينها، إذ يخرج القارئ من الرواية وقد تسللت إلى نفسه بقوة ثلاثة إيقاعات سردية هي إيقاعات العنف والخوف والقمع والجنس:

يبدو إيقاع العنف في كل سطر من سطور الرواية، ابتداء من عنف الغوريلا نفسه، رداً على امتهان كرامته، مروراً بعنف علي كلاب والجط وبوخا، وانتهاء بعنف أصحاب الثياب البيضاء القصيرة. فالغوريلا كان يقابل كل امتهان لكرامته بعنف شديد، تجاه نفسه وتجاه الآخرين، ومن ذلك ما كان وقر في ذكريات أصدقائه عنه عندما كان في معسكر التدريب: «هناك في ذلك المكان، عرفته. كائن لا يطاق. تركبه العزلة. نهم. يقطّر الكلام. كنا نخافه .. عنيفاً كان في التدريب. عندما حاول مدربه ممازحته بإطلاق لقب "كحلة" عليه لوى ذراعه ولم يتركه إلا بعدما سمعنا انفصاع كتفه» ص42.

أمّا علي كلاب فقد لمسنا عنفه على مستوى السرد الروائي برمته، إذ تكررت مشاهد ذلك العنف ضد الغوريلا وضد المسجونين، ورأينا كيف كان يدير موت الغوريلا من تحت الإطار البلاستيكي الذي يغطي قاعدة الساعة، حتى إنّ عنفه كان يوجه ضد أصدقائه، وضد بوخا الذي صار يده اليمنى في الملاسين، بعد أن دهسه بسيارته. إن بوخا (الضعيف تجاه علي كلاب) يحمل بذرة عنف لا يستطيع أن يوجهها سوى ضد أهله، فقد كان يحب صدّام حسين، وقد أجبر أخته وزوجها علي تسمية ولدهما عديّ، وعندما صرخ في وجهها ذات مرة معترضاً على الاسم الذي اقترحه أخوها الكولشار(5) سمعه بوخا فتح كرشه وتركه جثة، وقال لأخته بكل بساطة: «الله يرحمو كان طويل اللسان. نرفزني(6) . غداً أزوجك سيد سيدو». وإذ يزوجها من هبلة، يحمل عبء عنفه، إذ يطعنه هبلة في سوق الحشاشين طعنة غير قاتلة، وقد ظن الجميع أنه مات، في حين أنه كان عرضة لعنف آخر هو عنف أولئك الذين اختطفوه، وأرادو أن يستثمر قدرته وخفته في استخدام الشفرة فيما يرضي الله (!)

ومن ذلك العنف أيضاً ممارسات شنيول الوريث الشرعي لعلي كلاب، الذي صار قريباً من زوجة الرئيس، فهو يضرب أحد السجناء على خصيتيه، ص 95. بينما يعاقب الحارس/ المناوب مع الغوريلا بالمثقب الآلي: «امتلأت الزنزانة بالصراخ وصوت الآلة التي بدأت تحفر جسماً صلباً» ص96.

أما الجط فيروي فصلاً آخر من فصول العنف الجنسي؛ إذ يروي لنا وهو يتذكر أيام البطرنة كيف دافع في سجن إيطالي عن رسام اسمه ماركو، حتى لا يقع ضحية اغتصاب، فقطع ذكر المعتدي لومباردو، في مشهد بشع: «عندها أمسك الجط بشيئه وبحركة خاطفه انتزع السكين الذي وضعه تحت الوسادة وذبحه من خصيتيه» ص77. وإذ يكتشف أن ماركو كان شاذاً، وأن دفاعه كان دفاعاً عن شاذ، يحترف القوادة في السجن، ثم يعود حاملاً مهنته إلى تونس، ليقتل من ثمّ في الساحة، بطعنة يدٍ مجهولة (يرجّح منطق السرد أن تكون يدُ حبيبة): «صيحة بعيدة تشق الظلام. ركض وأرجل، هياج وهرج، كان الجط غارقاً في دمه مطعوناً في جنبه، ودمه عابراً عتبة المبولة نحو الدخل. الشرطة تدفع المتحلقين بالعصي والشتائم. الغوريلا وحيداً في السماء» ص141.

أمّا ذوي الثياب البيضاء الذين يجعلون النص الديني في خدمة مآربهم فقد ملأوا صفحات الرواية بالدم، وقتلوا شكيرا المخنث، وهددوا بوخا بالقتل، حين امتقع وجهه، فيما يشبه الخوف أو الاعتراض: قتلوا شكيرا المخنث، وكان من الممكن أن يقتلوا بوخا.

«ـ انسَ المخنث. تصرفنا فيه.

ـ هاهاها، ألم أقل لكم لازم تروحوا عن أنفسكم؟

ـ قتلناه.

امتقع وجه بوخا (...) قام الغريب. همس في أذنه: لا تنسَ. أنت ميت في نظر الجميع». ص128.

وقد ولّد إيقاع العنف في الرواية إيقاعاً آخر للخوف الذي امتدّ على مساحة النص الروائي ممتزجاً بالقمع الذي يولده كل الذين يعوّقون أحلام الغوريلا وأمثاله: فالشرطة «تدفع الناس المتحلّقين مثل الخنافس حول الساعة، تحاول منع التصوير، وإخراس الأصوات والهواتف المحمولة المرفوعة نحو عقارب الساعة» ص8، والمختطفين الذين ملأوا العاصمة رعباً يوقفون رجلة هروب الغوريلا من كوابيسه: «قبل شهر استعدت المشهد هناك. رأيتني فيه في أرض خالية حول سور عال. باغتت ظهري فوهة رشاش وصوت يأمرني أن أرفع يدي إلى رأسي. دفعني الصوت لوضع الانبطاح. برك عليّ. أحسست بركبتيه الثقيلتين تهشمان ظهري وهو يقيّد يدي إلفى الخلف قبل أن يرفعني من كتفي». ص ص168- 169.

وعلى الرغم من أنّ الإيقاعات السابقة تحيل على جميعاً على الموت، فإن الجنس يبدو حاضراً بوصفه إيقاعاً مضاداً، فهو الإجراء الوحيد الذي لا تمنعه الحكومة، على الرغم من أنه يعبّر عن استمرار الحياة. على أن التعبير عن هذا الإيقاع اتخذ عدة مناحٍ، ارتبط بعضها بالإعجاب (الغوريلا = حبيبة) وبعضها بالإثارة (الغوريلا + الشاب = الفتاة السمينة) بالقهر (الجط = سعدية) وبعضها بالتسلط (الغوريلا = الأرملة الثرية) إلا أن الإيقاع الأبرز حضوراً هو الجنس المثلي (شكيرا = الغوريلا: متخيّلة) و(شكيرا = جهاد) و(شكيرا = والده) و(ماركو = الشاب الألماني). ونكتفي ها هنا ببعض السياقات التي يرويها شكيرا عن نفسه:

«أتذكّر أفيش الفيلم. الغوريلا المنتصب فوق الشاهقة تتقاطع ملامحه مع الزنجي الذي يجلس حذوي، أراني في كفّه مثل تلك الحسناء طائراً في عالم اللذة المحظورة» ص45.

«لا تعلم أمي إلى اليوم أنّ أبي كان يفعل معي نفس الشيء في غيابها» ص52.

«ظلّ جهاد عالمي كله .. أهرع إليه كلّما آلمني أحدهم. يحتضنني ويقبلني بنعومة. يدغدغ خدي بلحيته الثائرة دائماً». ص53.

«عندما التحق جهاد بالجامعة وجدت نفسي في العراء» ص53.

«هكذا وجدتني بلا مهرع. بعدما مات ابي انطلقت ابحث عن حضن جهاد عند كل رجل». ص56

*   *   *

ويذكر في النهاية أنّ الرياحي يبني أيديولوجيا روايته على رؤيتين متضادتين، يقف ضد كليهما: رؤية تمارس قمعها من خلال السلطة التي تمتلكها في الأرض، ورؤية تمارس قمعها من خلال السلطة التي تدعي امتلاكها من السماء. وتبدو السخرية من الأخيرة ديدن السرد، من خلال كشف هشاشة الأيديولوجيا التي تدعيها. فالحوار الذي يجري بين بوخا والرجل الملتحي في المشفى يكشف عن عنف متأصل في شخصيته، إذ يطلب منه أن يستثمر مواهبه الفذة المؤذية في سبيل الله (!)

«ـ يا أخانا لماذا لا تنفق نعمة الله في سبيله؟

ـ عن أي نعمة تتحدث؟  (...)

ـ خفّة يدك، ودقة ضربتك بالشفرة». ص123.

والحوار بين "الجهاديين" الذين يختلفون حول لباس الغوريلا، ويجتهدون في إيجاد الأحاديث بطريقة انتقائية، إذ لا يكاد يصل القميص الأبيض إلى ركبتيه، فيأتي كل منهم بدليل شرعي، حتى يتفقوا اخيراً، وهم يصوبون الرشاشات إلى صدور بعضهم لأتفه الأسباب، وقد كادوا يقتلون شكيرا، لأنه قبض عليه وهو يحلق شعر صدره لولا وصول الأمير: «قبل أن يتحول صدر شكيرا إلى غربال برصاصنا وصل الأمير على حصانه راكضاً. في حركة بهلوانية قفز إلى الأرض وصفع الملتحي الذي أمرنا بقتل شاكير (...)

ـ إنه يتشبّه بالنساء يا أمير.

قد نصحتك قبل اليوم ألا تفتي في غيابي» ص153.

وفي حديث نسائي يقدّم الروائي سياقاً سردياً لاذعاً يكشف مدى سذاجة بعض النساء، وربطهنّ تقوى عمر خالد ببكائه: «تتضاحك النساء وهنّ يقطعن اليقطين أمام التلفزيون في انتظار عمرو خالد.

قالت إحداهنّ: فسّدها البارح ما بكاش». ص89. وقد تجسّد الموقف الأيديولوجي للروائي حين ينتقل في نهاية الرواية إلى تبديل السارد نفسه؛ إذ يستلم الروائي دفة السرد، رابطاً بين شخصيات روايته وما يجري في الواقع التونسي، إثر ما سمّي بالربيع العربي، إذ يتحدّث الركاب في القطار «عن رجل أضرم النار بجسده. حديث كثير عند مدينتي سيدي بو زيد والقصرين .. يأتي القطار. أحتلّ مقعداً قصيّاً. الوجوه الغامضة تردد اسم البوعزيزي بلا انقطاع» ص185.

وإذ ذاك ينتقل الخوف من صفحات الرواية إلى صفحات التعليق عليها (وهذا جزء من السرد لا يمكن تجاوزه) فالزوجة خائفة بسبب اشتعال البلاد، والزوج الروائي يجابه خوف أسرته من المجهول بشكل فردي، تاركاً لنا نهاية ذات دلالة عميقة: «يكسو جسدي فجأة وبر أسود. أشعر بأني أضخم وأن جسدي ينتفخ فجأة ويتعملق. أضرب بقبضتي على صدري..  تتقدم السيارة مني. صوت هارون يأتي من بعيد papa….sheriff» ص190. ها هنا يكتمل المشهد السردي، لينتقل إلى القارئ إحساس مفاده أنه، هو أيضاً، ينتظر التحول الذي يجعل من الجميع "غوريلات" تواجه أصناف القمع، فتمتد يده إلى جسده بحثاً عن وبر أسود، ربما بدأ يكسو جسده.

 

هوامش
(1) برج ساعة 7 نوفمبر هو رمز الانقلاب الذي قام به الجنرال زين العابدين بن علي على الرئيس الحبيب بورقيبة يوم 7 نوفمبر 1987 وكان ينتصب مكان الساعة تمثال للزعيم الحبيب بورقيبة.

(2) يفيد الروائي ها هنا من ازدواجية الدلالة التي تحققها كلمة (عقارب).

(3) نذكر ها هنا جبرا في رواية (صراخ في ليل طويل) التي تمتد زمنياً على مدى ليلة واحدة، و(ما تبقى لكم) لغسان كنفاني التي امتدت نحو ست عشرة ساعة. وفي الروايتين اعتماد كبير على الاستذكار.

(4) نقصد ها هنا الإشارة إلى قصيدة ابن الفارض الميمية التي يصف فيها الخمرة الإلهية وصفاً صوفياً، ومنها قوله:

فـإن ذُكـرَتْ في الحَيّ أصبحَ أهلُهُ  نَـشاوى ولا عـارٌ عـليهمْ ولا إثمُ

وإن خَطَرَتْ يوماً على خاطرِ امـرئِ  أقـامتْ بـه الأفـراحُ وارتحلَ الهمُّ

ولـو نَـظَرَ الـنُّدْمَانُ خَتمَ إنائِها  لأسكَرَهُمْ مـن دونِـها ذلكَ الختمُ

ولـو نَـضحوا منها ثرَى قبرِ مَيّتٍ  لـعادتْ اليه الرّوحُ وانتَعَشَ الجسمُ

(5) الصعلوك.

(6) أغضبني