يرى الناقد المصري أن الرواية هي المؤرخ الحق لحياة الشعوب، ويبين هذا من خلال قراءته لرواية «تبدد» للروائي المصري يحيى مختار التي تكشف مستويات مختلفة لتجربة تهجير أهل النوبة والمأساة التي عايشوها، كما تحرص علي تسجيل عاداتهم في المناسبات الاجتماعية المختلفة كالميلاد والزواج والموت.

الموت عطشا .. والموت غرقا

شوقي عبدالحميد يحيى

لظروف فُرضت علي البلاد قسرا، تعرضت مدن القناة عامة لفعل التهجير. فرضتها ظروف الحرب، غير أن أهلها وقر في نفوسهم أن التهجير فرضته ظروف خارجية، ولوقت سوف يعودون بعده إلي ديارهم. وقد عادوا.

إلا أن مناطق أخري من الوطن تعرضت للتهجير أيضا، لا لظروف خارجية، أو لوقت قد يعودون بعده إلي ديارهم، إنما هي ما  فرضته عليهم ظروف البلد ذاتها، وتهجير أبدي، اقتلاع من الأرض، نزع للجذور، إغراق لذكريات، ودفن لماض يحمل من الحياة الكثير، ويحمل من الأمل القليل. تلك هي بلاد النوبة التي تعرضت للانتزاع من الأرض مرات ثلاث علي مدار عدد من السنين. عند بناء خزان أسوان، وعند تعليته، الأولي والثانية، ثم كان الانتزاع الأكبر عند بناء السد العالي، الذي انخلعت له حياتهم و جذورهم، خاصة عندما أغرقت مياهه مقابرهم بمن وما فيها من سير الجدود وحيواتهم. فضلا عن أن هجرة أهل النوبة له مرارة خاصة عبر عنها يحيي مختار في روايته البديعة " تبدد" { أهلنا غلابة، غدر بهم في أراضيهم وهاجروا مرغمين لا يعلمون شيئا غير الزرع والصيد والرعي، عاطلون من أية مهارة أخري، والمطلوب منهم هناك ليعيشوا حرفا ومهارات لم تؤت لهم، وليسوا علي دراية بها ولم تحتاجها حياتنا هنا . فكانت أسهل الأعمال وأصعبها علي النفس وأحقرها أيضا .. أن يكونوا بوابين وخدما . إنها مهنة شريفة كما يقولون ، ولكنها ليست مشرفة.}ص39 .

وكان لمثل هذه التجربة الإنسانية والقومية أن تفجر المشاعر، وتحرك الوجدان، وتخلق تجربة أدبية تحفر لنفسها مكانا مميزا في الأدب العربي عامة والمصري خاصة، تمثل في إبداعات مبدعي النوبة الذين حملوا علي كاهلهم آلام وأحلام الإنسان النوبي، مثل إدريس علي ، وحجاج أدول، ويحيي مختار الذي تقاس أعماله القليلة بالكيف لا بالكم، كاشفة ومعبرة عن مأساة أهل النوبة، من أولي أعماله الروائية "تبدد" والتي ضمتها مجموعة "ماء الحياة" – دار سعاد الصباح، 1992 – إلي  روايته الثالثة والأخيرة "مرافئ الروح" – دار ميريت 2005 - مرورا ب " جبال الكحل" – بخلاف ثلاث مجموعات قصصية - .

ففي رواية "تبدد" والتي جعل لها يحيي مختار عنوانا فرعيا يكاد يكون مباشرا – مثلما في العديد من الأعمال الأولي – وهو " مرثية لقرية الجنينة الشباك" ، والتي تشبه المذكرة التفسيرية للعنوان وما يؤثر سلبا عليه، رغم أن الرواية بها الكثير من المكاشفة، إلا أن أيا منها لم يصل حد المباشرة، وهو ما يؤكد دقة وأهمية العناية بعتبات العمل والتي يأتي في مقدمتها العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية. و"الجنينة والشباك" هي قرية الكاتب نفسه، الأمر الذي إذا أضفناه إلي حرارة العديد من المشاعر، وصدق التعبير، ما يدفعنا إلي التأكيد علي المعايشة التي تمنح العمل الصدق الفني، وطزاجة التجربة، والتي تؤكد أن العطش إلي الحياة قد يؤدي للموت، كما أن العطش للمياه قد يؤدي للغرق.

نتعرف من البداية علي غرق الشخصية المحورية في الرواية "راجية هميد". ويسارع يحيي مختار لتعريفنا بأهمية "راجية هميد" وما تمثله بالنسبة للقرية، وما تمثله لنا أيضا في فك شفرات العمل حين يتردد:{ ف"راجية هميد" كانت "الجنينة والشباك" كما كان يقول بشير غطاس، وهي كل القري كما يقول توفيق زين الدين}ص15 . ونترك "راجية هميد" وأهل القرية يحاولون استخراج الجثة، والبحث عن أسباب غرقها، لنسير مشوار  حياة أهل النوبة ممثلين في "بشير غطاس" والذي يحمل من الصفات ما يتواءم مع اسمه. فهو الذي يسعي إلي إدخال البهجة علي أهل القرية الذين غطاهم الهم والكدر، بمحاولة تبشيرهم بالخير القادم من الأهل الذين هجروا الديار، إما سعيا وراء الرزق أو سعيا وراء امرأة بيضاء في بر مصر، مستغلا هوايته التي عشقها من طفولته  وهي حبه للتمثيل. ولما كان مثله في التمثيل في بر مصر، لا يتجاوز دور البواب، الذي ربما لا يتكلم طوال الفيلم، أي ان دوره لا يتجاوز دور الكومبارس، فقرر أن يمثل الحياة في القرية. أن يتلبس دور الشخص الذي يتجاوز تقديره بل وربما تقديسه، والذي ارتبط في ذهن العامة بتحقيق الأمنيات ومنع المكروهات والعكوسات، وهو الشيخ الولي، حيث يساعده ذلك في تحقيق المهمة التي وهب نفسه لها وهي خدمة أهل بلده. فيتلبس شخصية "التكروري" بعد غياب خارج القرية، عاد إليها في صورته الجديدة التي نجحت في إخفاء شخصه الحقيقي "بشير غطاس"، وكان أول من فكر في زيارتهم قبل زيارة زوجته، هي ابنة خالته "راجية هميد" التي هجرها زوجها للزواج من البيضاء ابنة المدينة، بل وانضم إليه ابنه، لتظل "راجية هميد" وحيدة في قريتها نحو عشر سنوات، كالبيت المهجور، لا زوج ولا ولد. 

يدخل عليها الشيخ التكروري وهي الوحيدة في بيتها، يخبرها أن ابنها خليل الغائب سيتوب ويعود، وسوف يرسل إليها رسالة قريبة، ومما ذكره "التكروري حول حياتها وزوجها وابنها، وفرحتها بالانتصار، طمعت في المزيد، طلبت من التكروري أن يكتب لها حجابا يعيد إليها زوجها "إدريس" من حضن البيضاء المصرية. تهرب الشيخ، وسارع بالهروب، وتركها وحيدة مع أفكارها. إن مجرد طلب الحجاب من الغريب لعودة الزوج، عيب علي مثلهان إنه طلب للرجل، كشف عن السر المكنون، كما أن رفض الشيخ عمل الحجاب يعني ألا أمل في عودة الزوج الذي تنتظر عودته من عشر سنين، تعاني عطش الجسد المتشقق طلبا للري، تقافزت الدماء في العروق غيظا، اللعنة علي كل شئ، علي إدريس، فليذهب إدريس إلي الجحيم. تقرر أن تعمل هي عملا مجربا من تراب البيت الذي داس عليه بقدمه الأيمن قبل السفر، وضعتها في سرة وتفلت عليها، ذهبت بها إلي النهر، كشفت عن شعرها، شرعت يديها نحو السماء وصاحت دون أن تصيح { ليكن إدريس غريبا للأبد .. قصيا لا يعود ولا تلامس حناياه ولا جسده تراب البلد ولا قبورها .. فليكن غريبا .. حيا وميتا}ص121 . وما همت بإلقاء التراب في النيل حتي شعرت بالدوار، لم تتمالك قواها، وجدتها تقاوم في الماء، والموج يتلاعب بها. وكأن عطش جسدها الحي للري ساقها للغرق، فغرقت "الجنينة والشباك" بمياه السد، كي يعيش ما دونها في بر مصر.

التقنية الروائية والشخصيات
استطاع "يحيي مختار" أن يمسك بقارئه منذ البداية وحتى النهاية، حيث واجه القارئ بحادثة مثيرة تستدعي كثيرا من التساؤلات والتخمينات، حيث فوجئنا بغرق "راجية هميد" دون أن نعرف من هي "راجية هميد" الأمر الذي قد يورد للذاكرة أنه ربما يكون دفاعا عن الشرف، وهو الأمر المعتاد في مثل هذه البيئة، إلا أنه تركنا وغاص بينا في ظروف البيئة وتعريفنا بالشخصيات الأخري، ومن بينها شخصية "راجية هميد" ذاتها لنتعرف أنها مطلقة منذ عشرة فيضانات، وهجرها زوجها ليتزوج ب(جربتية) وأن ابنها "خليل" قد إلتحق به وظلت هي كالبيت الخرب. غير أن استقبال الناس للخبر، يغير الفكرة المتولدة. "فراجية هميد كانت "الجنينة والشباك" أي أنها هي القرية. ولم نتعرف علي أسباب الغرق وكيفيته إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية، دون أن ينجرف بنا إلي مغامرات الرواية البوليسي، وإنما جال بنا في البيئة النوبية، التي نتعرف علي أن لها خصوصيتها التي تتمثل في أنهم لا يعرفون من أبواب الرزق سوي الزراعة والرعي والصيد، فغذا ما خرجوا بعيدا عن هذه البيئة فلا عمل لهم إلا إمام بوابين أو سفرجية، وهي الأعمال التي تبدو في عين "بشير غطاس"أو عين أهل النوبة، رغم ما يقولونه من أنها عمل شريف، إلا أنها لا تشرف، فضلا عن استخدام كلمة "بربري" التي دائما ما تواجههم في بلاد الشمال من بر مصر.

ويصف "بشير غطاس" القرية بعد عودته إليها بوصف يبين مدي الخواء الذي حل بها بعد التهجير، بكلمات تصور وتصف، فنقرأ وكأننا نري، يحث ينطق الصمت ويحرك الجماد:

{صوت الصمت المثبت بأشعة الشمس الساطعة علي الصخور والرمال وعلي الجدران وأطباق الخزف الملصوقة علي حلوق الأبواب المغلقة للدور العامرة الغافية، وصوت الفراغ ورائحة الخراب المنبعثة من الدور المغلقة الخاوية من أهلها المهاجرين للشمال والتي مازال يراها منازل "عاد" التي عصفت بهم ريح صرصر عاتية، تعيد إليه الصورة التي تجسدت له من سورة "الحاقة" عن آل "ثمود وعاد"}ص91. فإلي جانب قوة التصوير وتجسيده التي برع فيها "يحيي مختار" فإنها تعكس لنا أيضا تكوين شخصية "بشير غطاس" الإنسانية وثقافته القائمة علي القرآن الكريم، وهي البعد الروحي الذي استخدمه "بشير غطاس" في محاولة إقناع أهل بلدته بما يريده من إدخال البهجة عليهم وتخفيف حدة الفقد والاغتراب والهجر التي يعيشونها بتمثله لشخصية الشيخ" التكروري" والتي نجحت من قبل والتي أرادها مع "راجية هميد" غير أن البعد الرمزي لشخصية "بشير غطاس" جعلها تؤتي ثمارا عكسية، الأمر الذي يحيلنا إلي ما أراته الدولة، أو المسؤلين في بر مصر، من إقامة السد العالي الذي من المنتظر أن يأتي بالخير لبر مصر، فأتي بالشر علي أهل النوبة، ليتزاوج العام بالخاص، أو الفردي بالجمعي بصورة سلسة وكأنها الحركة الانسيابية التي لا يشعر بها القارئ. وهو أيضا ما حدث في شخصية "راجية هميد" التي تمثل النوبة "الجنينة والشباك" الغارقة بمياه النيل. فهي في ذات الوقت، إمرأة ، إنسانة، يجسدها "يحيي مختار علي لسان "بشير غطاس"أيضا في ذلك التصوير النفسي المتعمق، والكاشف عن فهم ودراية بنفسية المرأة :

{سر المودة الخفية بين الرجل وزوجته السكن والرحمة.. في رغائب الجسد وشبق العطش.لقد دلست عليه بتجاعيد مكابدتها والشيب المبكر من الهم وجفاف العود من ضني بعد الزمن بالهجر الممتد منذ عشرة فيضانات.. لم تنطفئ وقدة الجسد ولا بردت حرارة الشوق، ذبح حياؤها البوح بما في أعماقها من عطش للارتواء. لم يفطن أن إمرأة وإنسانة، خاب سعيه فلم يكن وحيدها "خليل" هو احتياجها الأعمق.. أضلته وأهله بدعواتها علي "إدريس" بالخسران والبوار، الآن يتحسس المعني المضمر والغامض في السباب والرغبة.. تلعنه غيظا وشوقا للأحضان.}ص92.

ويجسد "يحيي مختار مأساة النوبة في عبارة واضحة لا لبس فيها لتصوير رؤية أهل النوبة الذين تعرضوا للتهجير أو للتشريد بما رسخ في أعماقهم الظلم الواقع عليهم:

{ ولكن النيل .. النيل الحياة .. الرزق والوجود كله يحولونه هنا إلي عدو لهم وصديق لأهل الشمال.}ص98.

استخدم "يحيي مختار" في روايته اللغة النوبية كثيرا – وإن كان قد تخلص من ذلك في "مرافئ الروح" إلا أنه ما أن يستخدم كلمة نوبية إلا ويلحقها مباشرة بالترجمة العربية لها، الأمر الذي أضاع علي القارئ فرصة المعايشة للغة، وأفقده روح البحث عن المعني، وهو ما يرسخ للغة أيضا. وكان الأفضل – في تصورنا – أن تتم الترجمة في الهامش. 

فإذا كان أهل بلاد النوبة – كما وصفها يحيي مختار- قد تعرضت لما تعرض له أهل عاد من المحو أو الاندثار ، فقد قيض الله لها من يسجل تاريخها، مثلما نقول ونكرر أن الرواية هي المؤرخ الحق لحياة الشعوب، حيث حرص لا علي تسجيل ما تعرضوا له أكثر من مرة، ولكن حرص أيضا علي تسجيل عاداتهم في المناسبات الاجتماعية المختلفة كالميلاد والزواج والموت، ونظرتهم للدفن. لا في "تبدد" فقط وإنما – كمشروع روائي له – امتد كما قلنا عبر "جبال الكحل" وحتى "مرافئ الروح" التي استمد فيها الحياة من الموت، حيث اعتمدت أيضا علي الموروث الروحي القائم علي الأسطورة والأولياء، مستخدما نفس المنابع المستقاة منها "تبدد" (الجنينة والشباك) ونفس الأسماء أيضا (الشيخ سلامة عبد السيد) وغيرها، وكأننا أمام عمل واحد ممتد عبر ثلاث روايات.  

       

شوقي عبد الحميد يحيي

Em:shyehia@yahoo.com