يقدم الناقد والباحث المصري هنا قراءة أو بالأحرى عرضا لما جرى في رواية الكاتبة اللبنانية رشا الأمير، وهو عرض يستقرئ المواجهة الأساسية في الرواية بين نزعات الحياة العقلية والفكر السلفي الذي يسعى لنزع الحيوية والتحقق من ممارساتنا اليومية.

رشا الأمير وروايتها البديعة

طلعت رضوان

رغم تغلغل الأصولية الإسلامية فى مصر ولبنان، وفى غيرهما من الأوطان المجاورة، هذه الأصولية المعادية للمعطيات الاجتماعية والثقافية والعلمية والاقتصادية فى العصر الحديث، وترى أن سعادة البشر فى الحياة الدنيا، تكون بإرتداد عقارب الزمن أربعة عشر قرنًا الى الوراء. أما جواز السفر الى الجنة، فهو فى قتل كل المختلفين مع هذا المنظور (الكهفوى). أقول رغم تغلغل هذه الأصولية المدمرة للتنمية، ولمواجهة تحديات العولمة وهيمنة الرأسمالية المتوحشة، فإن الإبداع الأدبى فى التعامل مع ظاهرة معاداة (العصرنة) نادر جدًا. ومن هنا كانت أهمية رواية (يوم الدين) للمبدعة اللبنانية رشا الأمير، التى صدرت طبعتها الأولى عن (دار الجديد) ـ بيروت عام 2002، وطبعتها الثانية عن (دار ميريت) - القاهرة - عام 2003.

يقوم بناء الرواية على لقاء جمع بين إمام مسجد فى الأربعين من عمره من بلد ما، وبين شابة من وطن آخر. هذه الإنسانة تعيش عصرها، وإن كانت لا ترفض (كل) الماضى أو تعاديه. ولكنها فى نفس الوقت، تنتقد كل مظاهر تخلفه. هذه التجربة التى جمعت بين امرأة ورجل، بينهما فروق ثقافية وحياتية، ومن وطنين مختلفين، ومع ذلك وحّدت بينهما الألفة والمعاشرة ومعاداة الأصولية المتغلغلة فى وطنيهما. الرواية كلها على لسان أمام المسجد، الذى رشّحه شيخ كبير، له علاقات وطيدة مع حكومة بلده وأجهزة أمنها، ليكون مسئولا عن (مسجد العمرين) فى وطن آخر، وفق نظام البعثات الدينية الذى اشتهر به هذا البلد. بعد أن تعرّف إمام المسجد على صديقة فى البلد الجديد، كتب يخاطبها : "أسر اليك بأن صلاة الجمعة صارت عندى أشبه بالكابوس الأسبوعى، لما بات يتخللها، بإفتعال سافر، من مشادات سببها تارة توزيع منشور، ظاهره الحض على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وباطنه مرافعة عن ارتكابات الدم التى تلغ فيها جماعات الأشرار (وهو الوصف الذى تطلقه أجهزة الأمن وأجهزة الإعلام على الجماعات الإسلامية التى قامت بالتفجيرات وقتل الأبرياء. وترفض هذه الأجهزة أن تسميهم باسمهم الحقيقى) ثم يستمر الراوى فى الحديث الى صديقته قائلا "وتارة أخرى إصرار بعض الشبان على اعتراض المصليين عند خروجهم، بغية جمع التبرعات لمجاهدين فى بلاد بعيدة " ( ص 162).

ونظرًا لأن إمام المسجد تختلف توجهاته عن توجهات الجماعات الإسلامية، فإنه كان يتابع أخبار العمليات الإجرامية التى يقوم بها الأصوليون : "بما فى ذلك كم من سيارة مفخخة انفجرت. وكم من قتيل أوقعت" وهو عندما يذهب الى النوم يشعر أنه يموت فى فراشه (227، 228) وتتوالى العمليات الإجرامية، فيسمع صوت المذيع وهو يصف "الانفجار الذى وقع فى شارع تجارى مزدحم، مخلفًا قتلى وجرحى وحرائق وذعرًا غير معهود. الموت يدخل قلب المدينة على متن سيارة مشحونة بالمواد الناسفة" (337) كما أنه يرفض توجهات الأصوليين الذين يرون مقاومة ما يعتبرونه (منكرًا) باليد وفقًا لحديث منسوب الى النبى محمد. ولذلك فهو يرفض أن يستولى الأصوليون على المسجد لإلقاء خطبهم. وتتجسد خشيته من أن يقف أحدهم شارحًا حديث الرسول "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلاّ الله .. الخ" أو حديث الرسول "إن بنى إسرائيل افترقت على إثنين وسبعين فرقة، وأنتم تفترقون على مثلها، كلها فى النار إلاّ فرقة ". وأن الأصوليين يعتقدون أن عليهم أن "يبلّغوا رسالة الله أينما كانوا، فى المسجد وفى البيت وفى الطريق وفى السيارة وفى الطائرة وفى القطار" (375، 376). ويدين الراوى ظاهرة الأسئلة التى تنهال كالمطر من المواطنين على الدعاة والداعيات الجدد. وهى أسئلة وصلت فى فجاجتها الى درجة السؤال عن تفاصيل العلاقة الجنسية بين الزوج وزوجته (396) واذا كان الأمر يوجب إدانة المواطنين على بلاهتهم، فلابد من إدانة أشد ضد الدعاة والداعيات، لاستجابتهم فى الرد على هذه البلاهة. وتتصاعد الأحداث عندما يسيطر الأصوليون على العديد من المساجد. ويطردون الأئمة المعينين من الوزارة. ويصل الأمر الى درجة أن يقوم هؤلاء الأصوليون بخطف إمام مسجد عجوز، معصوب العينين الى معسكر لهم. ويحكى الرجل قائلا : "قبل طلوع فجر اليوم الثالث جاؤونى بوثيقة طلبوا منى نسخها بخطى ومهرها بتوقيعى. كانت اعترافًا (ب) التعامل مع الأجهزة وتزويدها بمعلومات يمكنها إلحاق الإساءة بالمسيرة المباركة (حرفيًا) وتوبة الى الله نصوحًا وبراءة من النظام وأهله. بصراحة لم أتردد فى الانصياع لما أمرونى به. وبذلك أخرجونى من الكوخ الذى كنت محتجزًا به. ثم قال أميرهم "يقولون إننا نسفك الدماء التى حرّم الله. لو كان كذلك هل كنا أبقينا عليه؟ لقد استتبناه، فاعترف بما تقدم من ذنبه. وتاب الى الله. وبرىء من الفجرة المتفرعنين ( لغة الأصوليين المعادين للحضارة المصرية) ومن يقل لكم أننا نسفك الدماء التى حرّم الله، قولوا له إن دستورنا فى القتل هو الآية الكريمة "ولاتقتلوا النفس التى حرّم الله إلاّ بالحق" وبعد الإفراج عنه أذاعوا فى قريته إن: "شيخكم الذى كنتم تثنون على زهده وتستأنسون بفكاهته. شيخكم ذو الاحترام الكبير، لم يكن سوى مخبر صغير. لقد اعترف بكل شىء. ولولا أن يساء تفسير إقامة الحد عليه، للقى المصير الذى يستحق" ( من ص 434 - 447 ).

وتصل خطورة الفكر الأصولى الى مرحلة العداء لمجمل الموروث الشعبى، الذى توارثته الشعوب عبر آلاف السنين. وكانت الكاتبة موفقة تمامًا فى الفصل الذى شاهد فيه الراوى الصراع بين اخوته وبين عمه، حول أسلوب دفن جثة والد الراوى الذى قال : "من تقاليد الدفن عندنا، أن يؤخذ من تحت رأس الميت بعد تدليته فى القبر وتسجيته فيه، بعض التراب. ثم يجبل هذا التراب بماء حتى يصير طينًا. ثم يوضع هذا الطين تحت رأس الميت" ولكن أبناء المتوفى ( نتيجة التعليم وتأثرهم بالأصوليين) يرفضون هذه العادة. ويتشاجرون مع عمهم المدافع عن التراث القومى والموروث الشعبى. فى حين أن الأبناء يرون أن هذه العادة مرذولة، لأنها بدعة. وكل بدعة ضلالة..الخ " ( من ص 246 - 248 ).

لماذا كان الراوى ـ رغم وظيفته الدينية ـ مختلفًا عن الأصوليين؟ يعترف الراوى فى مذكراته أنه لم يجد ضالته فى الإسلام الحركى : "الذى كان لى، بالصدفة، تجربة قصيرة جدًا فى صفوف إحدى فرقه" (191) لذلك فهو يصف علاقته بصديقته قائلا : "بيتك نقيض الكهف بامتياز. وخير شهادة على ذلك وأبلغها، أنك باطمئنان شرعت لى أبوابه. ودعوتنى الى الدخول اليه. دعوة الله الصالحين من عباده الى دخول الجنة" (193) وبعد أن تتوطّد علاقته بهذه الإنسانة المنفتحة على روح العصر الحديث، فإن الراوى يتطور أكثر، فيقول : "لاسبيل الى الجمع بين الدولة وبين الإسلام، إلاّ بالانتقاص من أحدهما أو بترجيح أحدهما على الآخر "وأنه يشاد (ب) الأسلمة والاستقواء بالإسلام لترميم شرعية سياسية متداعية. وفى حالة الاختيار بين الانتقاص من الدولة أو من الإسلام "كان من المقدم عندى الانتقاص، برفق وهوادة، من الإسلام على الانتقاص من الدولة" (258).

هذه الإنسانة التى أحبّها الراوى، والتى كان يطلق عليها "مولاتى" لم تكن الأساس فى تغيره وتفتحه على روح العصر الحديث، وإنما كانت المفجر الذى أزال تراب الغشاوة. وأظهر استعداده البكر لروح الحياة. فهو عندما يتذكر طفولته، يتذكر أن أباه اختار لكل اخوته فلاحة الأرض، بينما اختار له التعليم فى الكتّاب، ليتباهى به أمام أهل القرية بما يحفظه من القرآن. ولذلك كتب الراوى فى مذكراته أنه لابد من "الهواء الطلق وفلاحة الحقول. وجدتنى أتنقل بين قاعات رطبة عفنه. وأفلح فى كتب ذات حواشى". حتى وهوطفل صغير كان يرصد التناقضات التى اختزنها عقله، فكتب "لحسن الحظ أن قاموسى آنذاك كان محدودًا. وأن حيرتى بين الإله الناشط البيئى، رب السموات والأرض، وبين الإله نزيل المسجد المتوقف إصلاحه على إتفاق أبى وأعمامى وسواهم من رواده، كانت حيرة عيّاء، لاتعرف لنفسها اسما، ولاأنا أعرف لها".

وفى السنة الأولى فى الكلية، يتلقى صدمة صعوبة الكتب المقررة وعدم فهمها. سواء هو أو غيره من الطلاب. ولذلك يقول " إن إيمان طفولتى الفطرى تعلّمته فى كتاب الطبيعة ذى الفصول الأربعة. لافى الكتب ذات المجلدات "وفى الكلية أيضًا" تبينت أن إله طفولتى وحداثتى الساذج، لاوجه شبه بينه وبين الله الصعب العصى على الإدراك" (260 - 265) وهو عندما يتذكر هذه المرحلة من حياته يكتب مخاطبًا صديقة عمره "صدقينى. علم التوحيد سلبنى الله الذى رأيته فى بديع خلقه. وأحببته دونما مساعدة من أحد" (389) ويقول أيضًا "إننى شيخ لاتزيد بضاعته العلمية على التمكن بعض الشىء من لغة أثرية. وعلى حفظ القرآن وعشرات الأحاديث النبوية ...الخ " (285) وعندما كانت صديقته تقرأ بعض أشعار المتنبى، فإنه يتذكر: "كنا نقرأ مديحه لأبى على هارون. فثقل لسانك وكثر لحنك. وتحيّرت من أمرى. كيف أقيلك برفق، دونما أن أخدش كبرياءك، من قراءة هى بالتعذيب أشبه" (141، 142).

قبل أن يلتقى الراوى بصديقته، كانت الفروق الثقافية بينهما، أكثر من عناصر التجانس. ولكن الإرهاصات التى قدّمتها المبدعة عن شخصية الرواى. ثم تفاصيل العلاقة الإنسانية التى جمعت بينهما. كل ذلك وضع القارىء أمام معجزة التقاء كائنين، كان مظهرهما الخارجى (الإهتمامات والمهنة) يشير الى أنهما من عالمين أو من كوكبين مختلفين، ومع ذلك تمكّنت الكاتبة من أن تجعلهما لايتقاربان فقط، وإنما لايستطيع أحدهما العيش دون الآخر. وكان دور الإبداع هو تنمية عوامل التجانس وتذويب عوامل التفرقة. بدأت علاقتهما بطلب من الصديقة أن يشرح لها أشعار المتنبى. شجّعته على أن يكون اللقاء فى شقتها. تمر السنوات. وعندما يتذكر الراوى البداية يقول لها: "لأى شىء أخذت نفسك بإخراجى من طور عشت قيده طوال حياتى قبلك؟ أإرضاء لك ولغرورك كلّفت نفسك بذلك أم لسبب يفوتنى؟" ولاينسى أنها فى بداية العلاقة قالت له "كفاك ما أنت فيه. مخارج أنفاسك تضاهى مخارج حروفك ضبطًا وإتقانًا. ولكن تحت هذا الضبط والإتقان تلعثم لايخفى. ما بك يا رجل؟ الكلام طب أمثالنا المنزلى. إن لم ينفع لم يضر. جرّب لعلّ وعسى" (30، 31) واذ أن الراوى يدرك أن ثمة فروق عقلية ونفسية بينه وبينها، فإنه يخاطبها فى مذكراته قائلا: " أنت من أنت فى السر والعلن. أما أنا فسر وعلن. لاسلام يرجى بينهما" (116) ولكن بعد أن تتعمق العلاقة بينهما يقول "لقد بعثتنى من موتى الصغير الذى قدّرته على نفسى" (137) كما يعترف بأنها هى التى فتحت له عقلها وقلبها، فكتب " لقد كنت أشجع منى وألسن" (184) وهو يقارن بين ما تعلّمه منها وبين ما علّمه هو إياها، فيقول "ما استفدته منى لايعدو بضع قواعد نحو وصرف سيّان معرفتها أو الجهل بها. أما ما استفدته منك فأقل ما يقال فيه أن يفوت العد والإحصاء. من قبل أن أبعث حيًا على يديك كانت الحياة لاشىء يذكر. أما الحياة فالتقيت بمن ردّها علىّ وردّنى اليها. وكان ذلك أنت. ولادة ثانية، أم بعث أول؟ وأدين لك بأن تعلّمت بأن ثالث رجل وامرأة وراء باب موصد ليس الشيطان حكمًا" (388 - 391).

ماذا استفاد إمام المسجد من هذه الإنسانة التى أعادت اليه الحياة؟ عندما علمت أنه سيتولى إعداد وتقديم أحد البرامج الدينية فى قناة تليفزيونية فضائية، قالت له "قريبًا إذن تنضم الى نادى النجوم. ويصبح لك معجبات ومعجبون" (292) وعندما طلب منها مساعدته فى رسم خريطة البرنامج الدينى، قالت له "تريدنى إذن أن أضع مواهبى فى خدمة مشروع إعلامى تحيط به الشبهات" (332) وبعد أن تسبب ظهوره فى التليفزيون فى نجوميته، وأن الكثيرين يسعون للصلاة خلفه، وأنه مندهش من هذه النجومية السريعة، قالت له "كفّ عن افتعال تواضع أنت أدرى بأنه التجبر بعينه" وشرحت له كيف أن التليفزيون يصنع النجوم. وأنه لافرق بينه (الراوى) وبين المغنى الشاب الصاعد معبود شريحة من المراهقين والمراهقات (379 - 381) وتعلّّم منها أن قراءة الشعر حس نقدى معجون بالمشاعر الإنسانية. إذ عندما كانت تقرأ بيت المتنبى الذى يقول فيه "لاشىء أقبح من فحل له ذكر / تقوده أمة ليس لها رحم" لاحظ أن صوتها وهن. وكأنما تحرّّجت من أن يمتلىء فمها بألفاظ هذا البيت. وعندما تجاوزته وقرأت " أغاية الدين أن تحفوا شواربكم / يا أمة ضحكت من جهلها الأمم " ندّ منها تنهد عميق هو التأفف بعينه" (159) ولكنها توقفت عند الشطر الأول وقالت "الى متى يا مولانا زعمكم أن حفّ الشوارب والعفو عن اللحى هو الحلوالبديل؟ والى متى تغاضيكم عن العالم وانصرافكم الى أصول وفروع لاخير فيها ولانفع منها يرجى؟ ألا يخجلكم ما نحن فيه من قصور وتخلف وإدمان على الكذب والتلذذ بالقتل؟" (16.)

وعندما عرض عليها قصة الفتاة الفقيرة المتخلفة عقلياً والتى اغتصبها إثنان من الجماعات الإسلامية بالتناوب، ولايعرف من ماء أيهما حملت، وأنه يفكر فى عرض هذا الموضوع فى التليفزيون، قالت له "هل تضمن للفتاة وأسرتها ألاّ يتعرّضوا لسوء إن أنت حوّّلت مأساتهم الى مادة وثائقية؟" (449 - 453). هذه الملاحظات العميقة من صديقة الراوى. وصراحتها فى مواجهته. وعدم الضن عليه بنقل خبرتها فى الحياة. كل ذلك عمّق العلاقة بينهما. هذه العلاقة الإنسانية النبيلة، جعلت الراوى يدرك الفرق بين علاقات الأفراد الشخصية، وبين علاقات الأوطان، والخصوصية التى تميز وطن عن آخر، وشعب عن شعب. فقال "اشتراك بلدينا فى الدين واللسان والإقليم، لم يحل دون أن يفترق مآلهما خلال العقود الماضية. وأن تمحى مظاهر ما يشتركان فيه. حد أن يخيل لمن ينتقل من أحدهما الى الآخر، أنه من قارة الى أخرى يعبر، وليس من بلد الى بلد" ( 89، 9.، 384). كانت تجربة إمام المسجد مع هذه الإنسانة المتحضرة، أشبه بحجر ألقى فى بحيرة راكدة. هذا الحجر هو الذى أخرج العنصر النقى من وجدان الراوى، وجعله يلتحم فى علاقة حميمة مع صديقته التى أعادته الى الحياة الحقة، بكل ما فيها من تعدد. وبالتالى جعلته يرفض الأحادية الفكرية والانغلاق، والقدرة على نقد الثقافة الماضوية القائمة على عبادة الفرد. ولذلك نجده لايندهش من أن تكون نفس المتنبى قد " زينت له إدعاء النبوة، بإعتبارها أخصر الطرق لبلوغ هذا الذى أراده وأجلّه عن التسمية. ومن ذلك قوله (المتنبى) : "يقولون لى: ما أنت فى كل بلدة / وما تبغى؟ ما أبتغى جلّ أن يسمى" بل يدهشنى أن يكون البعض قد تطوع جاهدًا لإثبات (براءته) من هذا الإدعاء. فى عالم ثقافته لهاث من عمر هذه الثقافة وراء الأنبياء وأنصاف الأنبياء ومن يقوم مقامهم" (4.5). ومع تطور علاقته مع هذه الإنسانة المتحضرة، يكون الراوى قد تطور فكريًا فيقول "أليس مدهشًا ذهاب هذه الثقافة بشخص نبيها وشاعرها الى تمثل قصب السبق فى الإتيان بالكلمة الفصل. الكلمة التى لاكلمة بعدها. الكلمة التى تجمع الكلام كله. وتسفّه وتمرّض أى كلام يأتى بعدها. ماذا تعنى كلمة تحلم أن تتكرر هى نفسها الى مالا نهاية له؟ ما الفرق عندها بين التكرار والصمت؟ أوليس الموت التكرار الصامت؟ وشهوة الكلمة الفصل، ماذا يحول، فى مجال السياسة، سياسة الناس، بينها وبين أن تتوسل بالقتل؟ يخطرلى أن عنوان ما أكتبه عن نبوة المتنبى "شهوة الكلمة الفصل " (455).

ونتيجة هذه الثقافة الأحادية المنغلقة، يشعر بالقنوط والسأم ويفكر فى " جدوى البقاء فى هذه البلاد البخيلة، ضيقة الصدر والخيال " (284) وأكثر من ذلك عندما يقول "حلمى الطفولى المتكرر الوحيد كان يسرى بى بسحر ساحر بعيدً ا عن هذه البلاد التى لايتمناها المرء لأعدائه. إسراء لارجعة منه" (479). وكما تعمّدت الكاتبة إغفال اسم الراوى وصديقته، تعمّدت أيضًا إغفال اسم وطن كل منهما. وهى هنا أوحت (بلغة الفن) الى عموم الظاهرة فى كل الأوطان المتمسكة بثقافة الماضى المنغلقة على نفسها. المعادية ل (العصرنة) وأنها وحدها المالكة للحقيقة المطلقة. ومن لايتطابق معها تطابق المثلثات فهو فى ضلال، وبالتالى ترفض النظر الى البشر على أنهم مشاعر وعقول قبل أى انتماء دينى. والراوى الذى أغفلت الكاتبة تحديد وطنه، أشارت الى أنه قادم من مجتمع زراعى، يشهد تاريخه بالتحضر والتعددية. لذلك كان التطور فى شخصيته متسقًا مع طفولته وبدايات تشككه فى أسلوب التعليم، وفى سلوك الجماعات الإسلامية المتعصبة. هذا التطور جعله يكتب "إننى فى النهاية، لم أفعل سوى أن تحزّبت لحزب الحياة. وعاديت حتى الموت حزب الموت". أما أمنيته للشعوب فهى "أن تمتلىء الأرض قسطًا وعدلا وفرص عمل" ( 416، 417 ).

وبعد أن تعرّض الراوى لمحاولات الاغتيال بواسطة الجماعات الإسلامية، وبعد انقطاع دام بينه وبين صديقته فترة من الزمن. أخبره شيخه الذى رشّحه للبعثة: "ألا تعرف أن صاحبتك جنّدت كل معارفها، وعملت المستحيل لإخراجك من هنا، واستقبالك حيث تعيش هى الآن " لم تذكر الكاتبة اسم البلد الجديد الذى انتقلت اليه الصديقة لتعيش فيه. وعلى القارىء أن يستنتج أنه وطن مختلف عن الأوطان أحادية الفكر، الفكر الذى يكفّر كل من يرفض التطابق معه، وكل من يرفض السير فى قافلة القطيع. وبعد أن طال صمت الراوى، فإن شيخه المشهور بالعبث وحب النكتة، تحوّل من لغة عربية الى عربية أخرى، وقال: "فى يوم الدين هذا، وددت أن لى مثلك صاحبة أفر اليها. فلا تتردد" وتختتم الكاتبة روايتها البديعة بهاتين الكلمتين : "وهكذا كان" (487).