يقدم الناقد المصري قراءته في رواية «منافي الرب» للروائي المصري التي تتخذ من الصحراء مسرحا للتعبير عن رحلة روحية، كما أن للصحراء دور أيضا في تكوين الشخصيات وإكسابها ملامحها الأساسية، وتتبلور في النهاية -حسب الناقد- الدعوة للاستمتاع بالحياة، وأن نعيشها بشقيها المادي والروحي لننعم بها.

رحلة بحث الخمايسي في المنافي

شوقي عبدالحميد يحيى

كانت رواية صبري موسي "فساد الأمكنة" فتحا جديدا في الرواية العربية، بارتيادها الصحراء، في جو روائي ازدحم في ريف مصر وحواري القاهرة. فكانت علامة فارقة.

وفي تسعينيات القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحالي، ساد ما يمكن أن نسميه رواية وسط البلد. تلك الروايات المحرضة علي الغضب والثورة، والتي اتخذت من منطقة وسط العاصمة مسرحا لها – وهو ما كان مسرحا لأحداث الثورة فيما بعد – بدأ من "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، و "تغريدة البجعة" لمكاوي سعيد، مرورا بروايات محمود الغيطاني وحمدي الجزار وياسر عبد الحافظ وغيرهم، وصولا إلي "أسد قصر النيل" لزين عبد الهادي. وفي وسط هذه الموجة خرج علينا كل من "محمد إبراهيم طه" ، و"أحمد أبو خنيجر" في توقيت يكاد يكون متزامنا بروايتيهم "دموع الإبل" و "خور الجمال" ليعزفا خارج السرب، حيث خرجتا إلي الصحراء، ولعب الجمل في كل منهما دورا رئيسا في التأكيد علي أنهما لم تخرجا عن السياق كثيرا في التعبير عن المرحلة وعن رفض الواقع، وهو ما دعاني للتعبير عنهما بأنهما يمثلان "الهروب الاحتجاجي"، أي التعبير عن الرفض في معايشة الواقع المرفوض.

وبينما بدأت بعض الإشارات الروائية الجديدة تتلمس معالم الزلزال الثوري في البلاد، متخذة من موقع الأحداث في الميدان مسرحا للتعبير عن عصر جديد آخذ في التشكل، يخرج علينا شاب، مغموس في مشاكل الثورة – والثورة المصرية ثورة شباب بالدرجة الأولي – وهو "أشرف الخمايسي" بعمل روائي يذهب بنا بعيدا عن عالم الثورة وأحداثها، ويتخذ من الصحراء مسرحا للتعبير عن رحلة روحية، كان قد عاشها علي المستوي الشخصي، عندما انقطع عن الكتابة، وانغمس في تجربة صوفية، أو سلفية، كانت، في تصورنا، هي البذرة التي أخرجت "منافي الرب"، تلك الرواية المثيرة للتساؤل من عنوانها. غير أن تأمل الإبداع الروائي يؤكد أن أي عمل روائي يظل كالبذرة المدفونة في الأرض فترة قبل أن تبدأ في الإنبات، وقد بدأت "منافي الرب" في الإنبات حين قرر الخمايسي إخراجها علي الورق في مارس 2011. أي بعد الثورة بفترة قصيرة جدا، وظلت تنبت حتى اكتمل نضوجها في العام 2013. وهو الأمر الذي يؤكد أنه لم يستطع الخروج من سطوتها علي نفسه، فلم ينجرف إلي ما يدور في البلاد من فوران. وهو الأمر الذي يستدعي تأمل إبداعات البعيدين عن القاهرة وانغماسهم في التأملات الكونية، في صعيد مصر علي وجه الخصوص، وإن لم تبعد كثيرا عن هموم الوطن ( "منافي الرب" لأشرف الخمايسي في الأقصر، "خور الجمال" لأحمد أبو خنيجر في أسوان، "فتنة اللحظات الأخيرة" ليوسف فاخوري في أسوان أيضا) وهو ما يحتاج للتأمل والدراسة.

أقول أن "منافي الرب" تثير التساؤل من أولي خطوات الدخول إلي عالمها، "العنوان"  فالمنافي هي جمع "منفي"  أي التيه أو الضياع، فما المراد من منافي الرب؟ وهل الرب هنا فاعل، أي أنه هو الذي صنع المنافي للعبد، أم أنه مفعول به، أي المنافي التي يختبئ فيها الرب؟ وحاشي له في الحالين، ولا أظن أن الخمايسي يعني أيا منهما. الأمر الذي يثير الشك الباحث عن اليقين، ذلك الشك الذي يزرعنا فيه الخمايسي من بدايات الرواية وفي فصلها المعنون "الرؤيا"، حيث يصحو "حجيزي" من نومه علي رؤيا يراها، ذلك أنه يأكل ثلاث تمرات، ويأتي (المعبر) ليخبره أن التمرات الثلاث ليست إلا أيامه الثلاثة الباقية له في الحياة. غير أن "حجيزي" لا يعرف هل كان نائما أم صاحيا. وهل هو بالفعل أكل التمرات الثلاث، أم أنه هيئ له ؟ حتى أنه سمع المؤذن ينادي لصلاة الفجر ويقول " الصلاة خير من الموت" ولما وصل المسجد سأل "سعدون" لماذا قال الصلاه خير من الموت، إلا أن سعدون يجيبه بأن الصلاة خير من النوم. غير أنه يظل في الحيرة طوال هذا الفصل.

و نصل إلي الفصل المعنون " الحي ذاهب إلي الموت، والميت يحيا" لنجد "حجيزي" يستجيب لأحفاده في حكي الحكايات. فيسألونه إن كانت الحكاية حقيقية أم أنها من تأليفه، فيجيبهم مرة بأنها خيالية ما دامت حكاية، ويعود في مرة أخري ويقول لهم أنها حقيقية، ليقع الأحفاد ونقع نحن القراء مع "حجيزي" نفسه في الحيرة والشك.

وفي الفصل المعنون "مكحلة لعينين لا تكتحلان" يروي "غنيمة" لصديقه "حجيزي" عن المرأة الفارسية التي جاءت البلاد مع جيش الفرس والمتعة التي منحتها له، ويخرج لصديقه طرحة المرأة "جالة" فيتأملها "حجيزي" ويقول لصديقه: [تريد أن تقول إن هذا المنديل لامرأة من جيش فارسي مدفون في صحرائنا منذ آلاف السنين!؟

فيجيبه "غنيمة" : الجيش الفارسي دفن أمام عيني]ص266. لتتواصل الحيرة بين الشك واليقين، الحقيقة والخيال.

فيذهب الخمايسي بنا مع "حجيزي" إلي الصحراء، تلك التي كانت مهد النبوات والأديان، بحثا عن اليقين، ومؤكدا أننا نولد مسلمين، أو مسيحيين، فنكون علي دين آبائنا. إلا أن البعض قد تتساءل نفسه، لماذا أنا مسلم، أو لماذا أنا مسيحي، فيمر بما مر به د مصطفي محمود في رحلة من الشك إلي اليقين. فنجد "حجيزي" ، الشخصية الرئيسة في "منافي الرب" في رحلة بحثه عن وسيلة تنجيه من الدفن، أي من دخول القبر. ويسمع من الراهب "يوأنس" أن كل مسيحي يعود من موته، فيتبعه، ويدخل دينه المسيحي كي ينجو من الدفن، وهنا يعتريه الكثير من الشك – أيضا - في أقوال الراهب "يوأنس" [ يبدو أنني أخطأت بالمجيء خلف هذا الراهب، فكل ما يقوله أو يفعله حتى الآن هو ضد حياة الأجساد.]ص200. ويظل الكثير من الأمور وحياة الرهبان في الصحراء تثير شكوكه ومخاوفه، وبها لن يستطيع تحقيق حلمه بالهروب من الدفن، فيعود مرة أخري إلي الإسلام، مستسلما لما قدر له.

غير أننا لا نستطيع أن نسلم بأن تجربة الخمايسي هي رحلتة أو رحلة "حجيزي" بأنها رحلة من الشك إلي اليقين، خاصة إذا ما سلمنا بأن موسي عليه السلام كانت ديانته مادية، اعتمد في برهانها علي الحيات المرئية عيانا لقومه، وأن عيسي عليه السلام، قامت ديانته علي الروحانية، فكانت معجزته إحياء الموتى، أي العمل علي الروح. فقد جاء محمد عليه الصلاة والسلام بدين يجمع بين الاثنين، المادة والروح، علي الجسد والروح. ومنها نستطيع أن نقول أن رحلة "حجيزي" كانت من هجر المادة، هجر الجسد إلي ضرور العيش بهما معا، خاصة إذا علمنا أنه رغم أعوامه المائة، وزواجه الذي دام خمسين عاما، لم يقرب "سريرة" زوجته إلا ثلاث مرات. فضلا عن أن "حجيزي" لا يرفض الموت الذي ليس منه مفر، هو فقط يريد أن يبقي الجسد، ذلك الذي يفني بالموت، وهو يريد أن يظل الجسد (عائشا) بين الأحياء، أن تخصص له حجرة في المنزل مثلما تخصص حجر لأغراض الحياة. أما الروح فهي تصعد لبارئها، أي أنها لا تفني ولا تبلي، فهو إذن يطمع في أن يجتمع الجسد من جديد مع الروح.

وقد تبين الرؤية في الصراع النفسي الذي دار داخل "صبحي" -المسيحي- عندما عرضت عليه "سيرين" نفسها : [روحي تقول: "سيرين" أصدق منك يا "صبحي"، أحبتك بروحها، فدق قلبها، وأرادت أن تضمك إليها بجسدها، فطلبت منك ذلك، ولم تخبئ شيئا، تعاملت مع الأمر ببساطة.

لكن كلام الرب ليس هكذا، الرب يتكلم عن الزنا، ليس رجل وامرأة يعرفان بعضهما في فراش من غير علم الناس ومباركتهم إلا زانيين]ص286.

فالصراع هنا، صراع بين الروح والجسد، الجسد يتحرق شوقا، والروح تقف صخرة كداء. ويعلن "صبحي ثورته علي علي ترك متعة الجسد، والإلقاء بنفسه في منفي و متاهة الصحراء [ لماذا يحارب الرب جسدي؟ لماذا يصرخ في دائما لأهتم بما لا أره علي حساب ما أراه؟ لماذا يطالبني بمراعاة روحي، ويأمرني بإهلاك جسدي]ص283.ويضيع صبحي عندما يضحي [ صار "صبحي" يقف في محل "المانيفاتورة" ذاهلا مثل مريض، ناحلا من حب "سيرين"، الحب الذي تتيحه له صاحبة الشأن، بينما تمنعه تحذيرات الرب، وأحقاد ميت مثل المعلم "نظير"]ص287.     .ويستمع "حجيزي" إلي قصة هذا الصراع، ولا يعلق، وكأنه يتدبر الأمر، وكأنه يعرضه علي أعماقه الرافضة لفناء الجسد.وكأن صورة صبحي هي الانعكاس الموضوعي لأعماق "حجيزي" [نكس "حجيزي" رأسه وأخذ يقلب النار بأحد أعواد الحطب، ولم يجب]ص285.وكأنها المرآة، المقعرة، الخارجية التي تعكس ما بالأعماق لتتجمع الأسباب التي تؤدي في النهاية لأن يرفض "حجيزي" الاستمرار في المسيحية، ويعود للإسلام. 

و حرص الخمايس أن يتعامل مع المسيحي هنا باسم "صبحي" دزن أن يكشف لنا أيا من خبايا "صبحي" هذا، لنبحث عنه في باقي الحكاية في الفصول الأخري، لنجدنا وجها لوجه أما المقددس "يوأنس" عندما بدأت عملية الاعتراف، وكأنه يستدرجنا ولا يريد أن يصدمنا من البداية، إذ ربما لا يتقبل البعض فكرة القتل التي مارسها "المقدس" وكأننا ننظر إليه بفتح الدال لا بكسرها. وهي إحدي الحيل التي يمارسها الخمايسي في تقنيته الروائية التي نتعرف عليها بتفصيل أكثر.    

التقنية والشخصية
علي الرغم من امتداد الرواية لتتجاوز الأربعمائة صفحة، إلا أن السرد سار استاتيكيا إلي ما بعد منتصفها، أي أنه بدا في حالة سكون، فكانت الحركة في المكان فقط، بينما الزمان لم يتجاوز نصف اليوم. وحتي حركة المكان انحصرت في محيط ضيق لحد كبير انحصر بين البيت والمسجد والبئر، ورغم أن المدافن كانت من الأماكن الرئيسية، لكثرة حالات (الموت)، إلا أن السير إليها لم يأخذ الحيز الملفت لها، وكأن السارد تعاطف مع "حجيزي" في وجود الموت، إلا أن الدفن غير مرغوب فيه. ولم يبدأ السرد في اتخاذ الجانب الديناميكي إلا عندما بدأت رحلة "حجيزي" والراهب "يوأنس" إلي الصحراء، أو رحلة التجربة المسيحية، حيث بدأ الزمن يتحرك مع المكان، حيث استهلكت الرحلة اليومان ونصف اليوم المتبقية علي تمام الأيام الثلاثة التي نبأت الرؤية "حجيزي" بها كي يموت. وهذا من شأنه أن يخرج القارئ عن الاستمتاع أو مواصلة القراءة. إلا أن الخمايسي تغلب علي ذلك بما يشبه تقنية "ألف ليلة ولليلة" غير أنه لم يلضم الحكايات بعضها ببعض، وإنما ما يشبه تقنية السينما التي تقطع الحدث الواحد. ففي كل فصل أو تحت كل عنوان، نأخذ بطرف من الحكايات المفرودة علي البساط، أو نغرق في منولوج لأحد الأصوات التي تدفع بالحدث أو تستكمل الصورة. فكنا نعيش في كل عنوان جانبي جانب من الصور التي يرسمها السارد والتي تتعدد لتعطي رؤية كلية تؤدي كلها تقريبا إلي (الموت) وهي:

-       رغبة حجيزي في ألا يدفن . فالموت ليس هو المخيف وإنما المخيف هو الدفن.

-       حكاية الإنجليزي مع العصفور الذي دخل عربة البولمان وكيف بني له بيت خرج العصفور منه ليأتي بعصفورة ويعيشان في البيت ويتكاثرا.

-       موت "صالح" ابن منيرة و"سعداني" في بئر"الراهب" في مكان ضيق لا يستطيعون منه إخراج الجثة.(الماء)

-       موت "بثينة" زوجة "سعدون" وولديهما "وليد" محترقتين وملتصقتين.(النار)

-       "سليم" و "سكيرة" وحكايات الطفولة والفعل الأبدي البادئ للحياة.

-       حكاية "صبحي" مع المعلم "نظير تكلا" ورحلة الصعود من "النكلة" للجنيه، وحكايته مع "سيرين" ابنة المعلم "نظير تكلا".

حيث تشكل كل منها قصة في حد ذاتها، بينما تلقي بظلال علي الرؤية الأساسية، فتزيدها وضوحا. أي أن الرؤية الأساسية يمكن أن تكون ساكنة الحركة (الظاهرية)، بينما الفرعيات حركة وحياة. الأمر الذي يقترب بالرواية في مجملها من المتتالية القصصية.

فإذا ما تأملنا أيضا قصة "غنيمة" وكيف أنه رأي الموت في الصحراء (المنفي) وكيف أنه كاد يكفر بالله بحثا عن من ينقذه من عاصفة الرمل العاتية. واتجه إلي كلبه يسأله، فاتجه الكلب برأسه للسماء وعوي، أدرك "غنيمة" أن عليه أن يسأل الله، ورآه ، رأي الله [ رايته يا "حجيزي".

-       رأيت من؟

-       رأيت الله.

-       أنت رأيت الله؟!

-       رايته .

-       طيب وما شكله يا ابن الكلب]ص300.

ويشرح "غنيمة" ل"حجيزي" كيف رأي الله. وهنا نتبين أيضا كيف أن حكاية "غنيمة تجد صداها في أعماق " حجيزي" وتلقي بضوء أخر علي بؤرة الرؤية، وتساعد في الوصول إلي محطة النهاية: [ نظر "حجيزي" في عيني "غنيمة، ثم قال: أنا أصدقك هذه المرة يا "غنيمة"

-       لماذا تصدقني هذه المرة؟!

-       هذا الكلام الذ أن الله قال لك، كلام موزون، ومعانيه عالية، وأنت حمار لا تستطيع تأليف مثل هذا الكلام، آخرك الكلام عن "قمق" بيك]ص301.

 

إضافة إلي التلاعب بالزمن في الحكاية الواحدة. فما أن تبدأ الحكاية في فصل من الفصول، حتى نقرأ أخرها في الفصل التالي، وفي الفصل الثالث نعود للحكاية نفسها، ولكن من وسطها. أي أن الخمايسي يلاعب القارئ ويحاوره.

وهو الأمر الذي يمسك بالقارئ وجعله في شوق دائم لمعرفة إلي ما تنتهي الحكاية.

وفي الحركة (الرحلة)، وفي الصحراء تكتمل الدائرة، فنتعرف علي حقيقة العنوان الملغز في قول الراهب: [هذا هو الراهب "برسوم"، وراءه قصة مهولة ، أتت به إلي هذه الصحراء، منافي الرب.] ص 262. أي أنه يقول لنا أن منافي الرب هي المنافي التي يهرب إليها الإنسان (نفسه) من كبواته، ومن غدر الآخرين مستخدما اسم الرب، أو متعللا بأنه يهرب إلي الرب في تلك الصحراء بعيدا عن الآخرين. خاصة إذا ما استكملنا باقي حديث الراهب، حيث يقول [تعرف!؟ وراء كل راهب من هؤلاء قصة مهولة مليئة بالتعاسة ، وفي كل قصة امرأة، امرأة خائنة، أم خائنة، أخت خائنة، زوجة خائنة، حبيبة خائنة، المهم، امرأة ما تدفع الواحد منا لترك الحياة، وتسليم نفسه إلي هذا الموات، سكون الفيافي ووحشتها، ننفي إليها أنفسنا باسم الرب.] ص262.

وإلي جانب التركيز بطول الرواية حول الرؤية المتمثلة في رغبة "حجيزي" عدم الدفن، معتبرا أن الموت الفعلي هو عملية الدفن، لا مجرد خروج الروح [الأموات يموتون فعلا لما ندفنهم، لكن لو بقوا بيننا سيعيشون، ستكون لهم أدوار أخري في حياتنا.]ص143.

فكان "حجيزي" هو الشخصية المحورية التي (تخدم) عليها باقي الشخوص، تلك التي جاءت متوافقة في رغبتها مع تكوينها، فقد عمل "حجيزي" بالوراثة عن أبيه في أعمال التحنيط، أي الإبقاء علي الجثة، دون فنائها.

كما أن كثرة التقليب واستخراج أحشاء الحيوانات جعله يتقزز من أحشاء وأعضاء البشر، فلم يقرب امرأته "سريرة" طوال خمسين عاما قضاها معها، إلا ثلاث مرات. وهو ما يشعر القارئ بالصدق الفني وعدم الافتعال. 

كما جاءت – شخصية "حجيزي" - متوافقة مع البيئة الأقصرية القائمة علي الفراعين، ما بين الإبقاء عليهم بأجسادهم (التحنيط) وما بين التماثيل، التي امتد عملها إلي الحفيد "سليم" ، وكأن الزمن ممتد من الماضي إلي المستقبل. من الفراعين إلي كل من الجد والحفيد.

وأيضا جاءت الطباع التي جعلت من "حجيزي" شخصي "خشنة" لا تتعامل إلا بالشتيمة مع صديقة "سعدون" وردوده الجافة وتعليقاته الحادة، متفقة أولا مع عمره الباغ مائة عام، وما يكون عليه الإنسان في هذه السن، وأيضا مع طبيعة الصحراء الجافة الخشنة.

يضاف لذلك أيضا اختلاف الضمائر في الفصل الواحد. فحينا نري السرد يسير بضمير الغائب، ثم نري إحدي الشخوص تتكلم بلسانها، فيتخلي الراوي الخارجي عن دوره لـ "ثريا" زوجة "بكير" ابن "حجيزي" تغوص بنا فيما لا يعلمه الراوي [أحب العناق والضم في ليالي الشتاء، البرد يدفعني للالتصاق ب"بكير" و "بكير" يلتصق بي] ص96.

كما نري ضمير الغائب يتخلي "لصبحي" حتي يروي مالا يعرفه إلاه [كان عمري لم يتجاوز الخمسة عشر عاما لما عملت في محل المعلم "نظير تكلا".....]ص 216.  

الوصف والبيئة
لم يكن اختيار الصحراء كمسرح للأحداث في "منافي الرب اعتباطيا، فكما أن للبيئة دور أساسي في رؤية الكاتب ذاته، فإن لها دور أيضا في تكوين الشخصيات، مثلما رأينا في شخصية "حجيزي"، تلك التي عبر عنها "سعدون" في هجمة العاصفة الرملية التي كادت تودي بحياته، ولم يكن هناك من ملجأ سوي ناقته، وما يصف به الخمايسي قسوة الصحراء وجفافها، وهو ما انعكس علي طبائع البشر: [ كان المرعي بكرا، الرمال ملساء كالحرير، ليس عليها آثار لأقدام بشر، فقط آثار متناثرة لحية "الدفان" التي تنساب تحت الرمال، ولأقدام أرانب جبلية، وثعالب، وضبان، وآلاف من أشجار "العبل" الصغيرة، وأشجار شوكية أخري، تحب الأغنام أكلها]ص176.  

وإذا كانت الصحراء أيضا هي مكان الفطرة، الطبيعة علي بكارتها، لذا كانت مهد الأنبياء والرسل. وهو أيضا ما منح العديد من شخوص الرواية بعضا من ملامحهم. وهو ما نجده في بساطة الحكي وبراءة الفطرة لدي "سعدون" وزوجته "زليخة" في حكيه عن زيارتهما للطبيب الذي طلب منه عينة من منيه، تلك التي كشفت عن الهوة الكبيرة بين ناس الصحراء، وناس المدينة – مدينة أسيوط - .

وتتجلي ملامح المكان، كل مكان، أجلي ما تتجلي في وقائع الزواج ودفن الموتي. ولما كانت عملية دفن الموتي هي المرفوضة في عرف مكان "منافي الرب"، فلم ينس الخمايسي أن يحدد لنا معالم المكان في الأفراح. خاصة ما يدور بين البنات والنساء، وما له من سرية محببة. فعندما كانت "سريرة" تستعد للزواج من "حجيزي" قبل خمسين سنة من الآن، تعود وتتذكر:  [ "سريرة" شابة في العشرين من عمرها، في أوج جمالها، تقف في حوض ماء البئر الساخنة، والبنات حولها يقذفنها بالماء، يبللن ثيابها لتخلعها، وهي تداري وجهها من رذاذ الماء وتصرخ فيهن، بينما ضحكاتهن تصنع ضوضاء مبهجة، كان لابد أن تخلع ملابسها وتغتسل في هذا الماء الساخن، هذا سلو الأفراح في واحة "الوعرة"]ص273. 

العشق .. الحياة
عاش حجيزي يفكر في الموت والدفن. فلم يعرف للعشق طريقا، وللحياة ممشي. فلم يقرب "سريرة" سوي مرات ثلاث طوال خمسين عاما. بينما عاش العالم من حوله الحياة . كلهم عرف العشق.. عاش نعيمه . رفيقيه "سعدون" عشق "زليخة وعشقته، ولما أرادت إسعاده بالزواج من أخري "بثينة" ماتت "زليخة" ولم يذق "سعدون بدها طعما للحياة. وعشق حفيده "سليم" "سكيرة" وصنع لها تمثالا، كان إعلانا علي الملأ بالعشق والحياة. حتي "المعزي" الذي جاء ليقنعه بأن إكرام الإنسان في دفنه، جاء معه بمعشوقة أخبر "حجيزي" أن رسالته لم تكن لتصل لولا عشق المرأة.

بينما علي الجانب الآخر، وفي منافي الرب، عاش الرهبان محرومين من متع الحياة، من العشق.  [ ما هي حكاية المقدس "برسوم" يا مقدس؟

-       ما أعرف حرفا من حكايته، لكن وراءها امرأة.

-       لماذل المرأة دائما هي التي وراء مصائبكم؟!

-       لأنها هكذا منذ خلقها الرب، أخرجت وليفها من الجنة.

-       حواء أخرجت آدم من الجنة وأدخلته قلبها، لكن نساءنا الآن يخرجننا من عقولنا، يدخلننا جهنم، الإنسان منا لن يلقي بنفسه في منافي الرب البعيدة لو أحبته امرأة ]ص320.

فكان الخمايسي يدعو من خلال عمل تميز بالصنعة الحرفية العالية، ومن خلال أسلوب شف في الكثير منه وتباسط في الكثير، ومن خلال متعة القراءة التي لم يحدها سوي الاستسلام للحكي في بعض المواضع، وما لم تكن تؤثر علي العمل بكثير التأثير، يدعو للاستمتاع بالحياة، أن نعيش الحياة بشقيها المادي والروحي لننعم بها. وكان بذلك قد قدم رؤية غير مسبوقة لموضوع جد شائك،  في  مثل هذه الظروف الملتبسة، وما قد يجر عليه الكثير من المتاعب.

وإذا كنا قد رأينا أن روايتي "دموع الإبل"، و"خور الجمال" من قبل أنهما تمثلان الهروب الاحتجاجي. فنستطيع من قراءة مشهد ثورة يناير 2011، وقراءة الشاب أشرف الخمايسي وموقفه منها، نستطيع القول بأن "منافي الرب" تمثل "الهجوم الدفاعي" حيث تستدعي للذاكرة رائعة "تولستوي" الشهيرة "الحرب والسلام" تلك التي تناولت الحرب دون أن تتعرض لأي من وقائع الحرب.   

 

Em:shyehia@yahoo.com