يقدم الباحث المصري هنا تناولا لمختلف تجليات الأقنعة الدرامية في قصيدة الحداثة العربية، معرفا إياها ومتعرفا على الدوافع الفنية والعوامل الثقافية والسياسية والنفسية للجوء الشاعر لاستخدام الاقنعة، ثم يتتبع أنواعها من القناع التراثي، إلى الديني والصوفي وحتى القناع الأسطوري والشخصيات التراثية منها والدرامية.

القناع الدرامي في قصيدة الحداثة العربية

أحمد الصغير

·                    قصيدة القناع الدرامي
 نتيجة للأحداث السياسية في الوطن العربي في الخمسينيات والستينيات، انتشرت قصيدة القناع على يد شعراء كثيرين في وطننا العربي أمثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، ومحمود درويش، وصلاح عبد الصبور وأدونيس، وخليل حاوي... وغيرهم كثيرون،كتبوا هذه القصيدة التي يختفي فيها الشاعر وراء قناع فني سواء أكان هذا القناع ديني، تاريخي، صوفي أسطوري، أو أدبي " ومن ثم فإن القناع أحد الوسائط الأساسية التي يحاول بها الشاعر المعاصر/ الحداثي اقتناص الواقع وإدخاله في شبكة الرمز، لعله يسهم في تغيير الواقع بواسطة فنه النوعي، وبمجرد أن يخلق الشاعر قناعا فإنه يخلق رمزا، يقوم على أطراف تؤدي إلى معنى، وعليه فإنه قد يعود ظهور القناع بمعناه الفني في الشعر العربي المعاصر إلى الخمسينيات من القرن العشرين، وفي النقد إلى الستينيات على يدي عبد الوهاب البياتي. وهو مصطلح مسرحي أساساً، يعود استخدامه إلى زمن قديم جداً، استعان به الإنسان البدائي، ليعبّر من خلاله عن مظهر صلته بالآلهة والطبيعة في طقوسه الدينية. يتحد فيه الشاعر المعاصر بالشخصية التراثية -غالباً- ليضفي على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة، تبتعد به عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردى فيها أكثر الشعر العربي، ويسيطر على قصيدة القناع ضمير المتكلم -أنا- الذي يعود إلى الشخصية التراثية، على نحو يتوازن فيه صوتا الماضي والحاضر.‏وقد بدا القناع وسيلة فنية لجأ الشعراء إليها للتعبير عن تجارب، تتصل على الأغلب بالواقع السياسي، ولم يكن من السهولة التعبير عنها مباشرة، وقد قاد استخدام القناع إلى إغناء القصيدة العربية وتطويرها، ولكنه قاد في بعض الحالات إلى طولها وغموضها وتشعبها."ومن ثم فإن "القناع رمز يتخذه الشاعر العربي المعاصر، ليضفي على صوته نبرة موضوعية، شبه محايدة، تنأى به عن التدفق المباشر للذات، ولكن بما يشفُّ عن رؤية عالم محددة، وبما لايخفى المنظور الذي تحدد به هذه الرؤية موقف الشاعر من عصره. وغالبا ما يتمثل رمز القناع في شخصية من الشخصيات، تنطق القصيدة صوتها، وتقدمها تقديما متميزا يكشف عن عالم هذه الشخصية في مواقفها، أو هواجسها، أو تأملاتها، أو علاقاتها بغيرها فتسيطر هذه الشخصية على قصيدة القناع، وتتحدث بضمير المتكلم، إلى درجة يخيل إلينا ــ معها ــ أننا نستمع إلي صوت الشخصية، ولكننا ندرك،ـــ شيئا فشيئا ــــ أن الشخصية في القصيدة ــ ليست سوى قناع ينطق الشاعر من خلاله، فيتجاوب صوت الشخصية المباشر مع صوت الشاعر الضمني تجاوبا يصل بنا إلى معنى القناع في القصيدة"(1).

ومن ثم فإن القناع أصبح تقنية درامية جديدة في قصيدة الشعر الحديث، لأنها تمنح الشاعر فضاءات نصية أكثر اتساعا لطرح الرؤى الفنية التي يمتلكها، دون أن يكون ذلك بطريقة مباشرة، ومن أكثر الشعراء العرب الذين استخدموا القناع في نصوصهم الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، فيطرح البياتي مفهوما مختلفا للإيقاع فيقول: "إن القناع هو الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه، متجرداً من ذاتيته، أي أن الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاته، وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردى أكثر الشعر العربي فيها"(2)يبدو أن البياتي كان قد ضاق ذرعا بالغنائية في الشعر العربي، ويريد أن ينطلق إلي آفاق أخرى، وهي الانطلاق إلي الدرامية عن طريق القناع الدرامي في القصيدة، حيث أصبح للنص الشعري تقنيات جديدة اتكأ عليها الشعراء رغبة في مزج الأنواع الأدبية بعضها ببعض،كي تنصهر الرؤى المفككة، لتعبر عن الإنسانية الحقيقية.

·                    القناع التراثي في قصيدة الحداثة
كان التراثُ بأنواعه كلها قناعا فنيا مهما، وتقنية فنية جلية، ونبعاً صافياً، استقى منه شعراء الحداثة مادة لنصوصهم، مما أحدث جدلية بين الشعر الحديث والتراث، منذ قيام حركة الشعر الحديث فى الوطن العربى على يد روادها نازك الملائكة والسياب وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى، وكان استدعاء التراث يمثل تقنية فنية / قناعا فنيا فى القصيدة العربية الحديثة، وهو ما يعد مداً لجسور مستقرة بين الماضى الزاخر بعبقه، والحديث المتمم لجمال القديم، ومضيفاً إليه جزءاً من واقعه." فقد كان التراث - فى كل العصور - بالنسبة للشاعر هو الينبوع الدائم التفجر بأصل القيم وأنصعها وأبقاها، والأرض الصلبة التى يقف عليها ليبنى فوقها حاضره الشعرى الجديد على أرسخ القواعد وأوطدها والحصن المنيع الذى يلجأ إليه كلما عصفت به العواصف فيمنحه الأمن والسكينة"(3).

فعلاقة الشاعر الحديث بتراثه لم تنقطع لحظة واحدة، وهذا المنطق يتبدى لى فى أن شعراء العصر الحديث بعامة وشعراء الحداثة بخاصة كان التراثُ محطاً لأنظارهم؛ فهم يُقدِّمون نصوصهم الشعرية والتراث أمامهم، يقلِّبونه، ويحاورونه، ويحورونه ويندسون وراء أقنعته الفنية المتنوعة، كما أفادوا من مصادر التراث العربي والأوروبي كلها، دون أن تحكمهم المعايير، أو يحول بينهم وبين التراث حائل؛ فقد أفادوا من مصادره جميعها - كما سنرى. وقد تنوعت الأقنعة التراثية التى استرفدها شعراء الحداثة العربية ما بين النصوص الدينية (القرآن الكريم، العهد القديم والجديد، والأحاديث النبوية)، وأقنعة لشخصيات تراثية، أقنعة أسطورية، ومواقف تاريخية، وأقنعة نصية وأدبية " فقد تنوعت المعطيات والعناصر التى استمدوها من كل مصدر من هذه المصادر ما بين شخصيات وأحداث ونصوص وقوالب فنية، ومعجم شعرى ومعطيات بلاغية وموسيقية، وتنوعت أخيراً أساليب وتكنيكات وصور توظيف كل معطى من هذه المعطيات "(4).

التراث العربى كان بمثابة الكنز العظيم الذى نهل منه الشعراء وكسروا الحاجز المنيع بين القديم والحديث، وانصهر الجديد فى القديم، وأخذ الجديد روح القديم، وصار التراث معبرّاً أصدق تعبير عن آلام الأمة وقلقها، من خلال استقطاب هذه المواقف التراثية وإسقاطها على الآلام الحياتية والوجع القومى الممدد داخلنا، مرتدين أقنعتها كي لايقعوا حتي الابتزاز السياسي من ناحية، ولتطوير النص الشعري وانفتاح دلالاته علي العالم والتأويل اللانهائي من ناحية أخرى. "فالتراث الحى هو التراث المتجدد، القادر على فتح آفاق جديدة للحوار، ليس حول الماضى وحده بل حول الحاضر والمستقبل كذلك، هذا هو معنى تجدده – ومن ثم – فإن الأمة الحية هى التى تكون فى حالة حوار دائم مع تراثها القريب والبعيد تستكشف معدنه وتسبر أغواره "(5).

وكان هناك اتصالٌ قوىٌ بين الشاعر وتراثه؛ لأننا نحن أبناء هذا التراث ومالكيه، ولنا الحق فى التصرف فيه من حيث المحافظة عليه، وتطويره والإفادة منه، وما زال الشاعر فى هذا الوقت وفى الأوقات كلها السالفة والقادمة يبحث عن أقنعة تراثية قديمة من الحضارات الإنسانية المختلفة؛ وذلك لاستيعاب رؤيته الواسعة التي من بينها الدراماتيكية، والغنائية ، وهذا ما أشار إليه على عشرى زايد فى قوله " وقد اهتدى الشاعر العربى المعاصر إلى هذه الصورة من صور العلاقة بالتراث عبر بحثه الدائب عن أدوات ووسائل تعبيرية تتسع لاستيعاب أبعاد رؤيته المعاصرة بكل ما فيها من غنى وتشابك وتعقيد، ونستطيع أن ننقل هذه الرؤية إلى وجدان المتلقى بكل حرارتها وطزاجتها وصدقها وقد وقع الشاعر فى بحثه ذاك على منجم بكر غنى بالكنوز التى لا ينفد لها عطاء ألا وهو التراث؛ حيث وجد بين يديه تراثاً بالغ الغنى والتنوع متعدد المصادر والموارد ومن ثم، فقد عكف على كنوز هذا التراث يستمد من مصادره المتنوعة أدوات وعناصر ومعطيات يمسح عنها غبار القرون ويفجر فيها طاقات الإيحاء والتعبير المتجدد، وقد أدرك أن المعطيات التراثية تكسِب لوناً خاصاً من القداسة فى نفوس الأمة ونوعاً من اللصوق بوجداناتها لما للتراث من حضور حى ودائم فى وجدان الأمة،وبحيث أصبح التوظيف تكنيكاً أساسياً من تكنيكات بناء القصيدة العربية الحديثة"(6)

وقد أشار شكرى عياد إلى " أن الشاعر الحديث حين يورد سطراً من شاعر سابق بين ثنايا كلامه أو حين يستغل لغة الشاعر السابق وإيقاعه فى تضاعيف لغته فإنما يريد أن يحضر بأوجز عبارة مضمون القصيدة السابقة، أو روحها , أو يجرى حواراً بين الشاعر السابق أو يحاكيه"(7). فتوظيف الشاعر المعاصر للتراث بأنواعه كلها، يكون مجرد إيماءة، أو اشارة، تفى بالمطلوب، فهى تعمل على مزج القديم بالحديث , أو مزج التراث بالمعاصرة ، وإقامة الحوار الدرامي بينهما، وفي الوقت نفسه يرتدي الشاعر أقنعة الشخصيات القديمة حتى يحيلنا ــ نحن القراء ــ إلي تسجيل لحظات الصراع الدرامي بين عصرين مختلفين متباعدين في المساحة الزمنية والمكانية وطبيعة الحوار بينهما.

 وعن الأسباب الفنية وراء لجوء الشعراء إلي ارتداء أقنعة تراثية، يشير على عشرى زايد فى كتابه "استدعاء الشخصيات التراثية فى الشعر العربى المعاصر " إلى خمسة عوامل، هى:

1ــ عوامل فنية

 2 ــــــ عوامل ثقافية

3 ـــــ عوامل سياسية واجتماعية

4-عوامل قومية

5- عوامل نفسية "(8).

وفيما يبدو لى أن على عشرى زايد قد جمع العوامل والأسباب كلها التى تجعل الشاعر المعاصر يلجأ إلي استدعاء تراثه، والحنين إليه، وتقديمه فى الوقت الراهن بشكل مختلف، عما كان يقدم به قبل ذلك، ولكنه قد اقتصر على استدعاء الشخصية التراثية فقط؛ وهذا ما جعلنا نتناول أقنعة التراث بصورة موسعة. فإحساس الشاعر المعاصر بمدى غنى التراث وثرائهِ بالإمكانات الفنية، والمعطيات والنماذج التى تستطيع أن تمنح القصيدة المعاصرة طاقات تعبيرية لا حدود لها فيما لو وصلت أسبابها بها، ولقد أدرك الشاعر المعاصر أنه باستغلاله لهذه الإمكانات يكون قد وصل تجربته بمعين لا ينضب من القدرة على الإيحاء والتأثير، وذلك لأن المعطيات التراثية لها دور كبير فى تشكيل وجدانات الأمة العربية.

·                    القناع عند شعراء الحداثة:
 لم ينفصل شعراء الحداثة العربية عن التراث لحظة واحدة فقد لجأ الحداثيون إلي استخدام القناع في نصوصهم من أجل اتساع الرؤية الشعرية وتعميقها في نفس المتلقي،وعليه،فقد هيمن التراث على نصوصهم، فكان بمثابة الدماء الجديدة التى تجري فى عروق الشعر العربى، أو بمثابة القناع الفني الدرامي داخل النص الشعري الجديد، فقد انشغل شعراء الحداثة بالتراث، وتعاملوا معه من منطق المحاورة , والجدلية المستمرة؛ فقد عمد الحداثيون إلى خلخلة التراث من ناحية، وتقويمه، وتطويره من ناحية أخرى؛ فجاءت الخلخلة على سبيل المثال فى كسر المقدسة الصغيرة التفعيلة (الوزن)؛ فأطاحوا بالوزن، ونقلوا الشعر العربى من الوقوع فى الرومانسية إلى التعبير عن الهم القومى الإنسانى، وتوظيفه الحياتى / المعيشي، كما انشغلوا أيضاً بتقديم رؤاهم الحقيقية حول هذا التراث. ويتضح ذلك من خلال المقال الذى صدّر به شعراء جيل السبعينيات المصريين «الجيل الثاني للحداثة المصرية ـ بعد جيل الخمسينيات والستينيات لأنهما جيل واحد» (جماعة إضاءة 77) في العدد التاسـع من مجلتهم التي حملت نفس الاسم للجماعة (إضاءة 77) قائلين: "ونحن نقول إن وعينا بالتراث وطبيعته، هو لحظة خاصة من لحظات الممارسة والإبداع، وهذه الخصوصية هى التى تشكل الإدراك الصحى، وبما أن هذا التراث كائن حى فإنه أيضاً قابل للنفى والإثبات، وهذا هو مبرر التواصل الفعَّال معه - ومن ثم - فنحن نرى أن خروج القصيدة من حيز الذات إلى منطق الفعل الموضوعى لا يستوجب بالضرورة شكلاً جاهزاً وقوالب مسبقة لهذا الخروج؛ فالقصيدة الحقيقية نسق كلى يخلق شكله الخاص ووحدته الخاصة. فنحن لا نكتب القصيدة بإزاء فكرة محددة أو موضوع مسبق، ولكننا نرى أن القصيدة هى التى تكشف الموضوع والفكرة، ومنطقها الفنى هو الذى يحدد طبيعة ماهيته "(9).فالتراث عند شعراء الحداثة كائن حى قابل للنفى والإثبات من حيث وجوده داخل القصيدة؛ فالعبث بالتراث يكون بنفيه نفياً مطلقاً ولكن الإفادة منه تكون فى مدارسته واستدعائه، والعمل على تفجير قضاياه، وربطها بقضايا الواقع. أى أن التراث لا ينفصل عن الواقع فى الوقت الراهن، ولا ينفصل الواقع عن التراث؛ لأن شعراء الحداثة على الرغم من خروجهم على التراث فإنهم قد انغمسوا فى هذا التراث. والدليل على ذلك ما نجده فى دواوين الشعراء مثل محمد عفيفي مطر(أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت)، محمود درويش (لماذا تركت الحصان وحيدا؟)،أمل دنقل (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، حسن طلب، مثل (آية جيم، وسيرة البنفسج، وزمان الزبرجد)، ونصوص حلمى سالم مثل (سكندرياً يكون الألم، وحبيبتى مزروعة فى دماء الارض، وفقه اللذة، وسراب التريكو)، كما نجدها أيضاً عند رفعت سلاّم فى دواوينه (إشراقات، إنها تومئ لى، إلى النهار الماضى وغيرها ...إلخ). فالشاعر الحداثي معلَّق بهذا التراث، فهو جزء من تكوينه المعرفى والفنى والأيديولوجى والثقافى، وهذا ما أشار إليه إدوار الخراط بقوله: "إن شعراء الحداثة يصرون على تراثهم القديم والحديث معاً ويتجـهون إلى تجاوزه بعد أن تمثلوه وتكونوا به، بل إنهم قد أحيوا جوانب مهمة من هذا التراث وعرَّفوا به قراءهم"(10). فلم يعد النص الشعرى الحداثي منغلقاً على نفسهِ، بل إنه انفتح على التراث كله، لأن النص قد تعدى النصوص التراثية القديمة والحديثة،أو بمعنى آخر قد تفاعل النص مع النصوص التراثية الأخرى لذلك نرى فاعلية متبادلة بين النصوص، وتؤكد إديث كريزويل على هذه الفاعلية بقولها " إن كل نص يتضمن وفرة من نصوص مغايرة؛ فعدم انغلاق النص على نفسه وانفتاحه على غيره من النصوص، يتمثلها ويحولها بقدر ما يتحول ويتعدد بها على مستويات عدة "(11).

فالتفاعلات القارة فى النصوص الشعرية تعمل على إثراء هذه النصوص، وتعدد دلالاتها، مما يؤدى بطبيعة الحال إلى تعدد مستويات استقبالها.ونصوص شعراء الحداثة قد تشبعت بالتراث حتى فاض النهر، وبلغ مداه، فالهدف الحقيقى من وراء التفاعل مع التراث،هو إجراء اتصال مباشر أو غير مباشر بين القديم والحديث، بين الماضى البعيد والراهن المؤلم، " ولعل استعارة النص التراثى من أقدم صور علاقة الشاعر بموروثه؛ فقد عرف الشعر العربى منذ أقدم عصوره صوراً متعددة من تضمين الشعراء أشعارهم نصوصاً من أسلافهم، وإن كان الشعراء القدامى لم يحاولوا أن يوظفوا هذه النصوص توظيفاً فنياً لحمل دلالات غير دلالاتها التراثية. وقد يستخدم الشاعر المعاصر النص التراثى عندما يحس بنوع من الاتحاد الكامل بين رؤيته والمدلول التراثى لهذا النص "(12). إذن فظاهرة استدعاء التراث بوصفه قناعا فنيا لا تأتى اعتباطاً ولكنها تأتى من خلال الاتحاد فى الرؤية وفى الدلالة، كما أشار عز الدين إسماعيل إلى أن تجربة الشعر الحديث مخلصة كل الإخلاص للتراث، ولم تنفصل عنه ولم تنفهِ " فتجربة شعر الحداثة، إذاً، تخلص لروح التراث، وإنْ تمردت على أشكاله وقوالبه. والشعر المعاصر لم يطرح قضية التراث جانباً -كما توهم بعض الناس - بل هو أعمق وأصدق ارتباطاً بها، وكل من يتجاوز عن قضية الشكل ويتأمل هذا الشعر يلمس بوضوح كيف يعيش التراث فى ثناياه؟! كل ما فى الأمر أنه لا يعيش فيه شكلاً وقوالب كما كان الحال عند شعراء مدرسة الإحياء، ولا يعيش فيه نتيجة ترسيبات لا إرادية كما كان الحال عند شعراء المدرسة الابتداعية، بل يعيش فيه كياناً بنائياً مقصودا إليه قصداً وله أبعاده الفكرية والإنسانية "(13). إن الإصرار الشديد على التراث إنما هو نابع من التكوين الفكرى والشعرى والثقافى، لهؤلاء الشعراء (شعراء الحداثة العربية)؛ فقد صاغ كل منهم التراث على طريقته وبطريقته التى يتصورها؛ فهم معنيون بالتراث أكثر من غيرهم؛ انهم يمتزجون بالتراث امتزاجاً، حتى أنك تشم رائحة التراث وعبقه داخل نصوصهم الشعرية، التى كانت بمثابة نقلة حقيقة تقدمية للشعر العربى كله، بشـكل أكثر جدة وقوة وحيوية؛ " فالفهم الصحيح للتراث يعد أحد العوامل الأساسية التى تكشف عن مدى حرص الأديب على تحقيق معنى المعاصرة فى تراثه، كما أن التراث يمثل بالفعل أحد مصادر الإلهام الرئيسية التى لا يستطيع أن يفلت منها أديب – مهما قصد إلى ذلك - والقول بأن الشاعر المجدد هو الذى يقطع كل آصرة تربطه بتراثه السابق وبالتقاليد المستقرة للنوع الذى يمارسه إدعاء خطر وضار "(14).

ومما لا شك فيه أن القناع التراثي فى شعر الحداثة، ما هو إلا تفاعل مع النص الماضى،وارتباطه بالنص الحاضر ارتباطاً عميقاً أو كيميائياً، فنخرج من هذا التفاعل إلى أن هذا التراث،هو جزء من الواقـع بوضعه الماضى الذى كان سبباً فى وجود الحاضر، وهذا ما يؤكده طه وادى حين يقول: " والحقيقة فإن التراث، خلاصة الماضى، وروحه، اللتان تشكلان عنصر الاستمرار والوجود نتيجة لفعل التراث، والشاعر والأديب بصفة عامة"(15). ومن هذه النقطة السابقة التى أشار إليها طه وادى أن نقول " إن التراث هو المركز الرئيسى والحقيقى الصحيح الذى يجب على الشاعر والأديب أن ينطلق منه على مستويين، مستوى القراءة أولاً، والكتابة ثانياً.

ويقول عبد العزيز حمودة: " إن من شروط الحداثة، العودة للمادة التاريخية والأسطورية، مثل (أساطير أوديب وأزوريس، والسيرة الهلالية، والسيد البدوى،والتاريخ العربى والمصرى) بالإضافة إلى المادة التاريخية دائمة الإغراء وهى قصص ألف ليلة وليلة، لكن الهروب إلى التراث، ليس هروب الكاتب الحديث، أو الشاعر الحديث فى رفضه لعالم يقترب من الهاوية، لكنه هروب من سلطة الرقابة التى تلجئ الفنان إلى أبعاد مقولته السياسية فى الزمان والمكان ليقدم مادة تارخية موازية لرؤياه الحديثة "(16).  ويمكننا الرد على عبد العزيز حمودة فيما ذهب إليه من أن القناع التراثي كان له جانب سياسى فقط ولكن - فى حقيقة الأمر – أن القناع التراثي كانت له جوانب أخرى، " فنية، واجتماعية، وثقافية، ونفسية وسياسية " (17)، وإن كانت الناحية الفنية، والنفسية تسيطران على الشاعر أثناء ارتدائه لأقنعة تراثية متنوعة؛ فتوظيف التراث فى شعر الحداثة، كان توظيفاً رمزياً لحمل الأبعاد المعاصرة للرؤية الشعرية بحيث يسقط على معطيات التراث معاناته تجاه الواقع فتصبح هذه المعطيات معطيات تراثية معاصرة، تعبر عن أشد هموم الشاعر المعاصر خصوصية ومعاصرة فى الوقت الذى تحمل فيه كل عراقة التراث وكل أصالته. وبهذا تغدو عناصر التراث خيوطاً أصيلة من نسيج الرؤية الشعرية المعاصرة، وليست شيئاً مقحماً عليها أو مفروضاً عليها من الخارج، بل علاقة تبادل العطاء، وهو أن يأخذ الشاعر من تراثه، ويعطيه ويسترفده (18). فإذا كان الشاعر الحداثي يرتدي قناع تراثه؛ لخلق علاقات بين نصه، والنص التراثى، فإنه يعمل على إثراء هذا التراث بما يكشفه فيه من دلالات إيحائية، وبما يفجر من طاقات تعبيرية متغايرة ومتحولة، يضاء الواقع من خلالها.

وانشغل الشعراء الحداثيون بتقديم التكنيك الفنى والجمالى للنص الشعرى، كما كان همهم الأكبر أيضاً هو قيامهم بتفجير طاقات فنية ذات دلالات عدة، وهذا ما يؤكده إحسان عباس فى قوله: " ففى موقف الشاعر المعاصر من التراث تتضح معالم الثورة، ومن ثم الحداثة، بأكثر مما تتضح فى موقفه من الزمن أو من المدنية؛ وإن كان المفهوم المطلق للحداثة يفترض أن ترتبط المواقف الثلاثة معاً متكاملة. وقد كانت الثورة التى قام بها الشاعر المعاصر – على الشكل الشعرى – أول الأمر خطوة تمهيدية لم تغير كثيراً فى طبيعة الشعر، وإن غيرت فى بعض موضوعاته، فلما أخذ الشاعر يتساءل عن مدى ارتباطه بالتراث، ومن ثم بالماضى وبالتاريخ، أصبح على أبواب ثورة جديدة تشكك فى مدى أهمية ما حققته الثورة على الشكل، ومن الواضح أيضاً - وهذا من البديهيات - أن للماضى حضوراً حتمياً لا تستطيع أية ثورة أن تنفيه لأنه أرسـخ من (الأهرام) وأكثر سموقاً واستعصاء على الهدم "(19).

ويعد الخطاب الحداثي من أعقد الخطابات الشعرية العربية، من حيث تعدد دلالات النصوص وانفتاحها واختراقها حواجز اللغة، وسيطرتها غير المحكومة بالتقاليد والأسس، واستلابها للواقع المأزوم ومزجه بالواقع الفائت الأشد تأزماً، ومحاولة اللحاق بالآخر المتقدم فنياً وثقافياً وأدبياً - ومن ثم - فقد كانت العودة إلى التراث، وإعادة بلورة عناصر التقدم، وصياغة الواقع الجديد، كل ذلك لا يتحقق إلا بالنظرة الصحيحة والرؤية الثاقبة تجاه تراثنا العربى المشرق، حيث تكمن أهمية تجربة شعراء الحداثة فى " إعادة الوهج الجمالى والفنى للموروث العربى وللثقافة العربية، حيث تم توظيف الموروث العربى فى سياق النصوص الحداثية من خلال " التناص " حيث اختلفت لديهم النظرة الشعرية الحداثية للموروث عن النظرة السائدة فى معظم النصوص الشعرية فى الخمسينيات والستينيات التى ارتكزت على استلهام الأساطير الرومانية والإغريقية، والعناصر المسيحية دون التفات جوهرى حقيقى إلى العناصر العربية الإسلامية الموروثة "(20).

·                    القناع الديني / اللفظ بوصفه قناعا:
أشرنا فيما سبق إلى أنه قد تعددت أقنعة اسـتلهام التـراث، وأولى هذه المصادر القرآن الكريم. فقد انشغل شعراء الحداثة العربية بلغة القرآن الكريم، وبقصصه ومواقفه العظيمة " وبما أن القرآن الكريم مكون أساسى من مكونات الثقافة الإسلامية، ورافد ثرى من روافد الفكر الإنسانى والوجدانى ولا يستطيع مبدع أن يفلت من تأثيره بل إن اللفظة القرآنية تدل على نفسها بوضوح حيثما توجد "(21).

من الملاحظ أن شعراء الحداثة قد جعلوا من اللغة هماً درامتيكيا، وصراعا قومياً، وقناعا فنيا ملغزا في حقيقة الأمر، فقد اتكأت نصوص الحداثة على مفردات عدة كان لها مدلول واسع فى القرآن الكريم وأضفت اتساعاً فى النص الشعرى الحداثي. فعلى سبيل المثال، نجد الشاعر حسن طلب مهووساً بالألفاظ القرآنية، فلا يخلو ديوان من دواوينه إلا ونجد الألفاظ القرآنية ظاهرة جلية فى النص الشعرى؛ يقول:
" قل جاء الحق وقل زهق الشك

وتوطد عرش البوم

غنوا يا سادة مصر أو ابكوا

فأنا المنتصر المهزوم

لومونى إن شط بى الإفك

من غيركم سيلوم "(22).

 فالشاعر يستخدم، هنا، الصياغة القرآنية فى قوله: " قل جاء الحق، وقل زهق الشك " فهو يستدعى الآية القرآنية الشهيرة " قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا "(23). وتتجلى المفردة القرآنية (الإفك) وهى صفة للمذنبين؛ فالشاعر يخرج هذه المفردات من دلالاتها القرآنية إلى دلالات واقعية أكثر اتساعاً، معتمدا علي الصراع النفسي الدرامي داخل القصيدة، وكأنه يرتدي أقنعة اللفظ القرآني كي يمنحه مساحة أكثر اتساعا في الدلالة والتأويل الفني، ونجد اللفظة القرآنية متحققة بصورة مباشرة فى قوله

" زملونى زملونى يا خاصتى الأقربين

واخشعوا مليا مليا فى حضرة البنفسج اللعين

ثم اتركونى كى أواجه الأنة بالأنة " (24).

 من الملاحظ أن استدعاء مفردة (زملونى) يشي بامتصاص الشاعر حسن طلب لقصة نزول الوحى على النبى محمد " صلى الله عليه وسلم "، وقد استخدمها الشاعر مرتين، وعمل على إخراجها من دلالاتها الدينية إلي الرمزية الدرامية التي تختفي وراء القناع اللفظي (زملوني) ومن ثم ليقوم الشاعر / المتلقي بإسقاطها على الواقع ومعاناته؛ فقد وظف الآية القرآنية فى سورة المزمل فى قوله تعالى " يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً "(25). فاستدعاء النص القرآنى، أو بعض مفرداته، قد تضفى على النص الشعرى عمقاً دلاليا وتكنيكا فنيا من خلال الأقنعة الدينية المتنوعة، كما تمنح النص قوة كونية مخاتلة، وبعـداً فى الدلالة وربط الماضى بالحاضر،كما نلاحظ استخدام المفردات القرآنية فى نصوص رفعت سلاّم:

" فلم تمنحنى غير قبضة من هواء سويتها

ونفخت فيها من روحى فصارت حماراً

ركبته إلى القصر الجمهورى الملكى القبلى

الأسرى تَحفٌ بى كوكبتى صفاً واحداً مذعوراً

فى خطوات رشيقة على الأبواب "(26).

 فاستخدام الفعل الماضى (نفخت) يـحيلنا بصورة مباشـرة إلى الآية القرآنية فى سورة الحجر فى قوله تعالى " فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فخروا له ساجدين " (27).تتجلى لنا لغة القرآن الكريم المتجسدة في (نفخت) ذلك الفعل الدال على الحركة الدرامية والصراع بين الوهم والحقيقة،كما نلاحظ قصة الخلق في القرآن الكريم،وكيف خلق الله النبي عيسى عليه السلام في النص الشعرى من خلال استدعاء الفعلين الماضيين (نفخت، سويته) فهذان الفعلان مسيطران على متن النص الشعرى، وهما اللذان يمدان النص بمعطياته التراثية، ويوجهان الخطاب إلى دلالاته المتعددة، وعلى الرغم من الحيلة الفنية فى الرجوع إلى النص القرآنى واستنطاقه، يحاول الشاعر أن يمزج الماضى بالحاضر، وأن يسقط معطيات النص القرآنى على آلامه وأوجاعه أيضاً. وقد اهتم الشاعر حلمى سالم بتوظيف المفردات القرآنية، والقصص القرآنية فى النص الشعرى، وغزل فضاءً شعرياً من خلال استدعاء هذه المفردات القرآنية واستخدام مفردات الواقع أيضاً فيقول:

حينما قلت للفتاة فى حيرتها

ليس لدى وقت لتصحيح أخطائك الفنية

ومع ذلك هزمتك الطفلة عندما قالت لك فى المطابع؛ خذ هيئة فرحان

يُخيل لى أنها لن تطيق جملتى: " ويل للمطففين "

لكننى أظن أنها سترتاح إلى اقتراحى

نشترى كمية كبيرة من البالونات " (28).

 وقد تصبح المفردة القرآنية أو الآية القرآنية التى يستدعيها الشاعر فى نصه الشعرى هى عتبة من عتبات النص، أو مفتاحاً يمكن أن يتحقق لنا من خلاله الولوج فى النص الشعرى؛ فالآية الأولى من سورة المطففين هى محور هذا المقطع الشعرى، إن لم تكن محور القصيدة كلها؛ فالشاعر يوظفها معتمداً على الموقف الشعرى ذاته، راغباً فى استمرارية النص المفتوح على الآخر من النصوص التى تكون تحت مظلة اللغة، فاللغة التى يستخدمها الشاعر لبناء نصه لا تتعارض مع لفظة القرآن إلا فى شيء واحد، وهو أن لغة القرآن لغة عليا مقدسة؛ وبالتالى فالشاعر معنى بإقامة علاقة وثيقة بين النص الحالة الذى يكتبه، والنص المقدس، إذن فالشاعر يستدعى الآية القرآنية ليضفى عليها دلالات أخرى تومئ إلى الواقع الذى تحياه الذات.

·                    القناع الديني القصصي:
 لقد كان القرآن الكريم، وما زال، مكوناً مهماً، وعاملاً ثرياً عمل على إثراء نصوص شعراء الحداثة. ومن مستويات التناص القرآنى وأنماط الاقتباس: التحريف، أو التفكيك، وهو استدعاء القصص القرآنى وفك سياقها وتركيبها، وتوزيعه وامتصاصه، وانصهاره داخل الخطاب الشعرى وهذا ما تحقق فى نصوص حسن طلب؛ نجده يتكيء علي اللجوء إلي قناعات قصصية قرآنية، مثل قصة سيدنا موسى (عليه السلام) مع سيدنا الخضر (عليه السلام) من خلال الخطاب القرآنى فى سورة الكهف فيقول:

" فتعجبتُ وصحتُ:

أمجنونون أولئك أم حمقى؟!

فابتسم وقال:

ألم أصحبك على أن تصمتَ؟

قلتُ نسيتُ

وما أنسانيه سوى الغيظ. فرفقا

وتبادلنا الرد

وجددنا العهد... مضينا....

فقطعنا من عمق عمقا

حتى لما أن كنا فى وادٍ ذى شجرٍ

ونخيل منتشر... إلخ"(29).

ويقول فى مقطع آخر:

" وزجرنا الدابة نحو الشرق وسرنا حتى حين عبرنا مجمع ما بين الجبلين

وصرنا فى برزخ ما بين البحرين

انحسر بياض الماء

عن السمك الميت والأشلاء وعن أفئدة الشهداء

وكل بقايا الأسلحة

وأنصاف الأعضاء"(30).

ويقول أيضاً:

فقال: سأنبئك بتأويل الرمز:

فأما الوسَّامون

فمصريون أماميون

وأما الموسومون

فمصريون ورائيون

فقلت: وماذا عن هذا الجبل الخجل؟

فقال: أسيرٌ ينشد من رقٍ عتقا

فتعجبتُ وقلتُ:

فماذا سيكون إذن من شأن الرجل الوجل؟

فقال: سيرقى

وسيحلم فى حضرة محبوبته

يتهيأ أن تلقاه

ويلقى (31).

 فقد امتص حسن طلب الخطاب القصصى القرآنى من خلال (حوار سيدنا الخضر مع سيدنا موسى عليهما السلام) فى المقطع الأول فقط، وما بعده فيه حوار موسى - عليه السلام – مع فتاه،أو هو – فى الحقيقة –يمزج بين الحوارين.وقد ذكر الله تعالى هذا الحوار الذى امتصه الشاعر فى سورة الكهف فى قوله تعالى: " قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله فى البحر عجبا " وفى قوله تعالى: " قال هذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا "(32).

فقد تحقق توظيف النص الدينى من خلال آليات الاستدعاء، وهو استدعاء القصص القرآنى أو الإشارة إليها وذلك من خلال التوازى والتقارب بين المفردات التى بُنى منها النص القرآنى أولاً، ثم النص الشعرى ثانياً. ويومئ النص الشعرى لدى رفعت سلاّم عن مدى التأثر بالقرآن الكريم؛ فقد وظف الآيات القرآنية فى نصه من خلال نبوءتهِ، وقراءاته المستمرة للواقع فيقول:

فأجيئكم رصاصة أو خيانة أو فضيحة

أسمى الأشياء بأسمائها الأولى

وأمشى فى الأرض مرحاً

أبعثر اللعنات كالصدقات

على الكل وعلى نفسى بالعدل

والقسطاس وهذا أضعف الإيمان أن تصفونى بالعدمية

والسودواوية أنّى شئتم فلا تهتز شعرة منى

فقد خلعت عنى الأسماء والصفات لأصبح ممنوعاً من الوصف والتشبيه

لأمضى فى اتجاه البحر رأسياً بلا استئذان دون أن تجف بحار القول ولكن

لمن أتكلم اليوم هذا فراقى معكم وسأنبئكم فى القصيدة القادمة بتأويل ما لم

تستطيعوا عليه صبراً فصبراً " (33).

 فقد تجلى القناع التراثي من خلال الاستدعاء القرآنى، لنصائح النبى لقمان التى وجهها إلى ابنه،ولكن رفعت سلام، عقد معارضة بين النص الشعرى تجاه النص القرآنى، فهو يقوم بأفعال ينهى عنها القرآن الكريم.ففى وقوفه عند قوله تعالى: " ولا تصعر خدك للناس ولا تمش فى الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور " (34). يتعمد إسقاط أداة النهى فتحول النهى عن شيئ قبيح إلى الإصرار على هذا الشيء عند الشاعر فى قوله (وأمشى فى الأرض مرحاً).

وفى المقطع نفسه، نلاحظ استلهام الشاعر للحوار القرآنى بين الخضر وسيدنا موسى (عليهما السلام) فيما ستنبئ به القصيدة القادمة من تأويل يوازى إنباء الخضر لموسى النبى بتأويل ما لم يستطيع صبراً عليه "(35). فالشاعر رفعت سلام يمتص الخطاب القرآنى، بمجالاته الدلالية، ليقوم بإسقاط هذه الآيات على واقعه، ومن خلال نصه الشعرى فهو يربط السابق باللاحق، مستخدماً دور الشاعر النبى الذى يقوم بعملية التنبؤ؛ فهو ينشغل بقراءة العالم من خلال النص الشعرى، متخذاً من النص القرآنى مرجعاً تراثياً له دلالاته وأبعاده المختلفة. فهناك علاقة بين الخضر والأنا الشاعرة؛ فهو يقوم بعملية استبدال الشخصيات مع توافق فى الرؤية والخطاب. يقول الله تعالى فى سورة الكهف: " وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله فى البحر سربا.... إلى قوله تعالى " قال هذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " (36). فنلاحظ مدى التأثر الذى وقع فيه الشاعر أسيراً عاشقاً للنص القرآنى الكريم، فهو النص الفوقى (الأعلى) الذى يعزز به الشاعر نصه السفلى (الشعرى) الإنسانى. وبما أن النص القرآنى – نص إلهى – لا ينطق به بشر ولا يصدر عن إنسان، فقد استمد النص الشعرى قوته وطلاوته بامتزاجه بالنص القرآنى. فقد كان الجنوح إلى القرآن الكريم وتوظيفه داخل النص الشعرى السبعينى، إضافة إلى قوة الخطاب الشعرى السبعينى، على الرغم من تجاوزاته ومغالاة شعرائه فى التجريب والرغبة فى كشف المسكوت عنه والبوح به. وقد نجد الشاعر حلمى سالم يوظف النص القرآنى من سـورة العلق فى قوله تعالى: " اقرأ باسم ربك الذى خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3)الذى علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)" (37).، فنجد الشـاعر حلمى سالم يستلهم المعنى القرآنى وقصة نزول الوحى على النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى قوله:

قال لى

اقرأ، قلت ما أنا بقارئ

قال: اقرأ كتابك الذى كتبت

قلت ما كتبت ، قال: فاكتب: (38).

قد استلهم الشاعر قناع الآيات القرآنية، وقصة نزول الوحى على النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى هذا المقطع الشعرى من ديوانه الأبيض المتوسط. ومن الجلي أن الشاعر حلمي سالم يرتدي قناع النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق التناص واستلهام الحادثة الأولى لنزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم.

·                    القناع النبوي:
 ومن الظواهر اللافتة فى الخطاب الشعرى الحداثي استدعاء الحديث النبوى الشريف بوصفه جزءاً من التراث؛ فانشغل الشاعر بهذه الأحاديث، وعمل على استدعائها بوصفها أساساً راسخاً فى العقيدة الإسلامية. ونجد الشاعر رفعت سلاّم أكثر شعراء الحداثة، وفاءً للموروث وتعلقاً به؛ وهذا ما يؤكده محمد عبد المطلب بقوله " إن رفعت سلاّم من أكثر شعراء جيله وفاءً للموروث القديم فى مستواه الإنسانى،ومن أكثرهم إفادة منه، حتى ولو كانت الإفادة على الضدية والرفض"(39). فرفعت سلاّم يستلهم الحديث النبوى فى عدة مواقف أو حالات فيقول مثلاً:

فيسرقنى النعاس والنسيان

على سلم المساء أسيراً كسيراً

فانام أنام ساءت سيرتى وفسدت

سمعتى وما بلغت ما لاعين من قبل رأت

أو أذن سمعت أو خطر على قلب بشر فلا تسألونى

إن رأيتمونى مرحاً دون مناسبة أمضى متوهجاً بالغموض الغريب (40)

والشاعر – فى ذلك – يستحضر الخطاب النبوى فى قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه " قال أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "(41). فمسلك الذات – التى قادها إلى سوء السيرة وفساد السمعة – يتبعه بالضرورة، عدم الوصول إلى عتبة الإشراق العلوى، فى عالم بعيد عن الإدراك البشرى " (42).

وقد تم استدعاء نصوص الحديث النبوى فى ديوان (إشراقات) خمس مرات، وبهذا فقد انفتح النص الشعرى لرفعت سلاّم على التراث بكل مصادره ومقوماته وفنياته، مما أدى إلى العلاقة القوية بين النص الشعرى وأنماط التراث المختلفة. وأصبح الشاعر مرتديا أقنعة تراثية متعددة داخل نصوصه الشعرية.

وقد تبدى لنا أيضا القناع النبوي الدرامي لدى الشاعر حلمى سالم فى قصيدته (ش – عين – راء) من خلال الاقتباس الذى يصل إلى درجة كبيرة من درجات التنصيص - فى بعض الأحيان - من القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف؛ فقد مزج هذه الخطابات المقدسة التى صدرت عن النبى محمد صلى الله عليه وسلم وقصة نزول الأمين جبريل عليه السلام وقصة ذهابه إلى السيدة خديجة زوجته وهو خائف يرتعد من شدة الخوف وظف حلمى سالم هذا الحديث الذى كان بمثابة النور الذى نزل إلى الأرض وهذا التحول الإلهى ليخرج الناس من الظلمات والكفر إلى بر الإيمان والأمان بمجئ الدين الإسلامى الحنيف، فى قوله:

" خائف وفرحان،

وطالع كالشجرة الخضراء، هذا هس فى

هسَّة طرية، أنا اضطربت، قال لى الرجل الجميل:

اقرأ: قلت ما أنا بقارئ

قال لى: اقرأ كتابك الذى كتبت

قلت ما كتبت قال: فاكتب:

دثرينى، دثرينى

ورطبى لى جبينى

النار فى عيونى

والريح فى يقينى " (43).

 ينسج الشاعرحلمي سالم ملحمة درامية قصيرة إن جاز القول، في استلهام قصة نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكأننا أمام أحداث قريبة منا مفعمة بالدراما والصراع والحركة والتفكير الدرامي الذي يغلب على الطابع المتشابك في النص الشعري من خلال اللعب بالضمائر في النص الشعري، مبينا فكرة الصراع، والحركة الدرامية بين قال، وقلت، ودثريني... إلخ. ويتجلى في هذا الحوار الذى دار بين النبى محمد صلى الله عليه وسلم والأمين جبريل فى غار حراء، حيث فاجأه الملك فيه فقال: اقرأ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقلت ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال: " اقرأ باسم ربك الذى خلق " – حتى بلغ – "وما لم يعلم " (44).ليصور لحظة الإبداع الشعري، قارناً الشاعر بالنبي؛ فالرسول له رسالة سماوية عليا والشاعر له رسالته الإنسانية الدنيا والتى قد تركز فى ذهنه أنه خُلِقَ من أجل هذه الرسالة " ولذلك فقد طاب للشعراء أن يشبهوا فترة المعاناة التى يعيشها الشاعر قبل ميلاد قصيدة من قصائده، بفترة الغيبوبة التى كانت تنتاب الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الوحى "(45).. وقد يشير المقطع السابق إلى تلك المعاناة التى يعانيها كل من الشاعر والنبى، وقد كشف الاستدعاء عن خوف النبى صلى الله عليه وسلم وهلعه فقد فوجئ بالأمين جبريل كما فوجئ الشاعر بالإلهام الشعرى.

·                    قناع الكتاب المقدس:
 أسهم الخطاب التوارتى والإنجيلى في بناء كثير من الخطابات الشعرية الحداثية ، على المستويين المضمونى واللغوى، بوصفه نصاً متعالياً يملك خاصية الانتشار، فقد يندفع المبدع، أو يستلهم التراث المقدس (التوارة، الإنجيل) لكى يحقق رغبته النفسية والجمالية والسياسة والاجتماعية فالمبدع " وهو يتحرك فى مملكة الخطابات الأخرى، يقوم بعملية تأويل أولية لاختياراته من هذه المملكة منطلقاً فى اختياره وتأويله على السواء، من موقعه وموقفه الفكريين."(46).

 ومن أشكال القناع التوارتى والإنجيلي لدى شعراء الحداثة، استدعاء بعض كلمات المسيح، وبعض تعبيرات نشيد الإنشاد، ويمثل نشيد الإنشاد لسيدنا سليمان كما ورد في التوارة بعد تناصياً مهماً، فإن هذا النشيد له صيغته الفنية والجمالية المثلى، وله أبعاده البشرية لا السماوية، حيث إنه يتحدث عن علاقة ما بين محبين، وعن الصراعات التى يجب التغلب عليها، وعما أيقظه الحب من أحاسيس رقيقة وعن السعادة التى يجدها كل حبيب في لقائه بالآخر.

 ويمكن أن نكتفى بإيراد بعض النماذج التى استلهم منها الشاعر الحداثي مجاله التناصى مع ماورد في التوراة والإنجيل. يقول الشاعر رفعت سلاّم في نص بعنوان (وردة الفوضى الجميلة):

"أنا لحبيبي

مدينة مفتوحة

يدخلني متى يشاء

أنا لحبيبي

ربابة مجروحة

يلمني متى يشاء

أنا لحبيبي

وفي ليالي الصيف.. تبكى " (47).

وهذا المقطع السابق يستدعى قول سليمان - عليه السلام - في نشيد الإنشاد على لسان المحبوبة: " حبيبى صُرةْ مرّلى، هاجع بين نهدى. حبيبى لي عنقود حسناء فى كروم عين جَدْى"(48).

فقد انشغل رفعت سلاّم بجماليات هذا النص المقدس، فراح يحاوره، ويحوره فى الوقت نفسه، لينتج عن عملية الامتصاص، نصه الخاص بجمالياته الخاصة.

ويقول حسن طلب فى قصيدة بعنوان " ضد البنفسج ":

" ألا يا أصحابى ويا أخدانَ ذاتي، ياخلصائى وشيعتى

فى الضراء وحين العشق، يا أيها الفارع البصير

بالنا سوت والمطلِّع على الأفئدة، ويا أيها الطائر الأكاديمي............

......... قابلوني عند مفترق الحزن وهيئوا لي متكئاً جنائزياً ،

حتى إن هيأتم وانضبطت هيئتكم فانظروا ملياً فى عينىَّ

الأيِّمتين، تروا بنفسجتي الحلوة تسقط، وترفع راية الحطةِ

والهوان، حتى إن نظرتم وانضبطت نظرتكم فاسمعونى،

وأنا أسِمُ البنفسجَ بِميسَمِ العارِ والشّنار"(49).

 يحاكي الشاعر حسن طلب أسلوب الإنجيل فى طريقة النداء، وفى توجه الخطاب إلى الجماعة، وقـد استخـدم الشاعــر حسن طلب بعض المفردات الشائعة فى هذا الكتاب، مثل " خلصائى، وشيعتى، والناسوت . إلخ؛ففي هذه المحاكاة ما يرد النص الراهن إلى النص السابق، ويجعل الأسلوب قوياً مخترقاً لحدود الزمن، وليكشف عن جماليات النص الماضى وما ينطوى عليه من تغيرات ودلالات، بل يخرج هذه الدلالات من سياقها الإنجيلي إلى سياقها الشعرى،وهذا ماحققه حسن طلب. ففى تصورى أن الشاعر الحداثي قد حقق إنتاجاً شعرياً على مستويين أساسيين أولهما: اللغة، ثانيهما: المضمون الدلالى، الذى تحدى به الشاعر العالم الزمانى والمكانى.

·                    القناع الأسطوري في شعرية الحداثة:
 من الأقنعة التراثية التى اتكأ عليها شعراء الحداثة لتكون مادة لنصوصهم الأساطير؛ فالأسطورة كانت بمثابة المرجع الذى يتكئ عليه الشاعر، ويجعل منه قناعاً يتخفى وراءه لكى يشير إلى ما يقصده، وذلك لأسباب عدة، فنية، وسياسية، واجتماعية . الخ.

·                    مفهوم الأسطورة:
 ذكر ميرسياد إلياد " أن من الصعب إيجاد تعريف للأسطورة يقبله جميع العلماء والباحثين، ويكون فى الوقت ذاته فى متناول المتخصصين؛ فالأسطورة واقعة ثقافية شديدة التعقيد، يمكن مباشرتها وتفسيرها من منظورات متعددة يكمل بعضها بعضاً"(50).

 والأسطورة فى نظر تليارد هى " موهبة أى جماعة بشرية كبيرة كانت أو صغيرة ـ وقدرتها على أن تحكى قصصاً معينة عن أحداث أو أماكن أو أشخاص معينين، خياليين كانوا أم حقيقين،وتكون حكاية هذه القصص بشكل لاواع غالباً؛ ويكون لها مغزى رائع"(51).

 ويذكر " مالينوفسكى " أن الأسطورة فى حقيقتها ليست تعبيراَ تافهاً؛ ولاتدفقاً عشوائياً لخيالات عقيمة ولكنها قوى ثقافية هامة تشكلت بصورة محكمة"(52).

 وقد ذكر أنس داود " أن الأساطير، هى مجموعة من الحكايات الطريفة المتوارثة منذ أقدم العهود الإنسانية الحافلة بضروب من الخوارق والمعجزات التى يختلط فيها الخيال بالواقع، ويمتزج عالم الظواهر بما فيه من إنسان وحيوان، ونبات؛ ومظاهر طبيعية بعالم ما فوق الطبيعة"(53). ونحن ـ هنا ـ لسنا بصدد التنظير الجامع للأسطورة، ولكننا بصدد التطبيق ودراسة الأساطير، بوصفها قناعًا فنيًا قارًّا فى تجربة شعراء الحداثة. فقد اشتعل الخطاب الشعرى الحداثي خيالاً، مفعما بأقنعة أسطورية مختنوعة لحضارات مختلفة، وأكاد أزعم أن معظم شعراء الحداثة العربية،قد نهلوا من هذا المنبع الخصب. وقد تجلت الأسطورة بأنواعها المختلفة، وأشكالها وأنماطها فى نصوص الشاعر الحداثي لأن " نظرة الشاعر المعاصر للأساطير من وجهتها الفنية توسع دائرة رؤيته للتراث الإنسانى، فيضع التاريخ وأحداثه والكتب المقدسة، والحكايات الشعبية المتوارثة، يضع كل ذلك مصادر لإلهامه، حيث يسوى الشاعر المعاصر بين هذه المصادر جميعاً، مبتعداً عن قيود الحقيقة التاريخية والقداسة الدينية، إلى رحابة التشكيل الخيالى المبدع غير مرتبط إلا بفنهِ"(54).

 وقد افتتن شعراء الحداثة بأقنعة الأسطورة، وفطنوا إلى مدى أهميتها فى النص الشعرى؛ وذلك لإقامة بناء شعرى أسطورى يكون محكه الوحيد معالجة قضايا الواقع من خلال الرمز الأسطورى؛ " فيعد استغلال الأسطورة فى الشعر العربى الحديث من أجرأ المواقف الثورية فيه وأبعدها آثاراً حتى اليوم؛ لأن ذلك استعادة للرموز الوثنية، واستخدامها فى التعبير عن أوضاع الإنسان العربى فى هذا العصر؛ وهكذا ارتفعت الأسطورة إلى أعلى مقام، حتى إن التاريخ قد حُوِلَ إلى لون من الأسطورة لتتم للأسطورة سيطرتها الكاملة "(55). وقد اتخذ شعراء الحداثة الأسطورة قناعا فنيا دراميا وحدثاً مهماً يمكن التعبير من خلاله عن آلام الإنسان العربى فى هذا العصر وأوجاعه بل أصبحت الأسطورة نوعاً من الإسقاط المباشر تجاه الواقع بطريقة غير مباشرة. " والميل إلى الإسطورة والرمز والإشارات التاريخية والتراث الشعبى يشكل ملمحاً موضوعياً فى ظاهره، ولكنه شكلى فى جانبه الآخر. فالالتزام به يستدعى قدراً من الحرية وطول النفس لا يتيحها الشكل القديم " (56).

 إن الرؤية المعاصرة للأسطورة بوصفها النافذة الأساسية التى يطلُ من خلالها الشاعر على واقعه، مجسداً هذا الواقع من خلال رؤيته هو، جعلت نصّ الشاعر السبعينى أسطورةً متسعةً، تحوى قضايا الواقع اليومي الذى يعانيه الشاعر.

 إن الأسطورة تجعل المتلقى فى حاجة دائمة إلى التحليق فى أفق النص الشعرى على حد قول محمد عبد المطلب "حتى يمكن أن يقع على المردود الغائب، وإن ظل رجوعه على التخمين " (57).ويستخدم الشاعر الحداثي الأسطورة، لكى يعمل على إثراء نصه الشعرى " وإن استحياء الشاعر جو الأسطورة عنصر يثرى به فكره الأدبي، وإن أساطير الإنسان الأول معين لا ينضب للوحى الفنى إذ ما تزال قادرة على أن تخصب أي فكر يستعين بها"(58).

 وقد انفتح الخطاب الشعرى الحداثي على الأساطير الإنسانية كلها، وهذا قد لا يخلو من دلالة، وهى انشغال شعراء الحداثة باستنطاق النصوص التراثية القديمة وتخليصها من دلالتها المحددة، إلى دلالات أكثر اتساعاً وقوة، ومن ثم فقد انتقلت من أساطير صامتة إلي أساطير فاعلة في النص الشعري، وأصبحت أقنعة فنية مهمة تحمل دلالات متسعة.. ولقد وجد الشاعر الحداثي أبواب الحضارات القديمة المختلفة تفتح له؛ ليختار من أساطيرها المتنوعة ما يسقطه على تجاربه الآنية؛ فردية كانت أم جماعية. وأكثر من ذلك، لم يجد الشاعر العربى ما يمنعه من استحضار رموز أسطورية وإغريقية أويونانية أو هندية أو غيرها من مختلف حضارات العالم. ومن بين أهم الرموز الأسطورية التى جذبت اهتمام الشاعر العربى تموز (Tammuze) أو أدونيـس (Adonis) وعشتار (Ishtar) والفنيق "phoenix" وسيزيف (Sisyphay) وإيزيس Isis، وأوزيريس (Osiris)"(59). وقد وظّف الشاعر الحداثي هذه الأساطير حسب ما يتفق مع تجربته ورؤيته الشعرية الراهنة، وهذا كله إنما تستدعيه التجربة الشعرية لدى الشاعر لتكون أيضاً إسقاطاً على قضاياه الراهنة. ومن الأساطير التى تبدت فى شعر الحداثة أسطورة الفنيق "phoenix"، التى تجلت بوضوح عند الشاعر حسن طلب حيث يقول:

ودنوتُ قليـلاً

نفضتُ الذى قد تبقى على بدنى

من غبار الأساطير

ثم تخلصت من جبة الرمز

رددت تعويذة من كتاب التناسخ

ثم لبست قناع التجدد

وتخيرت من عنصر النار لى

زهـــــــرة

وجمعت إلى جمرةٍ، جمرةً

وجعلت على ذلك اللهب الحر أرقص

صحتُ:

أيتها الكلمات التى زوِّجت

والتى لم تزوج

فاتك الآن عرس البنفسج

إننى اليوم مستبدل

ببنفسجة من كتاب الفؤاد

زبرجدة من تراب البلاد

ألا فارقصى

فوق هذا اللهب المقدس مثلى

وإلا فظلّى

على ما تظلين فيه

ادخلى حيث أخرج

سوف تلقين حتفكِ

عند تمام النشيد

تصيرين ترتيلة

يتسلى بها الميتون وراء الوصيد

فيحيا بترتيلها كهنوت البنفسج

آه البنفسج

عفت البنفسج

ما البنفسج؟

طوطم الشعر المتوَّج؟

ما سينشأ من شذى مرٍّ

تخلَّق من تلاقح نيزكين اثنين

أو ما ينتج؟

الجدل الذى يفضى إلى عدم

إذا لم يسعف المتحاورين المنهج؟(60).

 لقد وقع اختيارى على هذا المقطع الشعرى المطول من هذه القصيدة التى تمثل أولى قصائد ديوان "زمان الزبرجد" لأنه قد تجلى فيها القناع الأسطورى بصورة كبيرة الذي تخفى وراءه الشاعر ، إن لم تكن القصيدة كلها أسطورة كونية مخاتلة ألقاها الشاعر في طريق العالم الأرضي، كى يفتش عن مفاتنها الزرقاء. وفيما أظن أيضا أن هذا المقطع السابق يطرح القناع الأسطوري للفنيق بشكل كبير، ذلك الطائر المصرى الإسـطورى القديم الذى يرمز إلى الولادة الجديدة من رحم النار؛ حيث يبنى محرقة موته بنفسهِ، مشعلاً النار فى جسده عبر حركة جناحيه، ليخلص جوهره الأنقى بالتدمير ويخلق ذاته من ذاته منبعثاً من جديد؛ لينطوى رمزياً – بهذا على المتناقضين معاً الحياة والموت، والذكر والأنثى.

ونستطيع أن نلحظ ذلك فى المقطع السابق، من خلال جمع اللهب، ليصل إلى جسد الزبرجد عن طريق جسد البنفسج، وذلك من خلال الرقص على اللهيب المقدس/ النار المقدسة، وفى هذا السياق يتبدى جسد البنفسج، الزبرجد، موازيين للفنيق الذى يخلق نفسه من نفسه، وبهذا يوازى تجلى روح الفنيق فى جسده الجديد، هذا التجلى الذى يعاود بعثه فى الزمن، حين نتأمل هذه الكلمات " نفضت غبار الأساطير، كتاب التناسخ، قناع التجدد، إننى اليوم مستبدل.... بنفسجة من كتاب الفؤاد زبرجدة من تراب البلاد ". وإذا كان الفنيق يخلق ذاته من ذاته؛ فإن قناع التجدد يشى بالقوة الاستبدالية، فقد يحل الزبرجد محل البنفسج فالشاعر مغرق فى الاستبدال والإزالة والمحو، فقد يخلق الزبرجد من البنفسج، أو يعمل على انبعاث الزبرجد الإسطورة من البنفسج، الذى لا يبعثه من الخارج ولكن ينسخه من ذاته الشاعرة. وحلمى سالم يستحضر طائر الفنيـق ويستدعيه بصيغة مباشرة؛ إذ يقول فى نص " صباحها وصباحى " من ديوانه (فقه اللذة):

" نسيمه ذبحاً جميعهم وصفونى بما أهوى

واحد قال: أنت مطر صيفى،

وواحد قال: أنتَ زهرة الحناء

أنت وحدك الذى قلت: أنت طائر الفنيق،

فخطفتنى من ألفة الواصفين

يا مبصرى: لك وحدك انتزعت نفسى من رمادى

وحلقت فوق جبينك المحروق مبعوثة " (61).

 يرتدي حلمى سالم القناع الأسطوري " الفنيق "؛ ليعبر عن ذاته؛ فقد انشغل بالوصف الذى تبدى من خلال "الديالوج" "Dialogue" الذى صاغه الشاعر بين الذات والآخر، ويومئ هذا الوصف إلى تمسك الشاعر بذلك الآخر، الذى تحقق من خلال مفردة (جميعهم) فالشاعر يحب أن يصفه الآخرون بما يهوى، فهو يهوى أن يكون مطراً صيفياً، أو يكون مثل طائر الفنيق يبعث نفسه من نفسه، وقد تحقق ذلك من خلال استدعائه لأسطورة الفنيق وأيضاً من خلال استخدامه لأربع مفردات مثل (الفنيق، رمادى، المحروق، مبعوثه " فتلك المفردات قد جمعت مراحل انبعاث الفنيق , وحياته , وموته , ثم انباعثه مرة أخرى وهكذا؛ فالشاعر، يحرق نفسه مثل الفنيق عندما يلقى قصيدته، أو يصدر له ديوان جديد، ثم يعود ليبعث نفسه من نفسه عندما يلقى قصيدة أخرى أو يصدر له ديوان جديد آخر، وهكذا؛ فالشاعر يقف موازياً لطائر الفنيق، أو مشابهاً لهذا الطائر الخرافى الأسطورى. وقد يبوح النص الشعرى لدى رفعت سلاّم عن مكنونه بأن يعمل على بعث الشاعر/ القارئ فيقول فى نصه "مراوحة" من ديوانه "إشراقات":

" يا ليتنى حجر

تخطو الفصول على جسمى،

وتنحدر

وأنا اشتباه،

حالة مكنونة،

بين الحريق والرماد

وبين صرخات الولادة والحداد

وأنا اشتعال مرجأ،

ينمو على جسمى التحول

ثم ينكسرُ

يا ليتنى حجر"(62).

 إن أسطورة الفنيق تتجلى فى المقطع السابق من خلال استخدام الشاعر ألفاظاً مثل (الحريقة، والرماد، صرخات الولادة، والحداد، الاشتعال) فهذه المفردات كلها توحى بـقناع "الفنيق" وتطوراته وتحولاته الحياتية؛ فالشاعر يستمد من جوهر هذه الأسطورة لحظتى الولادة والموت، حيث تشتد عندهما الصرخات؛ صرخة الولادة، وصرخات الحداد عند فجيعة الموت. وكما أشرنا مسبقاً فالشاعر يعيش حالة الكتابة ويخلق نفسه من نفسه، كما يخلق الفنيق نفسه من نفسهِ أيضاً.

 وتعد أسطورة الفنيق قناعا أسطوريا مركزيا، فهى الأكثر استلهاما عند شعراء الحداثة، وهذا قد يكون له مردود اجتماعي وفنيّ هو انبعاث الكتابة من الكتابة، كالفنيق تماماً، ولكن بشكل جديد، متغير، وقد تأثر الشاعر بأحداث حياته ومشكلاتها.

ومن الملاحظ أن شعراء الحداثة قد وظفوا هذه الأساطير " كالفنيق وغيرها " رغبةً منهم فى إعادة وهج التراث، وربط الماضى بالحاضر، ولكى تكون الأسطورة قناعاً أو رمزاً لأشياء، تكون بمثابة الهاجس اليومى/ الحياتى للشاعر الحداثي؛ فقد كانت " محرقة الفنيق " عند حسن طلب موازية لخروج الزبرجد من البنفسج، أو بمعنى آخر ولادة الكتابة من الكتابة؛ فقد انشغل حسن طلب بالفكرة، أو أسطورة البعث الشعرى " وهو أن يكون الديوان الجديد، خلقاً من الديوان القديم " أو السابق عليه وتتجلى أسطورة " الفنيق " عند الشاعر حلمى سالم أيضاً بصورة مباشرة؛ فالآخرون الذين يتخيلهم الشاعر، أو يستدعيهم من خلال نصه الشعرى، يصفون الذات الشاعرة بطائر الفنيق لأن الشاعر يجتاز المراحل، والتغيرات، والانبعاث الذى يقوم به طائر الفنيق، الذى يخلق ذاته من ذاته، فالشـاعر كذلك، يخلق الكتـابة من ذات الكتـابة، أو بمعنى آخر، يخلق من الذات المحروقـة (الرمادية) ذاتاً أخرى شبيهةً بالذات القديمة.

وقد سيطرت لحظة الانبعاث عند الشاعر رفعت سلاّم، متمثلة فى بعث الكتابة الحقيقية / أو بعث النص الشعرى / أو بعث القارئ؛ فالشاعر معنىٌ بلحظتين؛ لحظة الميلاد، ولحـظة الموت اللتين يتخلق عنهما كائناً جديداً. كما أن الشاعر الحداثي – فيما يبدو لى – يبحث عن قارئه الجديد، الذى قد يحقق التواصل مع مشروعه الشعرى؛ فأسطورة الفنيق قد ترتبط بالقارئ أيضاً، حيث يخلق القارئ من القارئ ذاته ويتحقق ذلك من خلال الشاعر الذى ارتبطت فكرة بعثه، ببعث القارئ أيضاً.

·                    قناع الشخصيات التراثية / الدرامية:
 حظيت الشخصية التراثية/ الدرامية بدور كبير فى شعر الحداثة؛ فقد كان لها دورٌ بارزٌ فى الشعر العربى المعاصر بعامة، وعند شعراء الحداثة بخاصة، إذ حظيت بموقعٍ متميزٍ بوصفها مصدراً من مصادر الإلهام لدى الشعراء؛ " فالشخصية هى أكثر معطيات التراث توظيفاً فى شعرنا العربى؛ فقد صادف شعراؤنا فى تراثهم كثيراً من الشخصيات التى عاشت يوماً ما تجربة شبيهة بتجاربهم " (63).والشاعر يلجأ إلى التراث للتعبير عن تجاربه المعاصرة؛ " فإن توظيف الشخصية التراثية فى الشعر العربى المعاصر يعنى استخدامها تعبيرياً لحمل بعد من أبعاد تجربة الشاعر المعاصر؛ أى أنها تصبح وسيلة تعبير وإيحاء فى يد الشاعر يعبر من خلالها أو "يعبر بها" عن رؤياه المعاصرة"(64).ولم يقتصر توظيف الشخصية التراثية على الجانب الدلالى فحسب " بل لقد ساهمت مساهمة فاعلة فى التشكيل الجمالى للقصيدة"(65).وأصبحت الشخصية الدرامية في القصيدة الشعرية تقنية فنية جديدة، نتيجة تداخل الأجناس الأدبية بين المسرح والشعر، لأنها ظهرت أول ما ظهرت في المسرح الدرامي، ثم انتقلت إلى الشعر،رغبة من الشعراء في استحداث تقنيات جديدة في القصيدة العربية.

ومن أبرز الأقنعة التراثية / الصوفية في شعر الحداثة العربية شخصيات صوفية مثل (الحلاج والنفرى، والسهروردي، وأبو حيان التوحيدي، وبشر الحافي، الشبلي)،..... وغيرهم كثيرون من التراث الصوفى؛ والمتنبى، وامرؤ القيس، وتأبط شرا، وبشاربن برد، أبو نواس، أبو فراس الحمداني، وطرفة بن العبد، مالك بن الريب من التراث الأدبى العربى، ورامبو ومايا كوفسكى وريتسوس، وبودلير من التراث الأدبى العالمى، وعنترة بن شداد، وزرقاء اليمامة، موسى بن نصير، طارق بن زياد، وصلاح الدين الأيوبي، ومحمد الفاتح من التراث العربى والإسلامي البطولى في عصوره المختلفة.

·                    القناع الأدبي الدرامي:
 قد تعددت أشكال الأقنعة الدرامية التي ارتكزت على استلهام الشخصيات الأدبية التراثية العربية والعالمية فى نصوص شعراء الحداثة، ونلاحظ ذلك لدى الشاعر المصري رفعت سلاّم، نجده يرتدي أقنعة شخصيات متعددة ومتناقضة في الوقت نفسه، على سبيل المثال إذ يقول:

"فلماذا يأوى إلىّ الراحلون

" لم أصبح بعد مقبرة "

لماذا - حين تهز الريح أغصانى -

يساقط الحطيئة وبشار ورامبو والمتنبى ومايا كوفسكى وأبو نواس

وامرؤالقيس وريتسوس

وتأبط شرا....إلخ

معهم تسّاقط صحراوات لم أقطعها، وخمور لم أشربها، وذنوب

لم أرتكبها، ونساءٌ لم أنكحها، وأحلام لم أقربها وحماقات

لم أقترفها، وشهوات لم أذقها، وقصائد لم أكتبها"(66).

 فالشاعر رفعت سلاّم ينشغل باستدعاء أقنعة تراثية الشعراء القدامى المشابهين لتجربته الشعرية، فهو يقدم اعترافاً صريحاً بأنه امتداد لهؤلاء الشعراء،أو بمعنى آخر " امتداد لتجربتهم " الشعرية، وأظنُ أن استدعاء الشاعر الحداثي لمثل هؤلاء الشعراء قد يكون لسببين، أولهما: اجتماعى يرتبط بتجربة هؤلاء الشعراء ومعاناتهم مع الواقع والمجتمع الذى ينتمون إليه؛ والثانى: فنى، بمعنى أن هؤلاء الشعراء قد جنحوا للتجريب، وقاموا بتطوير الشعر العربى من قبل.وهم بمثابة الأقنعة الفنية التي يرتدي الشاعر صورها كى يعبر عن تمرده وجنوحه إلي العالم الآخر الذي يبدو أكثر تحررا على المستوى الفني والدلالي، فقد هدم أبونواس المقدمة الطللية، وأرسى قواعد المقدمة الخمرية؛ بل بلغ به الأمر ليسخر من "شعراء الأطلال " فيقول:

"قل لمن يبكى على رسم درس واقفاً ما ضر لو كان جلس" (67).

 وقد تقترب صورة تجربة أبى نواس مع صورة رفعت سلاّم فى أن كلا الشاعرين قد تجاوزا القديم؛ أى تجاوزا الشعراء السابقين عليهما، فقد تجاوز أبو نواس شعراء المقدمة الطللية، وتجاوز رفعت سلاّم شعراء التفعيلة، وقام بطرح شعره من قصيدة النثر. وقد ذكر رفعت سلاّم فى المقطع السابق بشار الشاعر العباسى المعروف، الذى اتهم بالزندقة وعُرف ببشار الأعمى، وقد اضطهده مجتمعه، ورفضه،ومن ثم ارتدى رفعت سلام قناعين لشاعرين مهمين في أدبنا العربي هما أبو نواس، وبشار بن برد،فبمجرد ذكرهما تستدعي الذاكرة الجمعية دلالات القناعين بتاريخهما وتمردهما على المؤسسة السياسية في ذلك الوقت. كما أشار سلام إلى شخصية المتنبى واستدعاؤها يحيلنا إلى هذا الشاعر الفذ أبي الطيب المتنبي، الذى ملأ الدنيا وشغل الناس بعبقريته الشعرية وذكائه الحاد، وتمرده على الأشكال الشعرية السائدة في العصر العباسي، وتعد شخصية أبي الطيب المتنبي من الشخصيات الأكثر استلهاما في شعرنا العربي الحداثي وما قبله،لأنه قناع يحمل الكثير من الألم والمفارقات المتناقضة في حياتنا الحديثة فقد كان يقول عن نفسه:

"أنَا من نَظَر الأعْمَى إلى أدَبى وَأسْمَعَتْ كلماتى مَنْ بهِ صَمَمُ "(68).

وكان يقول عن نصوصه الشعرية:

"أنَامُ ملء جُفُونى عن شَوَارِدِها وَيَسَهْرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيَخْتصِمُ "(69).

فاستدعاء هذه الشخصيات فى نص رفعت سلاّم لم يكن اعتباطياً ، أو نفياً للتراث أو قتلاً للأب،كما يزعم بعض النقاد القدامى؛ فنصوصهم الشعرية تشهد شهادة الحق، وتقول عكس ما يقولونه فى تنظيراتهم وحواراتهم الصحفية، من أنهم خرجوا على الأب (التراث)فالقناع فى النص السابق يومىء إلى أن الشاعر الحداثي يعيش فى بطون الشعراء القدامى، ويعيشون "هم" فى ذهنه وثقافته وفكره وفنه الشعرى. بل إن الشاعر الحداثي يتكئ في طرح رؤيته علي أقنعة الشخصيات الشعرية القديمة التي سلكت طريق التمرد، والخروج على السائد والمألوف في عصورهم المختلفة. ويؤكد ذلك ما قاله محمد عبد المطلب: " إن رفعت سلاّم من أكثر شعراء الحداثة استدعاءً للموروث الشعرى العربى وغير العربى. ومن اللافت أن الاستدعاء قد يأخذ طبيعة شمولية، لأن من يقرأ ديوان " هكذا قلت للهاوية " يدرك على الفور كيف أنه قد استدعى كثيراً من (جحيم رامبو) فى ديوانه (موسم فى الجحيم) الذى كان بمثابة رمز لمواجهة الشاعر لنفسه وعالمه، وهى مواجهة مروعة تنذر بتحلل العالم، وتداخل خطوطه الزمنية؛ لأنه عالم لم يأكل من شجرة الخير والشر التى تتيح لآكلها أن يعرف الفرق بينهما،ومن هنا كانت حركة الواقع - فى مجملها - فى دائرة الشر والتدمير " (70).

·                    القناع الصوفي الدرامي:
 وقد يلجأ الشاعر الحداثي إلى قناع الشخصية الصوفية وتوظيفها " ليسقط من خلالها الماضى الذى تمثله الشخصية المستعارة أو المستوحاة بدلالاتها الأخلاقية والتاريخية الموروثة، على الحاضر الذى يحياه الشاعر ويكتوى بلحظته الراهنة بغية الكشف والنفاذ إلى عمق قضاياه لتنمحى ـ وقتئذٍ - فوارق الزمان"(71). فقد وظف الشاعر الحداثي الشخصية الصوفية توظيفاً فنياً موفقاً بوصفها المعادل الموضوعى للواقع الذى يحياه الشاعر؛ فالشاعر الحداثي يعانى كما عانى المتصوفون الكبار من قبل، مثل الحلاج والنفرى والسُهروردى المقتول وابن عطاء الله وابن عربى وابن الفارض، والشبلى.... إلخ. وحوى الخطاب الشعرى الحداثي فى داخله شخصيات كبار المتصوفة واتحد معهم، واستدعى مفرداتهم، لتصبح جزءاً من تكوين القصيدة وبنائها الفنى والجمالى والدلالى؛ فيمتص النص الشعرى لدى رفعت سلاّم " قولَ الحلاج ":

اقتلونى يا ثقاتى

إن فى قتلى حياتى.(72).

 فاستلهام قول الحلاج فى نص رفعت سلاّم يومىء إلى أن الشاعر يلوذ بتجربة الحلاج؛ فكلاهما شهيد الكلمة وشخصية الحلاج هنا قناع لصوت الشاعر الذي لجأ الاختفاء وراء قول الحلاج الذي يعلن أنه لن يحيد عن موقفه، ويطالبهم بقتله لأن في قتله حياته الجديدة الأخرى وأظن أن اللجوء الي القناعلا الصوفي بعامة والحلاج بخاصة هو استخدام فني بالأساس لأن دال الحلاج يحمل مدلولات سياسية واجتماعية وثقافية متعددة كما تقوم الذاكرة الجمعية باستدعاء كل ما يتصل بالحلاج وعصره الذي كان يعيش فيه ومن ظلم وفقر وجهل وتصادم بين السلطة والمثقف/ الصوفي، ويقول رفعت سلاّم:

" فانتبهوا لى تعبٌ تَعِبٌ تسكننى يقظة سامة

مسنونة بلا انطفاء فاقتلونى ياثقاتى قبل أن

أنام ما خوفى من البلل المراوغ أو رياح

تورق الأرق المرير انتظرونى على القارعة إلى أن يأتينى

قرينى خلِّى الوفى فيطعننى الطعنة الموعودة "(73).

فاستلهام هذا البيت المشهور للحلاج يدل على شدة المعاناة التى كان يقاسيها الحلاج ودفع روحه ثمناً لكلمته؛ " فالاستدعاء بالقول آلية من آليات استدعاء الشخصية التراثية فى توظيف الشاعر لقول يتصل بالشخصية، سواء كان صادراً عنها أو موجهاً إليها، ويصلح للدلالة عليها فى آن، بحيث تصبح وظيفة هذا القول، وظيفة مزدوجة، التفاعل الحر مع شفرات النص، واستحضار الشخصية فى ذهن المتلقى"(74). فقد ارتدى رفعت سلاّم قناع الحلاج، واتخذ من مفرداته وأشعاره سلاحاً لمواجهة الواقع فهو يتكلم بلسان الحلاج القديم، ولكن بصـورة يغلب عليها الطابع التدميرى، فهناك وجه مقارنة بين موقـف " الحلاج " وموقف رفعت سلاّم؛ فكلاهما شاعر، يبيع ملذات الحياة،بل الحياة نفسها، من أجل بقاء كلمته.

ومن الشخصيات الصوفية اللامعة التى استدعاها شعراء الحداثة، وضمنوها فى خطابهم الشعرى شخصية عبد الجبار النفرى، الذى عقد الشاعر الحداثي حواراً مع نصوصه فقد ارتدى الشاعر المصري حسن طلب قناع عبدالجبار النفري وسار على نهجه متأثرا بأسلوبه وإيقاعاته فى بعض القصائد من ديوانه " مواقف أبى على وديوان رسائله وبعض أغانيه ". فالمواقف التى يبوح بها الشاعر ترمز إلى مواقف النفرى فى (المواقف والمخاطبات) فهذه المواقف قد تكون أقرب إلى الشعر منه إلى النثر، وقد حذا الشاعر حذو النفرى فى مواقفه؛ فقَسَّم ديوانه إلى قسمين؛ الأول بعنوان: "كتاب المواقف مصحوباً بأغنية "والثانى"ديوان الرسائل"، ويتكون كتاب المواقف من ثلاثة مواقف بين كل موقف وموقف أغنية. فقد استعار الشاعر حسن طلب لغة النفرى فى مواقفه وعمل على محاكاتها؛ ولا تخلو المواقف من المخاطبة. ففى موقف الشذى، يقول حسن طلب:

أوقفنى السوسن فى موقفٍ

لا تثريب.....

لا خوف..... ولا حزن....

ولا أذى

أخذ منى الحارن الوعر...

وأعطانى الأغرَّ

قال: ذا.. بذا !

قلت: فيما بوركت معطياً

وآخذا

خلصتنى من شرك البنفسج / العوسج

أنقذت حصانى إذ أتيت

قبل أن يغرق فى مستنقع القذى

لأنت خيرُ من أتى

فأنقذا ! (75).

ويقول فى موقف يرقى:

أوقفنى السوسن فى موقفٍ:

يبقى من يهلك عشقاً

ويقول أيضـاً:

سأصحبك الآن إلى حيث سأطلعكَ

على ما لم أُطِلع أحداً من قبل عليه

فلا تنبس نطقا

وابتسم وقال:

إذا أنت تكلمت سترحل

أو إن أنت سكتَّ ستبقى (76).

 جعل الشاعر حسن طلب من السوسن قناعا دراميا متسعا وشيخاً وسيداً، وناصحاً، ومخاطباً؛ ففى" موقف الشذى " يكرر الشاعر أداة النفى (لا) أربع مرات (لا تثريب، لاحزن، لاخوف، ولا أذى) فالشاعر الآن فى حضرة السوسن الذى أضفى عليه الشاعر صفة الألوهية المستعارة من مواقف النفرى؛ فقول النفرى:" أوقفنى فى العزّ " معناه أيقظ قابليتى لتلقى التجلى "، قوله (فى العز) أى فى شهود العز، والعز شهوده شهود " التجلى " الوجود فى هذه النشأة، وفى اصطلاح هذا الترجمان (77). فمن تأصل وجوده تأصل عزه، ولما كانت الذات الأزلية عين وجودها ثبت العز لها لذاتها؛ ولما كانت الممكنات عدمها من ذاتها كان الذل لها من ذاتها، ولما كان وجودها من باريها كان العز لها أيضاً منه تعالى "(78). ومن الملاحظ أن الشاعر حسن طلب قد امتص قول النفرى فأصبحت نصوص النفرى بمثابة المحور الذى تدور فى فلكه الشخصية المستدعاة فى النص الشعرى عند حسن طلب، فحضور الشخصية التراثية لم يكن حضوراً مباشراً،ولكن كان حضوراً مقنّعاً ملتحماً بالنصوص التى نتجت عن هذه الشخصية.

 ونلاحظ الاتساق بين النص الشعرى لدى حسن طلب ونصوص النفرى؛ فالشاعر ينشغل بمحاكاة هذه النصوص " المواقف "، بل يعمل على معارضتها فى بعض الأحيان فنجد النفرى يقول فى موقف العز " أوقفنى فى العز وقال لى لا يستقل به دونى شىء؛ ولا يصلح من دونى لشىء، وأنا العزيز الذى لا يستطاع مجاورتـه،ولا ترام مداومته،أظهرت الظاهر، وأنا أظهر منه، فما يدركنى قربه ولا يهتدى إلى وجوده، وأخفيت الباطن وأنا أخفى منه فما دليله ولا يصح إلى سبيله "(79).

 إن استلهام الشاعرحسن طلب لقناع شخصية النفرى من خلال مواقفه، ضمن نصه الشعرى، قد يجعل النص الشعرى بوتقة تنصهر فيها النصوص الصوفية التراثية، وتصبح الشخصية / القناع المستدعاة شخصية فاعلة، لها أثرها الجـمالى والدلالى؛ لأن اسـتنطاق " النفرى " له دلالاته المتعددة،منها اتحاد الشاعر الحداثي مع المتصوفة الكبار، فهم الملاذ المشرق، للنهل من نصوصهم التى يغلب عليها الطابع الرمزى / الإشارى، والتكثيف اللغوى الذى يؤدى إلى اتساع الرؤية والدلالة فى آن واحد.

 ونلاحظ فى نصوص حلمى سالم روح الشخصية الدرامية/ الصوفية /التراثية، وتجلياتها من آن لآخر وذلك من خلال استدعاء " اللقب " الذى اشتُهِرت به الشخصية، كشخصية " أبى العلاء المعرى" الذى عُرف برهين المحبسين، وهما " العمى والمنـزل "، فقد حَبَس أبو العلاء نفسه داخل بيته إلى أن مات زاهدا وعاشقا متصوفا عابدا، وآثر الانزواء على الذات، والعكوف على تأليف الكتب وتعليم الطلاب؛ فنجد الشاعر حلمى سالم يتقنع بالمعري من خلال استلهام لقبه الذى عُرف به من خلال نصه الشعرى. يقول حلمى سالم:

" يقتضى التوجه التراثى أن ألوم أهل الدقى

على أنهم لم يختاروا لمقهاهم اسماً ينبع من تراثنا، مثل

نادى " رهين المحبسين ".

وتقتضى الصحة النفسية ألا نكون من هواة الشرانق " (80).

 على الرغم من أن حلمى سالم يسخر من واقعه، ومن أهل " الدقى " على وجه الخصوص، فإنه يستدعى لقب أبى العلاء المعرى " رهين المحبسين " رابطاً الحداثة بالتراث الدرامي، أو الشخصية الدرامية التي تصنع الأحداث أو تدور حولها أحداث واسعة، إلا أنها تستقطب هذا التراث لخدمتها وحدها؛ فاستنطاق النص الشعرى السابق يومىء إلى أن الشاعر حلمى سالم عاشق لتراثه بعامة ، وتراث أبى العلاء بخاصة، فالذى لاشك فيه، أن مجرد استدعاء الشاعر للقب أبى العلاء يحضر فى الذهن مباشرة أعمال أبى العلاء، وحياته وفلسفته، ومآثره، ومناقبه، وجموحه، وعبقريته الفذة. وهناك علاقة وطيدة بين التراث، والصحة النفسية؛ فكلاهما يلزم الشاعر بأن لا يكون من هواة " الشرانق " التى يتم منها صناعة الحرير، وإن كانت مفردة "الشرانق " لها بعدٌ دلاليٌ متسعٌ فهى الولع بالترف والتحضر والأمركة والبعد عن التراث؛ فالصحة النفسية تقضى علينا أن نعود لتراثنا العظيم فهو البوابة الحقيقية والسلم الأساسى لتطورنا وتقدمنا.

 يتبدي للباحث في نصوص أدونيس الشعرية أيضاً اتساع دائرة القناع الفني في الشعر وذلك من خلال استدعاء الشاعر العربى القديم مهيارالديلمي /في مقابل مهيار الدمشقى (أدونيس) هذا الشاعر المتمرد الذى، أفرد له أدونيس ديواناً شعرياً بعنوان أغاني مهيار الدمشقي "فارس الكلمات الغريبة".فيقول في قصيدة بعنوان "وجه مهيار":

" وجه مهيار نار

تحرق أرض النجوم الأليفة،

هو ذا يتخطى تخوم الخليفة

رافعاً ببرق الأفول

هادماً كل دار؛

هو ذا يرفض الإمامة

تاركاً يأسه علامه

فوق وجه الفصول" (81).

 يتكئ أدونيس في القصيده السابقة على استدعاء شخصية من الشخصيات الشعرية التراثية وهي شخصية الشاعر المتمرد مهيار / الديلمي لأن الدمشقي هو أدونيس نفسه، ومن ثم فقد اتخذ أدونيس شخصية مهيار بوصفها قناعاً ترتديه الذات الشاعرة؛ لأن الخلفية الحقيقة لهذا النص الشعري، هي شخصية الشاعر أدونيس نفسه، فهو الذى رفض الإمامة، مشيراً إلي يأسه الذى تركه فوق وجه الفصول أو الأعوام أو القرون، وقد أشار جابر عصفور في دراسة مهمة بعنوان أقنعة الشعر المعاصر " مهيار الدمشقي " إلى أن " مهيار الدمشقي واحد من أشد أقنعة الشعر العربي المعاصر لفتا للانتباه، ولا تتمثل أهميته في أنه من خلق شاعر متميز هو أدونيس، وإنما فيما ينطوي عليه القناع نفسه من مغزى متميز، إنه إول قناع ــ في الشعر العربي المعاصر ــ يسيطر على ديوان بأكمله وهو أغاني مهيار الدمشقي (1961). وهو ــ بعد ــ قناع يتحول إلى رمز متكرر، لايتوقف أو ينقطع بصدور الديوان الذي اسمه، بل يفرض حضوره ــ في شعر أدونيس. ابتداء من كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل ... ومهيار الدمشقي تركيب من اسم ونسبة، أما الاسم فالشاعر مهيار بن مرزويه الديلمي (360 ـــ 428ه). الذي عاش في بغداد، ومات بها، أما النسبة فترجع إلى على أحمد سعيد ــ أدونيس ـــ (1930ـــــ ) السوري المنسوب إلى العاصمة دمشق، تلك التي اضطر غير مرة ــ إلى مغادرتها والفرار منها، وكلا الشاعرين الديلمي والدمشقي متمرد يعيش رافضا عصره، وكلاهما عانى من هذا الرفض، فلحقته لعنة الاتهام، وسوء الظن غير مرة، بل انسحبت لعنة الأول على الثاني، فاقترنت شعوبية الديلمي بما سمى شعوبية أدونيس ــ الحزب القومي السوري ــ "(82).

ويعد ديوان (أغانى مهيار الدمشقى) من الدواوين المهمة التي قدَّمها أدونيس، بل هو مرحلة فاصلة في مراحل تطوره الشعرى؛ لأن مهيار "بمثابة شخصية فريدة تجسد خواطره وهواجسه الفلسفية بوصفهِ ينتمي إلي محيط عدائى ويعيش حالة اغتراب حاد. إن القضية الفلسفية المحورية هنا، هى القضيةالكير كيجوردية المتعلقة بما يعنيه أن يصبح الإنسان فرداً. وإذا كانت هذه القضية قد شغلت كير كيجورد في مواجهته لعوامل التجريد في المجتمع الأوروبى الحديث الذى أفرز الانسان – الجمهور (mass-man)، فإنها شغلت أدونيس"(83)..

 .وقد اتكأ الشاعر المصري أمل دنقل كثيرا على شخصيات تراثية واتخذها كأقنعة بديلة تتحدث بلسانه، ومن ثم فنلاحظ استخدام أمل لشخصيات محورية في التاريخ العربي كشخصية زرقاء اليمامة، وعنترة بن شداد، ومقابلة خاصة مع ابن نوح، وأبي موسى الأشعري... وغيرها من الشخصيات التراثية / الأقنعة.فيقول:

أيتها العرافة المقدسة.
جئت إليك.. مثخنا بالطعنات والدماء

أزحف في معاطف القتلى،وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء..
عن فمك الياقوت عن، نبوءة العذراء

عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
عن صور الأطفال في الخوذات... ملقاة على الصحراء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاص رأسه.. في لحظة الملامسة! "(84).

 تبدو صورة زرقاء اليمامة / الشخصية القناع في المقطع الفائت واضحة ، كوضوح الشمس، وعلى الرغم من استخدام أمل لشخصة زرقاء بصفة سيميائية تاريخية سياسية فإنه ربط الماضي بالحاضر ويقول سيد البحراوي "ففي هذا الحوار يخاطب الشاعر (الجندي المهزوم) زرقاء اليمامة بهمومه وهمومها هي أيضا، لأنها هي التي حملت همومه منذ قديم الزمن. فهو لا ينفي همومها التاريخية (فمها الياقوت، نبوءتها). بل يجعلها بهذه الهموم تساهم في هموم عصرنا محققا بذلك ما عرف بقصيدة القناع في مثل هذه القصيدة يستحيل أن تكون الشخصية الأسطورية أو التاريخية زينة أو حتى رمزا جزئيا،وإن وجد هذا النمط الأخير في بعض قصائد أمل حيث تستخدم الشخصية أو الرمز أو الموتيف في موقع بعينه من القصيدة لخدمة الحركة الدرامية والدلالة في هذا الموقع، دون أن تمتد الى بقية القصيدة، هنا تنبني القصيدة كاملة، بمجمل حركتها الدرامية كما سنوضح فيما بعد، على الشخصية التراثية أو على الحوار معها أو الحوار بينها وبين واقعنا (كما هو الحال في قصائد "(بكائية لصقر قريش " أو "مقابلة خاصة مع ابن نوح " أو "لا تصالح ".. الخ)"(85)..

 ولاشك أن الشاعر أمل دنقل من الشعراء الذي وصفهم النقاد بالتمرد والخروج على المألوف في استخدامه للتراث بأنواعه كافة "غير أن اللافت للانتباه في الشخصيات التراثية التي يستدعيها أمل هو أنها تتمتع بخصائص محددة لا تخرج في الغالب عن نطاقها، مجمل هذه الخصائص يشير الى أنها انقلابية ومتمردة على زمانها وواقعها والظلم السائد في هذا الواقع. هي شخصيات غير ثبوتية لا تستسلم وإنما تتمرد حتى ولو كان تمردها محكوما عليه بالهزيمة منذ البداية لأنه تمرد فردي وليس ثورة جماعية. ومن هنا، فإن اللحظة التي يختارها أمل من حياة هذه الشخصيات هي لحظات الهزيمة، وهذا ينطبق أيضا على الشخصية الثورية الوحيدة أي شخصية سبارتاكوس"(86).ومن ثم نلاحظ أن الشاعر يلتقي به في لحظة الموت. فيقول:

" مُعَلَّقٌ انا عَلى مشانق الصَّبَاح

وجبْهَتِي - بالموت - محنية
لأنني لم أحنها.. حية"(87)

.يبدو مشهد الموت دراميا ومفارقا في الوقت نفسه،حيث إنه لم يحن رأسه حيا، لكنه دفع ثمن حريته بالموت، وأصبحت جبهته محنية، وهنا نلاحظ الإشارة إلى صلابة الإنسان الحر وجسارته أمام طواغيت الظلم والجبروت، الذين يطاردون الأحرار في كل مكان.

 

هوامش

 (1) خالد محمد يسير:مقالة بعنوان " القناع في الشعر العربي المعاصر"، الموقع الالكتروني.ص1ــ2.، http://www.startimes.com/f.aspx?t=15230042، وانظر جابر عصفور:رؤى العالم، عن تأسيس الحداثة العربية في الشعر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2011، ص238.

 (2) عبد الوهاب البياتي ديوان عبد الوهاب البياتي، دار العودة، بيروت، ط3، 1979،ص6.

 (3) انظر – على عشر زايد: استدعاء الشخصيات التراثية فى الشعر العربى المعاصر؛ الشركة العامة للنشر والتوزيع، ط1، سنة 1978، صـ7 ما بعدها.

 (4) على عشر زايد: السابق نفسه.

 (5) عصام بهى: " الرحلة إلى الغرب فى الرواية العربية الحديثة "، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1991، صــ 5.

 (6) على عشر زايد: " توظيف التراث فى الشعر العربى المعاصر "؛ فصول؛ المجلد الأول، ع(1) سنة 1980، صــ 204.

 (7) شكرى عياد: " الأدب فى عالم متغير " , مرجع سابق صـــــ67.

 (8) على عشرى زايد: " استدعاء الشخصيات التراثية فى الشعر العربى المعاصر " مرجع سابق، صــ 18.

(9) مجلد (إضاءة 77) صــــ 489.

(10) إدوار الخراط: " شعراء الحساسية الجديدة "؛ مجلة شعر؛ ع 56، سنة 1984، صـــ 10.

(11) إديث كريزويل: " عصر النبوية "؛ ترجمة: جابر عصفور؛ دار سعاد الصباح الكويت؛ ط1 سنة 1993، صـــ 392.

(12) على عشرى زايد: " توظيف التراث فى الشعر العربى المعاصر " فصول، مرجع سابق، صــ 211.

(13) عز الدين إسماعيل: الشعر العربى المعاصر، قضاياه، وظواهره الفنية والمعنوية " المكتبة الأكاديمية " ط5، سنة

 1994 صــ 29.

(14) طه وادى: " جماليات القصيدة المعاصرة " دار المعارف، سنة 1982، صـ 55.

(15) السابق؛ صــ 8.

(16) عبد العزيز حموده: الحداثة والتراث؛ عالم الفكر؛ مجلد 21، ع2 اكتوبر، الكويت سنة 1991، صــ 60.

(17) انظر، استدعاء الشخصيات التراثية؛ صــ 18 وما بعدها.

(18) د. على عشر زايد: " توظيف التراث "، فصول، مرجع سابق، صــ 204.

(19) إحسان عباس: " اتجاهات الشعر العربى المعاصر "؛ دار الشروق، ط2، سنة 1992، صـــ 109.

(20) عبد الفراج خليفة: " قصيدة الحداثة " مرجع سابق؛ صــ 469.

(21) سعيد توفيق: " ماهية الشعر؛ قراءات فى شعر حسن طلب "، الهيئة العامة لقصـور الثقافة، ع (34) سنة 1999،

 صــ 214.

(22) حسن طلب: " لا نيل إلا النيل "، صـــ 45.

(23) الإسراء: آية 83.

(24) حسن طلب: " سيرة البنفسج "، صـ 75.

(25) المزمل: آية 1، 2.

(26) رفعت سلاّم: إشراقات، صــ 49.

(27) الحجر: آية 29.

(28) حلمى سالم: " سراب التريكو ": صــ 38.

(29) مواقف أبى على، صــ 27.

(30) مواقف أبى على وديوان سائله وبعض أغانيه، صــ 28.

(31) حسن طلب: مواقف أبى على، صــ 29.

(32) سورة الكهف: آية 63 – 78.

(33) إشراقات: صــ 22.

(34) سورة لقمان: آية 18.

(35) فاطمة قنديل: " التناص فى شعر السبعينيات "، سلسلة كتابات نقدية، صــ 361.

(36) الكهف: آية من 60 إلى 78 حوار مع موسى وفتاه، ثم حواره مع الخضر عليهما السلام.

(37) العلق : آية 1 – 5.

(38) حلمى سالم: " الأبيض المتوسط / (كتاب إضاءة الشعرى) "، مطابع دار الفصيح، 1983، صــ 59.

(39) محمد عبد المطلب: " هكذا تكلم النص "؛ صــ 21.

(40) إشراقات، رفعت سلاّم صــ 43.

(41) البخارى: صحيح البخارى، باب (صفة أهل الجنة، ج (4)، صــ 118، وأخرجه مسلم ج (1)، صـــ 282، والترمذى

 جـ2 صــ225، وابن ماجه ج2، صــ 305.

(42) محمد عبد المطلب: هكذا تكلم النص، صــ 61.

(43) حلمى سالم: " الأبيض المتوسط، كتاب إضاءة الشعرى "، صــ 59.

(44) ابن كثير: " تفسير ابن كثير "، ج4، دار الفكر للطباعة، القاهرة، نشر 1991، صـــ 528.

(45) على عشرى زايد: " توظيف الشخصية التراثية فى الشعر المعاصر "، صــ 98.

(46) محمد فكرى عبد الرحمن: " الخصائص الجمالية لمستويات بناء النص في شعر الحداثة "؛ دكتوراه،مخطوط، آداب

 شمس، 1994،صــ324.

(47) رفعت سلاّم: " وردة الفوضى الجميلة " الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1987، صــ 43.

(48) العهد القديم: " نشيد الإنشاد 1/13 – 14.

(49) حسن طلب: " سيرة البنفسج "، صــ91 - 92.

(50) انظر: كارم محمود عزيز: الأسطورة فجر الإبداع الإنساني؛ الهيئة العامة لقصور الثقافة، الدراسات الشعبية؛ ع66؛ سنة2002؛ صـ35.

(51) السابق نفسه.

(52) السابق نفسه.

(53) أنس داود:" الأسطورة فى الشعر العربي الحديث "؛ مكتبة عين شمس، دار الجيل للطباعة سنة1975، صـ19.

(54) السابق: صـــ42.

(55) إحسان عباس: " اتجاهات الشعر العربى المعاصر "؛ مرجع سابق صـــ 128.

(56) مصطفى رجب: " لغة الشعر الحديث؛ دراسة تطبيقية لأمل دنقل " الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتابات نقدية؛ ع 106؛ سنة2001، صــ62.

(57) محمد عبد المطلب: " البلاغة قراءة أخرى "، لو نجمان، سنة1997، صـ87.

(58) طه وادى: " جماليات القصيدة المعاصرة "، مرجع سابق، صــ49.

(59) خالد سليمان: " ظاهرة الغموض فى الشعر الحر "؛ فصول؛ مجلد (60)؛ع (1 - 2) سنة1986 صـــ71.

(61) حسن طلب: زمان الزبرجد، صـــ 145 - 146.

(62) حلمى سالم: فقه اللذة؛ صــ 36، 37.

(63) رفعت سلاّم: إشراقات؛ صــ 27.

(64) انظر: على عشر زايد: فصول مرجع سابق، صــ 204.

(65) انظر: على عشر زايد: استدعاء الشخصيات التراثية فى الشعر المعاصر؛ مرجع سابق، صـــ 15، وما بعدها.

(66) انظر: أحمد مجاهد: أشكال التناص الشعرى، دراسة فى توظيف الشخصيات التراثية؛ الهيئة المصرية العامة للكتاب

 صــ 8 وما بعدها.

(67) رفعت سلاّم: " هكذا قلت للهاوية "، صـــ 13.

(68) ديوان أبى نواس: " تحقيق بدر الدين حاضرى "، دار الشرق العربى، بيروت سنة 1992، صـــ 326.

(69) ديوان المتنبى: صـــ 332.

(70) ديوان المتنبى: صـــ 332.

(71) محمد عبد المطلب: " هكذا تكلم النص " مرجع سابق صـــ 148.

(72) عبد الحكم العلامى: " الولاء والولاء المجاور؛ بين الشعر والتصوف "، سلسلة كتابات نقدية، ع (32) الهيئة العامة

 لقصور الثقافة؛ سنة 2003، صــ 79.

(73) الحلاج، شرح ديوان الحلاج، حققه: كامل مصطفى الشيبى، مكتبة النهضة، بيروت ط1، 1974، ط1، صــ 166.

(74) رفعت سلاّم: " إشراقات "، صـــ 90.

(75) انظر: أحمد مجاهد: " أشكال التناص الشعرى "، صـــ 155.

(76) حسن طلب: " مواقف أبى على – ديوان رسائله – وبعض أغانيه"، المجلس الأعلى للثقافة، سنة 2003، صــ 17- 18.

(77) حسن طلب: السابق، صـــ 23.

(78) يعنى: النفرىّ نفسه.

(79) عفيف الدين التلمسانى: " شرح مواقف النفرى "، دراسة وتحقيق: جمال المرزوقى، الهيئة المصرية العامة للكتاب

 سنة 2002، صــ 57.

(80) محمد بن عبد الجبار النفرى: المواقف والمخاطبات؛ تحقيق أرثر آربرى؛ تقديم: عبد القادر محمود؛ الهيئة المصرية

 العامة للكتاب؛ سنة 1985، صــ 61.

(81) حلمى سالم: " يوجد هنا عميان "، كاف نون للنشر سنة 2001؛ صـــ 19.

(82) أدونيس: الأعمال الكاملة، (ج 1)، صـ 251.

(83) جابر عصفور: رؤى العالم، عن تأسيس الحداثة العربية في الشعر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،2011، ص239.

(84)عادل ضاهر: الشعر والوجود، " دراسة فلسفية في شعر أدونيس " دار المدى للثقافة، سوريا، دمشق سنة،2000، ص 50-51.

(85) أمل دنقل: الأعمال الشعرية الكاملة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1998، ص126.

(86) سيد البحراوي: الحداثة في شعر أمل دنقل مقال بمجلة نزوى العمانية، 1995، العدد الخامس، ص 214.

 (87) أمل دنقل: الأعمال الشعرية الكاملة، ص 116.