في مقالة الشاعرة السورية، تشتبك المصائر الفردية والحدوث التاريخية بالحس المأساوي. بعمق صوتها الناقد تشكك بجدوى القول بأولوية إسقاط النظام على التبصر في القوى الأصولية اللاعبة في القدر السوري، وتؤكد على أن أطروحة الإسلام السياسي لن تحقق الديموقراطية.

أريد رفات زوجي

هنادي زرقه

«أريد رفات زوجي»
ليست هذه الجملة بالمستمدّة من فيلم سينمائي. هي جملة تتردد بأشكال مختلفة على ألسنة سوريات فقدن أزواجهن في الحرب ولا يعرفن مستقراً لجثثهم. وهي، في صيغتها هذه على وجه التحديد، جملة سيدة فلسطينية مُهجَّرة من مدينة حلب، قضت وزوجها سنيّ شبابهما في معتقلات النظام بوصفهما من أصدقاء «حزب العمل الشيوعي»، الذي اختُطف قياديّه البارز عبد العزيز الخيّر منذ أكثر من عام على طريق مطار دمشق مع اثنين من زملائه في «هيئة التنسيق».

لم تندّ هذه الجملة عن تلك السيدة الشيوعية برومانسية امرأة عاشقة، بل بلسان يسارية دفعت ثمن إيمانها بقضية العدالة وحرية التعبير والاعتقاد أعواماً في أقبية الظلام، ليُدفَن زوجها في ما بعد في مقبرة التطرّف.

موجز الحكاية أنَّ الزوج الذي هدّه السرطان طيلة أعوام ثلاثة قضى في الليل، في ظلّ حصار خانق يفرضه طرفا النزاع في مدينة حلب على منطقةٍ باتت خالية من أساسيات الحياة جميعاً.

كان ذلك أخشى ما تخشاه السيدة التي باتت وحيدة بلا معين ولا أقرباء، وسط قنّاصين من الطرفين يعتلون أسطح البنايات ودورها العليا. وما كان لها أن تُخرج الجثة وتعبر بها دروب القنص والموت، في منطقة لا يمكن لأي سيارة أن تصلها، حتى سيارات الإسعاف.

كانت وأطفالها الصغار قد نقلوا على ظهورهم أكواماً من الحطب كي يبقى الزوج المُقعَد دافئاً، وحيّاً أطول مدّة ممكنة. وها هو يخذلها ويموت في ليل المدينة الموحش القاتل، تاركاً إيّاها وحيدة مع جثّة لا تعرف أين تدفنها، ولا تملك حتى أن تكفّنها.

"لم أعرف ماذا أفعل .. كانت الصدمة أقوى من قدرتي على الاحتمال". قلت لجيراني: "خذوه، ادفنوه أنّى تشاؤون". ولسوء حظّي وحظّه، كانت المقبرة الوحيدة المُتاحة التي تقبل دفن البشر بالمجان هي مقبرة «جبهة النصرة». حين عادوا وأخبروني أنهم دفنوه هناك أُصبتُ بصدمة أخرى، "أريد رفات زوجي".

الرجل الذي أمضى ردحاً طويلاً من حياته في السجن دفاعاً عن حرية الفكر، بعيداً عن التطرف، مناهضاً الاستبداد أيّاً تكن وجهته، مضى محمولاً على الأكتاف إلى مقبرة لا تمتّ بصلةٍ إلى كلّ ما آمن به! اختار حياته، والطريق التي يسلكها ودفع الثمن، وفي النهاية لم يمكنه أن يختار قبراً يناسب تاريخه وفكره، وليس فقط تلك الجثة التي ستتفسّخ عائدةً إلى التراب.

السيدة الفلسطينية التي هُجِّرت مرتين وعبرت خرابين، فلسطينيا وسوريّا، وكانت شاهدة على الدمار الذي اجتاح المدن والبشر، لا تزال تؤمن بأنَّ كلّ ما يجري ليس سوى مرحلة عابرة لا بدّ أن تنتهي، وأنّه لا يمكن لأيّ فصيل أو زمرة أن تستأثر بالبلاد وتلبسها هوية لا تشبهها.

"سينتهي هذا كله، وسوف أستعيد رفات زوجي".

هذه السيدة لا تتفق مع المعارضة السائدة؛ ففي الوقت الذي تخوّف كثيرون من دخول عناصر إسلامية متشددة على خطّ الثورة، وحذّروا من حمل السلاح، وأكدوا ثوابت وطنية وضرورة السلمية ومناهضة العنف والتطرف، كان لبعضهم رأي آخر، فلم يروا أي مشكلة في السلاح، بل اعتبروه مكوناً أساسياً من مكونات الثورة يحمي التظاهرات السلمية التي لم يعد لها ثمة وجود يُذكَر في الحقيقة، وازداد الموت بدل أن ينقص، كما ازداد عدد الطغاة الصغار وخربت البلد. ولم يقتصر الأمر على سلاح المنشقين والمتألمين، بل امتدّ ليشمل ثنائي «النصرة» و«داعش» الذي بات شهيراً، واعتبروه جزءاً جوهرياً من الثورة قبل أن يفقأ الواقع أعينهم في فضيحة نادرة للثقافة والمعارضة ولأخلاق المثقفين والمعارضين، إلا من رحم ربّك!

إسقاط النظام أولاً
لا يهتم هؤلاء للتفريق بين النظام والدولة، ولا يرون سوى التطابق المطلق بينهما. وهم لا يهتمون بمن هي القوى التي ستسقط النظام، أو بمن يموّل هذه القوى، أو الوجهة التي يريد هؤلاء الممولون أن يسقط نحوها النظام، حتى إن أحداً كالشيخ العرعور وأضرابه من الدّعاة وبعض قنوات التطرف مرحّب بهم في سبيل إسقاط النظام. والحجّة في ذلك أن من الواجب عدم ممارسة الإقصاء على أي طرف أو مجموعة نشترك معهما في الهدف نفسه، كأنَّ فكراً إقصائياً يلغي، بل يذبح، كلَّ من خالفه مهما يكن موقفه السياسي، مؤيداً كان أم معارضاً لا فرق، يمكن أن يبني الدولة الديموقراطية التعددية.

قد نتفهم عتب الشيخ معاذ الخطيب على أميركا لإدراجها جبهة النصرة في قائمة الإرهاب، بوصفه إسلامياً إمام جامع, أما أن يقول رئيس المجلس الوطني واليساري السابق جورج صبرا: "دافعنا عن جبهة النصرة كما لم تدافع عن نفسها"، فذلك أمر مخزٍ بلا شكّ. والسؤال، كيف يمكنك أن تبشّر بسوريا تعددية وحضارية ضمن هذه الخلطة الرهيبة من انعدام الثقة وخيانة المبادئ؟ كيف يمكنك أن تطمئن لمعارض مثل ميشيل كيلو ذي التاريخ الماركسي الذي نسف الحسّ السليم ذاته، وليس فقط كلّ ما سبق أن آمن به، ما إن قبّلته النصرة، ليعود بعدها ويقول، في نوبة من نوبات تقلّبه المتواصل: "كنا نعتقد أن سورية ذاهبة حتماً إلى نظام ديموقراطي بعد سقوط النظام، اليوم لم تعد هذه القناعة موجودة". ما الذي تغير حتى تتغير قناعات الأستاذ ميشيل من أنه سيقطع يده إذا ما ذهب إلى جنيف إلى القول: "إذا فشل جنيف فستدخل سوريا في حرب مذهبية واسعة النطاق"، وأنَّ "عقبات كثيرة تحول دون خروج السوريين من الزمن الاستبدادي ورهاناته إذ يستحيل بلوغ الحرية والتخلص من الاستبداد بعقلية تشبه عقليته وأدوات تماثل أدواته". ما الذي يفعله وأمثاله إذاً في ائتلاف تسيطر عليه مثل هذه العقلية؟ هل «يزعبر» عليهم ويخدعهم ويسوقهم بعكس طبيعتهم؟

لن يكون البديل الإسلامي ديموقراطياً

بات كلّ سوري يعلم جيداً أنَّ البديل الإسلامي لن يكون ديموقراطياً، وأنّ لسوريا طريقها المتميز نحو الديموقراطية ودولة القانون، طريق لم يستشرفه معظم سياسيوها المعارضون ومعتقلوها السياسيون السابقون وأعدادهم بالآلاف. لقد فضّل هؤلاء أن ينطلقوا من سخط الماضي لا من آمال المستقبل، وساعدتهم على ذلك إلى أبعد حدّ وحشية القمع الذي لا مثيل له. وهكذا قبعوا بعيداً في استنبول والدوحة وباريس وغيرها من منافيهم القسرية والاختيارية .. يطلبون السلاح كي يموت به سوريون ويعقدون مؤتمراتهم الطائفية غالباً ويقبضون على ذلك ما فاحت رائحته من الدولارات. لم تعد ثمة بوصلة يهتدي بها هؤلاء سوى بوصلة النقمة أو بوصلة وليّ النعمة. كيف لنا أن نثق بمعارض غيَّر مواقفه خلال عامين أكثر مما تبدّلُ الحيوانات الزاحفة جلودها؟

البلد جثّة محمولة على الأكتاف وما من مقبرة تدفن بالمجان سوى مقبرة التطرف.

 

(عن السفير)